يضمّ كتابك الجديد بعنوان «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، نتائج برنامج أبحاث مذهل جداً، يعتمد على منهج مقارَن طويل الأمد1. وتبدو النتائج التي حقّقتها دولٌ مختلفة على مستوى توزيع الثروة متطابقة بشكلٍ ملحوظ، ما يشكّل تحدياً لنظريات «التقارب» كما للمفهوم الذي يفيد بأنّ مستويات اللامساواة تميل إلى التراجع مع الوقت. كيف تفسّر الغياب النسبي للخصوصيّات الوطنيّة – وإلى أي مدى تساهم هذه النتائج الطويلة الأمد في توقّع المستقبل؟
يرسم كتاب «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» إطاراً تفسيرياً عاماً للبيانات التي جمعها فريقٌ كامل من الباحثين. ويختلف هذا الكتاب كثيراً عن الكتاب الذي ألّفته في العام ٢٠٠١ عن المداخيل العليا في فرنسا، حيث إنّه ينظر إلى ٢٤ دولة تقريباً عوضاً عن دولة واحدة فقط، ويغطّي فترة تمتدّ على قرون عدّة ويدرس الثروة من حيث الأصول والمداخيل2. والمهم في ما يتعلّق بالأصول هو أنّ البيانات المتاحة تسمح لنا بإلقاء نظرة أطول على الفوارق في الثروة. لم تُستحدَث الضريبة على الدخل في معظم الدول الغربيّة إلا في مطلع القرن العشرين. بناء عليه، لا يمكننا أن نعود إلى الوراء بما يكفي لوضع الحربين العالميتين في المنظور الصحيح. ويتيح لنا تحويل الاهتمام من الدخل إلى الأصول، بما في ذلك الثروة الموروثة، تحويل النموذج الاستقصائي وتعميق الإطار الزمني بالعودة إلى الثورة الصناعيّة، ودراسة الديناميّات المطبّقة في القرن التاسع عشر. كان هذا التوسيع في نطاق البحث ليبدو مستحيلاً من دون مساعدة زملائي.
أما بالنسبة إلى أوجه الشبه بين الدول، فينبغي استخلاصها من البيانات وترسيخها في التحليل. حاولت أن أفعل ذلك من دون التغاضي عن تواريخ الثروة الوطنية – على سبيل المثال، الدور الذي يؤديه رأس المال الناتج من تجارة العبيد في الولايات المتحدة، ونموذج راينلاند في ألمانيا، أو حجم الدين الوطني البريطاني في القرن التاسع عشر، مما زاد الثروات الخاصة من خلال إنتاج أصحاب ريوع مالية بالإضافة إلى أصحاب الريوع العقارية (ملاك الأراضي) أصلاً. كان الوضع مختلفاً في فرنسا، لأنّ الدين الوطني قد سُدّد مرات عدّة، كما أدّى التأميم دوراً مركزياً في اقتصاديات البلاد. وبذلك، تملك كل دولة خصوصياتها وتاريخها الثقافي الخاص. وتعتمد الردود الوطنية على اللامساواة على نظرة الدولة إلى نفسها في علاقتها بالأطراف الأخرى.
على سبيل المثال، بررت الولايات المتحدة في معظم الأحيان اللامساواة المحلية بالإشارة إلى اللامساواة السائدة في أوروبا. فكانت النظرة إلى أوروبا أنها أرض امتيازاتٍ، مما أفضى إلى قيام الأميركيين بفرض ضريبة مصادرة على المداخيل العليا في مطلع القرن العشرين لتجنّب التشبّه بأوروبا القديمة، التي كانوا يعتبرون أنّ اللامساواة تسود فيها بشدّة. وعلى الطرف النقيض من ذلك تماماً، أدان الأميركيون سيادة الروح التشاركية ونزعة المساواة السائدة في أوروبا، وهو الحال في العقود الحديثة. وهكذا ترى أن كل بلد ينظر إلى نموذجه الاقتصادي الخاص على أنه الأكثر عدلاً في جوهره من سواه من البلدان.
