هذا النص من بواكير أعمال إرفاند أبراهاميان، نشر في MERIP REPORTS الأميركية، كانون الثاني/يناير ١٩٨٢.
درَج الغربيون على اعتبار الثورة الإيرانية حركة سلفية رُهابية تجاه كل ما هو أجنبي ترفض كل ما هو حديث وغير مسلم. وقد عزز زعماء إيران الحاليون هذه النظرة في تأكيدهم أنّ الثورة هي بمثابة رأس الحربة لبعث الإسلام، وأن الحركة الثورية ظاهرة حقيقية أصيلة لم تلوّثها أية أفكار دخيلة، وأنها تستلهم تعاليم الرسول محمد وأئمة الشيعة. غير أن هذه الانطباعات السائدة تغفل مساهمات الدكتور علي شريعتي، المنظّر الإيديولوجي الرئيسي للثورة الإيرانية. وقد استلهم شريعتي آراءه من خارج الإسلام ومن داخله على حد سواء: من علم الاجتماع الغربي ــ ولا سيما علم الاجتماع الماركسي ــ ومن الفقه الإسلامي، ومن منظّري العالم الثالث ــ وبخاصة فرانتز فانون ــ ومن تعاليم شهداء الشيعة الأوائل. والواقع أن شريعتي قد نذر حياته للتوليف بين الاشتراكية الحديثة والمذهب الشيعي التقليدي، ولتطويع النظريات الثورية التي طرحها ماركس، وفانون ومفكرون كبار آخرون غير إيرانيين مع بيئته الإيرانية المعاصرة١.
أكثر من شريعتي واحد
سيواجه القرّاء الذين يتعرفون إلى شريعتي في هذه الآونة عدداً من الصعوبات. فالثورة لم تجعله من الأسماء المألوفة على كل شفة ولسان في إيران فحسب، بل حوّلته إلى شخصية تنازعتها الجماعات السياسية المتخاصمة المتنافسة. فقد تعرض للمديح أو التأبين أكثر مما نال من التحليل، وللاقتباس ــ الانتقائي كما هو واضح ــ أكثر من النشر، كما نُظر إليه في ضوء النزاعات المباشرة أكثر مما درس في سياق بيئته الخاصة في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. يضاف إلى ذلك أن عدداً من الكتب المشبوهة المشكوك فيها قد نشرت باسمه.
وقد تفاقمت هذه المشكلات لأنه لم يكن هناك شريعتي واحد بل ثلاثة أشخاص منفصلين بهذا الاسم. فهناك، أولاً، شريعتي عالم الاجتماع، المهتم بالعلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة، وبين الأفكار والقوى الاجتماعية، وبين الوعي والوجود الإنساني. وشريعتي هذا ملتزم بفهم نشوء الحركات الثورية، ولا سيما الدينية، ونموّها وبَرْقطتها ومن ثم انقراضها في وقت لاحق.
وثانياً، هناك شريعتي المؤمن الصادق الذي تقوم دعوته على أن المذهب الشيعي الثوري، خلافا للإيديولوجيات المتطرفة الأخرى، لن يفتّ في عضده القانون الحديدي للانحلال البيروقراطي. أما شريعتي الثالث فهو الخطيب العام الذي كان عليه أن يزن كلامه بكل عناية، لا لأن عيون البوليس السري اليقظة تطارده بوصفه «ماركسياً إسلامياً» فحسب، بل كذلك لأن كبار «العلماء» كانوا، غريزياً يتوجسون شرّاً من كل شخص من عامة الناس يحاول أن ينتهك حرمة المجال الذي يعتبرونه وقفاً عليهم، ويعيد تأويل ما توارثوه من مبادئ. وكما كان شريعتي يشير مراراً وتكراراً في أحاديثه، فإن إيران المعاصرة كانت في مرحلة تنموية تشابه ما كانت عليه أوروبا قبيل حركة الإصلاح، ويجب بالتالي على المصلحين السياسيين أن يتعلموا من لوثر وكالفن، ويقوموا بمهمات تناسب بيئاتهم، وأن يتذكروا على الدوام أن علماء الشيعة، خلافاً لرجال الدين الأوروبيين في القرون الوسطى، يتمتعون بقدر عظيم من النفوذ في أوساط البرجوازية في المدن، والجماهير في المناطق الحضرية والريفية.
