لا يشكو تاريخ لبنان من الأساطير الشائعة التي تتحوّل إلى معتقدات تاريخية، ومنها المجاعة التي ضربت المناطق اللبنانية خلال الحرب العالمية الأولى وأسبابها وضحاياها. ولا يقتصر الأمر على الأسطرة، يسود غموض شديد وثغرات كبيرة على معارفنا عن تلك الحقبة من تاريخ لبنان. أردنا في هذا الملف لفت النظر إلى هذه الحقبة التاريخية وإلى ضرورة إحياء البحث فيها بمناسبة الذكرى المئة للفاجعة.
الحصار البحري، آفة الجراد، مصادرة الجيش العثماني للحبوب، فساد الإدارة العثمانية وشركائها اللبنانيين، المضاربة بأسعار المواد الغذائية، الربا الفاحش الذي مارسه تجار ومرابون ــ هذه بعض الأسباب المتضافرة التي تساق لتفسير المجاعة في المناطق اللبنانية وارتفاع عدد ضحاياها قياساً إلى مناطق أخرى من بلاد الشام.
يثير جوزيف معوّض إشكالية ذاكرة المجاعة ويتساءل عن المفارقة بين المكانة المركزية التي يحتلها الشهداء الوطنيون الذين أعدمهم جمال الباشا في الذاكرة الجمعية اللبنانية قياساً إلى هامشية موقع عشرات الألوف من ضحايا المجاعة. تجانب دراسة معوّض شهاداتٌ لشهود عيان هم الخوري أنطون يمّين وعدد من الأدباء والشعراء اخترناهم من مخطوطة لعيسى إسكندر المعلوف.
ننشر أيضاً عدداً من الصور النادرة التي التقطها إبراهيم نعوم كنعان (١٨٨٧-١٩٨٤). ولا بد هنا من التنويه بالمعرض الذي نظمه كريستيان توتل العام ٢٠١٤ للوثائق واليوميات والمراسلات التي تركها الآباء اليسوعيون العاملون في المناطق اللبنانية عن تلك الفترة، وبكتاب ليلى فواز طرزي الصادر عن المنطقة خلال الحرب العالمية الأولى.
أولى الشائعات عن أسباب المجاعة هي نسبها إلى مؤامرة عثمانية لإبادة المسيحيين. ومن الحجج المسوقة لذلك الحصارُ البحري المفروض على السواحل. علماً أن الحصار كان إجراء حربياً فرضه الأسطول البريطاني، بدعم فرنسي، ضد السلطنة العثمانية. لكن هذا لا يعفي السلطات العثمانية من المسؤولية وقد صادرت الحبوب والماشية، وخصوصاً في حوران وسهل البقاع، لغرض إطعام جيوشها.
وعكساً، أمر جمال باشا بمصادرة المواد الغذائية من أهراءات الموانئ وإرسالها للداخل. وهذا إجراء رفع بذاته سعر القمح والحبوب والطحين ورغيف الخبز، غذاء الفقراء الرئيسي في تلك السنوات. إلى ذلك سمحت الإعاشة بسيطرة موظفين عثمانيين وشركائهم اللبنانيين على بيع المواد الغذائية والانتفاع العميم منها. فلا غرابة أن تروي ليلى فواز القصص عن «الرغيف الأسود»، كما كان يسمّى، وعن تظاهرة لنساء بلدة رياق البقاعية ضد جمال باشا ورشْق سيارته بالأرغفة السوداء المتيبسة.
غلب في تفسير الوقع المضاعف للمجاعة على جبل لبنان وساحله، قياساً إلى سائر مناطق بلاد الشام، أن أرضه الصخرية لم تكن توفر الغذاء إلّا أربعة أشهر. لكن نادراً ما يؤتى على ذكر أنّ ضيق المساحة التي توفّر الغذاء سببه أن المساحات الأكبر من الأراضي كانت مزروعة أشجار توت لتربية دود القزّ، وأنّ النمط الاقتصادي الغالب هو الاقتصاد السوقي، فكان على الفلاح أو المزارع أن يبيع محصول شرانق الحرير وأن يفي السمسار والمرابي حقهما من الديون قبل أن يستطيع شراء حاجياته المعاشية.
وقد أسهم الحصار البحري في انخفاض القدرة الشرائية للأهالي لسببن:
1. وقف تصدير الحرير للخارج
2. وتوقف وصول تحويلات المغتربين المالية إلى أهلهم عبر بيروت.
