أوّل إنجازات التعليم في روسيا - الثورة المرسوم الحكوميّ الدّاعي إلى مَحو الأمّيّة بين سن ٨ و٥٠ سنة، وهو الإجراء الذي مكّن عشرات الملايين من سكّان روسيا من تعلّم القراءة والكتابة. ما لبث أن تحوّل إلى تقليدٍ يشارك في حملات تعليم القراءة والكتابة متطوّعون من الشبيبة الشيوعيّة يطوفون على الأرياف والأطراف.
في ٣٠ أيلول / سبتمبر ١٩١٨ صدر «إعلان مبادئ» عن الإصلاح في حقل التربية والتعليم. وأبرز إجراءاته توحيد التعليم المدرسيّ فيما سمّي «مدرسة العمل الموحّدة» تحلّ محلّ المدارس السابقة متعدّدة المستويات. والتعليم في المدرسة الموحّدة مجّانيّ ومختلط للجميع من سنّ ٨ إلى ١٧ سنة. وقد اتّبعت تلك المدارس برنامجاً تعليميّاً موحّداً وشهاداتٍ موحّدة. وقام النظام التعليميّ الجديد على مبادئ تعليميّة إصلاحيّةٍ جذريّةٍ أبرز ما فيها:
١ إلغاء «مبدأ السلطة» في المدرسة ومعه كلّ القيود الخارجيّة المفروضة على الطلّاب.
٢ التخلّي التدريجيّ عن الفروض والواجبات البيتيّة والعلامات وامتحانات الدخول والتخرّج.
٣ الاهتمام بالتّعليم المهنيّ وربط التعليم المدرسيّ بالعمل اليدويّ تحت شعار «أن تعيش يعني أن تعمل».
٤ اعتماد نظام «المركّبات» الذي يقوم على التخلّي التدريجيّ عن نظام «الموادّ» لصالح نظامٍ عابرٍ للاختصاصات يقوم على العلاقات بين العالم الطبيعيّ والنشاطات الإنسانيّة والعلاقات الاجتماعيّة.
تطبيق اشتراكيّ لنظريّات أميركيّة
حظي القطاع التعليميّ بعدّة خبراء ومنظّرين نشطين وخلّاقين من جيل الروّاد بقيادة أناتول لوناتشارسكي، «مفوّض الشعب للتنوير» Narkompros، المفوضيّة المسؤولة عن التعليم والثقافة، ونائبته ناديا كروبسكايا، زوجة لينين، والمسؤولة الأبرز عن قطاع التعليم الجامعيّ في المفوضيّة.
لم يُخفِ معظم تربويّي تلك الفترة تأثّرهم بالنّظريّات التعليميّة للمربّي الأميركيّ التقدّميّ جون ديوي (١٨٥٩ - ١٩٥٢). سعى ديوي إلى ربط التعليم بالديمقراطيّة، ومن أبرز مؤلّفاته «المدرسة والمجتمع» (١٨٩٣) حيث يعرّف المدرسة على أنّها وحدةٌ مجتمعيّة يجب أن تشكّل إطاراً للإصلاح المجتمعيّ، أي تحويل التلميذ إلى مواطنٍ يسهم إسهاماً أخلاقيّاً في المجتمع، على حدّ تعبيره. وقد انتقد ديوي التعليم القائم على تحصيل المهارات المبرمجة سلفاً، ودعا إلى تنمية طاقات التلميذ إلى أقصاها واستخدامها في خدمة الصّالح العامّ. وعارض المربّي الأميركي التقدّميّ السلطويّة في التعليم، وما تفرضه على التلاميذ من استكانةٍ وتقييدٍ جسمانيّ. والأهمّ أنّه دعا الى التخلّي عن ممارسة العلم باتّجاهٍ واحدٍ من الأستاذ إلى التلميذ. ونظر إلى التعليم الجديد بما هو قائم على الموازنة بين توصيل المعرفة والأخذ بعين الاعتبار مصالح التلميذ وتجاربه الحياتيّة. فدعا إلى تكوين تلاميذٍ قادرينَ على التفكير النقديّ المستقلّ من خلال مناهج متعدّدة الاختصاصات. وشدّد على عدم الاكتفاء بتنمية كفاءات الأساتذة وإنّما العمل على تغيير مفهوم التعليم ذاته.
