العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨

من ذاكرة التعذيب في الحرب الجزائريّة

الشرفة: عودة إلى مكان قتل علي بومنجل

قدّم الرئيس الفرنسيّ ايمانويل ماكرون أخيراً اعتذاراً رسميّاً لأسرة الجامعيّ الشيوعيّ موريس أودان، الذي قضى تحت التعذيب في سجون الاحتلال الفرنسيّ بالجزائر العام ١٩٥٦. أثارت مبادرة ماكرون ردود فعل تطالب بفتح ملفّات التعذيب وشمول الاعتذار الرسميّ جميع ضحايا التعذيب من الجزائريّين خلال حرب التّحرير الوطنيّ. ننشر فيما يلي مقالة للمؤرّخة الجزائريّة ملكة رحّال مستوحاةً من كتابها الذي حققتْ فيه عن تصفية المحامي علي بومنجل.

البحث عن عمارة

منذ سنوات قليلة، أُتِيحَت ليَ الفرصةُ لكتابة سيرة علي بومنجل، الذي كان مُحامياً ومناضلاً سياسيّاً جزائريّاً. خلال هذا البحث، بدأتُ أدرك كم هي مفيدةٌ معرفة الأماكن لفهمِ الأشياء، وتجذيرِ الكتابة: كنتُ قد رأيتُ الدار التي بناها علي بومنجل وزوجته في حيّ العناصر ودار والديه في بلكور، والعديد من الأماكن التي عاشا فيها في العاصمة. لكنّي لم أجدْ إطلاقاً العمارة التي استولى عليها المِظلّيّون الفرنسيّون في الأبيار والتي كان المُحامي قد ألقيَ منها خلال «معركة الجزائر» سنة ١٩٥٧. لم يكن لبعض الجولات في الحيّ أيّةُ نتيجةٍ على الرّغم من استعمالي للخريطةِ التي قدّمها بيار فيدال ناكي في كتابه. وما كان اكتشاف هذه العمارة ليبدوَ مستحيلاً، ذلك أنّ الفنّان إرنست پينيون إرنست قد وجدها لكي يرسم على حيطانها صورة موريس أودان سنة ٢٠٠٣. وفي العام نفسه، صوّر فيها جان بيار ليادو عودة هنري علّاق الذي خضع للتعذيب في المكان نفسه، وذلك في فيلمه الوثائقيّ «الحلم الجزائريّ».

لم يتيسّرْ لي اكتشافُ العمارة إلّا العام الماضي (المقالة مكتوبة في العام ٢٠١٧) عن طريق صديقٍ لي كان يذكُر أنّ والدَه أخبره عن المكان عندما كان صغيرا. وللأمانة، من هذا المُنْطَلَق، كانت فُرَص نجاحنا تبدو ضئيلة، وكنتُ أتساءل كيف أتأكّد ألّا يكون رفيقي أو والده مخطئين. منذ طفولته، تغيّرت المحالّ، وكذلك واجهات العمارات. في ذلك اليوم المُشِمس، كان شارع علي خوجة مُزدحماً. وفجأةً دخل الصديق الذي كان يرافقني رِواقاً من خلال بابٍ مكتوب عليه: «نادي الجودو». خلف العمارة، كانت هناك ساحةٌ تُشبه أماكن الفيلم. أمّا صورة موريس أودان فقد امّحت تحت طِلاء الجدران. المهمّ أنّ هذا المبنى كان ينسَجم مع الأوصاف التي تُعطيها لنا المصادر. يقول الجنرال أوساريس في كتابه:

ذهبتُ مباشرةً إلى الأبيار، شارع كليمنصو، حيث كان بومنجل مُعتقلاً. هناك عدّة عمارات كان بعضها مُترابطاً مع بعض عن طريق جسورٍ صغيرة في مستوى شُرفات الطابق السادس. كانت زنزانة بومنجل في الطابق الأرضيّ. مَرَرتُ على مكتب الملازم D الذي بدا مُفاجأً لرؤيتي. [قال لي:]

