.رئيس المحكمة: علامَ تشهد؟
.مختار عبد العظيم، فلّاح: أنا كنت في القوات المسلحة في ١٩٦٥، قعدت ٨ شهور تدريب وطلعنا اليمن، وفوجئنا بأنهم كرمونا بقطعة أرض ٢ فدان، ووالدتي استلمت الأرض شهر ١١ سنة ١٩٦٦... أنا بشتكي محمود أمين والي... دخل في الأرض وضربنا وحرمنا وعيالنا وحجب البهائم عن الأكل، وبعد ذلك جت الحكومة أخذتنا وسجنونا أسبوع وضربونا وشتمونا ووصوا ناس علينا بهدلونا... ولو حد من عيالي رح يشتغل يمنعوه أو يوصوا بمنعه.
النص أعلاه مقتطفٌ من تقرير التحقيق الذي أجرته المحكمة المدنية في مصر، في يونيو/حزيران ١٩٩٩. رفع الدعوى مستأجرون جرى إخلاؤهم من الأرض، ضد ورثة محمد أمين والي، الجدّ الأكبر لوزير الزراعة واستصلاح الأراضي السابق يوسف والي، وهو أيضاً رئيس سابق لـ«الحزب الوطني الديمقراطي». أمر الأخير القوات الأمنية بطرد ٢٤٥ فلاحاً من مساحة أرض تقدّر بنحو ٤٠٠ فدّان، منحها للمدّعين أو أهاليهم الرئيس السابق جمال عبد الناصر في عام ١٩٦٧، ضمن تطبيق بنود قانون الإصلاح الزراعي الأول الصادر بعد أسابيع قليلة من ثورة عام ١٩٥٢. وضمّت لائحة المستفيدين آنذاك الفلاحين الذين شاركوا في الحرب الأهلية في اليمن الشمالي كما في حرب عام ١٩٦٧ المصرية الإسرائيلية، بالإضافة إلى الفلاحين الذين يفتقرون إلى مصدر دخل آخر غير الزراعة. لثلاثين عاماً، من ١٩٦٧ وحتى ١٩٩٧، دفع الفلاحون الضرائب إلى الهيئة العامة للإصلاح الزراعي، وقد ظنّوا أن الضريبة ستخوّلهم امتلاك الأرض في نهاية المطاف. في عام ١٩٨٦، دفع الفلّاحون الرسوم الأوّلية لاستملاك الأرض. ومع أن المستأجرين لبّوا الشروط القانونية لشراء الأرض، إلا أن سلطات الإصلاح الزراعي رفضت تلبية مطالبهم الشرعية، وأُعلن بيع الأرض في مناقصة سريّة لعائلة والي في عام ١٩٩٧. بعد تحقيق قضائي استمر بضعة أعوام، لم تلق شكوى المستأجرين آذاناً صاغية. في عام ٢٠٠٣، توفي محاميهم مخلّفاً على مكتبه في وسط البلد القاهري، ملفات القضية.
في ١٢ فبراير/شباط ٢٠١١، أي بعد مرور يومٍ واحد على إطاحة حسني مبارك، أقدم المستأجرون الذين جرى إخلاؤهم من الأرض على خطوة جريئة، رافعين دعوى قضائية ضد يوسف والي وأفراد من عائلته. «مصلحة الخبراء» تدرس حالياً القضية. في المقابل، رفع أفراد عائلة والي أكثر من ٥٧ قضية جنائية ضد الفلاحين، متهمين إياهم بمهاجمة فيلّات آل والي، زاعمين أنهم سرقوا المحاصيل التي كانت مكدّسة على الأرض قبل حلول ثورة ٢٥ يناير/كانون الثاني.