لا يعبّر تركيزي على قوانين عالميّة معيّنة، مثل العلاقة بين معدّل النمو وعوائد رؤوس الأموال، عن أي إيمانٍ بالحتميّة الاقتصاديّة المطلقة ــ بل على العكس. لكن لا يمكن تجاهل أوجه الشبه. في القرن العشرين، تشاركت الدول الأوروبية في تجربة حربين عالميتين. وقد تطوّرت ديناميات اللامساواة في مسارات متشابهة في هذه الدول جميعها: نمت الفوارق بسرعة خلال «الحقبة الجميلة»1، مع تركّزٍ منقطع النظير للثروة، ثم تراجعت تدريجياً بعد عام ١٩١٤ بسبب التغيرات الاجتماعيّة الناجمة عن الحرب وتصفية الاستعمار وقيام دولة الرفاه. لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي، تصاعدت ديناميات اللامساواة من جديد. اختبرت الدول دماراً مادياً بدرجاتٍ متفاوتة بين عامي ١٩١٤ و ١٩١٨ ثم بين ١٩٣٩ و١٩٤٥، لكن في النهاية، كانت للصدمات السياسيّة وأعباء الإنفاق في زمن الحرب تأثيراتٌ مماثلة على اقتصادياتها. وهذا ما حدث بالفعل في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، التي عانت دماراً أقل من فرنسا أو ألمانيا، لكنها مع ذلك خرجت من الحرب العالمية الثانية وقد تقلّصت ثرواتها الخاصة إلى حدّ كبير. وخلال حقبة «السنوات الثلاثين المجيدة»2، أدّى هذا التراجع في مستويات الثروات الخاصة إلى وهمٍ بأننا دخلنا مرحلة جديدة من الرأسمالية – نوعاً من الرأسمالية من دون رأس مال، أو أقلّه من دون رأسماليين. لكنّ الرأسماليّة لم تُستبدَل بأي نظام بنيوي بديل. عوضاً عن ذلك، كانت تلك بشكلٍ أساسي مرحلة انتقالية من إعادة الإعمار للرأسمالية. تمت استعادة الثروات وإن بشكلٍ تدريجي. واليوم فقط، في مطلع القرن الحادي والعشرين، نجد المستويات نفسها من الثروة كما كانت في السنوات التي مهّدت للحرب العالمية الأولى: حيث تبلغ ستة أضعاف الدخل الوطني السنوي تقريباً، مقابل أكثر بقليلٍ من ضعفي الدخل الوطني في خمسينيات القرن الماضي.
تستند فرضيّة «التقارب»، التي تقول إنّ اللامساواة ستتراجع تلقائياً مع تطوّر الرأسمالية، إلى أسس نظريّة وتطبيقيّة هشّة.
لا شك في أنّ الفروقات الوطنية لا تزال قائمة. على سبيل المثال، في ألمانيا كان معدّل تثمير رأس المال أدنى منه في فرنسا لأنّه، من بين أشياء أخرى، في نموذج راينلاند يتقاسم المساهمون مع الموظفين ملكية الشركات. لكن رغم ذلك، تبقى ميولٌ عامة مشتركة ــ لاسيما أنّ معدلات النمو أدنى من العوائد على رأس المال، وبالتالي ثمة ميلٌ إلى تنامي اللامساواة عوضاً عن تراجعها. كانت هذه هي الحال على مدى فتراتٍ طويلة من التاريخ البشري، إلا في القرن العشرين.
تستند فرضيّة «التقارب»، التي تقول إنّ اللامساواة ستتراجع تلقائياً مع تطوّر الرأسمالية، إلى أسس نظريّة وتطبيقيّة هشّة. وهي ترتكز بشكلٍ كبير على فرضيّة صاغها سيمون كوزنِتْس في خمسينيات القرن الماضي. لاحظ هذا الأخير تضاؤل التفاوت في الدخول في الولايات المتحدة بين عامي ١٩١٠ و١٩٤٠، وقد رغب الاقتصاديون في تصديق هذه النتائج المتفائلة وحوّلوها إلى قانون. والواقع أنّ هذا التراجع في اللامساواة يُعزى بشكلٍ كبير إلى الحربين العالميتين، لكنّ الناس اقتنعوا بأنّ هناك آليّة نظريّة عالميّة معيّنة أنتجتْ ميلاً نحو الانسجام. وثمة عاملٌ آخر يتمثّل في وجود دراساتٍ تاريخية قليلة جداً عن اللامساواة، ويعزى ذلك جزئياً إلى الفصل المنهجي بين التاريخ والاقتصاد.
سعيت إلى تقديم نظرة متوازنة عن الديناميات السارية المفعول. ومما لا شك فيه أنّ هناك بعض قوى الدافعة باتجاه «التقارب»، وأبرزها انتشار المعرفة. حالياً، تعتبر مستويات نصيب الفرد من الإنتاج متشابهة جداً بين الدول الرأسماليّة المتقدّمة ــ أوروبا، والولايات المتحدة، واليابان. ويقدَّر متوسط الدخل الفردي بـ ٣٠ ألف يورو تقريباً في هذه الدول جميعها. الاختلافات ضئيلة، على الرغم من تبايناتٍ واسعة في النماذج الاجتماعية الوطنية ومعدلات الضريبة الإلزامية. ويحتمل أن تستمر عملية «التقارب» هذه وأن تشمل بعض الدول النامية أيضاً. لكن، إذا نظرنا إلى ديناميات الثروة، ثمة ضغوطاتٌ كبيرة تدفع نحو «التقارب»، داخل البلدان كما على المستوى العالمي. في عالمٍ من النمو الاقتصادي الضعيف، فإنّ تفوّق عائدات رأس المال على معدلات النمو، يتزايد الميل إلى تنامي اللامساواة المتوارثة في الثروة.
