العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

الغناء في السياق الاجتماعي الصنعاني

النسخة الورقية


Jean Lambert
La Médecine de l'âme.
Le chant de Sanaa dans la société yéménite

٣٢٠ صفحة - الطبعة الأولى ١٩٩٧
Société d'ethnologie

قد يلزمنا في فاتحة الكتابة عن «طبّ النفوس، في الغناء الصنعاني» (الهيئة العامّة للكتاب ــ صنعاء) ضرورة التعريف بصاحبه الباحث الفرنسي جان لامبير من أجل إزاحة فكرة مسبقة قد تأتي مبنيّة على تناقض بين هويّة الموضوع الذي يعرضه الكتاب وهوية مؤلّفه. وسوف يكون ذلك التناقض مبرراً سهلاً وساذجاً، له أن يضع الكتاب نفسه والذي كان ترجمه الباحث اليمني علي محمد زيد، في خانة الأعمال الاستشراقية الخاصة بأولئك العابرين والغرباء الذين يذهبون إلى بلاد «اليمن السعيد» من أجل التأكد من حقائق استقرّت في أذهانهم. هكذا لا يكون حضورهم الفعلي إلا من أجل التثبّت من هذه الحقائق لا إعادة طرحها على طاولة النقاش والتقليب والتدوير من أجل امتلاك معرفة حقيقية بالمكان وأهله. وهذه عادة ارتبطت للأسف بعدد غير قليل من باحثي الدراسات العليا أتوا إلى اليمن الذي اتخذوا من قضاياه الاجتماعية والتاريخية قاعدة لصلب رسائلهم الأكاديمية.

لن نعتمد هنا ونحن نقوم بإزالة «شبهة الاستشراق» بخصوص لامبير على السنوات الطويلة التي قضاها في اليمن. سيبدو ذلك هامشياً ونحن نرى عناصر يمنيّة تقيم في البلاد وتجلس على رأس سلطته الحاكمة وقد اكتفت بعلاقة سطحيّة مع الحياة الحقيقية الدائرة بداخل مجتمعها أو معرفة قشورها عبر شخصيات وسيطة. وقد ظهر الفرنسي لامبير على العكس من بعض اليمنيّين وهو يغوص في بحثه داخل البيئة الصنعانية بين مختلف الطبقات الاجتماعية والسياسيّة من رأسها وحتى القاع مُستمعاً ومستفسراً وسائلاً.

في الحالة الأولى يبدو باحثنا وقد استفاد من كونه في فترة من زمن إقامته اليمنية قد عمل موظفاً في الخارجية الفرنسية ورئيساً للمركز الفرنسي للدراسات اليمنية، ما جعل تواصله مع القيادة السياسية الحاكمة ممكناً ومُتاحاً بل وتفرضه مهامّ الوظيفة التي كان يشغلها. وقد استفاد من غريزة الباحث في تمكينه من خلق علاقات إنسانية مع طبقة اجتماعية وثقافية واسعة تنوّعت بين مختلف الفصائل الحزبيّة والفكريّة وحتى القبليّة.

ولم تذهب كلّ هذه الصلات الاجتماعية التي نسجها باحثنا في الهواء، إذ استفاد منها لتكوين خلفيّة صلبة لعمله البحثي، فأتت الموسيقى الصنعانية التي كانت قلب شغله البحثي، مدعومة بقصص وتفاصيل لها علاقة بطقوس الحياة غير المرئية لعشّاق الطرب الصنعاني وتتعارض مع فكرة العلنية التي يخشاها أهل المدينة. مثل تلك التفاصيل المرتبطة بطقوس ليالي الطرب نفسها وما يجري فيها، لا يمكن لباحث العثور عليها مكتوبة أو موثّقة في أرشيف يُمكن الذهاب إليه حين حاجة. إنّه يروي لنا طقوس الحدث من داخله وعن طريق مُعاينة مُباشرة ومناقشة مفرداته وتفاصيله مع الحاضرين. إنه يستفيد هنا من تلك الميزة التي تُعطى للأجانب دون غيرهم في المجتمعات الباطنية التي لا ترغب في أن يخرج سرّها للعلن لكنّ أصحابها يرون في الأجانب المُقيم المؤقّت فهو عابر في نهاية الأمر ومكتوب عليه الرحيل وترك المكان مهما طال مكوثه. تتشابه المسألة مع تلك السهولة التي يلقاها الغرباء أنفسهم في إقامة علاقات مع فتيات المكان الأصليّات إذ يتعاملن مع أولئك على هيئة من سيأخذ أسرارهن ويرحل عائداً إلى وطنه الأصلي، ولا تظهر خطورة العلاقات إلّا حين حصولها مع ابن المكان والمُقيم الأبدي واحتمال استخدامه لتلك الأسرار كأداة تهديد وترهيب لو حصل خلاف لاحق بين أركان العلاقة.