تناقش هذه المقالة الخطاب الذي أحاط بتحرّك المستأجرين من أجل حقوقهم، وطبيعة هذا الخطاب، كما الأساليب التي اعتمدتها المجموعات المعنيّة في تجاوبها معه. مجموعات كثيرة احتفت بالتحرّك، وفسّرته كنتيجة لـ«كسر حاجز الخوف» الذي أرساه نظام مبارك ــ لازمةٌ سادت أدبيات ٢٥ يناير الثورية. إلا أن كثيرين أيضاً عارضوا، على أرضيات مختلفة، الدعاوى القانونية التي رفعها المستأجرون الذين جرى إخلاؤهم من الأرض. القراءات التي قدمها المحامون الخبراء في حقوق الإنسان والحقوق المدنية للحقوق العقارية، تعكس إيماناً عميقاً بحكم القانون. في المقابل، هناك انعدام ثقة متزايد وواسع الانتشار بين المستأجرين، يفيد بأن المظلّة القانونية لن تأتيهم بالعدالة: «القانون زي الغربال»، حسبما قال لي يوماً الحاج حسن بينما كنا نحتسي الشاي. فهو مليء بالثُّغَر، بحيث يسهل اختراقه، والتلاعب فيه، واعتراض تطبيقه. وأضاف: «القانون معمول عشان القوي. محتاجين إرادة سياسية، عايزين حدّ زي جمال عبد الناصر». إلى ذلك، يجادل مستأجرون كثر بأن النظام القضائي مشكوك بإذعانه لسطوة والي السياسية، التي يمارسها حتى من السجن. أما البديل الذي يحتاجونه لتحقيق العدالة فيكمن بالنسبة إليهم في تأمين الإرادة السياسية.
أقدّم في هذه المقالة عدداً من القراءات التحليلية الأولية لتحرّك الفلاحين في مصر ضمن السياق الثوري، وتجاوب العديد من الخبراء القانونيين معه. فأعالج النقاش حول صراعات الاستملاك التي انفجرت خلال العشرين سنة الماضية في ريف مصر، في محاولة معاينة الأساليب التي استخدمها المستأجرون لمواجهة السلطات القانونية والدينية التي تدير معايير التفاهم حول آليات التملّك، وهو تفاهمٌ تسيطر عليه الإيديولوجيات النيوليبرالية. بذلك، أتحدّى القناعة الشعبية التي تفيد بأن الريف المصري هو «الحصن، أو الخزّان الاستراتيجي للثورة المضادة». فمن خلال مطالبتهم بحقّهم في الأرض، ينخرط المستأجرون في الأحداث الثورية، حتى ولو من كواليسها.
تستند هذه المقالة إلى الملاحظات التفاعلية، والبحث الأرشيفي، والمقابلات التي أجريتها على مدى ١٢ شهراً في خمس قرى في محافظة الفيّوم (الأبعاديّة، الخلطة، أحمد أفندي، قوتة، وقارون)، بدءاً من أيلول / سبتمبر ٢٠١١ حتى نيسان / أبريل ٢٠١٢، وثم من تشرين الثاني / نوفمبر ٢٠١٢ وحتى نيسان / أبريل ٢٠١٣.
وجهات نظر الخبراء
يقدّم المحامون المختصّون بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان القضية كقصة باتت كلاسيكية، يطالب فيه الفلّاحون باستعادة منفذ إلى أرض حُرموها خلال فترة حكم سلطوية وفاسدة. البيانات الصادرة عن المجموعات الناشطة في مجال حقوق الإنسان دعماً للمستأجرين، تؤطّر المشكلة في خطابٍ يعتبر فئة «الفلاح البسيط» بحدّ ذاتها ضحيةً لسياسات تحرير الزراعة، ولفساد يوسف والي متجسّداً في استغلال السلطة السياسية لأغراض الربح الخاص. إلى ذلك، تعتبر أنه يجب تطهير الجهاز القضائي من الموظفين الفاسدين بحيث يتمكّن المستأجرون من المطالبة بحقوقهم كمستأجرين. يتكرّر ذلك في البيان التالي الصادر عن منظمة غير حكومية اسمها «نواة» في ١٧ آذار / مارس ٢٠١٣، إثر سجن خمسة مستأجرين بتهمة سرقة محاصيل أراضي والي: «ماذا يفعل الفلاحون البسطاء أمام سيل المحاضر الملفقة التي قامت بها عائلة والي (الوزير السابق للزراعة والمتهم في قضايا فساد وأحد أهم عناصر النظام البائد)، بدعم من أجهزة الدولة ضد فلاحين قرية قوته والخلطة وعزبة زكي والأبعاديّة؟ أين الرئيس والمرشد والوزير والمحافظ ليحمي حقوق صغار المزارعين في حيازة آمنة لأراضيهم الزراعية، أم أنهم يحمون المعاينات المزورة والكاذبة كي يدعموا نفوذ عصابات مبارك ونظامه الفاسد ضد فلاحين كل أملهم أن يزرعوا الأرض وينتجوا الخير للمصريين؟!».