هل الصدمات الخارجيّة وحدها، كالحروب، هي التي تستطيع أن تحدّ من هذا التراكم؟
من شأن النمو أن يعوّض عن عملية التركز في [الثروات]. إلا أنّ النمو الضعيف لا يستطيع التعويض عن ذلك كثيراً. كان ماركس والليبراليون الجدد على خطأ بشأن النمو، فماركس تجاهله، فيما يعتقد الليبراليون الجدد أنّه الحل للمشاكل جميعها. يعزو ماركس النمو إلى تراكم رأس المال وحسب، دونما زيادة مستقلة في الإنتاجيّة. ويتمثل التناقض المنطقي في الرأسماليّة الذي حدّده ماركس في أنّ نسبة رأس المال إلى الدخل ترتفع إلى ما لا نهاية، فلا بد بالتالي من أن تنخفض عائدات رأس المال في نهاية المطاف إلى الصفر. من هنا ان النظام الرأسمالي غير مستقر في جوهره وهو يفضي بطبيعة الحال إلى الثورة. غير أن تجربة القرن العشرين تظهر أنّ هذا النهج قاتمٌ جداً على الصعيد الاقتصادي (وآليّ جداً في خلاصاته السياسية).
إنّ ارتفاع العوائد على رأس المـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــال بالنسبة إلى معــــــــــــــــــــــــــــــدل النمو لا يمت بصلة إلى الاحتكار ولا يمكـن أن يُحل بالمزيد من المنافســــــــــــــــــــة.
إن الإنتاجية المتزايدة والنمو السكاني أدّيا إلى توازن معادلة ماركس وتجنّب الميل التراجعي للعائدات. لكن لا يمكن بلوغ نقطة التوازن إلا على مستوى مرتفع جداً من التراكم ومن تركّز الثروة، وذلك لا يتناسب مع القيم الديمقراطيّة. فلا شيء في النظرية الاقتصادية يضمن القبول بمستوى الفروقات عند نقطة التوازن، كذلك لا شيء يضمن وجود آليات تلقائية لتحقيق الاستقرار من شأنها تحقيق توازنٍ مستدام.
فضلاً عن ذلك، ادّعى البعض أنّ معدّل العوائد على رأس المال سيتراجع «بشكلٍ طبيعي» إلى مستوى معدل النمو. بيد أنّه ما من دليلٍ تاريخي على ذلك. خلال معظم حقب التاريخ البشري كان معدل النمو صفراً، لكن ذلك لم يمنع وجود عوائد على الأصول ــ وعادة يراوح العائد على إيجار الأرض بين ٤ و٥ بالمئة. وبالفعل كان ذلك القاعدة التي قام عليها النظام الاجتماعي، إذ إنّه مكّن مجموعة من الأشخاص، هي الطبقة الأرستقراطية من أصحاب الأراضي، من أن تعيش من هذه الإيرادات. والواقع أنّ معدل العائد على الأصول كان دائماً أعلى على المدى الطويل من معدل النمو. لا يطرح ذلك أي مشاكل منطقيّة، بيد أنّه يطرح السؤال عما إذا كان إنتاج اللامساواة وتعزيزها، اللذين يتولّدان عن هذا المعدّل، مقبولاً، في إطارٍ ديمقراطي.
شاع الاعتقادُ في القرن العشرين بأنّ قوى العقلانية سوف تؤدّي إلى القضاء على الريع الاقتصادي، أي على الفائض في الإيرادات الذي يمكن تحصيله بفضل الموقع المميز. يتبيّن ذلك من خلال تطوّر اللغة. اليوم يرتبط «الريع» بانتظام بـ«الاحتكار». ولدى سؤال ماريو دراغي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، عما ينبغي القيام به لإنقاذ أوروبا، يجيب بأنّه لا بد من مكافحة السعي وراء الريع، ويعني بذلك فتح القطاعات المحميّة، كقطاع سيارات الأجرة والصيدليات مثلاً، أمام المنافسة، وكأنّ المنافسة وحدها من شأنها القضاء على الريع الاقتصادي.
إنّ ارتفاع العوائد على رأس المال بالنسبة إلى معدل النمو لا يمت بصلة إلى الاحتكار ولا يمكن أن يُحل بالمزيد من المنافسة. بل على العكس تماماً، كلما كان سوق رأس المال أنقى وأكثر تنافسيّة، اتسعت الفجوة بين العائد على رأس المال ومعدل النمو. وتتمثل الحصيلة النهائيّة في الفصل بين المالك والمدير. بهذا المعنى، فإن الهدف من عقلانيّة السوق ذاته يسير في الاتجاه المعاكس من مبدأ الكفاءة. كذلك فالهدف من مؤسسات السوق ليس هو تحقيق العدالة الاجتماعيّة، ولا ترسيخ القيم الديمقراطيّة، فنظام الأسعار لا يعرف الحدود ولا الأخلاق. وعلى الرغم من أنّه لا يمكن الاستغناء عن السوق، ثمة أدوار لا يمكن للسوق أن تؤديها، فيلزمها مؤسساتٍ مخصوصة.
غالباً ما ساد الاقتناع بأنّ القوى الطبيعيّة للمنافسة والنمو قادرة على تبديل مواقع الأفراد تلقائياً وباستمرار. لكن في تجربة القرن العشرين، كانت الحروب أساساً هي التي دمّرت الماضي وسوّته بالأرض وأعادت توزيع الأوراق مجدداً. إنّ المنافسة لن تضمن بذاتها الانسجام الاجتماعي والديمقراطي.