الأب وحركة «عبّاد الله الاشتراكيين»
ولد علي شريعتي عام ١٩٣٣ في قرية على مقربة من مشهد. وكان والده محمد تقي شريعتي من رجال الدين الإصلاحيين. وقد تخلص من ردائه الديني واقتصر دخله على ما يتقاضاه لقاء إدارته لقاعة مخصصة للمحاضرات الدينية، وتعليم العلوم القرآنية في إحدى المدارس الثانوية المحلية. ولأنه كان من دعاة الإصلاح، فقد اتهمه «العلماء» المحافظون بأنه سني، أو بهائي، أو حتى وهابي. وفي سنوات لاحقة ذكر علي شريعتي، باعتزاز، أن والده كان له الأثر الأكبر في تطوره الفكري. فعندما كان على مقاعد الدراسة في صباه، انضم إلى حلقات نقاشية نظّمها والده. وفي أربعينيات القرن [العشرين] انضم هو ووالده إلى جماعة صغيرة تسمى «نهزتي خودا باراستاني سوسياليست» (حركة عباد الله الاشتراكيين). وكانت تلك الحركة مهمة من الوجهة الفكرية لا السياسية: فقد كانت تمثل المحاولة الأولى في إيران للتوليف بين المذهب الشيعي والاشتراكية الأوروبية.
اقتفى شريعتي خطى والده مهنياً، فدخل كلية المعلمين في مشهد وواصل دراسة اللغة العربية والقرآن الكريم مع والده، وبعد التخرج من الكلية ١٩٥٣ مارس التدريس في المدارس الابتدائية في منطقته لمدة أربع سنوات. وخلال تلك الفترة، ترجم، بتصرف، أحد مؤلفات الروائي المصري عبد الحميد جودة السحار وهو عن أبي ذر الغفاري، والاشتراكية في الإسلام (Abu Zarr: Khada Parast-i Socialist)٢ . وأبو ذر من السابقين إلى الإسلام، وقد حمل بعد وفاة الرسول على فساد الخلفاء وترف الولاة وجشع الأغنياء، ثم اعتكف في قرية الربذة الصحراوية، حيث أمضى ما تبقى من عمره زاهداً ومدافعاً عن حقوق الفقراء والجياع. واعتبر السحار وشريعتي، وكثرة من اليساريين في الشرق الأوسط، أبا ذر أول اشتراكي في الإسلام. وقد كتب شريعتي الأب في وقت لاحق أن ابنه علي كان يعتبر أبا ذر واحداً من أعظم الشخصيات في تاريخ العالم٣.
الدراسة في باريس
في عام 1958، التحق علي شريعتي بجامعة مشهد حيث حصل عام 1960 على شهادة الماجستير في اللغات الأجنبية، مع التخصص في اللغتين العربية والفرنسية. ونال بعد ذلك منحة من الدولة لدراسة الدكتوراه في علم الاجتماع والتاريخ الإسلامي في السوربون. وإبان حرب التحرير الجزائرية وخلال الثورة الكوبية، تبنّى شريعتي الأفكار السياسية المتطرفة وانخرط في أنشطة المنظمات الطلابية الثورية. وانضم إلى اتحاد الطلبة الإيرانيين Nahzat-i Azad-i Iran التي كان قد أسسها أنصار الدكتور محمد مصدق المتدينون عام 1961/1962، كما ناب عن الوطنيين الجزائريين في تنظيم التظاهرات ــ التي أصيب في إحداها إصابة بالغة في الرأس استلزمت إقامته في أحد المستشفيات لمدة ثلاثة أيام. وتولى تحرير مجلتين هما «إيران الحرة» Iran Azad، وهي الناطقة بلسان الجبهة الوطنية المناصرة لمصدق في أوروبا، ومجلة «رسالة فارس» Nameh-i Pars الشهرية الناطقة بلسان اتحاد الطلاب الإيرانيين في فرنسا.
التحق شريعتي بعدد من المساقات الدراسية التي قدمها بعض كبار المستشرقين مثل ماسينيون، وحضر محاضرات قدمها أكاديميون ماركسيون. وقرأ بنَهَم أعمال المفكرين الراديكاليين المعاصرين ولا سيما جان بول سارتر، وفرانتز فانون، وتشي غيفارا، والجنرال جياب، وروجيه غارودي (الذي كان آنذاك مفكراً مسيحياً ماركسياً). وقام شريعتي بترجمة كتاب تشي غيفارا «حرب العصابات»، وكتاب سارتر «ما هو الشعر»، وبدأ بترجمة كتابيْ فانون «معذبو الأرض» و«خمس سنوات على الحرب الجزائرية»٤.