ولا يبدو الباحث لامبير هنا وهو يحرّر دراسته على هيئة مَن خان الثّقة التي فُتحت له بداخل بنية المجتمع، فهو لا يشير إلى أسماء أو بيوت ولا يقصد التشهير حين يسرد وصفاً لطقوس ومحتويات الحالة المصاحبة لأوقات الطرب وما جاوره من تفاصيل. لنأخذ طقس تناول الكحوليات التي تأتي خاتمة لموعد تناول نبتة القات. قد تأتي هذه الصورة مخالفة في أذهان البعض لمقولة «صنعاء بلد الإيمان والحكمة» كما جاء في سياق التراث الإسلامي، لكنّها تتّفق مع عدد غير قليل من أصحاب الطريقة الصوفية الذين ما زالوا على إيمانهم بأنّ لا تحريم ثابتاً يخصّ شرب الخمر. ويأتي تناول الخمر استكمالاً لجلسة القات المرافقة للاستماع الطربي أو «المقيل» الذي يبدأ في مرحلة أولى حال وصول المشاركين في الجلسة وتحيّة من حضر قبلهم قبل الدخول في تبادل كلام مرِح وتناقل النكات بغرض تلطيف أجواء المكان نفسياً. بعد ذلك يبدأون في فتح حزَم القات التي تأتي على هيئة ربطات، ويرافق ذلك تقديم ما يلزم من لوازم الراحة من «ترموس» لحفظ المياه الباردة والمداعة (النرجيلة) أو السجائر. يأتي هذا الكرم من جهة صاحب البيت بهدف «تنشيط الألفة الاجتماعية» بين الحاضرين وعلى وجه الخصوص غير المعتادين على حضور الجلسة في هذا المكان بشكل مُنتظم. وسيكون كل هذا تمهيداً لبداية مفعول النشوة التي تفعلها نبتة القات في ذهن متناوليها حيث يأتي التركيز والرغبة في الثبات على المكان نفسه دون رغبة في فعل تحرّك منه. يأتي أيضاً ثبات الحديث حول فكرة معيّنة ومناقشتها، ويكون الموضوع السياسي هو الغالب حيث يدور الحديث بانتظام، وقد يكون هناك شخص بعينه يقوم بتسيير دّفة الحديث لو كان واحداً من المشتغلين في المجال السياسي. وهنا يحصل (في بعض المجالس الشهيرة) كشف لأسرار ومعلومات لا يجري تناولها علناً، ويسعى بعض الصحافيين إلى حضور مثل هذه الجلسات لحيازة معلومات لمشاريع كتابية يستندون إليها في أعمالهم، لكن من دون الإشارة إلى مصدر المكان والأشخاص الذين قدّموا لهم تلك المعلومات.

ولا يمكن فصل المقيل عن عادة تناول نبتة القات الذي تُمضغ أعشابه لاستخراج رحيق له سمات تعمل على تنبيه الذهن وشحذه. ويوازي هذه الرحيق جرعة ضئيلة للغاية من مادّة الأمفيتامين، ولهذا يبدو تأثيره الفيزيولوجي محدوداً. ويشير لامبير هنا إلى الباحثة في الأنثروبولوجيا شيلاوير التي قالت بضرورة البحث عن أسباب استهلاك القات في النتائج الاجتماعية المُصاحبة له «فهو قبل كل شيء نوع من المدخل إلى المؤسسة التي يملكها «المقيل» ويصعب على شخص لا يتناول القات حضوره، «فاستهلاك القات هنا وثبات التواجد في ذلك «المقيل» يسمح للفرد على نحو يومي بتكوين دائرة علاقات اجتماعية ومن ثم توسيعها مع الوقت».