أظهرت المقابلات مع المحامين أنهم بدورهم يؤيدون النظرية التي تفيد بأنه حتى الفلّاحون، وهم أكثر شرائح المجتمع تهميشاً، كسروا حاجز الخوف الذي ساد عصر مبارك، وهم اليوم يقدّمون رؤوس الفساد للعدالة. مع ذلك، هناك نقاط خلاف كثيرة ما بين المستأجرين ومحاميهم. فيجادل المحامون بأن المستأجرين يستندون في ادعاءاتهم إلى وثائق عتيقة لم تعد تعتبر قانونية. الأستاذ حسين سيّد محامٍ بالحق المدني في قضية الأبعاديّة، وكادر قويّ في جماعة «الإخوان المسلمين»، وهو اليوم يتبوأ مركزاً قيادياً في حزبها «الحرية والعدالة». طلب منه المستأجرون رفع دعوى قضائية ضد والي. وافق أولاً، لكنه، بعد مراجعة الوثائق، قرّر رفض توكّل القضية لاقتناعه بأن أغلبية المستأجرين لا تستحق الأرض، من وجهتي النظر القانونية والإسلامية. ويلفت إلى أن المستأجرين أساؤوا تفسير العقد الذي منحهم إياه عبد الناصر: «كانوا مستأجرين، لا ملّاكين. فلمّا تم تعديل قانون الإصلاح، باتت الأرض خاضعة لقوانين السوق». ويدعّم الأستاذ حسين رأيه القائل بأن المستأجرين لا يستحقون الأرض، مستنداً إلى أحكام الشريعة التي تفيد بأنّ قيمة الأرض تخضع للسوق. امتلك آل والي القدرة على دفع ثمنها، وبالتالي استحقوا ملكيتها. ينظر إلى المحامين المعنيين بالقضية كلصوص يطيلون أمد القضية ليتقاضوا المزيد من المال بدل أتعابهم، لكنهم يعرفون جيداً أن لا جدوى منها. في قراءته، يحصر الأستاذ حسين الشرعية بالنظم الرسمية التي تعترف بها الدولة، بما يعكس شكلاً خاصاً من (انعدام) العدالة روّج له مع تطبيق قوانين التراجع عن الإصلاح الزراعي، التي دعمها «الإخوان المسلمون» لأسبابٍ دينية.
لا يجد المحامون الناشطون في مجال حقوق الإنسان جدوى قانونية في المطالبة باستعادة الحقول. كثيرون منهم غضبوا من الفلّاحين، على اعتبار أن الأخيرين لا يأخذون بنصائحهم القانونية. بعضهم امتنع عن منح الفلّاحين الدعم القانوني، بينما رفض آخرون تقديم المساعدة منذ البدء. على فنجان شاي بعد ظهر ذاك اليوم، التقيت بأشرف، وهو مدير «نواة» - منظمة غير حكومية بارزة تنشط في مجال الحقوق الاجتماعية والسياسية، مع تركيز خاص على قضايا الفلّاحين. قال لي أشرف بشجاعة إنها معركة خاسرة، وليس السبب في ذلك افتقار الفلّاحين إلى الوثائق المناسبة فحسب، بل أيضاً لأنها قضية قديمة. طُبِّق قانون الاستئجار الصادر في عام ١٩٩٧ كاملاً، بحيث تستحيل اليوم إمكانية إزالة مفاعيله. ومع أنهم حصلوا على الأرض مقابل مشاركتهم في الحرب، ولكن عند أخذها منهم، عادت إلى عائلة والي، وأضحوا في الموقع ذاته الذي وجد مستأجرون آخرون أنفسهم فيه لما جرى إخلاؤهم بموجب قانون الاستئجار الصادر في عام ١٩٩٧. أشرف، والعديد من المحامين الذين حاورتهم، ينظرون إلى «الحق» بمعاني التعويض، قطعة أرضٍ في مكان آخر، أو مبلغٌ من المال.
