ذات يوم غير بعيد، أصيب مارتن إنديك (الذي شغل مناصب عديدة هامة بينها مستشار الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي، والسفير في إسرائيل مرّتين)، بدهشة بالغة إزاء استطلاعات الرأي العام العربي: عجيب هذا البون الشاسع بين الرأي العام العربي وسياسات الحكومات العربية، تساءل إنديك. وكأنه لا يعرف ماذا، ومَن، ترعى واشنطن في كراسي حكم العرب! أغلب الظنّ أنه تجاهل، أيضاً، تلك التوصيات الثلاث التي انتهى إليها دافيد بولوك، في دراسة رائدة بعنوان «الشارع العربي: الرأي العام في العالم العربي»، صدرت سنة ١٩٩٢ عن «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط»:
١. الشارع العربي ليس خرافة قوموية أو ثوروية أو رومانتيكية، بل هو موجود وحيّ وقابل للقياس، فلا تتجاهلوه، ولا تقللوا من قيمته قياساً على «عطالة» ظاهرية.
٢. الرأي العام العربي أبعد ما يكون عن التجانس والوحدة والثبات، حتى في مسائل متفجرة مثل الإسلام والديمقراطية، فلا تضعوا كلّ الرأي العامّ العربي في سلّة واحدة.
٣. النُخَب العربية جريحة بهذا القدر أو ذاك، في هذه الإشكالية الإيديولوجية أو تلك، هنا أو هناك، ولكن حذار! النخبة شيء (هامّ للغاية، بطبيعة الحال) والشارع شيء آخر. لا تدعوا كوابيس الأحلام المنكسرة عند المثقف تحجب هدير الشارع في ساعات الصباح الأولى أو نهايات يوم عمل شاق بحثاً عن اللقمة، وافتحوا كلّ العيون على المساجد والأزقة والمقاهي وملاعب كرة القدم!
دروس «هذا العالم العربي الجديد»، وفق التعبير الذي صار المرء يقع عليه هنا وهناك في أعقاب ما سُمّي «الربيع العربي»، هزّت أركان المعارف السوسيو ــ سياسية الغربية، الراسخة رسوخ الجبال في كثير من العقول والضمائر، قبل استقرارها مثل جلاميد صخور جاثمة في باطن الأدبيات والدراسات والكليشيهات والتنميطات، حول «العقل العربي» و«السيكولوجية العربية» و«الشارع العربي» و«النظام العربي»، وكلّ ما يقترن بهذه من صفات الركود والجمود واللاتاريخ والسرمدية ومقاومة التغيير ورفض الديمقراطية، فضلاً عن الكابوس الأكبر المسلَّم به قطعاً: أنّ الإسلام السياسي هو البديل، الأوحد الوحيد!
هذه الحال أفسحت المجال ــ عريضاً، في الواقع، وإلى حدّ الإسهال ــ أمام مؤلفات شتى تسعى إلى دراسة الشارع العربي، وإلى تلمّس خصائصه، سواء ضمن معطيات الانتفاضات الشعبية التي بدأت من تونس وامتدت إلى مصر وليبيا واليمن وسورية والبحرين، أو تلك «الشوارع» الأخرى خارج العالم العربي وفي المَهاجر المختلفة. القليل منها، مع ذلك، نجح في تخطّي حواجز التنميط المعتادة، الاستشراقية غالباً، في استخلاص سمات سياسية وسوسيولوجية وثقافية وديمغرافية تشكلت في الواقع الفعلي، وبفعل وقائعه، ويمكن، استطراداً، الاتكاء على بعضها، وربما معظمها في حالات محددة، في ترسيم صورة الحاضر، وشيء من آفاق المستقبل. وهذه السطور تتوقف عند نموذجين من طراز تلك المؤلفات القليلة.
