في كتابي الجديد «فلسطين: وطن للبيع»١، أتطرق إلى نهج وعملية تسويقية شاملة، متشابكة ومتدحرجة، تعم مناطق ما يسمى «الحكم الذاتي» الفلسطيني، يترابط فيها السياسي والاقتصادي والوطني، من خلال النخب السياسية والرأسمالية «الأوسلوية»، والفلسطيني والعربي والصهيوني والغربي، محلياً وإقليمياً ودولياً. وبدأ يظهر هذا النهج، في جوانبه العملية وإسقاطاته الفعلية، على الأقل منذ الاجتياح الإسرائيلي العسكري للبنان في العام ١٩٨٢، حين تمخضت الهجمة الصهيونية الأميركية الإسرائيلية عن تقويض منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وتفريغها وتجويفها من مضمونها النضالي التحرري، وتحويلها إلى بيروقراطية إدارية.
وترجم هذا النهج فعلياً على الأرض، قبل نحو عشرين عاماً، عندما وقعّت منظمة التحرير الفلسطينية مع الكيان الصهيوني اتفاقات أوسلو، وما لحقها من اتفاقات فرعية. وبهذا أسهمت منظمة التحرير، فعلياً في بسط استعمار جديد على فلسطين المحتلة ١٩٦٧. وأصبح هذا الاستعمار الجديد ممكناً تحت مظلة النيوليبرالية المعولمة، التي فرضت بقوة على مجتمعات دول الجنوب من خلال مراكز الرأسمال الغربي والمؤسسات التمويلية العابرة للحدود القومية، وعلى وجه الخصوص، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان سوّقا النيوليبرالية بقوة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي في دول ومجتمعات أميركا الجنوبية وأفريقيا والشرق الأوسط. وكما يقول جورج قرم في كتابه الجديد٢ عن منظّري نيوليبرالية ميلتون فريدمان من جامعة شيكاغو «فمنذ السبعينيات يعيث جيش من «الخبراء» الدوليين فساداً في كل مكان تقريباً، ناشرين الفقر والبطالة بواسطة الوصفات التي حملوا حكومات عديدة على تبنيها». هذه عملية استعمار جديد اقتصادي - اجتماعي تتغلغل في المجتمعات من خلال خصخصة الخدمات الاجتماعية الأساسية كالصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، ورهن شعوب هذه المجتمعات من خلال تسهيل الحصول على القروض وزيادة وتنويع أنماط الاستهلاك الاستعراضي، وبالتالي زيادة مستويات المديونية والبطالة. يؤدي ذلك إلى زيادة إفقار الشخص العادي، وخضوع أغلبية المجموعات السكانية للنخب السياسية والاقتصادية المعولمة التي تتحكم بجل الموارد السياسية والاقتصادية، بعيداً عن أي تدخل للدولة في المجال الاقتصادي.
هذا هو «الاختبار» الذي نسير في كنفه في إطار «الحكم الذاتي»، كما سارت فيه شعوب أخرى في الجنوب تحت مسميات متنوعة، مسرورين ومتلهفين للوصول إلى «التنمية المتخيلة» في ظل الاحتكارات والاستغلال الاقتصادي، ساعين، وللمفارقة، إلى التأكد كل شهر من أشهر السنة «إذا الراتب نزل على البنك»!
ومن هنا ينبع قلقي العميق على مستقبل وطننا فلسطين كبؤرة متململة قد تضيق بنفسها وتنفجر كجزء من وطننا العربي العريض. وإذا كان لتراكم الخبرات على مدى السنين، وترجمة دروسها وتحويلها إلى مستوى مجد من الفعل الشعبي التحرري، أية فائدة، فجاء كتابي هذا بالأساس لينحل من هذه الخبرات العبر التي قد تساعدنا في توجيه وترشيد فعلنا النضالي للحفاظ على هذا الوطن وصيانته.