يعيد كتاب «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» التأكيد على أهميّة التاريخ الاقتصادي، ما يستلزم التفاعل مع العلوم الاجتماعيّة الأخرى. كيف يمكن للأبحاث أن تحرّر نفسها من هيمنة النظريّة الاقتصاديّة التي تستند إلى الرياضيات لإحداث هذا التحوّل؟
أعدّ نفسي عالماً اجتماعياً بقدر ما أنا عالم اقتصاد. عندما تدرس مسائل مثل توزيع الثروة، تكون الحدود مرنة ومن الضروري دمج المقاربات. بعدما أنهيت شهادة الدكتوراه في دار المعلمين العليا، أمضيت مطلع تسعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة، في التدريس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وأماكن أخرى، وكان يفاجئني كثيراً الرضا الذاتي لدى الاقتصاديين في الجامعات هناك. كانوا مقتنعين بأنّ أساليبهم علميّة أكثر بكثير من أساليب زملائهم في ما يسمى بالعلوم «المرنة» مثل علم الاجتماع، والتاريخ والأنثروبولوجيا. لكنّ «علمهم» كان غالباً إيديولوجياً جداً.
منذ سقوط جدار برلين، أدّى الاقتصاديون دوراً رئيساً في إضفاء الطابع المثالي على السوق، في الولايات المتحدة كما في سائر العالم. وعلى الرغم من خلفيّتي العلميّة، كنت أنجذب دوماً إلى التاريخ. ومنذ البداية حاولت أن أجمع بياناتٍ عن التطوّر التاريخي لتوزيع الثروة، لأنّ البيانات المتوافرة كانت قليلة. وبخلاف ما تسمعونه أحياناً، البيانات التاريخية متوافرة، وما عليكم إلا أن تخصصوا الوقت لجمعها، من خلال الذهاب إلى أرشيف وزارة المالية أو سجلات الوصايا مثلاً. لست ضدّ النظريات، إنما ينبغي استخدامها باعتدال: يمكن تفسير الكثير من الوقائع من خلال كمٍّ قليل من النظريات. لكن في معظم الأحيان يفعل الاقتصاديون العكس. يستخدمون سيلاً من النظريات، ويتوهّمون أنهم يتّبعون النهج العلمي، على الرغم من أنّ أساسها الواقعي قد يكون هشّاً للغاية.
يستخدم الاقتصاديــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون سيلاًً من النظريات، ويتوهمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون أنهم يتبعــــــــــــــــــــــــــــــون النهج العلمــــــــــــــــــــــــــــــي.
في مواقع عدّة، تستعين بالأعمال الأدبية للتعبير عن الطبيعة المتغيرة للّامساواة. في أعمال بالزاك وأوستن، تُذكر بشكلٍ منهجي ممتلكات الشخصيات ومداخيلها، كان القراء في ذلك الوقت يعرفون ما يعنيه ذلك. في الأدب المعاصر، ضاع هذا المقياس: هناك تقديرٌ ضئيل للوضع الاقتصادي للشخصيات. هل اكتسبت حالات اللامساواة نوعاً من الخفاء المعرفي، ما جعلها مقبولة اجتماعياً أكثر من السابق؟
كتابي هو إلى حدٍ كبير وليد الخوف من أنّ البنى الاجتماعيّة آخذة في التغيّر تدريجياً، بشكلٍ لا يمكن العودة عنه، دون أن نتنبّه لذلك. فالديناميّات لا تتجلى بسرعة، وثمة خطرٌ حقيقي يتمثّل في أن نستيقظ يوماً ما لنجد مجتمعاً من اللامساواة أفدح من مجتمع القرن التاسع عشر، إذ إنّه سيمزج عشوائية اللامساواة الموروثة مع خطابٍ عن الجدارة يحمّل «الخاسرين» مسؤولية وضعهم ــ بحجة تدنّي إنتاجيتهم، على سبيل المثال. ثم إنّ تمثيل حالات اللامساواة هذه في الأدب قد يتدنى بفعل اختفاء المعايير النقديّة، بين أسباب أخرى. في القرن التاسع عشر، الذي لم يعرف التضخم، كانت تلك الحالات راسخة كالنقش في الحجر، بحيث يفهم كل قارئ على الفور المقصود من المبالغ المالية المذكورة في أعمال بالزاك وأوستن. بيد أنّ النمو والتضخم الكبيرين في القرن العشرين محيا هذه المعايير. تتقادم الأرقام بسرعة حتى إننا قد نواجه اليوم صعوبة في الربط بين أجرٍ من تسعينيات القرن الماضي ومستوى معيشة معيّن أو قوة شرائيّة معيّنة.