ترجمت كروبسكايا كتاب ابنة ديوي عن أبيها. وكانت الفكرة المركزيّة عن المدرسة الجديدة عند المربّية كروبسكايا، ترى أن مهمّة المدرسة الجديدة ليست تأهيل التلميذ لنشاطاتٍ معيّنة بقدْر ما هي تنمية طاقات الطّفل التي ستسمح له بإنتاج ظروف حياته المستقبليّة بذاته. وكتب لوناتشاركي في العام ١٩٢٠ يقول «لقد أدخلنا في «مدرسة العمل الموحّدة» تطبيقاً اشتراكيّاً للوسائل التعلميّة التي تتبنّاها أفضل المدارس الأميركيّة».
ومن أبرز ما أخذه النظام التعليميّ الجديد عن ديوي
١ اعتماد «مصالح» التلاميذ، تمييزاً لها عن «الرغبات»، وتوجيهها نحو تنمية شخصيّة التلميذ وملَكَته النقديّة وشعوره بالمسؤوليّة وتشجيع التعاون والمشاركة مع الآخرين.
٢ التشجيع على الاختبار وتطعيم التعليم باستمرارٍ بآخر مكتشفات العلوم.
ومن أبرز تربويّي تلك الفترة بلونسكي Blonski الذي يقول إنّه بنى نظريّته التربويّة على ثلاثة: ماركس وديوي والواقع الروسيّ. وقد أخذ عن ماركس مقولته أنّ المجتمع الشيوعيّ سوف يلغي تقسيم العمل ويعمل على إنهاء الفوارق بين العمل الذهنيّ والعمل اليدويّ، وبين المدينة والأرياف. عُرف بلونسكي بنظريّته عن «التّسيير الذاتيّ للمدرسة من قبل التلامذة» والتركيز على التوفيق بين متطلّبات العصر ومصالح التلامذة، وبين تنمية روح المبادرة عند الطفل وتنمية روح المسؤوليّة.
مويزي بيستراك Moisey Pistrack (١٨٨٨ - ١٩٤٠) داعية الابتكار وتنمية الروح النقديّة لدى التلامذة ووعيهم للعلاقات الحقيقيّة في المجتمع. وهو صاحب مفهوم «مدرسة العمل» الذي أطلقه العام ١٩٢٠ على اعتبار العمل هو حامل الرقيّ والسعادة للإنسان. وقد رأى أنّ المزج بين التعليم والعمل اليدويّ، وبين المدرسة والمصنع، يجب أن يكون ركيزة المدرسة الجديدة. وبناءً على مبادرات بيستراك وليبيشنسكي نُظّمتْ «المخيّمات الطلّابية» يمارس خلالها التلامذة العمل الصناعيّ. وقد دأب لينين وكروبسكايا على زيارة تلك المعسكرات.
كانت تلك فترة «شيوعيّة الحرب» وقد شهدتْ حرّيّةً واسعة في التجريب والتخييل والابتكارات الخلّاقة بلا حدود في التعليم مثلما شهدتْه في سائر ميادين الحياة. أعيد النّظر بدور المعلّمين الذين كانوا يُنتخَبون من السوفييتات المحلّيّة، وسادتْ بصددهم معادلة ماركس الشهيرة عن «أنّ المعلّم يجب أن يتعلّم هو نفسه» نحو توازن قوّة جديد بين المعلّم والتلميذ. وقد دعا لينين من جهته إلى إصلاح المسؤولين عن التعليم قبل الشروع في إصلاح السياسات التعليميّة. حتى إنّ بعض التربويّين تساءلوا عن جدوى المدرسة كمؤسّسةٍ أصلاً، حتى إنّ أحدهم، شولغين، دعا إلى «اضمحلال المدرسة» على اعتبارها مؤسّسة طبقيّة وسلطويّة، على غرار ضرورة اضمحلال الدولة.