الاستعمار الجديد في كنف
«العملية السياسية الأوسلوية»: كيف يعمل؟
أناقش هنا بأن ادعاءات التنمية الرسمية الفلسطينية أصبحت ادعاءات مجتزأة ومشوهة ومستأطرة. فالواقع هو أن «عملية أوسلو» أعادت إنتاج فئات طبقية جديدة من النخب الإقتصادية - السياسية - الاجتماعية المفرغة من المضمون السياسي الوطني، والتي أصبح دورها الأساس يتمثل في ترسيخ الوهم الجماعي بأننا نسير على طريق تحرير الأرض ونحو هدف التحرر الاقتصادي. وما أحدثته هذه العملية من مفارقات هو نشوء تحالف ثلاثي غير رسمي مشكل من
(١) النخب السياسية الرأسمالية الفلسطينية المستحدثة
(٢) المنظمات الفلسطينية «التنموية» غير الحكومية
(٣) الدعم السياسي الخارجي (الغربي) الذي توفره وكالات المساعدات العابرة للحدود القومية (أو ما يسمى المانحين).
لا يمكنني ان أزعم أن هذا التحالف هو بالضرورة تحالف واع لذاته، أي أنه تحالف مخطط له مسبقاً من قبل الأطراف الثلاثة المعنية. لكن، وباستمرار قبول الوضع الراهن الذي بني على فرضية داخلية تم الترويج لها، ومفادها عدم وجود أي تناقض بين الاحتلال الاستيطاني و«تنمية» المجتمع، بل أكثر من ذلك، بأن هذه «التنمية المتخيلة» لا يمكن أن تحدث إلا بقبول استمرارية هذا الاحتلال كظاهرة طبيعية، والتطبيع معها، يصبح هذا التحالف الثلاثي هادفاً ومتعمداً. فكلما ازداد التقارب بين أطراف هذا التحالف الثلاثي أصبحت ادعاءات التنمية الرسمية أكثر أسطورية وخداعاً، أي بعبارة أخرى، يصبح هدفها الأساسي هو تهميش أكبر عدد ممكن من الناس.
ما يميز هذا الاستعمار الجديد تحت سلطة «الحكم الذاتي الفلسطيني» هو أنه لا يميز فلسطين المحتلة ١٩٦٧ عن باقي المناطق في العالم التي أخضعت لهذا النوع من الاستعمار الجديد، ابتداءً من السبعينيات من القرن الماضي، وضمنت استدامته من خلال هيمنة قيادات محلية (توصف بالوطنية)، أفرزتها هذه العملية كمقوم أساسي لنجاحها. وبالتالي استبدلت هذه «القيادات» رموز الحكم الخارجي. وبما أن فلسطين ما زالت فعلياً تحت قبضة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، من المهم، لفهم هذا التطور بشكل أعمق وأشمل، إعادة قراءة أعمال فرانز فانون مثلاً، حول الدول المستعمرة تقليدياً في أفريقيا، والبلدان التي تم إنهاء الاستعمار الأصلي رسمياً فيها، لنرى أن هذه التطورات فيها، تشابه بشكل مذهل التطورات الجارية حالياً في فلسطين المحتلة ١٩٦٧ في القرن الواحد والعشرين. من هذا المنطلق الهام، لا يمكن ان يقتصر التحليل الحالي على فلسطين «الضفة والقطاع» كنموذج فريد من نوعه. تحليل هذه الظاهرة يجب أن يكون ذا نطاق أوسع: إنه تحليل للمظهر الذي سيظهر به «الاقتصاد السياسي للشعوب المقموعة»، أو «الاقتصاد السياسي للشعوب المحتلة» في القرن الحادي والعشرين المعولم، ليس فقط في دول «الجنوب» بل في تلك «الرقع» من «الجنوب» المتداخلة والمعششة في دول «الشمال» الرأسمالية.
