أرتدي ملابسي وأنا أنظر إلى العلم القماشي على الحائط وقد بدأت تكسوه طبقة خفيفة من الغبار، على المكتب كمامة الغاز السوداء بالفوّهة الاسطوانية تشبه وجه حيوان مفترس، أفكر أنه بعد عام من الثورة أصبح الذهاب إلى التحرير مخيفا أكثر بكثير.
منعني الكسل من أن ألفت انتباه سائق التاكسي كي يتخذ الناحية اليسرى في شارع قصر العيني، أغلقنا الزجاج في البرد بينما كانت مصابيح الطريق الصفراء تكشف مساحات صغيرة من الظلام الكثيف، قبل مجلس الشعب أوقفَنا الشباب، بدأوا يشيرون من بعيد لنرجع لكن السائق واصل تقدمه وقال لهم إنه سيتجه إلى اليسار قبل الميدان (قلت له إني ذاهب إلى طلعت حرب). كان الإغلاق يبدأ قبل انتهاء الجزيرة الضيقة بين جانبي الطريق ما يعني استحالة العبور سوى بقفز التاكسي فوقها. عدنا أدراجنا للخلف وقمنا بدورة واسعة عن طريق عابدين. تذكرت فجأة بيروت والحواجز الأمنية المتعددة والمتقاطعة. لازلت أجد الحواجز الحجرية الجديدة في قلب القاهرة أغرب بكثير من ذهاب مبارك. قبل أيام تسللتُ على أقدامي من خلف مبنى الداخلية عبر شارعي الفلكي ومنصور وتصورت أنني سأجد تحفزا وتفتيشا. لا شيء سوى عساكر وعساكر ومدرعات ثم عساكر مرة أخرى. تذكرت قصة قديمة كتبتها عن مدينة يرتدي أهلها جميعا في الليل الملابس العسكرية، لم أنشر القصة لأنها كانت مباشرة أكثر من اللازم.
بعد أيام أخرى ألصق أحدهم فوق الجدار الذي سدّ مدخل قصر العيني لافتة بيضاء كبيرة عليها كلمات أمل دنقل «آه ما أقسى الجدار». فكرت أن المجاز لم يلتصق بالواقع أبدا إلى هذا الحد من قبل. كأن الكلمات كتبت للجدار أو كأن الجدار ارتفع كي تُلصق الكلمات عليه. حتى الحجارة المكعبة الضخمة الرمادية كأنها جاءت من الأساطير رأسا، أحجار مكتفية بذاتها على طريقة الأهرامات يكفي أن توضع فوق بعضها كي تلتصق وتتثبت بوزنها الخاص وبثقل حضورها. تترك بينها فراغات تسمح باختلاس النظر، ورأيت على الانترنت صورة لطفلة صغيرة على ظهرها حقيبة المدرسة تنحني وتنظر عبر الفتحة الصغيرة بين أحجار شارع محمد محمود، كتبوا تحت الصورة «الماضي والمستقبل» فكتب أحد المعلقين «يعني مافيش حاضر؟». وما لفت انتباهي في الصورة أن البنت الصغيرة كانت محجبة. لكن أحد الإسلاميين يكتب مقالا يستشهد فيه ببدايات المناوشات بين المسلمين وجيوش الروم الجرارة، ويقول إن المسلمين عندما تحرشوا بالجيوش الإمبراطورية كانوا يطلبون غير الممكن، كان الكاتب يتحدث عن إشكاليات تهدد المشروع الإسلامي، لكني نسيت بقية المقال وعلق بذهني «غير الممكن» أو «الغير ممكن»، غير الممكن هو ما دفعنا لننزل، ضد حسابات الورقة والقلم، لكن شيئا سحريا لا نعرفه أو ربما تعويذة ما لا تتخلق إلا عندما ننزل جميعا ونصفع الأبواب وراءنا: إنزلووااااااا ! هو النداء الأشهر عبر التويتر كلما واجهت الثورة اعتداءً أو تحرشا أو حتى شائعة.