- ماذا يمكنني أن أفعل لك يا سيّدي؟

- انظرْ، D لقد حضرتُ اجتماعاً طويلاً بحضور الجنرال ماسو. بعد خروجي من الاجتماع كان لديّ شعورٌ أنّه لا ينبغي إطلاقاً تَرِكُ بومنجل في العمارة التي هو فيها الآن […]. وخلال نقله، لا ينبغي المرور عَبر الطابق الأرضيّ لأنّ ذلك يلفِت الكثير من الانتباه. […] اذهب لإحضار سَجينِك، ولكي تنقله إلى العمارة المُجاوِرة، جُز عَبرَ الجسر الصغير في الطابق السادس. أمّا أنا فسأنتظرك في الأسفل حتى تنتهيَ من ذلك. هل تفهمني جيدا؟ هز D رأسه ليُظهرَ فهمَه، ثمّ اختفى. انتظرتُ بعض الدقائق وعاد D لاهِثا، ليُعلمني أنّ بومنجل قد سقط. فقد صرَعه بضربة من مقبض الفأس خلف الرقبة١.

أتيحَتْ ليَ الفرصة أنْ أكتبَ في سياقٍ آخر أنّنا لا نستطيعُ أن نثِقَ في كلامِ أُساريس. لكن لا يوجدُ أيُّ سببٍ يجعله يكذب في وصفِ الأماكن. وفيما نحن نتأمّل العمارة من خلال الساحة ذات يوم، بدأنا نلاحظ الأشياء بوضوح أكبر: مركز المظلّيّين في الأبيار الذي كان لا يزال قيد الإنشاء في ذلك الوقت مُكوَّن من عمارة واحدة بثلاثةِ مدارج. كان في الساحة أطفالٌ يلعبون وهناك رجل له عشرات من النّبتات تنمو في أُصص.

صعدنا في المدرج الأوّل لنجدَ باب السّطح مُغلقاً بالمفاتيح. في جدران المدرّج مُربّعات زجاجيّة ينفذ منها الضوء. للهندسة المعماريّة النَمَطيّة زمن الخمسينيّات سِحرٌ مميّز. تذكّرتُ عناصر الديكور الكئيبة في فيلم «السؤال» للوران هينمان (١9٧٦). في شقوق الباب المتهالك ميّزنا شرفةً غير واضحة المعالم بل أمكننا مشاهدة البحر أيضاً. ما كنتُ لأتخيّلَ وجود هذه التفاصيل بالمرّة....

نحاول عبور المدخل الثاني. في أعلى الدرَج، الطريق مقطوعة من جديد. هناك وضِعَت أكوامٌ من الأكياس مملوءةٌ بالخبز اليابس. كثير من النّاس لا يرمون الخبز في القمامة. لكن ماذا يَفعلون به إذن؟ في كلِّ مكانٍ من المدينة هناك أكياس من الخبز اليابس، وحتى من «الطعام»، بسبب توسّع غريب لعقليّة التطيُّر من التخلُّص من الخبز. حتى انّ عُمّال النظافة لا يريدون أحياناً أن يأخذوا الخبز الذي لا تستطيع المدينة أن تهضمه.

فهمنا أنّ الشرفة تَصلُح أيضاً لوضع الأشياء القديمة التي لا يريد السكّان أن يحتفظوا بها ولا يعرفون كيف يتخلّصون منها. أثناء صعود المدرج وهبوطه، كنت أتذكّر المصادر التي قرأتها خلال بحثي:

الأمن الوطنيّ في الجزائر.

الأمن العامّ. مدينة الجزائر.

محضَر.

سنة 1957، في الثالث والعشرين من شهرآذار/ مارس.

أمامنا CP ضابط الشّرطة وضابط الشرطة العَدْليّة، ومساعد وكيل الجمهوريّة، المعيَّن في الدائرة الثالثةَ عشرة. الأبيار.

يحضر معنا المُلازِم DM، عمره 26 سنة، من الفوج الثاني للمظليّين الاستعماريّين [2e RPC]، الكتيبة الرابعة، 92 شارع كليمنصو في الأبيار. ويصرّح بالآتي:

اليوم حوالي الساعة الواحدة وخمس عشرة دقيقة بعد الظهر، أحضر المعاون S من الفوج الثاني للمظليّين الاستعماريّين إلى مكتبي المُشتَبَه به علي بومنجل الذي كان المطلوب نقلُه إلى النيابة العامّة في المساء لحضور الاستجواب الأخير.

عندما أحضرتُ المُشتبَهَ به إلى مكتب الاستجواب، في الجزء الآخر من المبنى، عبَرنا إلى الشُرفة. كان العون S يتقدّمنا، يتبَعه بومنجل وأنا كنت أتعقّبهم.