ويضطرنا هذا النهج، بحكم التعريف، إلى تناول الدروس الهامة التي يمكننا تعلمها، مثلاً، من تجربة جنوب أفريقيا الممتدة منذ عام ١٩٩٤. حينها استبدل نظام الفصل العنصري المنحل بفئة اجتماعية نخبوية من السيطرة والقمع الاجتماعي، وبنظام للاستغلال ممارس من قبل القيادة الشعبية للسكان الأصليين. قيادة نصّبت نفسها لاحتلال هذا الموقع بدعم صوري من السكان المحليين، وبتشجيع وتخطيط واعٍ من مؤسسات مراكز الرأسمال العالمية المهيمنة. ومن مميزات هذين الاختبارين في التحول «التحرري» المزعوم: إحلال هيمنة خارجية استغلالية بأخرى داخلية استغلالية، ولكنها مغلّفة بسردية «محلية نضالية وطنية» أو «عرقية»، نتاجاً لعملية نضال متواصلة؛ وتجويف الميثاق الناظم والموجّه من مضمونه النضالي التحرري من القمع والاستبداد الاقتصادي. ومثال على ذلك تمرير مسخ ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية بدفع من الولايات المتحدة الأميركية وتحت إشراف رئيسها، لتسهيل قبول الكيان الصهيوني كظاهرة طبيعية، وإعادة هيكلة بنود «ميثاق الحرية» للحزب الوطني (ANC) في جنوب أفريقيا لتسمح بتسلط الرأسماليين السود على الموارد الاقتصادية.
التحديات التنموية المجتمعية:
غياب السيادة السياسية والاقتصادية والغذائية
بعيداً عن الأشراك المضللة والخادعة، أو التسميات التسويقية المتمثلة بـ«الحكم الذاتي» و«الحكومة» و«الوزارات» و«البرلمان» إلخ، ما زلنا نعيش في ظل وضع تغيب فيه بشكل تام السيادة السياسية والاقتصادية والغذائية الحقيقية لا المزعومة. وبعبارة أخرى، نحن نعيش اليوم في حالة من الإذعان إلى نظام مستمر من الاحتلال العسكري - الاقتصادي، سواء كان مفروضاً بشكل مباشر من قبل قوة الاحتلال الاستعمارية نفسها، أو من خلال نظام السيطرة المبني على التعاقد من الباطن الممارس من قبل الفلسطينيين أنفسهم. لذا فإن القضاء على الاحتلال الاستيطاني والفصل العنصري، الطبقي والاجتماعي، المباشر منه والمتعاقد عليه، يصبح شرطاً ضرورياً لتحقيق التنمية.
في الواقع، يبدو أكثر وأكثر أنه تم اختراع سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية لتكون نموذج تحكّم للتجريب وإعادة الهندسة. ويبدو أن جوهر هذه التجارب يدور حول السؤال التالي: كيف يمكن إعادة تشكيل وقولبة «دولة وطنية» ملفقة ومنزوعة السيادة لتصبح بحجم شركة حديثة صغيرة يمكن السيطرة عليها ويديرها كبار المديرين التنفيذيين «السياسيين» (CEOs) وفئة المنظمات غير الحكومية التي أعيد تسييسها وتصميمها، وينظمها ويحافظ على بقائها جهاز أمن جيد التدريب.