كما يتيح المقيل مساحة للأشخاص «الباحثين عن متعة حميمة ونخبوية»، ويكون المُضيف هو الشخص الذي يقوم بضم هذه المجموعة، في حين يُسمّى المدعو إلى الجلسة «الطيرفي». ومن خصوصية «الطيرفي» البحث عن صحبة أشخاص «حاليين» وهي كلمة من اللهجة «تُعبّر عن كل ما في المتعة من غموض قد تذهب بالمرء من الروحانية المتطرّفة إلى المتَع الحسية التي قليلاً ما يُعترف بها». ويقصد لامبير هنا عادة التصقت ببعض مرتادي تلك الجلسات وهم من الذين لا يهنأ لهم «مقيل» دون وجود شاب شديد الوسامة أو «حالي» يبقى طوال الجلسة ملاحقاً بنظرات أحد الحاضرين ويتكدر مزاجه لو غاب هذا «الحالي» أو تأخّر عن الحضور أو حتى لو غاب لدقائق عن المكان لقضاء حاجة.

يبدو المناخ الذي يؤدّى فيه الغناء الصنعاني هو ما يجعله «نشاطاً نخبوياً (بامتياز) يجد في «المقيل» إطاره الطبيعي». إذ تنعقد، إضافة إلى النقاشات السياسية، ندوات فنية حقيقية ويجري الحديث عن «جلسات الطرب» مثلما يجري الحديث عن «جلسات الأدب». وإذا كانت الجلسة تأتي في سياق «المقيل» فلا تكون حينها مقتصرة عليه، إذ تمتدّ لتشمل «السَمرة» بمعنى السمر المتعارف عليه عربياً، مع إضافة حضور الكحول وقتها كختام للحالة الوجدانية التي صارت تعتلي رأس كل واحد من الحاضرين. وفي العادة لا يجري الحديث عن الأمر على نحو علنيّ بل في سياق هامشي أو من خلال رموز يتم تبادلها في الجلسة بين راغبي الشراب، وذلك احتراماً لأولئك الذين لا تقرب شفاههم أطراف الكؤوس.

في العموم يمكننا لمس حالة من المدنية في احترام أهل صنعاء القديمة لرغبات بعضهم البعض والتستر عليها إن لزم الأمر تماشياً مع حريّة الحقّ في الاختيار، ويكتفي من لا يشربون بتوديع المكان ومن فيه كي يسمحوا لهم بالبقاء والتصرف على راحتهم. لا يمكن التغافل هنا عن سمة بارزة عُرفت بها صنعاء وشهرة نبيذها المُصنّع من أجود أنواع العنب اليمني المعروف عالمياً، وقد تم توارث هذه الصناعة من يهود اليمن الذين أقاموا طويلاً في أرجاء المدينة وتركوا آثارهم واضحة في المباني عن طريق نمطهم المعماري المميز وفي الصناعات الحرَفية والنبيذ.

ومن المتعارف عليه عدم ذهاب الشخص لمقيل ما دون دعوة صريحة من صاحب المكان، وسيكون شعور المرء مزعجاً للغاية حين إدراكه بأن حضوره غير مرغوب فيه. تؤخذ المسألة هنا من باب العناصر التي من الممكن أن تؤدي لإزعاج المطرب، وعلى صاحب البيت أن يوفر له أفضل حالة ممكنة لأداء عزفه وغنائه، ومن واجبه أخذ مزاج هذه الفنان في الحسبان إذا أراد بقاءه في عداد من يحضرون مقيله.

وفي حالات بعض العازفين يقوم هؤلاء باختيار الأشخاص المدعوين إلى المقيل لتحاشي حضور غير القادرين على فهم وإدراك عمق الموهبة التي يحملها. كما أن نقطة البداية لا تكون إلا من جهة المطرب نفسه ولا تأتي استجابة لطلب مباشر من الحاضرين. فهذا أمر قد يعمل على تخريب الجلسة من أساسها.

يحكى في سياق التراث الصنعاني أن المطرب الشيخ علي أبو بكر باشراحيل كان لا يتحمل أن تُطلب منه أغنية، وحصل أن انتهك أحدهم هذه القاعدة ليتناول الفنّان عوده غاضباً ويغادر المكان.

العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.