عاد شريعتي إلى إيران عام ١٩٦٥. وبعدما قضى ستة أشهر في السجن، وحرم من الانضمام إلى هيئة التدريس في جامعة طهران، عاد إلى مسقط رأسه في خراسان. وتولّى التدريس أول الأمر في مدرسة قروية ثم في جامعة مشهد. غير أنه استطاع الانتقال إلى طهران عام ١٩٦٧ محاضراً في «حسينية إرشاد»، التي بناها وموّلها عدد من التجار الأثرياء وقدامى الزعماء في حركة التحرير الوطني. وكانت السنوات الخمس التي قضاها في الحسينية هي الأكثر إنتاجاً في حياته، وقد طُبعت محاضراته في نحو خمسين كتيباً، كما وزعت في أشرطة مسجلة على نطاق واسع وقوبلت بحماسة شديدة، ولا سيما في أوساط الطلاب في المرحلة الثانوية. كما أن دعوته بثّت الحماسة في نفوس الجيل الجديد من المثقفين الساخطين على الوضع العام.
غير أن هذه المرحلة الخصبة من حياة شريعتي لم تدم طويلاً، فقد أوقفت الحسينية أنشطتها، وأغلقت قاعة المحاضرات لأسباب عدة. وأثارت شعبية شريعتي المتعاظمة حفيظة البوليس السري الذي اشتبه بأن منظمة المجاهدين الإسلاميين هي التي تقف وراء نشاطه السياسي والفكري. وقامت بعض العناصر المأجورة من جانب سلطات الشاه بحملة معاكسة تتهم شريعتي «بتضليل الشباب بالدعاية المناوئة لرجال الدين»٥. بل إن بعض الملالي الإصلاحيين مثل آية الله مطهّري، شعروا أن شريعتي كان يغلّب البعد السوسيولوجي على الجانب الفقهي، ويستعير ما هو أكثر من اللازم من الفلسفة السياسية الغربية٦.
وحالما أغلقت الحسينية، اعتقل شريعتي وأودع السجن بعد اتهامه بالدعوة إلى «ماركسية إسلامية» وبقي خلف القضبان حتى عام 1975، عندما أفلحت العرائض والضغوط والمطالبات من المثقفين في باريس ومن الحكومة الجزائرية في إطلاق سراحه. وفي محاولة لإعطاء انطباع زائف عن تواطئه مع السلطة، قامت الحكومة بتزوير إحدى مقالاته التي لم تكن قد استكملت من قبل، بأن أضافت في نهايتها نقداً ساخراً ولاذعاً للماركسية، ونشرتها في كتاب تحت عنوان «الإنسانية ــ الماركسية ــ الإسلام»٧ Ensan- Marxism-Islam، وظل شريعتي قيد الإقامة الجبرية بعد الإفراج عنه. ولم يسمح له بالسفر إلى لندن إلّا في شهر أيار/مايو 1977. وبعد وصوله إلى هناك بشهر واحد، توفي فجأة، ولم يكن من المستغرب أن يشك أنصاره في أن ثمة حادثاً مدبّراً وراء ذلك. غير أن الطبيب الشرعي البريطاني أكد أنه توفي إثر نوبة قلبية حادّة. وكان في الثالثة والأربعين من العمر.
نظرية الثورتين الوطنية والاجتماعية
إن المحور الأساسي الذي يدور حوله عدد من أعمال شريعتي هو أن بلدان العالم الثالث، مثل إيران، في حاجة إلى ثورتين مترابطتين ومتزامنتين في آن معاً: ثورة وطنية تقضي على جميع أشكال السيطرة الإمبريالية وتحيي ــ أو تعيد إحياء ــ الثقافة، والتراث، والهوية الوطنية. وثورة اجتماعية تقضي على جميع أشكال الاستغلال، وتستأصل الفقر والرأسمالية، وتحدّث الاقتصاد، والأهم من ذلك كله تمهد لإقامة مجتمع «عادل»، و«دينامي»، و«لاطبقي».
ووفقاً لما كان يراه شريعتي، فإن مهمة تنفيذ هاتين الثورتين تقع على عاتق فئة المثقفين/ الإنتلجنسيا rushanfekran التي تستطيع فهم التناقضات الداخلية للمجتمع ــ ولا سيما التناقضات الطبقية، وتعميق الوعي العام بإبراز هذه التناقضات، وتعلم الدروس التي تنطوي عليها، وتعلم الدروس التي تنطوي عليها تجارب أوروبا وبقاع العالم الثالث الأخرى. وأخيراً، فإن على الإنتلجنسيا، بعد أن تحدد معالم الطريق إلى المستقبل أن توجه الجماهير نحو هذه الثورة المزدوجة٨.
