العدد السادس - صيف ٢٠١٣

موسيقى «المهرجانات» في مصر

«انشقاق في إمبراطورية الصوت»

النسخة الورقية

فيما كنت أستقل سيارة أجرة في القاهرة، محاولاً الوصول إلى استوديو للإشراف على تجربة أداء من أجل إنتاج فني جديد يتطرق إلى الأساليب المعقدة في قراءة تاريخ الموسيقى، وبخاصة تاريخ الأوبرا الكلاسيكية الغربية، كان سائق التاكسي يستمع بلا توقف إلى موسيقى المهرجانات. بالنسبة إلى أولئك الذين لا يعرفون هذا النوع، موسيقى المهرجانات هي شكل، ممارسة أو نوع جديد من الموسيقى التي أبصرت النور في مصر الآن، ومنذ خمس سنوات ربما. من الصعب تحديد الوقت الحقيقي لنشوئها بالنظر إلى الإطار الاجتماعي الذي تطورت فيه. تُستعمَل كلمة «مهرجان» وجمعها «مهرجانات» لوصف هذا الشكل الصوتي والموسيقي المكثّف. تطرح موسيقى المهرجانات، وهي بحد ذاتها ممارسة غير مؤسساتية، تساؤلات مصيرية في مصر اليوم بشأن العلاقة بين الفن والمؤسسات، والفن والأسواق، والفن والتمثيل. عندما ينجح نوع فني في دولة ناشئة في طرح هذه التساؤلات كلها من دون أن يطبَّق ذلك من خلال استراتيجيات توجيهية، وأساليب دعائية، من دون أن يكون ذلك جزءاً من صياغة الخطاب، ومن دون استعمال مجموعة من الرموز للمشاركة مع جماهير تقوم بممارسات فنية معاصرة، ثم يعلن هذا النوع عن نفسه باعتباره موقعاً للمشاركات الخطابية، وهو ذو أهمية سياسية بالنسبة إلى المشهد الفني، مشهد الممارسات الفنية المصرية المعاصرة.

إذا استعمل المرء كلمة «نوع» لتعريف موسيقى المهرجانات عوضاً عن كلمة «ممارسة» أو «شكل»، فذلك لأنه نوع موسيقي يجمع بين الموسيقى الإلكترونية، موسيقى الضجيج، الموسيقى المصرية الشعبية في فترة ما بعد سبعينيات القرن الماضي، موسيقى الإلكترونيكا، وإيقاعات حديثة. تستعمل أغنية المهرجانات النموذجية كلمات ذات محتوى مفاجئ، تتطرق إلى المشاكل الاجتماعية، الحياة الجنسية والمواضيع السياسية، من دون أن تخضع لرقابة ذاتية من ناحية المنتج والفنان. كذلك، هي تعتمد بشدة على برامج «الضبط التلقائي للحن»، تشير إلى الخصائص الصوتية التي طبعت نهاية تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الثانية من موسيقى البوب الدولية، وهي تجسّد فعلياً وبشكل غير مبرر وجود التكنولوجيا ودورها في الإبداعات الموسيقية المعاصرة في مصر، وبخاصة في ما يتعلق بالصوت البشري.

موسيقى من خارج المدينة

«لا نعاني المشاكل التي تعانونها. ليست لدينا أي مشكلة في الاستماع إلى أغنية عن الجنس، أو عن لقاء مع مومس، أو عن المخدرات. نحن لسنا من المدينة، بل من خارج المدينة. ما يحدث خارج المدينة أشبه بما يحدث في هذه الأغاني. هذه الأغاني حقيقية. هذا ليس الراديو أو التلفاز. لدي أغنية أخرى لك على ذاكرة الـ«يو. اس. بي.»، أكثر فحشاً بكثير، وأكثر متعة، موضوعها الجُماع... هذه أغانٍ ألّفها ناس في شوارعنا. لا تشتريها أينما كان. تذهب وتحصل على نسخة منها على قرص ذاكرة فلاش أو من خلال البلوتوث. شقيق زوجتي يعمل منسقَ أغانٍ (دي جي) في حفلات الزفاف، وقد أعطاني نسخة عن مجموعته. هو صديق لـ«أورتيغا»، قال سائق التاكسي وهو يستمع إلى موسيقى المهرجانات الصاخبة، مشيراً باحترام فائق إلى دي. جي. أورتيغا؛ منسق أغانٍ مشهور في عالم موسيقى المهرجانات. في هذا السياق، تمثل دراسة التطورات المدنية التي طاولت العشوائيات غير الرسمية في القاهرة في ما يتعلق بإنتاج (أو بروز) موسيقى المهرجانات مجالاً غنياً بالمعلومات ما زال علينا استكشافه. لكن، أي مؤسسة موسيقية قد ترغب في أن تدير أذنها وتصغي بتعمق إلى ما تقترحه موسيقى المهرجانات؟ أي مؤسسة حكومية مستعدة أو مهتمة أو قادرة الآن على أن تستمع بتعمق إلى ما يود «من يعيشون خارج المدينة» قوله عن الحقائق المدنية؟