هوان كول والعرب الجدد
هوان كول، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط وجنوب آسيا في جامعة ميتشيغان الأميركية، وهو أحد «خبراء» الغرب القلائل الذين يناقشون قضايا العالم العربي انطلاقاً من دراية بالأرض والبشر، ومعرفة ميدانية، واشتغال شاقّ على البحث والمرجع والوثيقة. وهو صاحب مدوّنة شهيرة بعنوان «التعليق العليم»، The Informed Comment الذي لعبت موادّه دوراً حاسماً في فضح مشروع غزو العراق سنة ٢٠٠٣، يوماً بيوم تقريباً، كما أنه يواصل، منذ ثلاثة عقود، بذل جهد رصين في وضع علاقة الغرب مع العالم المسلم ضمن سياقات تاريخية ملموسة، عبر كتابين لامعين: الانخراط مع «العالم المسلم»، ٢٠٠٩، ومصر نابليون: غزو الشرق الأوسط»، في العام ٢٠٠٧.
كتابه الثالث، موضوع هذه المراجعة، صدر أواخر ٢٠١٤، بعنوان العرب الجدد: كيف يقوم الجيل الألفي بتغيير الشرق الأوسط، ولعلّه العمل الأكثر تشديداً على الحركات الاجتماعية بين عشرات المؤلفات التي تناولت الانتفاضات الشعبية العربية، وذلك رغم أنّ فصول الكتاب تتناول تونس وليبيا ومصر، وتغفل اليمن وسورية (لأسباب بحثية واختصاصية صرفة، وليس البتة للتقليل من قيمة المتغيرات الكبرى في هذين البلدين). كيف نهض الشباب («الألفيون» كما يسميهم كول، نسبة إلى الألفية الجديدة) في البلدان الثلاثة، وما هي التكتيكات المحددة التي اعتمدوها لتحقيق أهدافهم؟ وما النتائج التي أسفرت عنها حراكاتهم، منذ النصف الأول للعام ٢٠١١ وحتى شتاء ٢٠١٤؟ وكيف يمكن لهؤلاء، الذين خرجوا إلى الشوارع واعتصموا في الساحات العامة وتظاهروا وأداروا الحملات على مواقع التواصل الاجتماعي وتحالفوا مع فئات طبقية وعمرية مختلفة، أن يبنوا مؤسسات أكثر تماسكاً وديمقراطية والتزاماً بالقوانين؟ وهل، بعدما ألقوا بمجتمعاتهم في أتون تغييرات كبرى عاصفة، سوف يخلقون فرصاً أفضل للنجاح وامتلاك المستقبل؟
هذه بعض أسئلة الفصول الثمانية، فضلاً عن المقدّمة والخاتمة، في دراسة مفصّلة وعالية التوثيق (أكثر من ٤٠ صفحة تشغلها الهوامش والمراجع!)، تبداً من تشخيص شريحة اجتماعية شبابية، تتألف من مواليد الفترة بين أواخر ١٩٧٠ ومطالع ٢٠٠٠، ومن هنا الإشارة إلى الألفية، أفرادها ثلث ٤٠٠ مليون، عدد سكان العالم العربي، أو أكثر قليلاً، مدينيون، غالباً، ومتعلمون (وبالتالي ليسوا، بالضرورة، من فئة المثقفين)، متمرسون في تكنولوجيا الميديا ووسائط التواصل الاجتماعي (ويضرب كول مثال حركة التضامن، عبر الإنترنت، مع إضرابات المحلة الكبرى في مصر، (٢٠٠٦ ــ ٢٠٠٧)، والعديد منهم عملوا خارج بلدانهم الأصلية، في أوروبا وأميركا تحديداً، كما أنهم، وهذا تفصيل هامّ في الواقع، أقلّ تديّناً من آبائهم، وأكثر انفتاحاً على العالم. أمّا الأنظمة التي حكمتهم، وثاروا عليها في نهاية المطاف، فإنها مزارع نهب واستبداد وسلطة وراثية، يتزعمها «ملوك جمهوريون» حسب التعبير الساخر الذي يقترحه كول، ويتناوله بالتفصيل في تحليل طبائع أنظمة زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي.