ويضيف شريعتي أن الإنتلجنسيا الإيرانية محظوظة لأنها عاشت في مجتمع كانت ثقافته الدينية، وهي المذهب الشيعي، راديكالية أصلاً، وتتلاءم بالتالي مع أهداف الثورة المزدوجة. ذلك أن المذهب الشيعي، على حد تعبير شريعتي، لم يكن، كديانات عديدة أخرى، أفيوناً للشعب بل أيديولوجية ثورة تغلغلت في جوانب الحياة كافة، بما فيها النشاط السياسي، وألهمت المؤمنين وحفزتهم على الكفاح ضد الاستغلال والقمع والإجحاف الاجتماعي. وكثيراً ما شدد شريعتي على أن النبي محمد لم يجئ ليؤسس جماعة دينية فحسب، بل ليقيم أمة تتحرك دوماً باتجاه التقدم والعدالة الاجتماعية٩. ولم يهدف الرسول إلى تأسيس دين توحيدي فحسب، بل استهدف إقامة «مجتمع متكامل» Nizam-i towhid تربط بين أجزائه الفضيلة العامة، والنضال الشامل لتحقيق «العدالة» و«المساواة»، و«الأخوة الإنسانية» و«الملكية العامة لوسائل الإنتاج»، وفوق هذا وذاك، الرغبة العارمة في خلق «مجتمع لا طبقي» في هذا العالم١٠.
يضاف إلى ذلك أن ورثة النبي الشرعيين، ومنهم الحسين وأئمة الشيعة الآخرون، قد رفعوا لواء الثورة لأن حكامهم آنذاك، أي «الخلفاء الفاسدين» و«نخبة الحاشية» حولهم قد خانوا أهداف الأمة والمجتمع المتكامل١١. وبالنسبة إلى الشيعة، فإن طقوس عاشوراء التي تصوّر استشهاد الحسين في كربلاء تطرح، بمنتهى الوضوح والسموّ، رسالة واحدة: إن على الشيعة، في كل زمان ومكان، واجباً مقدساً هو التصدي لما يواجهونه من محن، ومقاومتها والثورة ضدها١٢. وقد رأى شريعتي أن من جملة المحن التي تواجهها إيران المعاصرة «الإمبريالية العالمية، بما فيها هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات، والإمبريالية الثقافية، والتمييز العنصري، والاستغلال الطبقي، والقمع الطبقي، التفاوت الطبقي، و«الانبهار بالغرب» «gharbzadegi»١٣.
لقد ندّد شريعتي بالإمبريالية واللامساواة الطبقية بوصفهما من أعداء المجتمع اللدودين على المدى الطويل، بَيْد أنه ركّز في مساجلاته على هدفين اعتبرهما من الأعداء الذين ينبغي التصدي لهم على نحو مباشر. وكان الأول هو «الماركسية المبتذلة»، ولا سيما في نسختها الستالينية التي كان الجيل السابق من المثقفين الإيرانيين قد تقبّلها على علّاتها. أما الثاني فكان الإسلام المحافظ، ولا سيما نسخته الملالية التي روّجت لها وكرّستها الطبقات الحاكمة لما يزيد على إثني عشر قرناً لتخدير الجماهير المستَغَلّة. ومن هنا، فإن أعمال شريعتي الأكثر إثارة وإشكالية هي تلك التي تتعلّق تحديداً بالماركسية، وبخاصة تنويعات الماركسية المختلفة، وبالملالي من رجال الدين، وخصوصاً تفسيراتهم المحافظة المشوّهة للمذهب الشيعي.
شريعتي والماركسية
للوهلة الأولى، يبدو موقف شريعتي من الماركسية متناقضاً. فهو يندّد بها أحياناً، غير أنه يستعير منها بصورة موسعة في مناسبات أخرى. وقد دفع هذا التناقض الظاهري بعض المحللين إلى الاعتقاد بأنه عدوّ شرس للماركسية. واشتبه آخرون بأنه ماركسي سرّي ستر معتقداته الحقيقية بحجاب إسلامي. وثمّة فريق ثالث يقللون من شأنه ويعتبرونه مثقفاً مُرْبكاً ومُرتَبِكا من الدرجة الثالثة.