من جهة أخرى، يبدو وكأن الفلّاحين يطالبون بأن تعترف الدولة بهم، أكثر مما يشقّون طريقهم في دعوى قضائية. مطلبٌ كهذا لا يقوم على حقوق الملكيّة المجرّدة، بل على تلك التي تعترف لهم بالتاريخ الفردي والجماعي كمواطنين مكتملي المواطنة: جنود الأمّة، حارثو الأرض، مواطنون جديرون بثقة الدولة.
جنود الأمّة
يزعم المدّعون أنّ دستور ١٩٧١ المصري يخوّلهم الحصول على معاملة مميزة بصفتهم جنوداً محاربين. ويستندون في ذلك إلى المادة ١٥ التي تقول: «للمحاربين القدماء والمصابين في الحرب ولزوجات الشهداء وأبنائهم الأولية في فرص العمل وفقاً للقانون».
لدعم مطالبهم، ركّز المستأجرون على شهادات الجندية الخاصة بهم، وهي تضمّ صوراً لهم بملابس الجيش تعود بالزمن خمسين عاماً إلى الوراء مرفقة بسنة التجنيد وموقعه ــ ١٩٦٤، اليمن. وبذلك، هم يشيرون بالتحديد إلى مشاركتهم في الحرب الأهلية اليمنية، التي حاربت مصر فيها إلى جانب الجمهوريين ضد الملكيين من عام ١٩٦٢ حتى عام ١٩٧٠، ويطلقون على أنفسهم تعبير «بتوع حرب اليمن»، كذلك تحضر إشارات عابرة إلى حروبٍ أخرى، وتحديداً حربي العامين ١٩٦٧ و١٩٧٣. يستخدمون تلك الصفّة ليميّزوا أنفسهم عن «المنتفعين» الذين حصلوا على قطع أرض بواسطة القانون (قانون الإصلاح). فقد عُدَّ حدث تسليم الأرض لعائلاتهم نقطة تحوّلٍ في نظرتهم إلى الدولة ــ من كيان يهدّدهم إلى كيان يكافئهم. ويتجلّى ذلك في استعادة الحاج حسن لقصة تسلّم زوجته قطعة الأرض: «في الفترة اللي أنا كنت فيها في اليمن، جه الإصلاح الزراعي طلب صحبتنا (زوجتنا) دي، قالت لهم إنتو عايزين مني إيه؟ كان زمان اللي بيتطلب بيروح عند بيت العمدة، صوّتت وقالت يبقى الراجل مات ما دام إنتو جايبين لي الغفر هنا، يبقى الراجل عليه العوض مات... قعدت تصوّت، راحوا جابولها المرحوم أبويَ، قالوا له: هي بتصوت ليه؟ ده إحنا ح ندّيها فدانين، تاكل وتشرب فيهم من الإصلاح الزراعي هي وعيالها عشان جوزها في اليمن... فمضت على الفدانين واستلمتهم، وأنا قعدت في الجيش، هي بتزرع فيهم وبتاكل وبتشرب فيهم».
ويضيف المدّعون أنه بموجب المادة ٤٠ من الدستور المصري، فإن «المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة».
أدرجت ثلاث حالات من التعويض على الشهداء والمقاتلين في الحرب. أولاً، الفلّاحون في مناطق أخرى مُنحوا أراضي في ظروف متطابقة، بعد دفعهم الضريبة المفروضة، وتمكّنوا من التمتّع بملكيّة الأرض. ثانياً، الجنود الذين وُظِّفوا في القطاع العام في مقابل مشاركتهم في الحروب ذاتها، وهم اليوم يتمتّعون بخطّة كل منهم التقاعدية. ثالثاً، «شهداء الثورة» (شهداء ثورة ٢٥ يناير و/أو عائلاتهم) الذين ماتوا أو تعرّضوا لإصابات خطرة في أحداث ثورية، وهم اليوم ماضون في آلية تلقّي التعويض.