الفايس بوك يصنّع منجنيق
لكن يوم ٢٥ يناير لم أنزل إلا لأن الوكالات الإخبارية أغضبتني. قضينا الأيام السابقة بين التشكك والغضب والأمل والسخرية، وفي ظهيرة ٢٥ يناير كتبت وكالة رويترز أن «عشرات تجمعوا عند دار القضاء العالي بوسط القاهرة». عشرات؟ صفقتُ الباب ورائي ونزلت. إلى أن جاء اليوم الذي نزلت فيه من عند محمد هاشم في قصر النيل قرب الفجر ووجدت الشباب يعكفون على صناعة شيء يشبه وحشا أسطوريا فاستيقظت صورة فلكلورية داخلي لكني كذبتها. ما هذا يا شباب؟ حقا؟ يبدو أنه «منجنيق» حقيقي!
لا أصدق أن شباب فايس بوك صنعوا المنجنيق من أجل الحرب، ربما لا نعرف حتى تأثيره القتالي الحقيقي في العصور الوسطى، ربما كان أداة تخويف كديناصور بطيء يتخبط أو غوريلا تخبط صدرها وتصرخ، «منجنيق» ننطقها بتعطيش الجيم لتبدو تاريخية أكثر ونضحك. لم يكن سوى مغامرة صنعتها البهجة التي رافقت الموت في الثمانية عشر يوما التي هزت العالم، فشل المنجنيق على كل حال ولم تبق سوى ذكراه وصوره في الشرائط الوثائقية، الوجوه الشابة المبتسمة التي أحاطت بعملية تصنيعه أين هي الآن؟ ألا زالت مبتسمة، ألا زالت حية؟ قبل تنحي مبارك بساعات وبعد خطابه الأخبر المحبط كنا نقول أنه ربما لم تقدّم مصر بعد ما يكفي من دماء، وجاءت المفاجأة السعيدة في اليوم التالي وتلقيناها عند القصر/ بعد العصر. قابلت هناك أصدقاء وزملاء منهم من نسيت اسمه لكننا احتضنا بعضنا دون تمييز وبدا أن المفاجأة السعيدة حصلت أخيرا، لكننا في أقدم بيروقراطية في التاريخ حيث لا بد أن تسدد الفواتير كاملة. عدنا لندفع الدم المستحق ومنذ يوم ماسبيرو بدأ الطريق الذي بلا رجعة.
وتبدو الثورة الآن بين الفاشيتين مثل سيارة صغيرة غضة تحاول المرور بين شاحنتين، الطريق مظلم والكلاكسات هائلة ومخيفة والسيارة تصر على المرور، تتقدم وتتراجع وتتقدم، ونحن بأيدينا فتحنا القفص وخرجت الوحوش لكننا أضعنا المفتاح ولو وجدناه لأضعناه مجددا عمدا. في «ألف ليلة وليلة» يسكن الساحر قصرا لا يراه أحد، يعود الساحر كل يوم قبل الليل يقف في الصحراء ويتلو التعويذات فيظهر القصر ليدخله ويخفيه مرة أخرى. الثورة تختفي. لا يظهِرها سوى الهتاف في الشوارع، والجنرال يخشى الفكرة لكنه يخشى الفعل أكثر، ثم يرعبه أن يكون الفعل جميلا. عند مبنى التلفزيون قبل تنحي مبارك بساعات كان حاجز الأسلاك بين الناس والجنود لا تتخلله سوى الحوارات المنفعلة، وقف أحدهم محمولا وبيده الدف يتغنى بهتافات جميلة مذهلة في طزاجتها وموسيقاها، نسيته ثم تذكرته عند مجلس الوزراء قبل الاجتياح والقتل عندما كان شاب يهتف هتافا غريبا «طنطاوي؟ طنطاوي على نفسك». كيف تحول الجنرال من اسم ممنوع من الصرف إلى فعل متعد؟ لا يشرح ذلك سوى الصوت الغاضب للشاب الذي كان يهتف وهو يحدق فينا بعينين لا تطرفان وعَرَق يمكن أن تلمح لمعته رغم الظلام. وكنا بالأسفل عندما لمحنا حركة فوق سطوح مجلس الوزراء فهتف الناس مرحبين بالقناصة، وعلى هذا الرصيف نفسه قبل عشرة شهور نمنا تحت أسوار البرلمان وكان الضوء قويا من الأعمدة وقلت مازحا لرفيقتي مدّي يدك اطفئي الضوء كي أنام. واستيقظنا عند الفجر عندما بدأت الثوار يدبدبون على الأرض بأٌقدامهم مع الهتاف «قوة، عزيمة، إيمان.. ثورة مصر في كل مكان»، وكنت أبكي قبلها كلما سمعت «ثورة في كل شوارع مصر» يرددها فتية لم يكونوا معنا في التظاهرات اللانهائية على سلالم النقابات، وأحدهم في الميدان كان صغيرا جدا ربما في السادسة عشرة عندما هتف في هاتفه ينادي شخصا ما ظهيرة اليوم الأول للثورة ويقول له أن «إنزل، الثورة بتحصل»، فنظرت لخالد عبد الحميد وضحكنا مشفقين.