تمثل اللامبالاة (أو العجز) المؤسساتي عقبة في الطريق المؤدي إلى دراسة لحظة ولادة هذا النوع، والطريقة التي استطاع من خلالها باحث التعبير عنه وتحديد موقعه ضمن شبكة من الإشارات والقوى الموجهة. هذا، إضافة إلى الافتقار التام إلى الإطار النظري حول هذا النوع (أو الممارسة إذا ما نظرنا إليه من منظور آخر، عبر تتبع منسقي أغانٍ ومؤلفين موسيقيين بارزين ودراسة الأعمال المنشورة دراسة تقنية، بالنظر من حيث المحتوى إلى المواد الأخرى التي أنتجها أبناء عصرهم، أو بالنظر إلى الإنتاجات الفنية المعاصرة في مصر)، يجعل عملية تحديد موقع موسيقى المهرجانات أو تأريخها أشبه بعملية تنقيب أثرية، تساهم فيها بشكلٍ كامل روايات شفهية، مقابلات ومقاربة المحتوى مع السياق الحالي، وإعادة النظر في لحظات معينة لمعرفة كيف يمكن فهم الصوت والموسيقى من خلال قصص سياسية وثقافية واقتصادية في مصر.

تواجه الدولة التي تتباهى بقطاع صناعة موسيقية ضخم كجزء من موقعها «الرمزي» في المنطقة الناطقة باللغة العربية منتجاً ثقافياً متغيراً: موسيقى المهرجانات. انشقاق في «الإمبراطورية الصوتية» المتجانسة التي تفتخر بامتلاك منتجات موسيقى البوب المربحة، أو الأعمال الشرقية الكلاسيكية التي تتسم بالحنين وتشير إلى أيام ولّت، أو حتى إلى الموسيقى السرية الصارمة والرائجة جداً. هذا النوع مستقل نوعاً ما. ليس جزءاً مما هو رائج وعصري، وليس جزءاً من تجربة قاعة الحفلات جلوساً، وليس جزءاً من الاحتفالات الصيفية في المنتجعات البحرية التي يشارك فيها مشاهير عرب في مجال موسيقى البوب. والجدير بالذكر أيضاً، هو «فقدان الذاكرة» العام الذي يحكم إنتاج الروايات، وبالتالي توليد خطابات تتناول الممارسات الفنية المعاصرة في مصر. ندرة الموارد البالغة الأهمية التي تؤطِّر أو تؤرّخ ممارسات صوتية وموسيقية أخرى في مصر (أو التي توثّق الفنون المسرحية عموماً)، سواء كانت أوبرا مصرية، مثال أعمال غارانا ومحيي الدين، أو مؤلفات الموسيقى الإلكترونية التي طبعت تسعينيات القرن الماضي، أو الإنتاج الحالي الذي ينضوي تحت لواء ما يسمى «مشهد الفنون في وسط المدينة» في القاهرة، ليست إلا حالة شائعة ترسم تجربة الباحثين والعلماء الذين يتعاملون مع عمليات تحليل أو توثيق مماثلة. غير أنّ ما يحصل يذكّرنا أيضاً بما كانت عليه الظروف عندما برز المغني أحمد عدوية في عالم الكاباريهات في مصر في سبعينيات القرن الماضي، وأحدث ثورة صوتية في الموسيقى، وكان نذير تحول نحو مساحة أخرى في تاريخ الموسيقى وصناعة الأغاني في مصر والمنطقة الناطقة باللغة العربية. وفيما كان عدوية «المغني غير المحترف» ومعبود الجماهير في عدد من الأفلام، لم يكن يوماً النجم في هذا المجال. بيد أنّ نجوميته وموقفه السياسي كانا واضحين بالنسبة إليه، تماماً كما كانا واضحين بالنسبة إلى محبي الموسيقى التي أنشأها. وفيما جاهدت المؤسسة في سبيل المتاجرة به، لاستيعابه عن عمد أو عن غير قصد، والمقصود هنا بالمؤسسة مؤسسة الإنتاج السينمائي في مصر، ألهمت مساهمة عدوية في تاريخ الموسيقى المصرية المعاصرة وموقفه حيال المؤسسة شخصيات أدبية مثال نجيب محفوظ.