الطبقة الرأسمالية الفلسطينية وتجارة التنمية المعولمة
إن الطبقة الرأسمالية الفلسطينية بجناحيها، المغتربين (فلسطينيو الشتات) وفلسطينيي الداخل (أبناء البلد)، التي أعيد تكوينها في إطار أوسلو، هي بطبيعتها طبقة غير ملتزمة، وغير معنية وغير قادرة على «تطوير» نوع من المجتمع المتماسك اللازم لمقاومة الاحتلال والتخلص منه. إنّ همّها الأساسي هو إطلاق المشاريع الرأسمالية الاستهلاكية والإبقاء عليها والتوسع فيها، أي ثقافة الاستهلاك، وذلك بالتعاون مع هياكل الاحتلال (المادية والبشرية والاقتصادية)، وبالتالي، المساعدة واقعياً على ترسيخ الاحتلال ولكن تحت مسميات مختلفة. الادعاءات العلنية والمتكررة بأن الرأسماليين الفلسطينيين هم «دعائم» التنمية، وأن استثماراتهم المالية والتكنولوجية هي «محركها»، ليست سوى ضرب من الخيال. إن ما يجري التأسيس له، منذ الشروع بمفاوضات أوسلو، ليس أكثر من تجارة تنمية، وصناعة تنمية، وشركات تنمية قابضة (محدودة الضمان)! انه الاندفاع للمذهب التجاري وقمة نشاطه هو التفاعل بين رأس المال، والنخب السياسية والمنظمات غير الحكومية والتمويل الدولي. إنه برنامج «تجارة تنمية معولمة» يشق طريقه ويستخدم في هذه المرحلة المناطق الفلسطينية المحتلة ١٩٦٧، مركزاً له وحالة للاختبار. في «تجارة التنمية المعولمة» هذه، لا يمثل الرأسماليون الفلسطينيون وبيروقراطية أوسلو السياسية (والفكرية المشرعنة لها)، وهياكل المنظمات غير الحكومية «التنموية» الناشئة حديثاً سوى وكلاء محليين ومقاولين من الباطن وسماسرة لمراكز رأس المال الغربي ووكالات التمويل المعولمة.
الاعتماد المطلق على المساعدات الدولية الغربية
هناك تناقض كامن بين الاعتماد الفلسطيني المطلق على المساعدات الدولية الغربية، والتوقع الرسمي بأن تؤدي هذه المساعدات المالية، ومصدرها الأساسي الحكومات والوكالات الغربية، إلى تطوير وتحرير الشعب والمجتمع الفلسطيني وإنتشاله من الفقر والإفقار الذي صنعه نظام الاحتلال الاستيطاني المفروض على هذا الشعب، وهو النظام نفسه الذي يتم دعمه وضمان استمراريته من قبل هذه المصادر نفسها. إنها مساعدات سياسية بامتياز تقدم للفلسطينيين بهدف الإذعان والخضوع لأجندة وبرنامج سياسي مفروض عليهم. إنها بالتأكيد ليست مساعدات تهدف إلى تحفيز وزيادة القدرات الإبداعية المحلية والمنتجة، بل تركز على الاستهلاك وعلى جعل الناس رهائن. إنها مساعدات معادية للإنتاجية والتحرر.
نسبة «الاعتمادية على المساعدات» في مناطق سلطة «الحكم الذاتي» الفلسطينية أخذت بالتزايد تدريجياً منذ عام ١٩٩٩. إلا أنه على الصعيد المحلي، من حيث الإدراك والسلوك، يبدو أنّ ثمة اعتماداً كلياً على المساعدات الخارجية يقوّض أية مبادرة للعمل المحلي، صغرت أو كبرت. ولقد تم السماح لوكالات الدعم العالمية، خاصة الوكالات الحكومية (مثلا USAID) بأن تتمتع بما يشبه سلطة السيطرة الاستبدادية، وبالتالي الخضوع لمصادر هذه المساعدات، لكونها المصدر الرئيس في تغطية رواتب حوالى ١٧٠٠٠٠ من موظفي السلطة، من مدنيين وعسكريين. ونظراً إلى أن دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان تشكل المصدر الرئيس للمساعدات الخارجية، فمن السهل علينا أن نرى حينها مدى الخنوع الكبير ومدى مديونية سياسات السلطة الفلسطينية تجاه هذه الكتلة من الدول الرأسمالية.