إن الإيمان الجماعي بالتقدّم وبرفع مستويات المعيشة، يعني رفض تخيّل عالمٍ حديث تنتشر فيه اللامساواة بقدر ما كانت عليه في القرن التاسع عشر. طبعاً لم نبلغ تلك المرحلة بعد، ولا أريد أن أقع في شرك الكارثية. لكن ذلك قد يحدث، بتوافر ظروفٍ معيّنة. هناك عمى إرادي عن منطق الديناميات المعاصرة. على سبيل المثال، يرفض مكتب الإحصاء الوطني نشر أسماء أصحاب المداخيل العليا ــ وهم لا يتجاوزون عادة واحداً من عشرة بالمئة من السكان، وتلك سياسة رسمية حجّتها عدم «إثارة النزعات الشعبوية» والحسد. وبحسب هذا المنطق، من الممكن إظهار تقريرٍ يعود إلى عام ١٧٨٨ يفيد بأنّ كل شيء كان على ما يرام، ما دامت الأرستقراطيّة لا تشكّل أكثر من واحد أو اثنين في المئة من الشعب. لكن في بلد كفرنسا أو بريطانيا، لا تزال نسبة الواحد في المئة توازي ٥٠٠ أو ٦٠٠ ألف شخص، وهي توازي الثلاثة ملايين في الولايات المتحدة. وهذا العدد الكبير من الناس يشغل مساحة كبيرة، وهو يدير نظاماً اجتماعياً بمجمله. ليس الهدف من ذلك إثارة الحسد ــ إذ إنّ الفوارق الاجتماعية لا تطرح أي مشاكل إذا كانت مفيدة للجميع كما توضح المادة الأولى من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام ١٧٨٩ («الفوارق الاجتماعيّة مُجازة بشرط مساهمتها في الفائدة المشتركة حصراً»). لكن ينبغي تنظيمها عندما تبدأ بالتعارض مع المصلحة العامة.
عندما يفشل الباحثون والمؤسسات العامة في وصف حالات اللامساواة القائمة من خلال مصطلحاتٍ دقيقة، يعني ذلك التنازلٍ الحقيقي عن المسؤولية، ما يترك المجال مفتوحاً أمام ترتيب الثروات لمجلات مثل «فوربس»، أو لـ«تقارير الثروة الكونية»، وهو ترتيبٌ صادرٌ عن البنوك الكبرى التي تتلبّس دور «منتِجي المعرفة». بيد أنّ الأساس المنهجي لبياناتها يبقى غامضاً، والنتائج إيديولوجيّة إلى حدٍ كبير، تشكل نشيداً في مديح ريادة الأعمال والثروات المستحقة بجدارة. فضلاً عن ذلك، يمثّل مجرد التركيز على «أغنى خمسمئة شخص» وسيلة لعدم تسييس مسألة اللامساواة. فهذا العدد صغير جداً لدرجة أنّه يصبح تافهاً. يبدو كأنّه يكشف حالة اللامساواة القصوى، فيما هو يصوّر في الواقع صورة ملطّفة عنها. ينبغي استيعاب حالات اللامساواة بأسلوبٍ أكثر شمولاً.
يمثــــــــــــــــــــل مجرد التركيز على «أغنى خمسمئة شخص» وسيلة لعدم تسييس مسألة اللامساواة. فهـــــــــــــــــذا العدد صغير جداً لدرجة أنه يصبح تافهـــــــــــــــــــــــــــــــــــاً. يبدو كأنــــــــــــــــــــــــــــــــــــه يكشف حالة اللامساواة القصوى.
إذا أخذنا الثروات التي تزيد عن عشرة مليارات يورو، على سبيل المثال، بديلاً عن الثروات التي تزيد عن المليار يورو، فهي تشكّل حصة كبيرة جداً من إجمالي الثروة. نحن بحاجة إلى الأدوات المناسبة لتجسيد اللامساواة. وقد مثّل التحرّك الأميركي تحت شعار «نحن الـ ٩٩ بالمئة» وسيلة مناسبة للقيام بذلك. فالتركيز على الواحد في المئة الأكثر ثراءً يفسح في المجال أمام القيام بمقارنة بين المجتمعات المختلفة التي قد تبدو غير قابلة للمقارنة في حالات أخرى. قد يبدو التحدّث عن «المديرين التنفيذيين لكبريات الشركات» أو «الريعيين» أكثر دقة، لكن هذه المصطلحات محددة تاريخياً.
يجري تصوير حالات اللامساواة المعاصرة في بعض الأحيان على أنّها «حرب أجيال»، يُحرم فيها الجيل الشاب من إرثه الاجتماعي، الذي تبدد على مواليد جيل طفرة الولادات ما بعد الحرب. ما رأيك بذلك؟
نشأ عن حقبة «السنوات الثلاثين المجيدة» وهمان عظيمان بشأن اللامساواة. الأول هو مقاربة «حرب الأجيال» التي تقضي بأنّه، مع ارتفاع متوسط العمر المتوقع، تصير الأصول هي طريقة تحويل الدخل من مرحلة العمل إلى مرحلة التقاعد. وهكذا فأنت تكون فقيراً في شبابك، لكنك تراكم مدخولاً تنفقه عندما تتقاعد. يوفر هذا الوهم نظرة مطمئنة إلى اللامساواة في الثروة، إذ إنّه يلمح أنّ الجميع سيبدأ فقيراً ثم ينتهي غنياً على التوالي، وهو أمرٌ منطقي بما فيه الكفاية. لكنّه يشكّل جزءاً صغيراً جداً من تراكم الثروة وتركيزها: في الواقع، اللامساواة في الثروة كبيرة ضمن الأجيال كما هي في ما بين الأجيال. بمعنى آخر، لم تحلّ حرب الأجيال محل الحرب الطبقية. ويتمثل أحد أسباب ذلك في البعد التراكمي لتركيز الثروة: فحيثما يظهر تراكم وتوارث في الثروة، يتسارع التركيز.