ولادة يسار جديد
وفي فصل بعنوان «اليسار الجديد»، يناقش كول سِمات يسار عربي انبثق في المشهد كقوّة هائلة خلال السنوات التي أفضت إلى ٢٠١١، وتميّز عن أحزاب «يسار قديم» شهدته عقود الستينيات، ليس على مستوى المُثُل والأفكار فقط، بل كذلك على صعيد التنظيم. وإذا كان القديم قد عانى من سلسلة أمراض، أبرزها المزج الفاسد بين الأفكار الاشتراكية والقومية لدى الناصرية وحزب البعث، وما اقترن بها من مظاهر عبادة الفرد (حافظ الأسد وصدام حسين مثلاً)، فإنّ اليسار الجديد لم يعوّل كثيراً على مفهوم «القائد الخالد»، واستبعد المعمار التنظيمي الهرمي الذي يقيم تناظراً بين جمهور القاعدة وكوادر القمة، ومال في المقابل إلى شبكات التواصل الاجتماعي كوحدات تنظيمية. اليسار القديم الماركسي، في أحزابه الشيوعية التقليدية أو الأخرى غير الشيوعية، اعتمد اللينينية في التنظيم، وأما اليسار الجديد فإنه لم يتخلّ عن بعض مبادئ لينين، وإنْ كان قد سعى إلى ضخّ عناصر أكثر ديمقراطية في بناء التحالفات مع الفئات العمالية والفلاحية، وفي الإلحاح على الانتخابات الحرّة، وحقوق الإنسان، والحريات العامة.
وفي الفصل الختامي يتوقف كول عند السجال حول ما إذا كانت وقائع تونس ومصر وليبيا تندرج تحت تعريف الثورة، فيتوافق مع القائلين بأنها كذلك، من منطلق أنّ الثورة في الحدّ الأدنى هي حالة تغيير سياسي سريع ومنتظم، تجلبه حركة اجتماعية. وإذا جاز أن المفهوم يُقاس عادة على الثورتين الأميركية والفرنسية في القرن الثامن عشر، بالنظر إلى المضامين التقدمية والليبرالية التي ميزتهما عن الانقلاب، فإنّ ثورات الزمن الحديث كانت متنوعة ومتعددة الصفات، في التشكّل كما في الغايات. وفي خلاصاته، أيضاً، يشدّد كول على ثلاثة إنجازات حققها جيل «العربي الجديد»، خلال ٤٢ شهراً أعقبت انتفاضة ميدان التحرير في القاهرة:
١. رفض انبثاق «كارتل» حاكم يقوم على أساس العائلة أو السلالة، ويحكم باسمها، ومن أجل مصالحها، في العالم العربي.
٢. طيّ صفحة الرئيس الحاكم مدى الحياة، والمنزّه عن المحاسبة، وبالتالي نسف مبدأ «الجملكية»، أي تلك الجمهورية الوراثية التي لا تختلف عن المملكة.
٣. وضع رؤية جديدة، متعدّدة الثقافات، على الأجندة العربية الراهنة، مفادها البحث عن أفضل سُبُل لتفعيل المجتمع.