في ظل هذا النمط من الاستعمار الجديد، هناك مؤشرات مقلقة: تراوح مديونية السلطة الآن بين ٢.٥ و٣ مليارات دولار أميركي، منها الديون الداخلية للمصارف المحلية وغيرها، والديون الخارجية بشكل قروض للشركات التي التزمت السلطة نحوها وستتكبد أجيالنا المستقبلية عبء دفعها، فضلاً عن مديونية الفرد الفلسطيني تجاه المؤسسات المالية المحلية التي تشمل الإسكان، والأعمال التجارية، والمواد الاستهلاكية، والتعليم العالي، والصحة، الخ، والآخذة بالتعاظم خصوصاً في الآونة الأخيرة. ومن المؤشرات عدم قدرة السلطة على دفع رواتب موظفيها، والتسارع في نسب البطالة (التي تفوق ٤٥ بالمئة بين مجموعات متخرجي الجامعات ومؤسسات التعليم العالي)، وشرذمة النسيج الاجتماعي.
كذلك يمكن ملاحظة الظواهر التالية التي أفرزها النظام الاستعماري الجديد:
استعيض عن معارضتنا الإبداعية التاريخية الثورية ضد الظلم والاحتلال بـ«معارضة محكمة»، يسارية، ممولة جيداً، ومدجّنة؛
أصبحت المنظمات غير الحكومية «التنموية» المهنية والإدارية غير المسيسة، والمعاد تسييسها، والتي تم إختراعها واستدامتها من قبل وكالات المساعدات الحكومية العالمية، بديلا من القاعدة الشعبية الشاملة والحركات الاجتماعية والاقتصادية المسيَّسة؛
أصبح النمو الاقتصادي الآلي الكمي والقابل للقياس بديلاً من التنمية المرتكزة على الناس وعلى الإنتاج؛
أصبح الاعتماد على رواتب وظائف القطاع العام، التي تم اصطناعها، بديلا من القطاع الإنتاجي الذي يولّد فرص عمل مستدامة؛
أصبحت الاستثمارات الرأسمالية في احتكارات الاستهلاك والخدمات المقبولة لدى الاحتلال والمعتمدة على التعاون معه، بديلا من المؤسسات الصغيرة الإنتاجية الأصلية المستدامة؛
استبدل ما نستطيع القيام به بمهاراتنا ومواردنا وخبراتنا الفنية الأصلية بالأموال التي نحتاج اليها، وحشدها من وكالات المساعدات الخارجية؛ وهذا يؤدي إلى نظام معياري سائد يحترم المشاريع الممولة خارجيا، عوضاً عن تلك التي تستهلها الطاقات التطوعية والموارد المحلية.
أصبحنا نستهلك بفخر واعتزاز ما لا ننتج، ونأكل ما يصدّره لنا عدوّنا أو يسمح لنا باستيراده.
كما أصبح من البذخ الفكري أي اقتراح لتوجيه تركيزنا على الإنتاج الزراعي الغذائي، والتقليل من الاستهلاك الاستعراضي المعتمد بنحو شبه على الدين والاقتصاد الريعي، والتركيز على المجهودات التطوعية الذاتية والتكافل المجتمعي، والإفادة من دروس تاريخنا وخبراتنا ودروس المجتمعات المستعمر الأخرى، بهدف مواجهة هذه التحديات.