وفجأةً اندفع بومنجل نحو طرف الشُرفة، فاندفعتُ خلفه لأمسك به ولكن بقَفزةٍ واحدة للأمام هرب منّي وألقى بنفسه في الفَراغ. كان عليّ أن أتركه كي لا أسقُط معه. نزلت إلى الساحة وبسبب الحالة الحرجة للضحيّة، أخبرت الطبيب والكولونيل من دون تأخير. نُقِل بومنجل سريعاً إلى مستشفى مايو وِفقاً لأوامر الكولونيل، ولكن يبدو أنّه قد وصل إليها وقد توفي. أشير إلى أنّ بومنجل كان قد حاول الانتحار يوم الثاني عشر من شباط/فبراير 1957 في حسين داي حيث كانت تُوجَد مجموعتنا. وكان قد نُقل إثرها إلى مستشفى مايو وخرج منه يوم 4 آذار/مارس الأخير.

الإمضاء بعد القراءة والإقرار.

الإمضاء: D

ضابط الشرطة٢

النخبة التي تزعم أنّ بومنجل ألقى بنفسه طَوعاً في الفضاء هي النُخبة الرسميّة. لكنّ تقرير الطبّ الشرعيّ يؤكّد، رغماً عنه، وبشكل أكثرَ تيقّناً من اعترافات الجنرال أوساريس أنّ بومنجل أُلقيَ به وهو فاقد الوعي في الفَراغ.

قصّة البحث عن علي بومنجل

قرأت اسم عليّ بومنجل للمرّة الأولى عندما كنت أعِدّ رسالة الماجستير الأولى حول نوّاب الهيئة الثانية الذين مثّلوا الجزائر في البرلمان الفرنسيّ بين ١٩٤٥ والاستقلال. خلال مناقشات برلمانيّة ذُكِر موته وهو في مركز المظليّين في خِضَمّ «معركة الجزائر». هذه الوفاة مَشبوهة حتّى لو تكلّمَ الجيش فوراً عن انتحارٍ. وزاد من وقْع الصدمة في تلك المناقشات البرلمانيّة أنّ أخا أحمد بومنجل كان عضواً سابقاً في مجلس الشيوخ الفرنسيّ.

ظلّ اسم علي بومنجل – والمشاعر التي أثارها – عالقاً في ذهني وفي مُخيّلتي. وبعد بِضعِ سنواتٍ، أي في سنة ٢٠٠١، أصدر پول أساريس مذكراته التي تُثبِتُ روايةَ القتل. لمّا شاهدتُ أرملة بومنجل وأطفاله في مقابلاتٍ تلفزيونيّة، تذكّرتُ قراءاتي لخمسِ سنوات مَضَت. في هذه القضيّة على الأقلّ، كَشف سرٍّ قديمٍ لكنّه معروفٌ في آن.

كنت أستعدّ لكتابة أطروحة دكتوراه في التاريخ وكان المدير الذي سيُشرف على بحثي، بنيانين ستورا، قد رفض بعض المواضيع التي اقترحتُها. كانت لديّ رغبة في البحث في التاريخ الاجتماعيّ لكنّ مشاريع بحثي بدتْ غامضة. نَصحني بالاشتغال على حزب الاتحاد الديمقراطيّ للبيان الجزائريّ. وفي مرحلة الماجستير الثانية، اقترح عليّ سيرةً تاريخيّة لأحد أعضاء الحزب. ولكنّ السيرة كانت تمثّل في نظري حينذاك الجنس الأدبيّ الهشّ بامتياز، والذي يذكّرني بأندْريه كَسْتالو وألان ديكو اللذيْن كنتُ أسمعهما خلال طفولتي على الراديو في برنامج يُبَثُّ ظهيرة كلّ يوم أربعاء. كما كان يذكّرني بِسيَرٍ لشخصيّات سياسيّة فرنسيّة مثل ليون بلوم أو شارل ديغول التي كنّا نقرأها في حِصَص التاريخ السياسيّة في جامعة بوردو والتي كانت تثير ضجري.