ويحذّر كول قارئه الغربي، عموماً، والعاملين في شؤون وشجون الشرق الأوسط، وبينهم صنّاع القرار خصوصاً، من أنّ معظم «الآمال البراقة» في الحرّيات الشخصية وإنهاء حال الركود السياسي والاقتصادي، قد تكون تلاشت، في هذه المرحلة. ولكن: «ضعوا في أذهانكم أنّ حركات التمرد خلال السنوات الثلاث الماضية قادها أبناء الألفية الجديدة، ممّن في مطالع عشرينيات الأعمار، وأمامهم عقود من العيش في المستقبل. فلا تسقطوهم من حسابكم، بعدُ. لقد بدأوا، للتوّ فقط، شغل تحويل المنطقة». وبعد مقارنة مع «ربيع براغ»، حول مآلات الانتفاضة الشعبية، لا يتردد كول في عقد مقارنة أخرى، مع الثورة الفرنسية هذه المرّة: أليس صحيحاً، يتساءل، أنّ فرنسا، بعد ثلاث سنوات ونصف السنة على ثورتها، باتت على مبعدة أشهر قليلة من اندلاع تمرّد فلاحي كاثوليكي مؤيد للنظام الملكي، في جنوب منطقة اللوار؟ ألم تترك الحرب الأهلية مع الجمهوريين مئات الآلاف من القتلى؟
وفي كل حال، تقول الأسطر الختامية، «لن تكون هناك ملكيات جمهورية بعد الآن. جيل العرب الجدد هذا قد هزّ وضعاً قائماً، قنوعاً وراكداً وفاسداً، وغيّر العالم إلى الأبد».
فهل تغيّر العالم ذاته، في بلد مثل فرنسا يشهد «انتفاضة» أقرب إلى حرب مفتوحة بين السلطات الفرنسية وأبناء المستعمرات السابقة، عبر أجيالٍ ثلاثة من المهاجرين، طوعاً أو كرهاً، خاصة في صفوف المغاربة، من تونس والجزائر والمغرب؟ وهل ينطوي شعار الثورة الفرنسية، أقنوم الجمهورية في نهاية المطاف، على الحرية والعدالة والأخوّة حقاً، أم يخفي تاريخاً مريراً من الإخضاع، والقمع، والوحشية؟
الحرب الرابعة في فرنسا
أندرو هسي، عميد «معهد لندن» في باريس، والمعلّق في منابر بريطانية عريقة مثل الـ«غارديان» و«نيوستيتسمان»، وصاحب برامج وثائقية عديدة حول فرنسا، ومؤلف كتابين متميزين عن البلد ــ «لعبة الحرب: حياة ومماة غي دوبور»، و«باريس: التاريخ السرّي» ــ يسعى إلى الإجابة عن الأسئلة السابقة، في كتاب ثالث بعنوان «الانتفاضة الفرنسية: الحرب الطويلة بين فرنسا وعربها».
ولكن، على نقيض كول الذي يغلّب التحليل والمعطيات، تستهوي هسي الحكايات والحوادث على نحو تراكمي وسردي، يذكّر بأساليب صحف التابلويد، دون كبير اكتراث بتمحيص الواقعة في جوانبها الجدلية المتقاطعة، والتي قد تسمح بأكثر من تفسير واحد، متضارب أو متناقض، غير ذاك الذي يخدم موضوعة الكتاب المركزية، أي صراع فرنسا مع أبناء مستعمراتها السابقة. على سبيل المثال، مستهل الكتاب يروي واقعة الشغب الذي شهدته محطة الشمال، في قلب العاصمة الفرنسية، ربيع ٢٠٠٧، نتيجة تعامل الشرطة بخشونة مفرطة مع فتى كونغولي حاول عبور سياج التذاكر، فيبدأ الوصف من مشاهدات هسي نفسه، الذي صادف وجوده في المحطة خلال ذروة اندلاع الشغب، ثمّ يمرّ بالتهويل الذي طبع التغطيات الصحافية في اليوم التالي، لكي ينتهي إلى خلاصة تتحدث عن وجود خمسة ملايين مسلم في فرنسا، الجالية الأكبر على صعيد أوروبا، ويردّ جذور ما شهدته المحطة إلى نابليون وغزو مصر مطلع القرن التاسع عشر، وإلى شغف فرنسا بكلّ ما هو «شرقي»، وكيف آل الأمر إلى احتلال تونس والجزائر والمغرب.