إعادة تعريف وتوجيه وعينا الجماعي
وفهم الاتجاهات العالمية التي تؤثّر فينا
من الواضح أنه توجد أمامنا مسؤوليات جسيمة في مواجهة هذه التحديات، إذا كنا فعلا نسعى إلى تحرير العقل والوطن. ويمكنني تلخيص نهج مجابهة هذه التحديات في بعض الأمور التالية:
لا يمكن اعتبار ما يحدث لنا مجرد تطور عرَضي جاء نتيجة بنية لا ترحم من الاحتلال العسكري ـــــ الاقتصادي الإسرائيلي والأيديولوجيات العنصرية غير المرتبطة بهذه الاتجاهات العالمية. الأمر الذي دفعني إلى التفكير في بلدنا فلسطين خلال السنوات العشرين أو الخمسين المقبلة؛ وأية «فلسطين» ستكون؟ كذلك حثّني هذا التأمل على الابتعاد عن المطالبات الرسمية والتقليل من شأن الادعاءات الرسمية والانشغال الفلسطيني العام والمتواصل بإقامة «الدولة القومية» غير القابلة للاستدامة، ذات التبعية، والمنقوصة السيادة. وكل هذا فقط لتكون مدرجة في سجل الأمم المتحدة ومن دون توفير الحرية والعدالة بالضرورة لشعبها ـــــ شعبي أنا ـــــ الذي كافح وعانى طويلا من أجل تحقيقهما. إنني مقتنع تماما بأنه ينبغي لنا إعادة تعريف وتوجيه وعينا الجماعي حول ماهية «المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا» من خلال نضالنا، والتركيز عوضاً عن ذلك على خلق وطن قابل للحياة وغير محدود، جوهره مجتمع فلسطيني محرر ذاتياً ومرن وحيوي. فالقلق المفرط حيال إنشاء «الدولة القومية» هو، في رأيي، أمر مضلل وقد عفا الزمن عليه ومضى. إن الاتجاه العالمي هو نحو ابتكار عالم تسيطر عليه شركات تتحايل وتقوّض مفهوم القرن التاسع عشر «للدولة القومية»، لتحل مكانها هيكليات إقليمية (إن لم تكن عالمية) من الشركات أو التكتلات الاقتصادية والسياسية المعولمة ذات المصالح المتماهية. لتحقيق ذلك، نحن بحاجة إلى فهم الاتجاهات العالمية التي تؤثر بنا أو التي تشكّل بنحو مباشر أساس نضالنا. ما هي هذه الاتجاهات وما الذي علينا فعله لإحتوائها وعكسها؟
أشعر بأنه لا بد من مناقشة بعض الأبعاد المعينة لفهم كيفية تأثير نظام الحكم العالمي الناشئ علينا، وبالتحديد:
نزعة المديونية للأنظمة المالية التابعة للشركات العالمية المعولمة العابرة للحدود القومية، الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء، فشلنا، أو عدم رغبتنا، في التعلم من بعض الأمثلة في بعض الدول «المحررة» التي قامت بخيانة مصالح شعوبها، وكيف أصبحنا، بسبب مساعدات وكالات الدعم العالمية، مرهونين، وكيف جرت إعادة تسييسنا واستعمارنا وخصخصتنا؟
إعادة هندسة البيئة الاجتماعية والثقافية السائدة
تحت طغيان تمويل الشركات الغربية، تدهورت المكونات الهامة والقابلة للحياة للمجتمع المدني٣ بل وأمست شبه بائدة. استنادا إلى التحليل في الأجزاء المختلفة من كتابي الأخير (المشار ليه سابقا)، التي ركزت على الكيفية التي عملت فيها مصادر التمويل الخارجي على انتشار المنظمات غير الحكومية «التنموية» على حساب الحركات الجماهيرية المسيّسة، أصبح واضحاً أين يكمن التحدي. بغية تسهيل عملية تشكيل بيئة التنمية التحررية المرتكزة على الناس، ينبغي أن يكون هدفنا إعادة صياغة وتفعيل وهندسة حركة جماهيرية سياسية واقتصادية واجتماعية مبنية على العضوية وقابلة للحياة. وينبغي أن تتضمن عناصرها الرئيسة الأحزاب السياسية اليسارية المجددة، ونقابات العمال الإنتاجية، والصحافة المحلية المستقلة، والحركة الطلابية، والحركة الشبابية، وائتلافات من مختلف مجموعات العمل التطوعي.