لإعطاء مثالٍ ملموس عن ذلك، من الأسهل الإدخار ــ وبذلك تكديس الثروة ــ عندما تكون قد ورثتَ شقة وليس عليك أن تدفع الإيجار. قد تُضاف إلى ذلك أنظمة التقاعد المحددة الاستحقاقات، بمعنى أنها تساعد في الحفاظ على الثروة المتراكمة، إذ إنّ الناس لا يحتاجون إلى إنفاق أموالهم في فترة التقاعد.
أما الوهم الثاني فهو نظرية «رأس المال البشري» وهي تستند إلى فكرة تقول إنّه مع التقدّم التكنولوجي، قد تتقدم المهارات البشريّة على المعامل، والمباني، والآلات الصناعية وما إلى ذلك، وستزداد الحاجة إلى الخبرة الفردية وتقلّ الحاجة إلى رأس المال غير البشري ــ العقارات، والمواد، والأصول المالية. وبحسب هذه الفرضيّة، سيحل المديرون محل مالكي الأسهم في الشركات. حسناً، لم يحدث ذلك. تقدّمت المهارات، وتقدم أيضاً رأس المال غير البشري، والعلاقة بين الاثنين لم تتغير كثيراً. حتى إنّ المرء يستطيع تخيّل اقتصادٍ آلي في القرن الحادي والعشرين تتراجع فيه مساهمة رأس المال البشري في الدخل القومي. لا يعني ذلك أنّ حدوث الأسوأ محتّم، بل أنّ السوق تفتقر إلى آليّة للتصحيحٍ الذاتي. نحن بحاجة إلى إقامة مؤسسات قادرة على أداء دورٍ تصحيحي. وإني أحاجج في أن فرض ضريبة تصاعدية على الرساميل الخاصة قد يشكّل مثل تلك الآلية.
أنت تسلّط الضوء على دور النظام الضريبي في القسم الأخير من كتاب «رأس المال في القرن الحادي والعشرين»، الذي تناقش فيه سيناريوهاتٍ عدّة للهروب من فخ الديون، بما في ذلك قضاء الديون، والتضخم، والتخلف عن السداد. من المؤكّد أنّ الدين هو أحد العوامل التي ترعى استمرارية الثروات الضخمة، بما أنّه ينشئ أصحاب ريوع مالية. لماذا تؤيّد الضريبة كحل؟
ما أنادي به ليس أي ضريبة قديمة وحسب، إنما ضريبة تصاعدية على رأس المال، وهي مناسبة أكثر من الضريبة على الدخل بالنسبة إلى «الرأسمالية الإرثية» للقرن الحادي والعشرين ــ وذلك لا يعني أنّه ينبغي إلغاء الضريبة على الدخل، فالضريبة على رأس المال الخاص ضرورية لمكافحة اللامساواة المتزايدة، لكنها ستكون أداة مفيدة أيضاً لحل أزمات الدين العام، مع مساهماتٍ من كل شخص حسب ثروته. سيكون ذلك الحل المثالي، الذي يصعب تحقيقه إنما لا غنى عنه. في قلب كل ثورة ديمقراطية عظمى. في الماضي كان هناك ثورة ضريبية، وسينطبق ذلك على المستقبل أيضاً.
التضخم هو ضريبة على رأسمال الفقراء، فهو يخفّض قيمة الأصول الصغيرة ــ الأرصدة الفردية في البنوك ــ فيما تبقى الأسهم والعقارات محميّة. هذا ليس الحل المناسب، لكنه الأسهل. وثمة احتمالٌ آخر هو فرض عقوبة لفترة طويلة، كما فعلت المملكة المتحدة في القرن التاسع عشر لتسديد ديونها. لكن ذلك قد يستغرق عقوداً، وفي المحصلة ينفَق مبلغ أكبر كفائدة على الدين مقارنة بالاستثمار في مجال التعليم. بطرقٍ كثيرة، يعتبر دين الحكومة مشكلة زائفة: فهو بمثابة قرضٍ أخذناه من أنفسنا. على مستوى الثروة الخاصة، لم تكن أوروبا يوماً غنيّة جداً. الدول هي الفقيرة، وبالتالي فإنّ المشكلة هي مشكلة توزيع. وقد غاب هذا الواقع البسيط عن الأذهان. تملك أوروبا ميزاتٍ كبيرة: نموذجها الاجتماعي، ومستواها المعيشي الموروث، وهما يشكّلان ٢٥ في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وهي تملك فوق ذلك المساحة الجغرافية الكافية لإدارة الرأسمالية بشكلٍ فعال، لكنها لا تفكر في ما هو أبعد من مستقبلها المنظور.