أسباب هذه «الانتفاضة» المفتوحة كثيرة، ومتعددة بالطبع، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ونفسية، لا ينفصل أيّ منها عن التاريخ الاستعماري، وعن ميراث ذلك التاريخ كما تلقّفه الإسلام السياسي المعاصر، ثمّ الحركات الجهادية المتشددة ليس في المساجد وحدها، أو في المدارس «العلمانية»، بل أساساً في السجون حيث غالبية مرتكبي الجنايات من المسلمين، والمغاربة تحديداً. وإذْ يعترف هسي بأن كتابة أي تاريخ لفرنسا لا بدّ أن يدخل في ساحة صراع ومواجهة، لأنّ للفرنسيين فكرتهم الثابتة حول تدوين التاريخ، ونفورهم من المقاربات الأنغلو ــ سكسونية ثابت وقديم، فإنه، من جانب آخر يقرّ بأنّ انحلال إمبراطوريات أوروبا القرن التاسع عشر، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، كانت له آثاره المباشرة على القرن الحادي والعشرين، وليس العشرين فقط.
ولهذا فإنّ أحد أغراض كتاب هسي هو القيام بجولة حول بعض أهمّ وأخطر خطوط الجبهات في ما يرى الكثير من المؤرخين أنه «حرب عالمية رابعة»، تبدأ من ضواحي فرنسا، لتقطع تونس والجزائر والمغرب، ثم ترتدّ عائدة إلى الضواحي والسجون الفرنسية. وهذه ليست نزاعاً بين الإسلام والغرب، أو بين الشمال الثري و«الجنوب المعولم» فقط، بل هي، أيضاً، «نزاع بين تجربتين للعالم مختلفتين تماماً: المستعمِرون والمستعمَرون. وهي بالضرورة حرب ذات حدود متبدلة، وأعداء ملتبسين، وتكتيكات دائمة التغيّر. النظر، تحديداً، إلى التواطؤ الغامض الذي حدّد هذه العلاقة تحت النظام الاستعماري. في صياغة أخرى، يبدو الهدف الأبرز لكتاب هسي هو تفحص الدور العام الذي لعبته الحروب الاستعمارية الفرنسية، على امتداد شمال أفريقيا، في الحضّ على التحرر من الاستعمار من جانب أوّل، وانعكاس ممارسات الماضي البغيضة (من التعذيب والقمع والعقاب الجماعي، إلى المذابح والاستيطان والتطهير العرقي) على الحاضر، وعلى المستقبل استطراداً، من جانب ثانٍ، خصوصاً في أوساط الشباب، والجيل الثالث تحديداً. وأمّا مفردة «الانتفاضة»، فإنّ هسي لا يتردد في تفسيرها، عرضاً في الواقع، ضمن جملة عابرة، لكنها واضحة وحاسمة: «العواطف ذاتها جياشة اليوم في رام الله وغزّة، وأحاسيس الانحباس في سجن وحجر ومعسكر اعتقال، هي التي تتأجج في الضواحي الفرنسية».
وفي مقابل تركيز كول على المعطيات الصلبة، من أرقام وإحصائيات واستبيانات، والسعي إلى استقراء ما تضيفه إلى فرضيات الكتاب حول سمات «العربي الجديد» الشاب، فإن هسي يستنطق الحوادث، ويقرأ الكثير من الصحف، ويحاور الساسة والمساجين والجهاديين والفنانين، ويتجول في شوارع الشغب مثل المساجد، ويدخل السجون ذات الحراسة المشددة مثل «الأحياء الساخنة» في الضواحي، معتقداً أنه، بذلك، يرسم صورة واضحة، وبالتالي أمينة، لـ«الكارثة» التي تنطوي عليها علاقة فرنسا بتاريخها الاستعماري عموماً، وبالشطر العربي، المسلم والمغاربي، من ذلك التاريخ خصوصاً. هذه واحدة من المزالق التي تُضعف خلاصات الكتاب، وتنتهي به إلى سلسلة تنميطات متعجلة جاهزة، أو هي مستمدة من كليشيهات مسبقة الصنع وإلى تعميمات لا تتكئ على استطلاعات رأي علمية، وأحكام مطلقة يستحيل التحقق من صدقيتها (كالجزم حول مواقف الغالبية الساحقة من الفرنسيين تجاه مشكلات الهجرة). هذا فضلاً عن ارتكاب أخطاء في بعض التواريخ، وفي تفسير بعض الحوادث، خصوصاً تلك التي تتصل بما يُسمى «النزوع الغريزي في العداء للسامية» لدى الشبان المغاربة.