ضد جمالية الصوت

فيما تتجاوب المؤسسة السينمائية حالياً مع هذا النوع من الموسيقى الناشئة الحيوي والحماسي، من خلال السعي فوراً إلى إعادة تمثيل الأغاني التي أداها نجوم الأفلام باستعمال كلمات وأساليب إنتاج صوتي «أنقى»، أو من خلال اللجوء مباشرة إلى استضافة مشاهير من موسيقى المهرجانات بدأ نجمهم يسطع بصفتهم ممثلين في مشهد أو مشهدين، يتصدى هذا النوع من الموسيقى لعملية التطويع هذه. وفي إطار شبيه بقصة أحمد عدوية، بالكاد تلجأ المؤسسة هنا إلى مغني فرقة «مهرجان»، وذلك غالباً لتأكيد موقف مهيمن حيال موقع كل ما هو هامشي في الإنتاج الثقافي في مصر. وفنانو موسيقى المهرجانات في أفلام مماثلة لا يجسدون إلا فشل الدولة الذريع على الصعيد المؤسساتي، والبنية التحتية الثقافية المشلولة في مصر التي تعجز عن تفسير موسيقى المهرجانات، وغير القادرة على أن تجسِّد ما تقدمه. من خلال تمثيل وتوصيف منتجي موسيقى مماثلة، تساهم المؤسسة عن غير قصد في تمكين موسيقى المهرجانات عوضاً عن استيعابها. تشدد المؤسسة على الحيوية والأهمية الحاسمة لهذا النوع، فيما تحاول تزييف عملية تسليع «فاشلة حتى الآن» لبدعة جديدة.

أثناء أول استكشاف «تقني» لهذا النوع، وفي ما يتعلق بالمؤسساتية من منظور الإنتاج الصوتي، يمثل اعتماد موسيقى المهرجانات بشدة على «الضبط التلقائي للحن» تحولاً مصيرياً في تاريخ الموسيقى المصرية. في هذا الإطار، يُحتفى باتحاد الصوت والآلة (اتحاد استمر على امتداد التجربة الموسيقية، من أجهزة عصر النهضة وإعدادات الهندسة الصوتية الغريبة، أو المايكروفون بعد قرون، أو المعجزات التكنولوجية التي قد تحدث في استوديو تسجيل وضبط يعالج صوت مغنٍ، فضلاً عن بروز التلاعب التقني والتحويل الرقمي، إلخ). فيما تكافح فرق البوب وفرق الروك البديل، الموسيقى الشرقية وحتى المؤلفات المعاصرة جاهدة في سبيل إخفاء أي «شائبة» في الصوت البشري الذي يغني، وإخفاء العمل التقني الهائل اللازم لإنتاج صوت بشري أصلي مسجّل في إطار إنجاز خفي لامع مشترك بين الإنسان والآلة، تسعى موسيقى المهرجانات إلى إنتاج النقيض تماماً. في إطار هذا الاختيار التقني المتطرف، يتم الإعلان عن موقف سياسي من المؤسسة. لا يملك عازفو ومغنو موسيقى المهرجانات مجموعة القوانين الجمالية نفسها في ما يتعلق بـ«الصوت الغنائي الجميل» في مصر اليوم. ويُحتمَل أنه – بالنظر إلى الخيارات المتكررة التي يتخذها جميع المؤلفين الموسيقيين والمغنين/ منسقي أغاني المهرجانات، سواء كانت ناتجة من لامبالاة تامة بـ«الأصوات الجميلة»، أو ببساطة لأنهم يقدمون لنا لائحة جديدة من القوانين الجمالية، التي كانت تعتمد في مكان ما بدائي جداً، في شوارع القاهرة خلال السنوات القليلة الماضية.