أيّدتَ الحزب الاشتراكي في الانتخابات الفرنسية لعام 2012 وأسديت نصائح بشأن السياسات المالية لإعادة التوزيع التي ينبغي أن تتبعها فرنسا. هل فوجئت بتبنّي حكومة هولاند المطالب الرئيسية لاتحاد أصحاب العمل عوضاً عن ذلك؟
لم أفاجأ تماماً. ذلك أنّ هولاند قد انتخب بشكلٍ أساسي لأنّ جمهور الناخبين أراد التخلص من سلفه، وهو بالتأكيد أمرٌ رائع. لكنْ حقيقة، لم يكن لديه أي برنامج سياسي يتبعه.
تقدّم عرضاً مقنعاً على المدى الطويل لحالات اللامساواة المنبثقة عن معدلات العائد على رأس المال التي تتخطى معدلات النمو. وأنت تتوقع أن تكون معدلات النمو المستقبلي ١ إلى ٢ في المئة للاقتصادات المتقدّمة و٤ إلى ٥ في المئة للاقتصادات الناشئة من الآن حتى عام ٢٠٣٠، مع تباطؤ النمو العالمي إلى 1.5 في المئة بحلول عام ٢٠٥٠. هذا التوقع يستند إلى مفهومٍ ميكانيكي، نوعاً ما، للمجاراة والتقارب. ما هو ردّك على وجهة النظر البديلة التي لا تركّز على التقارب بحدّ ذاته إنما على الديناميات الرأسمالية: الطاقة الفائضة المنهجية في مجال التصنيع، وبالتالي انخفاض معدلات الربح، ما يسبب انخفاضاً في الأجور وتحوّل الاستثمارات إلى المنتجات الماليّة، مع الحفاظ على الطلب الضعيف من خلال الاكتفاء بتوليد الائتمانات الهائلة وحسب؟
أحاول أن أبني استنتاجاتي بشأن معدلات النمو المستقبلية على تحليل التطورات السابقة، الناجمة عن ديناميات الرأسمالية والمنافسة. والجدير بالذكر أنّ معدلات النمو المنخفضة ليست نتاج التقارب وحسب، بل والأهم من ذلك،أنها نتاج نهاية النمو السكاني، وهذا ما يزيد احتمال نشوء فجوة كبيرة دائمة بين معدّل العائد على رأس المال ومعدّل نمو الاقتصاد في المستقبل. وثمة اختلافٌ مهم واحد بين استنتاجات ماركس واستنتاجاتي، ألا وهو أنّ ماركس وثق بانهيار معدّل الربح، ما يوفّر بطريقة ما حلاً إقتصادياً لمشكلة التطور طويل الأمد للنظام الرأسمالي. لا أعتقد أنّ هناك حلاً مماثلاً. واستناداً إلى الأدلة التاريخيّة والمنطق النظري، أستخلص أنّ معدّل نمو العائد ــ الذي يشكّل معدّل الربح أحد عناصره ــ قد يبقى على نحو دائم أعلى من معدّل النمو، كما كان عليه حتى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
هل يمكنك أن تخبرنا المزيد عن البيانات التجريبية التي تعتمد عليها لدعم المطالبة بمعدّل عائدٍ تاريخي ــ يُفهَم بأنّه يشمل الريوع، إلخ، فضلاً عن الأرباح ــ يُقدّر بخمسة في المئة؟
يستند القسمان الأولان من الكتاب، اللذان يتناولان ديناميات نسبة رأس المال إلى الدخل، بشكلٍ أساسي إلى حسابات وطنيّة تاريخيّة. وتستند هذه الأخيرة بدورها إلى مجموعة كبيرة ومتنوعة من المصادر، بما في ذلك إحصاءات الثروة ــ قيمة الأراضي، وقيمة العقارات، ورسملة سوق الأسهم ــ إلى جانب حسابات الشركات، ومجموعة الإيجارات، وما إلى ذلك. ويحتوي ملحق الكتاب المتوافر على الإنترنت لائحة كاملة بالمصادر الأساسية التي استندت إليها، فضلاً عن ملفات البيانات ذات الصلة، وبخاصة بصيغة «اكسل Excel» أو «ستاتا Stata»3.
قمت أيضاً بعملٍ رائد على صعيد البيانات الضريبية. في حين يتخطى ذلك بوضوح الاعتماد على مسوحات الأسر المعيشية لدراسة حالات اللامساواة في الثروة والدخل، ألا تزال هناك مشكلة مع التهرب الضريبي من قبل الشركات الكبيرة؟ وعلى نحو مشابه، هل أنت واثق من أنّ بياناتك تجسّد بنحو كامل تراكم الثروة في الشراكات في مجال الأعمال، مثال تريليونات الدولارات التي تديرها شركة «بلاك روك»؟ عندما تُقسّم حقوق الملكية بطرقٍ معقدة كهذه، هل من الممكن تفادي الاستخفاف أو المبالغة في تقدير تأثيرها على توزيع الثروة؟
يعزى السبب الأساسي في حاجتنا إلى الشفافية المالية ــ سجلّ شامل للأصول الماليّة، فضلاً عن ضريبة تقدميّة شاملة على رأس المال ــ بالتحديد إلى حاجتنا إلى معرفة أكثر ديمقراطيّة لمن يملك ماذا. هناك شكوكٌ كبيرة اليوم حول المستوى المحدد لتركيز الثروة، ويساعد ذلك غلى إضعاف إمكانية نشوء جدالٍ ديمقراطي وواف بشأن الصيغة الضريبية والمعدل الضريبي المناسبين. استناداً إلى البيانات المنقوصة التي جمعتها، أعتقد أننا بحاجة إلى ضريبة تقدمية جداً على رأس المال بغية التحكم بديناميات تركيز الثروة العالمية. لكن أولاً وقبل كل شيء، أعتقد أننا بحاجة إلى المزيد من الشفافية المالية بغية إنتاج حقائق مقبولة عموماً.