حارثو الأرض
ينظر المستأجرون إلى قطع الأرض الخاصة بهم كالمنتج الماديّ لعملهم ــ «الأغراض الماديّة التي تربطهم بالدولة كمواطنين» (هيذيرنغتن ٢٢٥:٢٠٠٩). إذ بواسطة الإصلاح، اكتمل كيان المستأجرين. ومثلما أظهر عمل أميتاي غوش في محافظة البحيرة والإثنوغرافيا التي نفذتها ريم سعد عن الفيوم، رأى الفلّاح في الإصلاح نقطة تحوّل تصيب علاقته بالدولة، بما يشبه علاقة الجاهلية (جهل بالإرشاد الإلهي) والإسلام (غوش ٢٠٠٢). ولكن، لاكتساب هذا المقام، وجب عليهم الكدح، وفي ظروفٍ صعبة. ونظراً إلى غياب الرجال في الخدمة العسكرية، لجأ الفلّاحون إلى سرديّة جندرية تسلّط الضوء على دور النساء في الحفاظ على الأرض حيّةً حتى عودتهم إليها. قصة أم خالد المذكورة أدناه توضّح الفكرة:
«كنت بزرع وحديّا من ٦٧ لـ ٧٤ ما هو كان غايب، وأنا بقى ربنا يخلّي بقيت معايا أربع عيال: خالد وجمال ونصر وهدى. أروح أشتغل أجيب واحد يحرث بجوز بهايم ونجيبلوا تقاوى ذرة، تقاوى قطن وتقاوى قمح، واحد يبدرها لي ويلفها ويزرعها، أي حاجة، وأروح أسقى، أحطلها كيماوي وأسقيها، أتحزم وأسقيها. كان إبني على صدري كده مولود وأروح برده، وييجي وقت الحصاد نحصد ونروح القمح البيت، ما هو غايب مش هنا، ولادي يموتوا من الجوع. إخوته مساعدونيش، كانوا عايزين يخدوها، وكانوا بيسرقوني، لما يلاقوا الزرعة حلوة يروحوا يقلعوها ويخدوها، إخواتي أنا مش فلاحين، ده إخواتي نجارين مش فلاحين ملهمش دعوة... وأنا اللي أعمل كل حاجة، لحد ما ربنا كرمنا جه، جه لقى عندنا بهايم. رحت بعت الكردان وجبت به عجل بـ ٩ جنيه... وربنا كرمني جه لقاني شارية بيت... وبنيناه في العشر سنين بقى، بنيته بالطوب وعششت فيه أنا وعيالي والبهايم، وعندى زرعة وعندي محصول في البيت، وبقيت راجل أضرب الرجالة، عليّ النعمة بقيت أنزل على الراجل أقفله الميّه، وأضربه وأخنقه أقول له تاخدوا ميّتي كيف؟ ده قوت ولادي.. طب ما هي الزرعة تفوتها الميّه تموت، طب ما ولادي ح يموتوا وأبوهم غايب في الجيش، يا أنا يا أنت! والله العظيم حق».
تُوَظَّف القرابة الشخصية والتعابير الدينية لوصف فعل منح الحياة للأرض ــ استعارة غنيّة بالمعاني الشائعة الاستخدام للدلالة على قيمة الأرض. في زيارة حديثة العهد للقرية موضوع الدراسة، سألت الحاج سيّد: «لماذا، رغم كل هذه المشقات، تصرّ على امتلاك هذه الأرض؟». ابني المولود حديثاً كان معي. أشار الحاج عليّ نحوه بالأصبع وقال لي: «أديك إنتي ربنا أطعمك وبقيتي أم، دقتي الأمومة يعني والضنا غالي... لو جم أقولك ياخدوا صباع ابنك ده ويدّولك الفيوم دي كلها، تقولي إيه؟». أجبته بـ«لا». تلك الاستعارة القائمة على الأمومة والأبوّة ظهرت في دراساتٍ تعالج الصراعات على الأراضي. مثلاً، في نقاش حول السبب الذي يبقي الأرض ضمانة لاستمرار النضال الشعبي، كتب راي بوش أن «الناس ينظرون إلى الأرض مثلما ينظرون إلى أطفالهم: عزيزة وقيّمة» (فتحي ٢٠٠٥، ذكرت في بوش ٦٧:٢٠٠٩). أما الشيخ حامد، وهو أحد المستأجرين، فيكرّر استخدام حديثين نبويين يشدّدان على تملّك المرء لما عمل فيه: «ما إحنا عندنا الشرع بيقول: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»، و«من حفر بئراً، فله حريمها»، يعنى اللي حوليها».