هنالك، إلى هذا، طراز من المبالغة في رصد تأثيرات الفنون على واقع التمرد في الضواحي الفرنسية، كما حين يجزم هسي بأن «الخبز الحافي»، عمل محمد شكري الأشهر، كان له تأثير هائل في إذكاء حسّ الاحتجاج لدى الشبان المغاربة في المهجر الفرنسي، أو حين يستخلص أن نثر شكري (الصريح والمباشر وغير المألوف في الأدب العربي، حسب رأيه) فضح العنصرية الفرنسية تجاه العرب، أو حين يفسّر شخصية الممثل الفرنسي جان غابان، زعيم العصابة في شريط «بيبيه لو موكو»، الذي يلتجئ إلى مدينة الجزائر ويتخفى في شوارع القصبة، بأنه تجسيد لشخصية المستعمِر في مرتع ذكرياته، أو حين يقارن بين عملَيْ أوجين دولاكروا، «الحرية تقود الشعوب» و«نساء الجزائر»، وكيف أنّ الأولى ثورية وملتزمة وإنسانية، والثانية حسية وإيروتيكية واستشراقية، الأمر الذي يبعث في الناظر المغاربي أحاسيس الغضب والدونية في آن معاً! وحين يتجه هسي إلى وصف واقعة عنف فرنسية بحقّ المغاربة، فإنه يوجز ويقتصد ويلخص، وأمّا إذا كانت الواقعة معكوسة، أي عنف المغاربي ضدّ الفرنسي (خصوصاً إذا كان الأخير يهودياً!) فإنّ صاحبنا يستفيض ويستزيد ويغرق في تفاصيل جانبية، وخلفيات، ونظائر.
وفي العودة إلى آراء كول، ثمة ذلك اليقين الراسخ لدى الرجل، حول حاجة ثورات الشباب العربية إلى عقدين من الزمن كي تؤتي ثمارها، لاسيما أنّ مقولة «الشباب» سوف تضم، على الدوام، شرائح متباينة من السكان، دون أن تتوقف عن إفراز نشطاء جدد، مقابل أولئك الذين تغيّبهم السلطات في سياق الحراك الشعبي. ومن الضروري استذكار ديناميات تطوير الشعارات الشبابية، حين تبدأ من «الشعب يريد إسقاط النظام» و«خبز، عيش: حرّية» في مصر، ولا تنتهي عند شعارات الانتفاضة السورية التي شدّدت منذ البدء على الوحدة الوطنية، أي في الاتجاه النقيض لما كان النظام يسير إليه: تفريق الشعب، وفق خطوط دينية ومناطقية وإثنية وطائفية. أمّا هسي فإنّ فضيلته الكبرى أنه يذكّرنا بحكمة التنوّع في حراك الشارع، الشبابي بصفة خاصة، وكيف أنّ أشباح الماضي تجوس عوالم الحاضر. وفي كلّ حال، هذا «عربي جديد»، حقا، لكنه وليد إرث الاستبداد أو الاستعمار، تغييب الحرية أو فقدان المساواة، جرح الكرامة أو شرخ الهوية. فلا يجهلن أحد على جديده، أسوة بقديمه!
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.