كذلك، يوضح هذا القرار التقني موقف هذا النوع من المؤسسات الموسيقية، بشكل حرفي، مثال نقابة الموسيقيين. لا يريد المؤلفون الموسيقيون/ منسقو أغاني هذا النوع حضور اجتماع لتقديم طلب عضوية في النقابة، لا يريدون أن ينتجوا «الجمال» و«الملاءمة»، لا من خلال الصوت ولا من خلال الكلمات، بغية الاندماج في النظام النقابي. لا يحتاجون إلى إخفاء اعتمادهم الأساليب الرقمية والتقنية أثناء عملية إنتاج الصوت. هم يعلنون عن وجود «الآلة» واتحادها مع الصوت البشري في المنتج النهائي. مع اختيار كلمات لا يتوانى أبداً عن استعمال لغة «غير لائقة» اجتماعياً، هم يؤكدون مجدداً على هذه الفرضية في ما يتعلق بعلاقتهم مع العالم المؤسساتي للموسيقى والصوت في مصر الآن. من الممكن سماع الشتائم في أغنية، تماماً كما يحتمل سماع الشتائم يومياً في حافلة للنقل العام في القاهرة. من خلال هذا الاختيار الفني، تورد موسيقى المهرجانات تعليقات على المؤسسات الموسيقية في مصر في ما يتعلق بالواقع الثقافي المدني اليومي.

ضمن هذا السيل من الحقائق، ينم اختيار موسيقى المهرجانات عن حرية التعبير بمعنى التحدث بلغة الناس بحرية تامة، اللغة اليومية، اللغة الغاضبة والبذيئة التي تستعمل أثناء شجار في حافلة، الجيل الشاب المحبط وهو يتحدث عن الثمالة، الأدوات الاصطناعية وحلقاتها التي تتألف من تراكيب قائمة على الضجيج، بالتالي عن أنها تقف في صف الشعب (أو شريحة منه على الأقل) لا في صف المؤسسة. مهما بدت مناهضة للمؤسسات، هي مجرد انعكاس لتطور مصر بعد فشل الكثير من العمليات الأيديولوجية واستراتيجيات التنمية الهيكلية. من دون رومنسية، تمثل موسيقى المهرجانات تحدياً بنيوياً «للمؤسسة» تماماً كالعشوائيات غير الرسمية حول الطرق السريعة في القاهرة. تمتد أصوات هذا النوع على مشارف النظام وهيمنته؛ أصوات لا يفهمها «النظام»، ولا يبذل جهداً في سبيل فهمها.

يعمل منسقو أغانٍ وعازفو موسيقى المهرجانات ضمن إطار اقتصادي مختلف. سواء تعلق الأمر بحفلة في الشارع، الترويج لافتتاح متجر جديد أو سوق مفتوحة، أو حفل زفاف؛ يستمتع الفنانون في هذا الإطار بالحرية بعيداً عن الكيانات/ الأنظمة الاستبدادية من خلال وجودهم وحسب ضمن اقتصاد بديل لا تحكمه أو تشرف عليه الدولة ومؤسساتها. كذلك، لا تحكمه أو تحتكره ماكينات إنتاج البوب أو السينما. يسمح هذا الموقف السياسي المُمَكَّن لهذا النوع بالوفاء بما يعد به؛ كل ما تتوانى المؤسسة عن تقديمه. لا داعي إلى أن يطبق الفنانون قانون البرجوازية الصغيرة في ما يتعلق باللياقة الاجتماعية، ولا داعي لرقابة ذاتية ولا داعي لـ«رسالة» فنية قديمة. كذلك، لا داعي إلى التعامل مع الأجندات المحلية والإقليمية والدولية التي تعتمدها شبكات تمويل الممارسات الفنية المعاصرة، وتنفيذ (بمعنى إنجاز، وبمعنى المشاركة في صياغة قانون تأسيسي) رسالة هيئات التمويل هذه. كان الحيّ الذي يعيش فيه الفنانون السوق التي سهّلت بروز هذا النوع، مع مجموعة من الحاجات إلى الترفيه والمشاركة، والتنفيس العاطفي في بعض الحالات. غير أن السؤال الذي يخيّم على هذا النون الفني المرن على ما يبدو هو ما سيقرره فنانوه في ما يتعلق بالمساعي المؤسساتية المستمرة في سبيل المتاجرة به وتطويعه. يبقى التساؤل عمّا إذا كانت موسيقى المهرجانات «ستُحدَّث بما يتماشى مع تطلعات الطبقة الوسطى» أو لا سؤالاً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بموقف المؤسسات من الشوارع والأحياء التي تصدح بموسيقى المهرجانات.

صوت للمقاومة والحرية

علاقة منتج فني معين بمفهوم التمثيل عبارة عن مناوشة حرجة تحتل لحظة التفكير الحالية في عالم الفن المعاصر. فيصبح التمثيل غالباً أمراً لا بد من تفاديه لكي يعتبر منتجٌ فني معين «معاصراً». ويتحول التمثيل إلى موضوع على الفنانين التعاطي معه بطريقة حاسمة، في سبيل التعامل مع إرث طويل من البعد، الخداع، والهيمنة غير المعلنة للمفاهيم التي تتمثل في تقاليد الأداء الغربية قبل بدء الحرب على التمثيل. إنه أيضاً مفهوم يعتبر فنانو وناقدو عصرنا أنه يطرح إشكالية.