عند مراجعة هذين الحديثين، وجدت أنهما يطبّقان على الأرض الشاغرة. فعدت إلى الشيخ حامد وسألته عن هذا التناقض، إذ إن الأرض موضع الخصام امتلكتها في وقتٍ سابق عائلة والي. وتبعاً للتاريخ المحلي، كانت عائلة والي من زرع الحياة في الأرض أولاً. بثقةٍ أجاب الشيخ حامد، معتبراً أن الفلّاحين كانوا حرّاث الأرض، حتى وهي مملوكة رسمياً من قبل والي، في ظل الإدارة العثمانية للعقارات.
مواطنون جديرون بثقة الدولة
ثالثة الحجج التي يسوقها المستأجرون تقوم على الترابط ما بين الملكيّة والمسؤولية. سرديّات المستأجرين تتشكّل من التفاعل ما بين صراعهم المحليّ و«القضايا القومية» الأوسع. وتنمو «القضايا القومية» حول إساءة والي استخدام السلطة السياسية ليتعهّد مشاريع الاستثمار الزراعي وعقد الصفقات السريّة مع المستوردين الأجانب. يصوغون حجّتهم في إطار الأدبيات القومية التي تنظر إلى الفلّاح كمنتج الغذاء الأساسي للأمة، في مقابل يوسف والي الذي استنزف موارد البلاد وسمّم الأمّة ليراكم الثروات.
مصطلحات اجتماعية عديدة استثمرت في معرض توصيف لامسؤولية والي ولاأخلاقيته. ويجادل المستأجرون معتبرين أن الجوع ناتجٌ من فساد والي. هنا، يحضر الجوع كدلالةٍ محوريّة على الكفر؛ إذ يستدعي استخداماً شعبياً للكلمة المتجذّرة في التعاليم القرآنية والسرديات الفلكلورية، التي تعالج حرمان الفقير الغذاءَ وسبلَ الحياة (أبو زهرة ١٩٨٧). وكان السياق كهذا عندما استخدم حسن المثل الشعبي «الجوع كافر» للقول بأن الجوع يقود إلى الكفر، وبأن أولئك الذين يسببون الجوع يُعتبرون من الكفّار.
تتخذ لامسؤولية والي ولاأخلاقيته مساحة أوسع وأكثر جديّة عندما تلقيان الضوء على أدوار نخبة رجال الأعمال، والإمبريالية الأميركية، وإسرائيل، في إعادة التشكيل الجذرية التي خضعت لها السياسات الزراعية في مصر، البلد الذي ذُكرت موارده في القرآن، فإذا به يستورد أكثر من ٥٠ في المئة من مواده الأولية، بما في ذلك القمح، ويصدّر العنب لإسرائيل، العدو الأكبر للمنطقة. يظهر ذلك جلياً في أقوال الحاج حسن هذه: «مفيش قمح خالص عند حاجة اسمها والي ولا أباظة، ولا الجماعة دول، بيعملوا عنب ويهرمنوه ويبيعوا الكيلو بعشرين جنيه، وبيطلع يتصدر لإسرائيل وبيشتري أيمنات البلد ويحطوا في الخزنة تبعه... مفيش حاجة بترجع للبلد خالص، هو فيه أحسن من أيام عبد الناصر اللي قال له: من أين لك هذا؟ ده إحنا عيّطنا على عبد الناصر دم، الله يرحمه والله، الله يرحمه».