بعد إنهاء انتفاضة ١٩٨٧ من خلال احتوائها بوعد خادع في وضع حد للصراع بالوسائل السياسية، وبعد أن تبين بوضوح أن الوعد بإيجاد حل عادل كان وعداً كاذباً ومضللا، بدأت البيئة الاجتماعية والثقافية بالانزلاق في تهالك تدريجي. وقد تم توجيه أسلوب العمل اليومي من خلال مجموعة قيم ثقافية متنافرة صممت خصيصا لتحل محل نظام القيم التقليدي القائم. وفي سياق سيطرة المحسوبية الرأسمالية، والزبائنية السياسية الفاسدة، وإساءة استعمال السلطة والامتياز، والتعاون وتطبيع العلاقات مع هياكل الاحتلال، وغياب الأمن الشخصي، وتزايد الفقر والبطالة، أصبح من الواضح أن جوهر العمل قد استند الى دوافع الربح السريع والوفير، والاستعداد للقيام بكل ما هو ضروري للحصول على أموال من المنظمات غير الحكومية ووكالات الدعم العالمية، وغياب التضامن الاجتماعي الجماعي والمبادرات التطوعية، وتثبيت الاهتمامات والمصالح الشخصية بدلا من العناية بالمصالح المجتمعية والجماعية. وفّر هذا الوضع أرضية للخلاص الشخصي وللسيطرة والنجاح من خلال الوصول إلى أصحاب النفوذ من النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة (المحلية والمعولمة) والولاء الشديد لها.
أنجبت هذه العملية طبقات جديدة مهجنة لا علاقة لها بوسائل أو عملية الإنتاج على غرار طبقة المنظمات غير الحكومية، طبقة «أجهزة الأمن» والطبقة «البيروقراطية»، وما إلى ذلك، والتي لا تشكل سوى احدى تفريعات عملية أوسلو، والتي وظيفتها ترسيخ هذه العملية.
علينا أن نتذكر دائماً أن شعبنا هو أكبر وأهم أصولنا. ولا يمكن لهذه الأصول أن تكون فاعلة ما لم تتوحد بتصميم واقتناع بأن مجتمعنا الفلسطيني يحتاج إلى دعمنا. فنحن نمتلك في ما بيننا مخزونا ضخما من الموارد المحلية ونسيطر على هذا المخزون ويمكننا تجديده ووضعه للاستخدام تماماً كما فعلنا بشكل رائع خلال الانتفاضة الأولى. فقد استخدمت هذه الموارد بشكل فعال في ذلك الحين لا كمصادر ممولة من قبل وكالات خارجية و«جهات مانحة»، بل لأن الناس تماهوا مع احتياجات مجتمعاتهم؛ آمنوا بقوتهم الجماعية الكامنة، وحولوا الالتزام الداخلي بنضال ضد سلطة احتلال قمعية، وعزموا على وضع حد لها. لا تزال سلطة الاحتلال والقمع نفسها تسيطر علينا ولكن بشكل تدميري كبير، من خلال الاستخدام المباشر لبعض من شعبنا، ما يسمى بقيادتنا، وشرطتنا، وأصحاب رؤوس الأموال وغيرهم، تستخدمهم كوكلاء من الباطن لإحكام قبضة سيطرتها.
كذلك علينا أن ندرك، على مستوى آخر، أننا قد كنا في فترات معينة من تاريخنا، السلة الغذائية للمنطقة. أما الآن فليس لدينا أمن غذائي ولا سيادة غذائية في معظم الأمور الأساسية التي نحتاج إلينا لصحتنا ورفاهنا. ينبغي لنا أن نعود إلى زراعة أراضينا بأفضل السبل التي نعرفها، وتطوير هذه الزراعة عبر الطرق التي لا تعتمد على المدخلات الخارجية. وللقيام بذلك، يتعين علينا أن نستثمر كل مواردنا المالية والبشرية في إطعام شعبنا، وليس في الاعتماد على الآخرين، ولا سيما أعداؤنا، لتأمين الغذاء لنا. لا يمكننا الاستمرار في السماح لإسرائيل وهيكلها الاحتلالي بمواصلة السيطرة على أكثر أراضينا الزراعية خصوبة، كما لا يمكننا الاستمرار باستهلاك ما لا ننتج كأنه ظاهرة طبيعية!
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.