سنة ٢٠٠٢، كنت أدرّس في معهد بإحدى ضواحي باريس، وقد توقفتُ عن البحث لمتابعتي دروسٍ مسائيّة في اللغة العربيّة في المعهد الوطنيّ للّغات والحضارات الشرقيّة. لم أكن أعرف من أين أبدأ أبحاثي ولا حتى عمّا سأبحثُ عنه. كان فرحات عبّاس وحزبه ينقصهما شيءٌ من الراديكاليّة في نظري (كنت مشبِعة بالمشاعر القوميّة الشعبويّة وبروح الانتماء إلى العالم الثالث في الطفولة). ثمّ إنّ فكرة كتابة سيرة لم تكن تَلقى هوى في نفسي. ورغم كلِّ ذلك، قبِلت هذا المشروع البحثيّ لأنّي كنت أرغبُ حقّاً في البحث التاريخيّ ولأجل علي بومنجل.

كان هذا البحث مُحبِطاً لي من زوايا عديدة. الوصول إلى عائلة بومنجل يَسير بالنسبة إليّ، لكنّ الكثير من رفاقه في السياسة كانوا قد ماتوا: أخوه أحمد بومنجل وقياديّو حزب البيان الآخرون (قدّور ساطور، أحمد فرانسيس، سيرج ميشال وآخرون لم يتيسّر لي تحديدهم»، وكذلك رفاقه في مدرسة «ديفيريي» الثانويّة في بليدة والذين سيُصبح بعضُهم قياديّين في جبهة التحرير الوطنيّ خلال الثورة، والذين كان يمكن أن يُخبِروني عن التزامه السياسيّ. مات بن يوسف بن خدّة مثلاً قبل وصولي إلى العاصمة ببعضِ أسابيع وكنت آملُ مُلاقاتَه. لقد كان جوهرُ الموضوع بالنسبة إليّ هو العلاقة بين علي بومنجل (عضوٌ في حزب البيان، وربّما في جبهة التحرير الوطنيّ آنذاك أيضاً) وعبّان رمضان، مسؤول الجبهة في العاصمة ورفيق بومنجل السابق في بليدة. كانت العائلة تؤكّد أهمّيّة هذه العلاقة ولا أحد ممّن بقوا على قيد الحياة باستطاعِتهِ أن يشهَد على هذه العلاقة التي تمَّ ربْطُها أو إعادة ربطِها في السرّ.

كانت مشكلة البحث الأخرى هي اغتيال بومنجل وموتُه: يستطيع شهودٌ أن يشهدوا بالتعذيب النفسيّ، لكن لا أحدَ كان يشهَد التعذيب الجسديّ الذي يتحدّث عنه الجميع. إضافة إلى ذلك، فإنّ التأكيد الوحيد للاغتيال يأتي من بول أوساريس الذي لم أصدّقه والذي رفض أن يقابلني باستمرار. على كلّ حال، كانت فكرة تناول فنجان قهوة معه تُثيرُ في نفسي بُروداً مُرعِباً. كنت أجهل أجزاء كاملةً من سيرة بو منجل السياسيّة كما من نشاطاتِه السريّة أو المجْريات عند اعتقاله من طرف المظليّين. بجملةٍ واحدةٍ كان من الممكن أن أصوّره كشخصٍ إنسانيّ هشٍّ دفعتْه مُجريات الحرب إلى الالتحاق بجبهة التحرير الوطنيّ. وبجملةٍ واحدةٍ أيضاً كانت لديّ القُدرة على تصويره كثوريٍّ أكثر راديكاليّة. حتى وإن كان ذلك سيُثلج صدري. هذا كان الخطر الذي يهيمن على كتابتي.

bid2021_images_minbabawla_p.91_rgb.jpeg


يظهر على يمين الصورة علي بومنجل ومعه صديقه مهند صلحي الذي اعتقله المظليون أيضاً واختفى خلال معركة الجزائر، أرشيف عائلة بومنجل