يختفي هذا التناقض حالما يدرك المرء أن هناك، بالنسبة إلى شريعتي، ثلاثة ماركسات لا ماركس واحد. فقد كان ماركس الشاب فيلسوفاً ملحداً في الغالب، يروّج للمادية الجدلية وينكر وجود الله، والروح، والآخرة. وفي نظر شريعتي، بالغ في تضخيم هذا الجانب الملحد في ماركس الاشتراكيون والشيوعيون الأوروبيون الذين حملوا تلقائياً على جميع أشكال الدين في غمرة كفاحهم ضد الكنيسة الرجعية. وماركس الثاني هو ماركس الناضج، العالم الاجتماعي في الغالب، الذي بيّن كيف يستغلّ الحكامُ المحكومين وكيف تعمل قوانين «الحتمية التاريخية» ــ وليس «الحتمية الاقتصادية» ــ وكيف تتفاعل البنية الفوقية في أي بلد، ولا سيما الإيديولوجيا والمؤسسات السياسية السائدة فيه، مع بنيته التحتية الاقتصادية الاجتماعية. أما ماركس الثالث فكان ماركس المُسِنّ، السياسي أساساً، الذي يعكف على تنظيم حزب ثوري، وكثيراً ما يطرح تكهنات قد تكون ملائمة من الوجهة السياسية ولكنها لا تعكس تماماً منهجيته في العلم الاجتماعي. ووفقاً لشريعتي، فإن تنويع الماركسية «المبتذل» هذا قد طغى في وقت لاحق على الماركسية «العلمية». وقد أقدم إنغلز، في نظره، على تشويه الموضوعات الأساسية. كما أن أحزاب الطبقات العاملة، بعد نموها واتساعها، قد «تمأسست» و«تَبَرْقطت». وأساء ستالين استخدام جوانب مختارة من ماركس الشاب وماركس المسنّ على حساب ماركس الناضج ليتسنى له اختزال الماركسية وتحويلها إلى عقيدة متحجرة لا تقبل بأي شيء آخر غير المادية الاقتصادية الضيّقة الأفق.
وقد رفض شريعتي الماركسيتين الأولى والثالثة من هذه الماركسيات الثلاث، ولكنه تقبّل جانباً كبيراً من الثانية. وأكد أن ليس بوسع أي شخص أن يفهم التاريخ والمجتمع بدون معرفة كافية بالماركسية. ووافق على جانب كبير من المَنْسَق والمنطلقات النظرية التي تقسم المجتمع إلى قاعدة اقتصادية اجتماعية وبنية فوقية إيديولوجية سياسية، بل إنه وافق كذلك على أن تصنف أغلب الأديان في الفئة الأخيرة، لأن الحكام درجوا على الدوام على «تخدير» الجماهير بتبشيرها بخير الجزاء في الآخرة. وتبنّى وجهة النظر القائلة بأن التاريخ الإنساني هو تاريخ الصراع الطبقي. ومنذ أيام قائيل وهابيل، البشرية على حد تعبيره، في معسكرين متناحرين: فهناك، من جهة، معسكر المضطهَدين ــ بفتح الهاء ــ أي الشعب، ومن جهة أخرى معسكر المضطهِدين ــ بكسر الهاء ــ أي الحكام. كما أنه اطّرح جانباً الفكرة القائلة بأن ماركس كان ماديّاً جلفاً اعتبر الجنس البشري مجرّد حيوانات لا يعجبها العجب تهتم بمصالحها الذاتية ولا تأبه بالمثُل العليا. بل إن شريعتي أشاد بماركس لأنه أقل «مادية» من أكثر المتشدقين بالمثالية ومن يسمَّون بالمؤمنين المتدينين.