عندما اشتعل فتيل الانتفاضات السياسية المستمرة في المنطقة الناطقة باللغة العربية، مع الثورات في تونس في كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٠ والصدمة الناتجة من ذلك في خريطة المنطقة العربية، ومع أخذ مسافة مؤقتة من الأحداث الآن، يرى المرء الناس يتعاملون مع هيئات تمثيلية مثيرة للجدل وخطابات قصيرة النظر. يتعامل الناس مع روايات تاريخية ناقصة تغفل بشكل انتقائي بعض التفاصيل. خلال لحظة عنيفة كهذه من الجيَشان السياسي، يتعامل الفنانون أيضاً مع التمثيل من خلال التشكيك في الشكل والسياق تماماً كما يشككون في المضمون. بيد أنّ الممارسات الفنية في المنطقة كانت حتى الآن محكومة من قبل الدولة، وذلك من خلال عملية إضفاء الطابع المؤسساتي التي تضطلع بها الاشتراكية القومية العربية، أو أن السوق وتوجهاته يحتكرانها، أو حتى المبادرات والمنظمات الفنية «المستقلة» ذات الطابع المؤسساتي التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من شبكات التعاملات الدولية ذات التمثيل الجغرافي السياسي. سيتطلب الأمر وقتاً طويلاً قبل أن يتمكن تدفق المعلومات من اختراق الممارسات الفنية في العالم العربي الموجودة ضمن النطاق المؤسساتي. وسيستغرق الشكل وقتاً طويلاً قبل أن يتمكن من تلقف المعلومات التي من شأنها أن تبدّله، ومن تغيير موقعه بالنسبة إلى التمثيل.

الشكل هو الذي يقاوم التغيير لدى تصادم التدفق، أو على الأقل يقاوم التغيير الذي قد يُنتِج في النهاية تحولاً إلى أشكال وطبائع ومواد وتجليات أخرى للوظيفة السابقة والجودة التشغيلية لذلك الشكل. كانت موسيقى المهرجانات منذ البداية غير واضحة المعالم ويسهل النفاذ إليها في الوقت عينه. تستند التركيبة الموسيقية إلى التكرار، وقد تشكلت من خلال مراجعة الأصوات وأخذ عينات عنها. كلمات الأغاني فريدة، وتندرج فيها نكات سياسية، جمل كلاسيكية من أغانٍ وأفلام. التركيبة التي تنتج من ذلك معقدة ومتكررة، غير أنها مجزّأة إلى طبقات لا تتخالط ضمن نظام «السلالم الموسيقية»، سواء في لوائح الموسيقى الغربية الكلاسيكية أو الموسيقى الشرقية. الموسيقى والأغاني تشكك بالمؤسسة، وتشكك باللوائح الجمالية في دولة لها تاريخ موسيقي ضخم. لا تجسد هذه الأغاني الموسيقى الشعبية التي يؤديها أمثال عدوية، حتى وإن تمكن المرء من تتبع التأثيرات الصوتية والرواية التاريخية المحتملة التي لا تزال تنكشف حتى اللحظة الحالية بالذات.

إنه شكل موسيقي تحرر من عقاله، غير أنه متحد مع ما شكّله في الأصل – هذا إن استطاع المرء صياغة نظريات حول أصله، أي المقاومة والحرية. إلى من يتوجه؟ أي شريحة من الناس يمثل؟ ماذا يشكّل؟ أسئلة رهن الجمهور ليجيب عنها، وللمؤسسات لمراجعة مواقفها في زمن تغيير ورفض شعبي عام للتمثيل السيئ.

التمثيل ضمن موسيقى المهرجانات لا يحدث من خلال إعادة تشريع مجموعة معينة من القوانين والاستراتيجيات، أو من خلال أداء يشبع الرغبات المؤسساتية في ما يتعلق بعامة الشعب. تتعامل الموسيقى مع التمثيل من خلال التحديد، عدم الاهتمام بإمكانية الترجمة، المرونة السياسية، وتجسيد التحولات والتغيرات في الشكل والمضمون والسياق.

العدد السادس - صيف ٢٠١٣
«انشقاق في إمبراطورية الصوت»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.