أسئلة إلى غائب

طالتْ كتابة أطروحة الماجستير. كنتُ أحقّق في كلّ جملةٍ وأُعيد كتابتَها، وأعَدتُ اختيار النعوت المستعملة الواحدَ بعد الآخر. لم يكن بومنجل شخصيّة مركزيّة، ولذلك لم يكن مؤكّداً أن تظهر سيرةٌ أخرى بعد رسالتي هذه لمتابعةِ النقاش حوله. لم أكن أُريد أن أبحثَ في قضيّة بومنجل في محاكمةٍ تاريخيّة ولم أكن أريد تصحيح التاريخ بل أردتُ أن أكتب بدقّةٍ وموضوعيّة وإنصاف جُمَلاً مَوثوقةً في هذا الرجل الذي توفّي منذ خمسين سنة. لكنّ الشكوك حول القضيّة لم تكن لتُختَزَل. كنت أقول في نفسي وأنا أقطع مساحةَ مطبخي جِيئةً وذهاباً: أُعطوني خمسَ دقائق، أو عشر دقائق، أو ربع ساعة لكي أتكلّم مع علي بومنجل. كان عندي قائمة أسئلة أودّ توجيهها له:

- يا سيّدي، كيف كانت علاقتكم مع عبان رمضان سنتي 1956 - 1957؟ [خمس دقائق لم تكن لتكفي]

- ماذا حدث لكم بعد اختطافكم من طرف المظلّيّين في التاسع من شباط \ فبراير ١٩٥٧؟ هل عذّبوكم؟ هل قتلوكم؟

- خلال أزمة «حزب البيان» في الخمسينيّات، هل كنتم معارضين لفرحات عبّاس [رئيس الحزب]؟ ولأخيكم [القياديّ في الحزب]؟

ربّما كان عليّ أن أخاطبَه في ذلك الوقت بضمير المفرَد مع رفع التّكليف، لم أعد أدري. على كلّ حال، كان ترتيب الأسئلة يتبدّل باستمرار بحسب ما كان يبدو لي جوهريّاً (هل كان فعلاً جوهريّاً أن نعرفَ كيف مات؟ كيف عُذِّبَ؟ بالمقابل، قضيّة عبان رمضان كانت تبدو لي دائماً أساسيّةً). وبما أنّ علي بومنجل لم يكن مستعدّاً لمقابلتي، كنت أتخيّل كلّ المعلومات الأكيدة التي سأغنَمها لو تحدثت لخمس دقائق فقط مع عبان رمضان أو مع قدّور ساطور.

أن نسرُد حياة فردٍ وأن نضفي عليها معنىً، فتلك مسؤوليّة ثقيلة، وهي تزداد ثِقلاً لو كان أقاربه على قيد الحياة: في جميع الأحوال سيكونون منزعجين وغير راضين عن قراءة الكتاب. من الضروريّ أن أكونَ واثقةً من حكاياتي حتى أجازفَ بكتابتها. ولكن عندما نتحدّث عن السرّيّة، لا نستطيع أبداً أن نشهدَ أنّ الحدثَ الذي لا دليلَ لنا عليه لم يحدُث قطّ. كيف نكتب التاريخ تاركين الباب مفتوحاً لِمثلِ هذه الإمكانيّات؟ كانت اعترافات علي بومنجل التي انتزعها المظلّيّون تبدو لي زائفةً، وعلى الرّغم من ذلك هل يمكن أن أكون متأكّدةً مئة بالمئة من أنّ شبكة الاتّصالات التي اعترف بومنجل تحت التعذيب بأنّه رئيسُها لم تكن موجودةً حقّاً؟

كان لمسألة العدالة في ذلك الوقت معنىً ملموس: حوكم بول أوساريس سنة ٢٠٠٢، لا لارتكابه جريمة حرب بل لتبريرها /للدفاع عنها، للكتابة عنها، مثلَما حصل مع ناشرَيْ كتابه. كانت الملاحقات القضائيّة بمَثابةِ اعترافٍ بالعجز: في حالةِ عدم إمكانيّة الملاحقة القضائيّة لارتكاب التعذيب والاغتيال، الذي كانت تحميه قوانين العفو، حوكم بتهمة الكتابة نفسِها، وفي ذلك رسالةٌ رادعة لكلِّ من تُسوِّل له نفسه الاعتراف بجرائم حربٍ أخرى. لقد ثبتَ اتِّهامُ أوساريس في نيسان/أبريل ٢٠٠٣ عندما كنت في خضَمّ الكتابة عن بومنجل. كانت عائلة بومنجل تتصوّر طرقاً أخرى لنقل قضيّته إلى القضاء، بما هي قضيةُ عدالةٍ وحقيقة. وكانت العلاقة الممكنة بين هذه القضيّة وبحثي دائمة الحضور في ذِهني. وكنت دائماً أتحدّث مع زملائي في البحث عن إمكانيّة الحديث عن هذه القضيّة أثناء المحاكمة.