لكن براءة اليوم الأول سرعان ما خدشت بجراح ودم، وتحت ركبتي جرح ليس من طلقة مطاطية أو خرطوش ولكنه يشبه كثيرا إصابة مطاط وخرطوش، وكنا نتراجع مهرولين أمام قسم مصر القديمة يوم جمعة الغضب، وضعنا في الدخان من بعضنا البعض أنا وأخي أحمد وإيهاب عبد الحميد واصطدمت بعمود حديدي صغير يخرج من الأرض فسقطت مصابا، ورأيت في ما يرى الدائخ الأطفال يخرجون من حواري مصر القديمة غضبا من سقوط قنابل الدخان في البلكونات، ويهجمون بالحجارة على قسم الشرطة الذي يحتل نصف مدخل الشارع الضيق. أمطار من الحجارة وأذرع الأطفال تدور كمراوح وقاذفات حتى أسكتت الإطلاق من داخل القسم. بعد ثوان جاء أحدهم بأتوبيس من مكان ما وتراجع به للخلف حتى سد مدخل القسم، وسمعنا صرخة «طلّع المحابيس يا لا»، وبعد دقائق كانت النار وكان الدخان يعلو سماء الكورنيش ومن بعيد بدا عمود دخاني آخر قال الناس أنه قسم شرطة دار السلام.
أتذكر ذلك كلما نزلت إلى الميدان فأبحث بعيني عن هؤلاء الذين خاضوا المعارك الحقيقية وقهروا الجهاز الأمني، بيننا وبين السلطة وبين الإسلاميين معارك وراءها معارك أخرى على الأرض عمادها «مين بيدبّ في مين؟ وضربة الوش يا كابتن مافيهاش معلهش، ومش ناسيين التحرير يا ولاد الـ..»، أما نحن فقد بدأنا آملين أن نوسع فقاعاتنا الفاضلة لتتسع للجميع، والآن نأمل أن نحافظ على وجودها فحسب، أن نحميها فلا تنفجر. وهي لم تنفجر عندما لامستْ الآخرين في الميدان الفاضل المحمي برغبة رحيل الفرعون، بعد ذلك تحول كل ما كان جميلا إلى اتهام، ارتدى الواقع قوانينه مجددا واستراح بثقله على جسد الثورة الغضة، وفي كل بيت منصة أكاذيب رسمية تسكن الشاشة الفضية، وبينما كانت كاميرات العالم مسلطة على الميدان كان بائع السجائر على بعد مئة متر منه يستقبل الأخبار من تلفزيون ماسبيرو صغير أبيض وأسود ويقول لآخر مشيرا نحو الميدان «ده مليان سلاح جوة». ولم أندهش من أولئك الذين ألقوا بأنفسهم وبأجسادهم ومصائرهم في أتون الرصاص قدر ما أدهشني الذين قررا كل منهم أن يتحول إلى ضحكة، يرتدي قناعا ساخرا أو يرفع «إرحل إيدي وجعتني» ويسير طوال اليوم في الميدان كأنما يقول «أنا نكتة، وقد خُلقت من أجلك، فابتسم»، البعض يحمل فكرة واحدة أو حزورة سياسية وجاء من أقصى المدينة كي يحكيها فقط، كي يثبت وجهة نظر ما متحملا في سبيل ذلك ما لا يعلم، وهذا أب آخر أوقف أطفاله يحملون لافتة تجزأت على لوحات متجاورة لتصرخ بجملة ما، وهذا ملتح عابس يدور في الميدان مع زوجته في سوادها ويتكلم عن نفسه وعنها، وهنا شاب يتسلق كل شيء الأعمدة والبنايات والألواح الخشبية ويبدو أحيانا يتسلق نفسه، والناس يمشون ويتدافعون برفق دون معرفة لكن الألفة تظلل الميدان.