غير أن شريعتي رفض الماركسية «الممأسسة» التي رأت الأحزاب الشيوعية أنها تمثل الصراط المستقيم. وزعم أن هذه الأحزاب قد فقدت عنفوانها الثوري وخضعت لقانون البيرقراطية الحديدي. وانتقد هذه الأحزاب لأنها لم تتقبل الحقائق المستجدّة، وهي أن النضال في العصر الحديث لم يقتصر على الصراع بين الرأسماليين والعمال بل شمل الصراع بين الإمبرياليين والعالم الثالث. كما أنه اتهم الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في أوروبا بعدم مساعدة حركات التحرر الوطني في بلدان مثل الجزائر، وتونس، وفييتنام. وفي معرض انتقاده للحركة الشيوعية، أثار شريعتي عدداً من القضايا ضد حزب توده المنظمة الماركسية الرئيسية في إيران. وزعم أن توده قد طبّق الماركسية الرئيسية بطريقة ميكانيكية، بدون أن يأخذ بالاعتبار أن إيران، خلافاً لأوروبا، قد سادها «نمط الإنتاج الآسيوي» ولم تشهد حركات «النهضة» و«الإصلاح» و«الثورة الصناعية»، والانتقال المثير إلى الرأسمالية. كما زعم أن توده قد أخفق في تعليم الجماهير الماركسية الحقيقية، بل لم يقم بترجمة الكتب الكلاسيكية مثل «رأس المال» Das Kapital. وبدلا من ذلك، فإن توده قد أهان الحساسيات الدينية بنشر كتب تنضح عناوينها بالإلحاد مثل«المفهوم المادي للبشرية» و«المادية التاريخية» و«عناصر المادة».
إلّا أن اعتراض شريعتي الأساسي على توده والماركسية يتجلى في مراسلاته المبكرة مع فرانتز فانون. فبالنسبة إلى الماركسيين التقليديين، كانت القومية مجرّد أداة استخدمتها الطبقة الحاكمة لإلهاء الجماهير عن الاشتراكية والنزعة الأممية. واعتقد شريعتي أن شعوب العالم الثالث لن تستطيع دحر الإمبريالية، والتغلب على حالة الاستلاب، وبلوغ مرحلة النضوج إلى حد تستطيع معه استعارة التكنولوجيا الغربية بدون أن تفقد احترامها لنفسها، إلّا إذا أعادت أولاً اكتشاف تراثها الوطني وثقافتها الشعبية، وقد أكد في سلسلة محاضرات بعنوان (العودة) Bazgasht أن على المثقفين الإيرانيين إعادة اكتشاف جذورهم الوطنية التي لا تكمن في الأساطير الآرية/ الهندوروبّية، بل في المذهب الشيعي الذي يتغلغل في أغلب جوانب الثقافة الشعبية١٤.
ومن المهمّ أن نلاحظ أن شريعتي لم يلجأ في مساجلاته إلى الحجج التقليدية الجاهزة التي درج الملالي على استخدامها ضد اليسار: ومؤداها أن الماركسيين ليسوا إلّا مجموعة من الملحدين والكفار Kafer والمجدّفين الأخلاقيين الفاسدين، الخطاة، الأشرار حكماً. وعلى العكس من ذلك، فإنه في مناقشته للماركسية قد شدد على أن ما يميز المسلم الحقيقي ليس التمسك بالإيمان «الذاتي» بالله، وبالروح، وبالحياة الأخرى. بل هو العزم على القيام بفعل «عياني» لبلوغ الحقيقة:
«انظر إلى كيفية استخدام القرآن لكلمة كافر. إن الكلمة لا تستخدم إلّا لوصف أولئك الذين يرفضون الفعل. وهي لا تستخدم أبداً لوصف مَن يرفضون الميتافيزيقا أو وجود الله، والروح، والبعث»١٥.
شريعتي ورجال الدين
في سياق دعوته إلى العودة إلى الإسلام والمذهب الشيعي، كثيراً ما حمَل شريعتي على«العلماء» التقليديين ليميّز نفسه من إسلام الملالي المحافظين١٦.
«لا يكفي القول بأن علينا أن نعود إلى الإسلام. فعلينا أن نحدّد أي إسلام: هل هو إسلام أبي ذر [الغفاري] أم إسلام مروان [بن الحكم بن أبي العاص الأموي رابع خلفاء الدولة الأموية]، فكلاهما مسلم، لكنّ بينهما فرقاً شاسعاً. فأحدهما يمثّل إسلام الخلافة، والقصور، والحكام أمّا الثاني فهو إسلام الشعب، إسلام المستغلّين، إسلام الفقراء، كما لا يكفي القول بأن على المرء أن «يُعنى» بأمر الفقراء. فذلك ما قاله الخلفاء الفاسدون. إن الإسلام الحقيقي يدعو إلى ما هو أبعد من «الاهتمام». إنه يأمر المؤمن بالكفاح من أجل تحقيق العدالة، والمساواة، والقضاء على الفقر١٧.