بينما كنت أعِدُّ الفَصل الأخير للأطروحة، محاوِلةً إعادةَ تشكيل مسار بومنجل يوماً بعد يومٍ من مركز تعذيبٍ إلى آخر، كان الجنرال مارسيل بيجار ضيفاً على البرنامج الفُكاهيّ للفترة الصباحيّة في إذاعة «فرانس أنتار». وصل بيجار إلى مدينة الجزائر بعد موت بومنجل ولم يلعب أيَّ دور فيه. لكنّ بيجار احتلّ مكانه في النظام القمعي المؤسَّس على التعذيب والقتل وكان المظليّ الوحيد الذي اقترن اسمه بطريقة قتل السجناء التي سمّيتْ «ربطة عنق بيجار»، رجالاً ونساءً رماهم المظلّيّون في البحر من المروحيّات وأقدامهم مثبّتةٌ في أحواض إسمنت.

فيما أذكره، كان مقدّم البرنامج ستيفان بارن يردّد: ما نحبّه فيك جنرال… هو حَيَوِيّتك، دُعابَتُك، لُطفك. كان هذا في عام ٢٠٠٣. وأنا أستمع إلى البرنامج، كنت أقرأ وصْفاً لرجالٍ اختَنقوا في أحواض الخمور في حوش بيران ووصَفَ التقنيّة المعتَمَدة لسَحج سِيقان النَاجين بالمسحج مع وضع المِلح عليها. كانت هذه الحَيَويّة تثير فيّ شعوراً بالقَرَف. كانتْ لديّ رغبةٌ في تحقيق العدالة وتعديل التاريخ، أردتُ أن أكتب كتاباً يصفَع بيجار على وجهه، يصدم ستيفان بارن ويقول للإذاعة الوطنيّة الفرنسيّة إنّها وضيعةٌ وبلا كرامةٍ شأنُها شأن الجمهوريّة الاستعماريّة. كنت أرغَب أن يكون بومنجل، والعربيّ بن محيدي وعبّان رمضان، هؤلاء المفقودين اليوم، أبطالاً. كنت وما زلت مناهضةٍ للاستعمار بشراسة وهذا لم يكن يساعد على الكتابة.

هل حاول الانتحار؟

بدأتُ بالاعتقاد بأنّ ما يسمّيه المظلّيّون «محاولة انتحار بومنجل الأولى» - لمّا قالوا إنّه قطع عروقَ رقَبتِهِ بزُجاجِ نظّارتِه - هذه المحاولة يُمكن أن تكون قد حصلَت فعلاً ولم تكن محاولةَ اغتيالٍ كما تظنُّ عائلة بومنجل. كان بودّي أن أعتقِدَ عكسَ ذلك. دفعوا بومنجل إلى الاعتقادِ بأنّ عَوِيل المرأةِ الحقيقيّ الذي كان يُسمعُ كان عَويلَ زوجته عندما كان يُعتَدَى عليها، وخلَق ذلك لديه حالةً من الارتباك. تحت هذا التعذيب النفسيّ لم يكن الانتِحار بعيداً عن التوقُّع. كانت هذه فرضيّةً فقط ولكنّها كانت فرضيّتي. زيادةً على ذلك، لم أكن أرى في ذلك أيُّ سببٍ لإدانة بومنجل من وِجهة نظرٍ أخلاقيّةٍ. وكنت أردّد صِيَاغةً من قبيل: التعذيب يبرّر كلّ شيء، الانتحار هو إرادةٌ، هروبٌ ومقاومة. كما نرى، كانت الأخلاق موجودةً دائماً، توجّهُ كلّ شيء وعليّ أن أتحرّر منها قدْرِ الإمكان. حين اتّصلتُ بمليكة بومنجل لكي أخبرها بنهاية كتابة الأطروحة، كنت أرغب في أنْ أقولَ لها إنّ فرضيّتي كانت على تلك الشاكلة، حتى لا تُفاجِئَها عند القراءة. كان هناك صمتٌ طويل. قالت بعده: لقد ربحوا إذن. وتحدّثنا طويلاً بعد ذلك.