مع الغاز في سيارة الرحيلات
وفي عصر اليوم الأول كنا عشرين شابا وبنتا لا نعرف بعضنا بعضا احتجزنا بين شارعي قصر العيني ومنصور، وعندما حاصرَنا البوليس من الناحيتين بدا كأن كل شيء ينتهي.. وقال شاب «يعني كده خلاص؟ دنا جاي من حلوان!»، أجابه الآخر «أنا جيت من طنطا» فابتسمنا، وعدنا للمناوشة وكان شعور الجميع أننا نريد إطالة هذا اليوم لأقصى مدى ممكن. وفي اليوم التالي قلنا لنجعلها يومين، ثم قلنا لا نريد أن نكون مثل ١٨ و١٩ يناير فلنجعلها ثلاثة لا بل أربعة، كيف أحست مصر كلها أن اليوم الكبير سيكون الجمعة ٢٨؟ وكيف نزل الناس يومها كي «يشيلوا مبارك» هكذا فجأة، وكنا ما زلنا نفكر إلى أي مظاهرة نذهب حتى سمعنا الهتافات تحت البيت فنزلنا، وكنت أمشي بصعوبة من آثار «العلقة» التي نلتها قبل يومين أثناء احتجازي، وكنت قد تحمست فأصبحتُ في أول المظاهرة وهناك هاجمونا، وفي الاحتجاز قابلت هالة جلال وسامي حسام ولينا الورداني، ولم أعرف أنهم احتجزوا بسببي إلا بعد شهور طويلة، كانوا قد أفلتوا فرأوني أُضرب فعادوا فاعتقلوا بدورهم، يومها في ظلام سيارة الترحيلات، كنت أطمئن نفسي إلى أنني ما زلت أملك العين اليسرى. اليمنى لم تكن ترى سوى بقعة سوداء دائرية، وكل الاحتمالات ممكنة، من الكدمة البسيطة إلى انفصال الشبكية. لم يكن واردا البحث عن مساعدة. بجواري كان يرقد منهارا أربعينيّ مصاب بالسكري. وثمة حالتان أو ثلاث من الإغماءات. العربة الحديدية الضيقة، شبه معدومة الشبابيك، كانت تضم أكثر من ثلاثين محتجزا. لكنّ الرعب بدأ عند إطلاق قنابل الغاز على مجموعة محتجّين قريبة من ميدان التحرير. قنبلة الغاز تصيب بالغثيان، وتلهب العين في المساحات المفتوحة، لكنها قد تقتل في المساحات المغلقة. هذا ما كان قد بدأ يحدث فعلا في العربة المزدحمة التي تسلّل الغاز إليها من المساحات الضيقة بين القضبان الحديدية. ازدادت الاغماءات وبدأنا بالطرق من الداخل على جدران السيارة من دون استجابة. خطرت لي لحظتها عشرات الحوادث الشبيهة لمحتجزين اختنقوا في سيارة الترحيلات حتى من دون قنابل غاز، ولم أعد أفكر في عيني!