لقد اتهم شريعتي «العلماء» بأنهم قد غدوا جزءاً لا يتجزأ من الطبقة الحاكمة، وبأنهم «مأْسَسوا» المذهب الشيعي الثوري وخانوا بالتالي أهدافه الأصلية. كما أنحى باللائمة على هؤلاء لأنهم أخفقوا في مواصلة العمل الذي بدأه في القرن التاسع عشر جمال الدين الأفغاني. ووجّه نقداً حادّاً إلى معارضة رجال الدين للأفكار التقدمية التي طرحت في الغرب، ولا سيما الأفكار الراديكالية التي نادى بها الثوار الدستوريون في الفترة بين العامين 1905و1911. وشجب مطالبتهم لأتباعهم ﺑ«الطاعة العمياء»، وممارستهم «احتكار» النصوص الدينية، ومعارضتهم لتفهّم عامّة الناس للإسلام الحقيقي. وادّعى شريعتي أن رجال الدين يرفضون التطلع إلى الأمام ويستعيضون عن ذلك ﺑ«عصر مجيد» أسطوري مضى وانقضى، وأنهم يعاملون النصوص الدينية كمستحاثات حجرية عتيقة لا كمنابع لاستلهام نظرة عالمية ثورية ديناميّة. وقد فشلوا، في تقديره، في فهم المعنى الحقيقي لمصطلحات حيوية مثل الأمّة، وأرغموا المثقفين المسلمين على البحث عن الحقيقة في أعمال المستشرقين الأوروبيين.
وكثيراً ما شدد شريعتي على أن العودة إلى الإسلام الحقيقي لن تكون على يد «العلماء» بل على يد الإنتلجنسيا rushanfekran. وقد أكّد في كتابه المعنون ﺑ«العودة» أن «النهضة» و«الإصلاح» و«التنوير» الإسلامي لن تكون كلها نتيجة لجهود رجال الدين التقليديين بقدر ما ستكون محصلة لنضال المثقفين. وفي محاضرة بعنوان (الدين ضد الدين) Mahzab Mahzab Aliyeh، زعم أن الإنتلجنسيا في العصر الحديث هي المفسرة الحقيقية للدين. كما أنه أصر في «ما العمل؟» Cheh Bay and Kard? على أن المثقفين التقدميين هم المفسرون الحقيقيون للدين. وبالمثل، فلأنه دعا في كتيّب بعنوان توقّعات Entezar إلى الإبقاء على التعليم السكولاستي التقليدي بيَد الفقهاء من رجال الدين، غير أن مرجع الدين الحقيقي هو أبو ذر، والمجاهدون mujahidin، والمثقفون الثوريون.
ومن الواضح أن منطق الحجج التي يسوقها شريعتي شكّل تهديداً كليّاً لشرعية رجال الدين. فإذا كان الإسلام الثوري هو وحده الإسلام الحقيقي، فإن الإسلام السكولاستي التقليدي هو إسلام مزيّف. وإذا كانت الأفعال لا مظاهر التقوى والورع هي الدليل المؤكد على الإيمان الحقيقي، فإن الثوريين ــ وحتى غير المتعلمين منهم ــ هم أكثر إسلاماً من «العلماء» المتعلمين المحافظين. وإذا كان الإيمان سبيلاً أفضل من التعليم إلى تمكين المرء من الفهم الحقيقي، فإنّ فهم المكافحين الصادقين العاديّين للإسلام أفضل من فهم رجال الدين السكولاستيين. وإذا كان علم الاجتماع هو المفتاح لفهم الثورات الوطنية ــ الاجتماعية المزدوجة، فإنّ من الأجدر بالإيرانيين المعنيين أن يدرسوا علم الاجتماع والاقتصاد السياسي بدلاً من الفقه.
شريعتي وإيران الراهنة
خلال الثورة الإيرانية برز شريعتي، بلا منافس، بوصفه الشخصية الأكثر شهرة وشعبية في إيران الحديثة. وانتشرت الأشرطة التي سجلت عليها محاضراته على نطاق واسع، حتى في أوساط الأمّيين. كما نشرت أعماله وأعيد نشرها أكثر من مرة. وارتفعت اللافتات التي تحمل شعاراته في التظاهرات التي تحفل بها الشوارع، ونوقشت آراؤه بحرّية في أوساط الثوريين، ولا سيما طلاب المدارس الثانوية. والواقع أنّ آراءه كانت أكثر شيوعاً وانتشاراً من آراء آية الله الخميني. من هنا، يمكن أن نطلق على شريعتي لقب المنظّر الإيديولوجي للثورة الإسلامية.