سعى أصدقاءٌ لي من مؤرّخي الزمن الماضي إلى التقليل من شأن هذه الخصيصةِ المتعلِّقة بتاريخ الزمن الحاضر. بيّنوا أنّهم، هم أيضاً، يمكنهم الحصول على «علبة أرشيف باكية»، أو على موضوعٍ مُؤلمٍ، ويمكن أيضاً أن تتملّكهم مشاعر قويّةٌ ورغبةٌ في تحقيق العدالة. بلا شكّ.

على الرّغم من ذلك، هنالك مِيزة خاصّة في تاريخ الزمن الحاضر، عندما يشترط شاهدٌ أن تحقّق أنت العدالة، أو فلان أو فلانة أو ملكة رحّال، أو يتقدّم بشكوى ضدّك بتُهمة التشهير، أو يهاتفك في منتصف الليل، أو كما هو الحال هنا، يقتلك قتلاً باتّهامه إيّاك بالخيانة.

أنا أُنهي الكتابة في حالٍ من التّعَب والتركيز الشديد، وبما أنّني أحسب نفسي أخاطب الموتى، وبما أنّنا نكتب انطِلاقاً من جوهر حياتنا، برز أمامي موتى آخرون يطالبون، هم أيضاً، بخمسِ دقائقَ من وقتي، موتى ما زالت لديّ أسئلة أحبّ أن أوَجّهها لهم. عمّي الشهيد. [هل تعرف أنت مَن قتلك؟ وأين دفنوك؟] جدّي [هل كنتَ عُضواً في حزب البيان؟] أبي. […]

bid2021_images_minbabawla_p.93_rgb.jpg


من وثائقي «معركة الجزائر» لجيلو بونتكورفو، ١٩٦٦

بعد انتهاء الكتابة، انتظرتْ الأطروحةُ طويلاً قبل أن تصبحَ كتاباً. ما زالت بعضُ المشاكل عالقةً: كيف أفكّك رِواية الاستشهاد حسب العائلة بدون أن أجرحها؟ وكيف أتحرّر من حاجة تحقيق العدالة وأكتبُ في آن كتابةً عادلةً؟ كيف يمكن أن نترك الباب مفتوحاً على الأحداث والتّفاصيل التي لم ننجح في العثور عليها أو البرهنة عليها؟ ماذا نفعل مع الأشباح، أشباح التاريخ أشباحنا نحن في تاريخنا الخاصّ؟

قراءَتي لكتاب دانيال ماندلسون «المفقودون، البحث عن ستّةٍ من ضِمن ستّة ملايين» ساهمتْ في انفِراج البحث أخيراً. كان من الممكن أن نحكي سيرة التحقيق ولو كانت نتائجه شحيحة. هنالك بالتأكيد قيمةٌ للمنهج نفسه: نستطيع أن نكتب بشكلٍ صحيح ونحترمَ ذاكرة الأموات في الوقت نفسه. كُتبتْ بعض المقاطعِ في الدقيقة الأخيرة بعد مناقشاتٍ حول موضوع الحِداد مع زملائي في «معهد تاريخ الزمن الحاضر» الذين كانوا يعرفون هذه المسألة في سياق حروب أخرى، فزوّدوني بمُعجَمٍ مهمّ وأدوات تحليلٍ.

بين العدالة والتاريخ

لما قدّمتُ الكتاب لمليكة بومنجل ووضعته مع نُسخٍ لأولادها على الطاولة، لم تنظر إليه. في الشُقّة الصغيرة، كانت تمرّ أبعد ما يمكن عن الطاولة وهي تجلب الشاي من المطبخ. تُشير بإصبَعها إلى هذا الشيء المؤلم الموضوع على الطاولة لتشكرَني عليه. كنتُ مهمومةً بعد هذا اللقاء وعُدت لزيارتها بعد بضعةِ أيّام إثر اتّصالٍ هاتفيّ. كانت المرّة الوحيدة التي تفتح لي فيها الباب بملابس البيت منذ أن عرفتها منذ عدّة أعوام. كانتْ قد بدأت القراءة لكنّها وجدتْها صعبةً. لم تكتشف بالتأكيد شيئاً جديداً في الكتاب، لكنّها وجدت الأسلوب جميلاً ومع ذلك أكثر إيلاماً. لقد كانت سيّدةً مُسنّة، وكنت أخاف من أن تفارق الحياة أصلاً مع ظهور الكتاب. غير أنّ هذا الوضع لم يستمرّ طويلاً. الأشياء لم تكن أيضا بسيطة بالنسبة إلى أحد أولادها، سامي. مع اقتراب نشر الكتاب، أصبح عدوانيّاً وقلقاً بسبب دار النشر التي لم تفعل ما كان يجب فعله حسب رأيه. عند صدوره، لم يحقّق الكتاب الذي طال انتظارُه، ما كان مأمولاً منه. لم يكن قويّاً بما فيه الكفاية. لم يكن حاسماً في كلّ الأمور. ولم يستطع أن يُصلِح الماضي. كان الأمر يتطلّب أشهراً عديدةً حتى تهْدأ التّوَتُرات.