وكنا قد تحرّكنا في التظاهرة من شارع شمبليون في وسط البلد. الشارع التجاري العريق نال نصيبه من قنابل الغاز، وامتلأ بأسوأ اختراع في عهد مبارك: البلطجية والمجرمون الذين يجلبونهم بالسيارات، في أيديهم الجنازير والسلاسل الحديدية والأسلحة البيضاء، يندسّون وسط المتظاهرين ويهتفون معهم، ثم يبدأون بالهجوم عليهم من قلب التظاهرة. مواجهات «شمبليون» اشتعلت ثم تحركنا إلى شارع رمسيس وازداد العدد. وازداد مجددا عند حافات منطقة بولاق أبو العلا. وعندما وصلنا إلى ميدان عبد المنعم رياض، بدت التظاهرة كبيرة ومهيبة. وعند مقر الحزب الوطني، بدأ الهجوم الثاني.
تراصت تشكيلات قوات الأمن المركزي أمام بوابتي مقر الحزب الذي تعرّض للهجوم في الليلة السابقة، المشهد المألوف لم يعد يثير الرعب، الخُوَذ والملابس السوداء والعصي في صفوف منتظمة. اقتربتْ المدرعات وبدأت بإطلاق قنابل الغاز. ومثل الليلة السابقة، انطلق الرصاص الحي في الهواء من وراء أسوار مقر الحزب. وبينما ترقّب المتظاهرون هجوم الجنود، انطلق الهجوم فجأة من أصحاب الزي المدني. هؤلاء ليسوا من البلطجية، بل من مباحث أمن الدولة المدربين على الاعتقال. القواعد القديمة تقول للمتظاهر ألّا يقاوم إذا لم يستطع الهرب، وذلك تجنّبا للضرب المبرح. طاردني اثنان من المباحث وهربت منهما، وانخلع المعطف في يديهما. لكنّ ثالثا ظهر في مواجهتي مسدّدا لكمة مظلمة إلى عيني اليمنى. انكسرت النظارة في وجهي ووجدت نفسي على الأرض. تكوّمت متلقيا الركلات واللكمات. الأدرينالين حجب شعور الألم، ووجدت نفسي محمولا يعبرون بي إلى الناحية الأخرى من الطريق. الضرب مستمر أثناء سحلي إلى هناك، والأسئلة لا تتوقف: ماذا تعمل؟ أين تسكن؟ بين كل سؤال وآخر، لكمة أو ركلة أو سبّة.
بين سيارات البوليس المتراصة أجلسوا المحتجزين على الأرض منفردين، انتزعوا المحفظة واستولوا على بطاقة الهوية والهاتف المحمول. جاءت سيارة ميكروباص، نقلوني إليها بصحبة شرطي جلس أمامي، بينما تمدّدت منخفضا في آخر العربة. تحركت السيارة مخترقة حواجز حديدية خلف سور المتحف المصري. نظر إليّ الشرطي بالملابس المدنية وفاجأني: ماذا بك؟. قلت: «عيني اليمنى». أزاح يدي ونظر في وجهي، ثم مارس فجأة دور الطبيب في السيارة الخالية إلا منّي ومنه والسائق. وضع كفه على عيني اليمنى أولا، وسألني عن الرؤية، ثم رفع يده ووضعها على العين اليسرى، وسألني إن كنت أراه. «نعم أراك» أجبت. رفع يده وقال: «ما فيش حاجة!».
نزلنا من الميكروباص إلى ميكروباص آخر. وجدت هناك لينا وهالة وسامي. جلست في المقعد الأخير. انهمكت هالة ولينا في تأنيب الضابط ودحض الحجج التي ردّ بها حتى انفجر: «أنا مرتّبي ٧٠٠ جنيه وعندي ثلاثة أطفال». أكد أنه ليس ضدنا، لكنّه يقوم بعمله.