«المجاعة حساسة طبقياً» يقول علي الوردي: تصيب الفقراء ويعفى منها الأغنياء. فات عالم الاجتماع العراقي أن يضيف أنها حسّاسة طبقياً أيضاً لأنها تصيب الفقراء وينتفع منها الأغنياء. يكتب يمّين صفحات طويلة عن دور شركاء موظفي الإعاشة العثمانية الفاسدة من اللبنانيين والمرابين والتجار في رفع الأسعار والاستحواذ على أملاك الناس لقاء النذر القليل من المال. ويحمّل معظم الأسر التي كان يسمّيها يمّين بالاسم أسراً مسيحية ومسلمة، كانت معروفة بتعاطي التجارة والسمسرة والربا. والغريب أنه يتقصد أن يعفي من المسؤولية والاتهام الوجيه البيروتي جورج ثابت وهو الذي يتهمه شهود عيان آخرون بالتحكم بالأسعار والاتجار بالحطب.
يلاحظ في الكتابات عن المجاعة التفاوت الكبير في تقدير عدد الضحايا. في غياب بيانات رسمية محققة، تتراوح التقديرات بين ٨٠ ألفاً ومائتي ألف، إضافة إلى «ثلث السكان» وهي النسبة التي تقدّم بها البطريرك الماروني إلياس الحويّك إلى مؤتمر السلام واستعيدت من بعده.
ويجدر التشديد، مع جوزيف معوّض، على أنّ المجاعة شملت كافة المناطق اللبنانية، ومع ليلى فواز على أنها حصدت الضحايا بين المدنيين والعسكريين. فقد خسر الجيش العثماني في سورية ١٧ ألف قتيل بسبب المجاعة في ربيع ١٩١٨.
وقد أسهم العدد الكبير من الضحايا المسيحيين في تغذية الفكرة القائلة بمؤامرة العثمانية عليهم. عندما تعلن بشاتكوفسكي مثلاً أن الأكثرية الساحقة من الضحايا في المناطق الشمالية من جبل لبنان مسيحيون فهي لا تضيف شيئاً إلى معارفنا، ذلك أن الأكثرية الساحقة من سكان المناطق الشمالية من جبل لبنان (أي المناطق الواقعة شمال طريق بيروت-دمشق) هم من المسيحيين أصلاً. الغريب هو ندرة الأرقام ولو تقديرية عن ضحايا المجاعة من سكان المناطق المختلطة من جبل لبنان (أي جنوب طريق بيروت-دمشق) التي تضم دروزاً ومسيحيين وعدداً محدوداً من المسلمين الشيعة والسنّة، ناهيك عن سكان الساحل، المدن الساحلية بما فيها بيروت. يكفي التذكير بأن هذه المناطق قد عانت هي أيضاً من المجاعة وإن تكن الشهادات عنها ليست بكثافة تلك التي تتحدث بالجملة عن جبل لبنان أو بالتخصيص عن الخسائر المسيحية فيه. ويعزى ذلك عادة إلى سهولة تزوّد سكان المناطق المختلطة من الجبل من حوران وإلى هجرة أعداد من سكانها الدروز إلى حوران.
طغت على تلك الفترة مظلومية مسيحية-جبل لبنانية استخدمت لأغراض مختلفة في حينها من الإلحاح في الدعوة إلى التحرر من الحكم العثماني ــ كما في رسالة جبران خليل جبران ــ إلى المطالبة بتوسيع حدود جبل لبنان والساحل لتشمل السهول المنتجة للحبوب في البقاع والشمال بقصد تأمين الاكتفاء الغذائي الذاتي. والطريف أنه بعد ضم البقاع وعكار والجنوب والساحل إلى جبل لبنان، ظل «لبنان الكبير» ولبنان الاستقلال ينتج النسبة نفسها من حاجاته الغذائية جراء تقلّص المساحة المزروعة وتنامي الاستيراد!
أخيراً لا يمر الحديث عن مجاعة الحرب العالمية الأولى دون الإتيان على فواجعه: أكل لحوم الحيوانات والبشر التي يستشهد جوزيف معوض بحوادث منها في شمال لبنان الحالي وجنوبه. وانتشار البغاء الموثق في الأدب والشعر كما هو وارد في هذا الملف. ويروى أنّ عاملات الحرير كنّ يستخدمن معامل حل شرانق الحرير أمكنة لتسليم أجسادهن لقاء ما لا يكفي لسد الرمق. ومن هنا صارت مفردة «كارخانة» (معمل بالتركية والفارسية) تعني المبغى العمومي في التعبير اللبناني الدارج.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.