في بداية بحثي، كنتُ أظنّ أنّ السيرة شأنٌ تافه وعديم الجدوى، لكنْ أثناء كتاباتها، طُرحت كلُّ الأسئلة الكبرى التي تخُصّ تاريخ الزمن الحاضر مع تذبْذُباتٍ رهيبةٍ بين العدالة والتاريخ، وبين الحقيقة وإصلاح الماضي. لم تكن الأجوبة بسيطةً على الإطلاق. وكانت الكتابة صراعاً مستمرّاً من أجل التاريخ.

قبل أن نغادر، حاولنا عبور المدخل الثّالث، حتى لا يبقى لنا عُذرٌ. في المدرج، كنت أفكّر في هنري علّاق، وفي موريس أودان اللذين مرّا من هنا، هما أيضاً. وأمام كلّ بابٍ أتساءل هل تم تعذيبهما في هذه الشقّة؟ وهل كانا مسجونَين هنا؟ وهل وقعت المواجهة بينهما هنا؟ في هذه الأثناء، خرج أحدُ الجيران من بيته يتسوّق. جميلة بو باشا كانت هناك. فكّرنا أيضاً في كلّ المجهولين الذين تركوا حياتهم هنا أو جزءاً من ذواتهم خلال التّعذيب.

عندما كان جلّاده يقتاده إلى الشّرفة، تعرّف هنري علّاق إلى المبنى الذي قُتل فيه صاحبه علي بومنجل. هنري علّاق هو الذي أعطاني الشهادة الأثرى والأكثر إثارة حول بومنجل. وصلْنا إلى أعلى الدرَج. انفتح أمامنا باب السطح.

المشهد رائعٌ من كلّ الجهات، والمنظر نحو الأسفل يثير الصّداع. ليس هناك سور ولا جدارٌ للشّرفة. من الجهة الأولى شارعٌ على خوجة ومحالّه التجاريّة ومنه تتصاعد أصوات نهاية النهار. ومن الجهة الأخرى، الساحة. من أيّ جهةٍ سقط بومنجل؟

شرح ضابط الشرطة العَدليّة الذي وصل إلى المكان بعد وقت قصير من الحادث في تقرير:

في هذا اليوم أخرِج من سجن الفوج التاسع عشَرَ للهندسة لكي يُعرض على النّيابة العامّة بعد الظهر. عند اقتياده تحت الحراسة إلى مكتب الاستعلامات لإجراءِ الاستجواب الأخير، هرب فجأةً وألقى بنفسه نحو الفراغ من ارتفاع 15 متراً. سقط في أرض السّاحة المبلّطة وتُوفّي فوراً على أثر رضوضٍ شديدة في الجُمجُمة٣.

من جهة الساحة إذن، أين يلعب الأطفال اليوم وأين سقى رجلٌ نبتاتِه؟ هل هذا هو المكان حيث مات علي بومنجل؟ في هذه الجهة، لا نرى البحر بل الجبال. نجلس على حافّة السطح صامتين. لقد انتهيتُ من كتابة كتابي منذ سنوات، وبإمكاني أن أسمح لنفسي برؤيةِ أشباحي.

لو كانت لبومنجل لحظة وعيٍ فقط على هذه الشرفة قبل أن يُصرَع، لكان قد نظر إلى هذه الجبال.

  • ١. ملكة رحال، «الشرفة. عودة إلى مكان قتل علي بومنجل - 23 مارس 1957». Billet. Textures du temps (blog). Accessed October 13, 2018.
  • ٢. المرجع نفسه.
  • ٣. المرجع نفسه.
العددان ٢٠-٢١ - ٢٠١٨
الشرفة: عودة إلى مكان قتل علي بومنجل

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.