تحرك الميكروباص مجددا بعدما انضم إلينا شابان صغيرا السن والحجم، عمرهما لا يتجاوز الثامنة عشرة ربّما. كانا خائفين ويبدو أنّهما اعتُقلا عشوائيا. حاولنا طمأنتهما حتى هدأا قليلا. وعاد خوفهما عندما توقفنا أمام سيارة الاحتجاز الكبيرة، وأمرونا بالصعود. بقيت لينا وهالة في الأسفل، بينما صعدتُ وسامي والشابين إلى السيارة. للوهلة الأولى، بدت في الظلام فارغة، لكن اتضح أنّها عتمة الأجساد المتلاصقة. لا مكان للجلوس، بالكاد استطعت الوقوف عند أحد الشبابيك القليلة الصغيرة التي تشابكت قضبانها لتسمح بأقل تنفس ممكن. عندما تسرّب الغاز إلينا في الداخل، بدا أنّنا نموت. لم يكن معي منديل، فأعطاني أحد المحتجزين طرف شاله، ووضع كلّ منّا طرفا من الشال على أنفه. انتشرت تعليمات التنفس: «ليس من الأنف، لا تدعك عينيك». بعد دقائق، تحركت السيارة، ودارت دورة وعادت إلى طرف الميدان. هدأ الغاز، وبدأوا بإنزالنا واحدا واحدا. مررنا على ضابطين على التوالي، كان أحدهما مدير أمن القاهرة بنفسه. سألانا أسئلة قليلة، أعادا إلينا الهويات والهواتف. تحركت في طرف الميدان وأنا لا أرى شيئا من دون النظارة. وجدت يدا تمسك بذراعي. كان أحد الشابين الصغيرين اللذين كانا معنا في الميكروباص. سألني: «مش محتاج حاجة؟ أوصلّك حتة؟». شكرته. وإذا به يخرج ما في جيبه من جنيهات قليلة ويقول: «إحنا ممكن نقسمهم». ابتسمت، وعرفت لحظتها أن قنابل الغاز ليست المسيّل الوحيد للدموع. لكن ذلك كله كان جميلا رغم كل شيء، كان ذلك قبل أيام الموت المرعب بالدهس والقنص والسحل، وبين هذا وذاك انتشرت في الحواري وعلى نوافذ البيوت صور الشهداء وهم لأول مرة شهداء الديمقراطية فلا احتلال هنا أوحرب، وكما استغرق الناس وقتا ليفهموا أنها ثورة استغرقوا وقتا أطول ليدركوا أن هؤلاء «شهداء»، وكانت ضجة قد ثارت قبل سنوات من أجل انتزاع اللقب المقدس لغرقى مراكب الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، ولم يعترض الناس كثيرا على أن موت المظلوم شهادة، لكن موت الثائر ما زال هنا تحت التقييم ومازال وجهة نظر، ويحكي لي خالد عن والد أحد الشهداء كان يركب سيارة أحد المحامين ويرفع على صدره صورة ابنه المكتوب فوقها الشهيد فلان، أوقف السيارة حاجز بوليس ليلي ودار الضابط حتى وقف أمام نافذة الأب وانحنى وسأله «وده بقى كان بيبلطج عند أنهي قسم؟»
كيف يتجاوز الآباء لياليهم؟ هذا سر الانسان، بالنسبة لي فقد قررت أن أضمّ شهداء ما بعد الثورة إلى أسلافهم، أضمّ شهداء ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء إلى شهداء ٢٨ يناير فكأنهم ماتوا جميعا في اليوم نفسه وبذا أستطيع أن أنام بالكاد لا أن أفرح، لا فرح سوى لجيل سيأتي لم يعرف الموتى ولم يصاحبهم ولم يذق معهم «عيش وملح»، لا فرح سوى عندما تنتهي هذه الدوامة الكبرى فيستيقظ الناس يوما كما استيقظنا عصر يوم ١٢ فبراير ففتحنا النافذة وتطلعنا إلى الشارع والناس وتنفسنا الهواء بلا ديكتاتور
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.