وبرز جيلٌ جديدٌ من التربويّين، منهم الفيلسوف والعالم النفسانيّ أنطون ماكارنكو (١٨٨٨ - ١٩٥١) الذي أسّس المآتم وبنى الملاجئ لأطفال الشوارع ومشرّدي الحرب الأهليّة وكان مديراً لقطاع إصلاحيّات الأحداث. طبّق ماكارانكو مفهوم «مدرسة العمل» خلال إدارته إصلاحيّات الأحداث التي اعتمد فيها منهجاً يقوم على احترام الأحداث والعمل على كسب ثقتهم وربط التعليم مع العمل المنتِج. وقد أُعجب مكسيم غوركي بمنجزات ماكارنكو وكتب مقالاً شهيراً يحيّيه فيه بما هو رائدٌ لفكرٍ تربويٍّ من نمطٍ جديد. وقد منح ماكارنكو «وسام الراية الحمراء»، أرفع الأوسمة السوفياتيّة. من أبرز مؤلّفات ماكارنكو «الطريق إلى الحياة» (١٩٣٣) الذي يروي قصصاً واقعيّة عن تلامذته من المآتم وإصلاحيّات الأحداث. وهو يمثّل أد كلاسيكيّات كتب التربية على الصعيد العالميّ، قرأه الملايين وتُرجم إلى ٥٤ لغة، وطُبع في الاتّحاد السوفياتيّ وحده ٨٥ طبعة.
وفي العام ١٩٢٨ زار ديوي روسيا ودُهش لاكتشافه أنّ النظام التعليميّ فيها يطبّق نظريّاته. ومع أنّ ديوي لم يغفل أنّ المدرسة باتت «ذراعاً للثورة»، على ما سمّاها، إلّا أنّه اعترف بأنّ روسيا السوفياتيّة هي البلد الوحيد الذي يتمّ فيه الربط بين النشاطات التربويّة والنّشاطات الاجتماعيّة في النظام التعليميّ الرسميّ. ولاحظ ديوي فوق ذلك أنّ ما يمنع تحقيق هذا الرّبط في المجتمعات الرأسماليّة هو التشجيع على المنافسة بين الأفراد والسعي وراء الربح الفرديّ.
ومن مفارقات ذلك العام أنّه آذن ببدء الردّة على تلك الفترة من الحريّة والابتكار والتخييل في حقل التربية والتعليم. تعرّضت نظريّات ديوي للهجوم بما هي «فرديّة» و«برجوازيّة» لا تسهم إلّا بتخدير الصراعات الطبقيّة. ووجهت لماكارنكو اتهامات سياسيّة بأنّه انتقد ستالين وأيّد المعارضة الأوكرانيّة، وأخضع لنظام مراقبة خاصّة.
وأعلن فشل «الوسائل التقدميّة» في التعليم إذ فشلتْ في توفير الأساسيّات للتلامذة من أجل تحضيرهم للمعاهد المهنيّة والجامعات. ومع اشتداد قبضة ستالين على السلطة ضاق ذرعاً باللامركزيّة التي يتمتّع بها النظام التعليميّ وفوضاه التجريبيّة والفكريّة. كان يحتاج خصوصاً إلى العمّال المهرة والتقنيّين لتنفيذ خطّة التنمية الخمسيّة الأولى، فأعطى الأولويّة لتجيير النظام التعليميّ نحو إنتاج تعليمٍ مهنيٍّ فعّال. وما لبثت اللجنة المركزيّة أن أعلنت في العام ١٩٣١ «نهاية التجريبيّة» في حقل التعليم والتربية. وتقرّرت العودة السريعة إلى العلامات والامتحانات والعقوبات والأزياء الموحّدة والأناشيد الإلزاميّة وتحيّة العلَم.
نعلن الآتي: اليوم ولِد لدينا المكان والزمان. المكان والزمان: الشكلان الوحيدان اللذان تقيم فيهما الحياة، لذا، فهما الشكلان الوحيدان اللذان يجب ان ينبني عليهما الفن.
