العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

ليلة قَدَر مع علي شريعتي

النسخة الورقية

تميّز المرحوم شريعتي بروح مستقصية شكّاكة منذ بداية شبابه، وأوائل عهده بالدراسة والتحصيل العلمي. كان يشكّ بكل شيء، حتى بدينه، فقد كان يشك بالدين السائد بين الناس، أي بذلك الدين الممسوخ، ذلك الإسلام الذي حُوّل إلى دكّان للارتزاق، ووسيلة للاحتراف وتربية «المريدين». كان لا بدّ لشابّ واع مثل شريعتي أن يبدأ بالشكّ، لكنّه لم يبق أسير الشكّ. بدأ بالدراسة، بحث في الأصول، قرأ في المناهل الأولى، فكّر وتمعّن في التفكير، هاجر في أرض الله الواسعة، والتقى بالناس في العالم، واحتكّ بمختلف المدارس والمناهج، فتوسّعت آفاق فكره، حتّى بلور مفهومه عن إسلام ثوريّ حيّ. وعاد إلى وطنه حاملاً عبء الرسالة. إنّ هذا التحوّل والتطوّر إنما عاشه معظم شبابنا، ولكن ليس كلّ واحد منهم شريعتي، ليستطيع أن يَعبُر مخاض الشكّ والتردّد فيصل اليقين. في ظلّ أكثر العهود إرهاباً وسواداً، حيث كان مجرّد ذكر الإسلام الثوري، يعدّ أكبر جرم في نظر الطغاة، بدأ شريعتي مهمّته، فكسب قلوب الشباب وبدأ بتغيير مفاهيمهم. لقد كان إنساناً نبيلاً متواضعاً، وكم ظلمه أولئك الخصوم الذين اتّهموه بأنّه عنيد لا يقبل النقاش. كان يتحدّث ويكتب ثم يقول للآخرين: ناقشوني وقوّموني فلربّما أنا على خطأ. كلّ يوم كنّا نشهد معركة ضدّ شريعتي في أحد أحياء العاصمة. لقد شنّوا عليه حملات ظالمة مستمرة. كنّا نقول لأولئك: ماذا حدث؟ اذهبوا واسمعوا آراءه وناقشوه، وقدّموا له الردّ الذي تريدون. لكنّ الأمر كان يجري على نحو آخر، إذ كان البعض يقتطع جملة أو فقرة من كتاب له، ويستخدمها لتشويه فكر شريعتي والتحريض ضدّه في الاجتماعات العامّة ومختلف الأوساط. تلك الاجتماعات التي كلّنا نعلم بأنّ السافاك كان وراء تنظيمها سرّاً أو علانية. لكنّ تلك المحاولات لم تنل من شريعتي، وقد حقّقت أفكاره تغييرات كبرى في عقول الواعين من الناس، وخصوصاً في عقول الجيل الجديد. إنّ الانجازات التي حقّقها شريعتي في قلب مفاهيم بكاملها بين الناس، هو الذي مهّد لثورتنا العظيمة وأرسى أسسها. آخر مرّة التقيته فيها، كانت عندما خرج من السجن، وقد سهرنا الليل معاً إلى ما بعد منتصفه، وقد تلمّست فيه صفاء روح وإجادة تعبير لن أنساهما طوال حياتي، وعندما كنت أتحدّث، كان يستمع إليّ بكلّ جوارحه، ثم يعلّق على الموضوع فيغنيه بشرح أوضح وتعبير أفضل. كان آخر موضوع تحدّثنا حوله، هو سورة القَدَر، وتفسيرنا لمسألة ليلة القدر. أنا قلت جملة واحدة، فتلقّفها منّي، وشرع بتحليل بهرني وجعلني أنسى الوقت، فلم أنتبه إلّا وقد مرّت ساعة من بعد منتصف الليل. بعدها ودّعته وافترقنا. سار هو نحو قدره، نحو «ليلة قدره»، وسرت أنا نحو قدر آخر، نحو السجن، حيث اقتربتُ من الموت، لكنّني لم أحظ بالشهادة، ولربّما كانت مشيئة الله تريد بي شيئاً آخر. أمّا هو فقد هاجر متّجهاً نحو الشهادة. أرجو من الله، أن يحفظ أفكار ذلك الإنسان العظيم ونظريّاته حيّة في الأذهان. كما أرجو منكم أن تدرسوا مؤلّفاته وأفكاره وأن تطوّروا مواضيعها. ناضلوا وسيروا على الدرب الذي انتهجه شريعتي من أجل تشخيص ومعرفة الإسلام الذي نريد. إسلام الثورة الاجتماعية، لا الإسلام التقليدي والذاتي، فهذا ما كنا نصبو إليه دوماً دون جدوى. إنّ مسؤوليّة الحفاظ على الثورة ومواصلتها، تقع على كاهل الجيل الجديد. إنّني أعيش آخر أيامي، وقد وصلت إلى نهاية حدّي. أرجو من الله أن يحفظ ويوفّق الذين ما زالوا على الدرب سائرين».

العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.