تنسب التخفيف غير المسبوق في التفاوت بين المداخيل بين عامي ١٩١٤ و١٩٧٥ بشكلٍ أساسي إلى صدمات الحربين العالميتين وإلى الاستجابات السياسية التي تلت ذلك. لا تضيف حجّتك ثقلاً كبيراً إلى القوة غير المسبوقة أيضاً للعمالة المنظمة خلال هذه الفترة، في الأحزاب العمالية الجماهيرية والنقابات العمالية، ولا تأتي على التهديد الذي تطرحه الشيوعية في الشرق، باعتبارها أدوات ضغطٍ على رأس المال لتقديم تنازلاتٍ في الغرب. ما هو الدور الذي أداه إضعاف موقف القوى العاملة في زيادة اللامساواة منذ ثمانينيات القرن الماضي؟
يعزى التخفيف من التفاوت في المداخيل بين عامي ١٩١٤ و١٩٧٥ إلى صدمات الحربين العالميتين كما إلى الاستجابات السياسية التي تلت ذلك. وقد أدّت تغيرات سياسيّة جذرية ــ كبروز نظام الضريبة التصاعدية، والضمان الاجتماعي، والعمالة المنظمة، وما إلى ذلك ــ دوراً هائلاً في ذلك. وتتمثل وجهة نظري ببساطة في أنّ هذه التغيرات، بما في ذلك طبعاً الثورة البلشفية والتهديد المترتب عنها في الشرق، كانت إلى حدٍ كبير نتاج الصدمات التي سببتها الحربان والكساد الكبير. قبل عام ١٩١٤، لم يكن هناك أي ميل طبيعي نحو التخفيف من اللامساواة. كان النظام السياسي ديمقراطياً على الصعيد الرسمي، لكنه لم يكن يتجاوب بالفعل مع المستوى المرتفع والمتزايد من تركُّز الثروات. وكان التخفيف من اللامساواة خلال القرن العشرين إلى حدٍ كبير نتاج الاضطرابات السياسية العنيفة، وبدرجة أقلّ نتاج الديمقراطية الانتخابية السلميّة. وأعتقد أنّ ذلك يساعد على تفسير هشاشة التوافق الذي بُنيت عليه بعض المؤسسات الديمقراطية المبكرة، وسبب تعرّضها لهجومٍ عنيف منذ سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. كذلك ساهم سقوط الشيوعية قرابة العام ١٩٩٠ بوضوح في ظهور إيمانٍ لا محدود برأسمالية الاقتصاد الحر في تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين.
تشكك في ما إذا كانت مستويات اللامساواة المستدامة التي تتوقعها للفترة الباقية من القرن الحادي والعشرين ستكون منسجمة مع القيم الديمقراطية. ألا تضفي الطابع المثالي على القيم الديمقراطيّة، التي أشرفت بهدوء على تنامي خلال العقود الأربعة الماضية؟ مع تراجع الإقبال على صناديق الاقتراع والتقارب من حيث البرامج بين أحزاب يمين الوسط وأحزاب يسار الوسط، يكفي دعم ٢٧ في المئة من الناخبين لانتخاب حكومة موالية للسوق، كما شهدنا في اليونان. ما السبب الذي يدفع إلى الاعتقاد بأنّ هذا الترتيب لن يصمد إلى ما بعد القرن الحادي والعشرين؟
لست متفائلاً بشكلٍ خاص بالمستقبل. غير أنّ الدروس المستمدة من الماضي تشير إلى أنّ اضطراباتٍ عنيفة غالباً ما تؤدي دوراً رئيساً فيه، وأنّ المؤسسات الديمقراطية الرسمية لا تتجاوب غالباً مع تزايد اللامساواة، بسبب خضوعها لسطوة النخب المالية بنوع خاص. لكني أودّ أن أصدّق أنّ بإمكاننا أن نتعلم من الكوارث الماضية وأن نبتكر أساليب أكثر سلميّة واستدامة لتنظيم الديناميات الرأسمالية.
- 1. «الحقبة الجميلة» هي الفترة من تاريخ اوروبا الممتدة بين العام ١٨٧١ والحرب العالمية الاولى العام التي ساد فيها السلام والتفاؤل وتكاثرت المكتشفات العلمية والتطور التكنولوجي وإزدهرت الآداب والفنون.
- 2. «السنوات الثلاثون المجيدة» هي السنوات بين ١٩٤٥ و١٩٧٦ التي شهدت خلالها اوروبا فترة نمو اقتصادي مطّرد.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.