العلاقات التجارية الحميمة بين والي ورجال/سيدات الأعمال الإسرائيليين فازت بتغطية مكثّفة في جريدة «الشعب». تفاصيل الدعوى صنعت عناوين عديدة في «الشعب». في عدد يوم الثلاثاء الصادر في ٥ كانون الثاني / يناير ١٩٩٩، خصّصت مانشيت الجريدة لكشف تفاصيل «شبكة والي ــ إسرائيل». وتشرح التغطية الصحافية، متسلّحةً بالوثائق، كيف تعاون والي و«شبكة التطبيع» التابعة له مع رجل الأعمال «الصهيوني» عسّاف ياغوري ليعرقل توصيل شحنة حمولتها ٣٦٠٦ أطنان من بذور البطاطا إلى الشعب العراقي، بالتزامن مع الحرب التي اعتبرت منذ ذلك الحين كحرب أميركا على العراق. جرى اعتراض الشحنة في ميناء الإسكندرية ضمن اتفاقية سريّة بين يوسف والي، ورجل/سيدة أعمال أردني/ة، وعسّاف ياغوري. وركّز التحقيق الصحافي على أن ياغوري هو ضابط سابق في الجيش الإسرائيلي، وقد قبض عليه كأسير حرب في مصر عام ١٩٧٣، ليعود شريكاً ليوسف والي ضد الأخوة العراقيين. لهذا التفصيل الأخير تحديداً أهمية قصوى في حبك المؤامرة. ففي تعامله مع صهيونيّ وقع يوماً تحت رحمة القوات العسكرية المصرية، ضحّى والي بموارد المنطقة وكرامتها السياسية لتحقيق الربح الخاص.
كثيرون من بين المستأجرين الذين قابلتهم استعادوا هذه القصة. فمن خلال التذكير بعلاقات والي بإسرائيل والولايات المتحدّة، ينقل المستأجرون المعركة إلى الجبهة الوطنية، مضخّمين مصلحة الناس في محاسبة والي (ورفاقه) لكونه عرّض الشعب للجوع والمواد السامّة والإهانة، بينما يحصّل منافع الاستغلال الذي يمارسه على نطاق واسع. فهدفت قصتهم إلى حشد التأييد والدعم الاجتماعيين بين المواطنين العاديين الذين عانوا من الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية والخبز على مرّ السنين، ورثوا يومياً ضياع الكرامة المصرية. كذلك فإنها تغذي شعوراً ثورياً عميقاً يهدف إلى تحقيق شكلٍ من إثبات البراءة من خلال تقديم أحد رجال نظام مبارك الأقوياء للمحاكمة. بالنسبة إلى المستأجرين، توازي محاكمة والي محاكمة مبارك أهميةً، إن لم تزد عنها. ولذلك، ابتاع الحاج حسن نظّارات جديدة وابتاع كرسياً من جاره النجّار، بهدف متابعة المحاكمات، وخاصةً تلك المخصصة ليوسف والي.
الخاتمة
من خلال قضية الصراع على ملكية أرض، ألقينا الضوء على الحدّة والتوتر بين وجهات نظر المستأجرين من جهة وبين تلك الخاصة بالخبراء القانونيين، ومن ضمنهم أقرب داعميهم - محامو حقوق الإنسان، من الجهة الأخرى. وعلى الرغم من أن المحامين، عموماً، يحتفون بإقدام المستأجرين على نقل قضيتهم إلى المحكمة، كدليل تسوقه القاعدة الشعبية على كسرها حاجز الخوف الذي ميّز نظام مبارك، إلا أنهم يلتزمون تقديم حلول اقتصادية للمشكلة، بينما يستندون إلى أسس قانونية. بذلك، هم لا يأخذون في الاعتبار الحساسيات السياسية التي يبني عليها المزارعون دعواهم القانونية. كذلك فإنهم يتغاضون عن دينامية العلاقات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بين المزارعين والأرض والدولة. في حصر النقاش بالساحة القانونية - الاقتصادية، يضع الخبراء القانونيون، بمن فيهم الناشطون، النضال من أجل الأرض في منزلة ثانوية ضمن السياق الثوري - منزلة خاصة بـ«المطالب الفئوية». بالاستناد إلى عمل روزا لوكسمبورغ، لفتت مهى عبد الرحمن (٦١٤:٢٠١٢) إلى انشقاقٍ وقع ما بين «الاقتصادي» و«السياسي» لعرقلة سياق مصر الثوري، يُقدّم فيه الأول كغريبٍ عن آلية الثورة، بما يمسّ سلباً بالنضال من أجل المطالب الاقتصادية كفعلٍ سياسي بحدّ ذاته.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.