الدول، الانظمة السياسية والاقتصادية، تنهار تحت وطأة القرون؛ الأفكار تتهاوى، لكن الحياة صلدة، تنمو ولا يمكن اقتلاعها، والزمن متواصل في ديمومة الحياة الحقيقية. فمن يرينا اشكالاً أكثر نجاعة؟ أي انسان عظيم يمنحنا قاعدة أكثر رسوخا؟ أي عبقري يستطيع ان يتخيّل أسطورة أكثر بهجة من تلك الرواية العادية المسماة «حياة»؟
ان الهدف الوحيد لإبداعنا التشكيلي هو استكمال تصوّرنا للعالم انطلاقاً من منظور المكان والزمان.
لن نقيس نتاجنا بمقياس الجمال، ولن نزِنَه على كفّتَي ميزان الرقّة والشعور. خيط المِعمار باليد، والنظرة شاخصة مثل بوصلة، نبني منشآتنا فيما الكون يبني. لهذا، فعندنا نصوّر الأشياء، ننزع عنها الألقاب التي وضعها لها مالكوها، ومعها كل ما هوعَرَضي ومحلي فلا يبقى عليها غير الجوهر والمظهر، من اجل استخراج نبض القوى المخبأة فيها.
١ في الرسم، ننبذ اللون بما هو عنصر تصويري. اللون هو الوجه المثالي والبصري للأشياء. الانطباع الخارجي سطحي. اللون عَرَضيّ لا يشترك بشيء مع المضمون الجوّاني للأجسام.
نعلن ان صبغة الاجسام، أي، تجسدها المادي وهي تشفّ الضوء، هي الحقيقة التصويرية الوحيدة.
٢ اننا ننكر على الخط قيمته البيانية. في الحياة الحقيقية للأجسام لا وجود لشيء بياني. الخط ما هي الا أثر زائل يتركه البشر على الأشياء ولا علاقة له بالحياة الجوهرية وبالبنية الدائمة للأشياء. ان الخط عنصر بياني، توضيحي، تزييني فقط.
اننا نعترف بالخط فقط بما هو وجهة القوى الساكنة المخبأة في الأشياء، ووجهة ايقاعاتها.
٣ اننا نتبرأ من الحجم بما هو الشكل التشكيلي للمكان. لا يمكن قياس السوائل بالسنتيمترات. انظروا الى مكاننا الحقيقي. ما هو إن لم يكن عمقاً متواصلا؟
اننا نعلن العمق بما هو الشكل التشكيلي الوحيد للمكان.
٤ اننا نتبرأ في النحت من الكتلة بما هي عنصر نحتي. كل مهندس يعلم ان القوى الساكنة للأجسام الصلدة، ومقاومتها المادية، ليستا وظيفتين من وظائف كتلتهما. مثلا: السكّة، الدعامة، العارضة. لكنكم ايها النحاتون، على اختلاف تياراتكم والتلاوين، تتعلقون بمسبقات قديمة تقول باستحالة تحرير الحجم من الكتلة. هكذا: نأخذ أربعة مسطحات ونجعل منها الحجم نفسه الذي يمكننا ان نصنعه بواسطة كتلة من مئة كيلوغرام.
هكذا نستعيد للنحت الخط بما هو وجهة وهو ما سرقته منه الأفكار المسبقة. وهكذا نؤكد العمق في النحت، العمق الذي هو الشكل الوحيد للمكان.
٥ اننا ندين الخطأ الألفي الموروث من الفن الفرعوني، حيث تبدو الايقاعات الساكنة على انها العناصر الوحيدة للإبداع التشكيلي.
اننا نعلن عنصرا جديدا في الفنون التشكيلية: الايقاعات الحركية الذي هي الاشكال الجوهرية لتعقّلنا الزمن الحقيقي...
ان الفن مدعوّ لمواكبة الانسان أينما كان حيث حياته حاضرة وفاعلة لا تكل ولا تهدأ - في المشغل، في المكتب، في العمل، في الراحة وفي الرفاه؛ في أيام العمل كما أيام العطل، في البيت وعلى الطريق – من اجل ان لا تفارق شعلةُ الحياة الانسانَ.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.