وفي ضوء هذه الشعبية غير المسبوقة التي تمتّع بها شريعتي، فقد سعت شتى الجماعات السياسية المتنافسة على تبنّي آرائه إلى ضمه لصفوفها. وبدأ رجال الدين في الحزب الجمهوري المسيطر على الساحة السياسية يكيلون له المديح ويلقون المواعظ عن حياته، ويكثرون من الاستشهاد بأعماله عن جذور المذهب الشيعي، والثورات الثقافية، ونواحي القصور في الحركات الشيوعية، والحاجة إلى الكفاح ضد الإمبريالية الأجنبية. ولم يكن من المفاجئ أن هؤلاء كثيراً ما استخدموا مقصّ الرقيب على آرائه المناهضة لرجال الدين والملالي، وأنكروا على الإطلاق أنه تأثر بالأفكار الوافدة من الغرب. أما حركة المجاهدين فإنها، من ناحية أخرى، قد شددت على دعوته إلى الثورة الاجتماعية، وأكدت ــ خصوصاً بعد أن لجأ زعيم المجاهدين مسعود رجوي إلى باريس ــ على دعوة شريعتي إلى التمسك بالوحدة الوطنية للتصدي لأخطار الإمبريالية المستمرة.
- ١. حول الأعمال المنشورة عن شريعتي، انظر S. Akhavi, Religion and Politics in Contemporary Iran (Albany, 1980), pp. 143·58; N. Keddie, Roots of Revolution (New Haven: 1981), pp. 215·30; M. Bayat-Philipp, «Shi'ism in Contemporary Iranian Politics», in E. Kedourie and S. Haim, eds. Towards A Modern Iran (London, 1980); and M.Bayat-Philipp, «Tradition and Change in Iranian Socio-Religious Thought», N. Keddieand M. Bonine, eds. Continuity and Change in Modern Iran (Albany, 1981), pp. 35-56.
- ٢. A. Shari'ati, Rasalat-i Rushan fekr Barayi Sakhtan-i Jam'eh [The Intelligentsia's Taskin the Construction of Society] (Solon, Ohio 1979), p. 6.
- ٣. A. Shari'ati, Abu Zarr (Aachen, West Germany; 1978), p. 7.
- ٤. في وقت لاحق، استكمل أبو الحسن بني صدر، الرئيس السابق للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو من أتباع شريعتي، الترجمة الفارسية لكتاب Wretched of the Earth «معذبو الأرض».
- ٥. A. Shari'ati, Islam Shenasi [Islamology] (n.p., 1972), Lesson 13, pp. 15-17.
- ٦. M. Muqimi, Harj-u-Marj [Chaotic Ideas] (Tehran, 1972), pp. 13-14.
- ٧. ترجم هذا الكتاب - وأكثره مدسوس ومشكوك في صحته - ونشر في الولايات المتحدة بعنوان «الماركسية ومغالطات غربية أخرى». وقد أعطى الغربيين الانطباع بأن شريعتي مناهض للماركسية إلى الحد الأقصى. Translated by R. Campbell, (Berkeley: Mizan Press), 1980
- ٨. N. Minachi, لم تكن «حسينية إرشاد» مجرد بناية، بل كانت حركة تاريخية «Ittila'at», December 21, 1980.
- ٩. Shari'ati, The Intelligentsia's Task, pp. 19-20.
- ١٠. A. Shari'ati, Shi'i: YekHizb-iTamam [The Shi'is: A Complete Party] (n.p., 1976), p. 27
- ١١. Shari'ati, lslamology, Lesson 2, p. 101.
- ١٢. A. Shari'ati, 'Ali TanhaAst ['Ali ls Alone] (n.p., 1978), pp. 1-35.
- ١٣. المرجع السابق.
- ١٤. Shari'ati, The Shi'is: A Complete Party, p. 55.
- ١٥. For this attitude towards Marxism, see 'A. Shari'ati, Jebr-i Tarikh [Historical Determinism] (n.p., 1972), pp. 1-72; lslamology, Lessons 10-15; Cheh Bayad Kard? [What Is To Be Done?] (n.p., 1973), pp. 70-75; Bazgasht [Return] (n.p., 1977) pp. 161-70.
- ١٦. Shari'ati, Return, p. 49.
- ١٧. Shari'ati, lslamology, Lesson 13, pp. 7-8.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.