مقدمة
إن انتشار المنظمات غير الحكومية (إن جي أوز) ظاهرة عالمية. وعادة ما تُعتبر دليلاً على ضعف الأحزاب السياسية الأيديولوجية وانسحاب الدولة من تأمين الخدمات والمسؤوليات الاجتماعية بسبب سياسات التعديلات الهيكلية المفروضة على معظم بلدان العالم الثالث من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتحت ضغط سياسات الإصلاح النيوليبرالي (هان ١٩٩٦؛ إدوارد وهيوم ١٩٩٥؛ أومفيت ١٩٩٤). يرى البعض أن الـ«إن جي أوز» نتاجٌ للسياسات النيوليبرالية، معتمدٌ مالياً على مصادر نيوليبرالية ومنغمس بشكلٍ مباشر في منافسة الحركات الاجتماعية-السياسية على ولاء القادة المحليين وجماعات الناشطين (بيتراس ١٩٩٧). فيما يعتبرها آخرون أليّاتِ مُسخّرة لـ «خلق مجتمعٍ مدنيّ عبر التدخل الخارجيّ» (سامسون ١٩٩٦: ١٢١-٤٢)، مشيرين إلى الدمج الإشكاليّ بين الـ«إن جي أوز» والمجتمع المدنيّ بحد ذاته. ويركّز عددٌ من الدراسات على الأثر السلبيّ للـ«إن جي أوز» على الحركات الاجتماعية (بيتراس ١٩٩٧، هان ١٩٩٦)، لاكتشاف أثر ما سيُصطلح على تسميته بـ «التنجيز»١ (ألفاريز ١٩٩٨) على الحراك والفعل الاجتماعيّ.
ويرى كثيرٌ من الباحثين أن انتشار الـ«إن جي أوز» في الشرق الأوسط إشارةٌ إلى وجود مجتمع مدنيٍّ نابض بالحياة (نورتون ١٩٩٥؛ إبراهيم ١٩٩٥؛ مغدَّم ١٩٩٧). فالـ«إن جي أوز» لا تترافق مع سمات «دمقرطة» المجتمع المدنيّ فحسب، بل مع الحراك الاجتماعيّ بحد ذاته كذلك: ترابطٌ يسعى هذا المقال لطرحه للمساءلة. إذ إن جهداً قليلاً بُذل لتتبّع أثر انتشار الـ«إن جي أوز» على ترسيخ الحركات الاجتماعية المختلفة التي تدّعي الـ«إن جي أوز» تمثيلها في هذه المنطقة. كما لم يكن ثمة تأكيدٌ على نجاحها في حشد الجماعات المختلفة على ترسيخ حقوقها. وبالقدر ذاته، ركّزت دراساتٌ معدودةٌ حول الشرق الأوسط على كيفية تأثير وربط الـ«إن جي أوز» مع أشكالٍ أخرى من التنظيمات الاجتماعية، سواء كان ذلك على شكل اتحادات، أحزاب سياسية أو حركاتٍ اجتماعية تضم طلاباً، نساء أو عمالاً.
في هذا المقال، سأعمد إلى البحث لاكتشاف عواقب الانتشار الفطريّ للـ«إن جي أوز» في فلسطين وخصوصاً تنجيز الحركات الاجتماعية الفلسطينية. إذ أرى أن التنجيز كعمليةٍ يتحوّل من خلالها الهمّ الجمعيّ إلى مشاريع منعزلةٍ عن السياق العام بحيث يتمّ تطبيقها دون أخذ العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المؤثرة على هذه المشاريع بعين الاعتبار، لم تظهر نتائج ترسيخه بعد. وبالتوازي مع ذلك، توصّل بحثي إلى أن الأجندة المستندة الى الحقوق للـ«إن جي أوز» النسائية كان له أثر سلبيٌّ على طاقة التعبئة لمنظمات المرأة الجماهيرية، الأمر الذي خلق، بدوره، فسحةً مكّنتْ الجماعات الإسلاموية من تثبيت نفسها كقوةٍ سلطويةٍ ومهيمنة في المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ.
الـ«إن جي أوز» الفلسطينية: تاريخ موجز
إن الدور الذي لعبته الـ«إن جي أوز» الفلسطينية قبل اتفاقية أوسلو يختلف بشدة عن دورها في مرحلة ما بعد أوسلو. فقبل تشكيل السلطة الفلسطينية، كان المجتمع الفلسطينيّ منظَّما داخل الأحزاب السياسية والمنظّمات القاعديّة الجماهيرية وحولها. وارتبطت الـ«إن جي أوز» بتلك الأحزاب تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية (م ت ف) التي شجّعت الأحزاب والمنظمات التابعة لها وقدمت لها الدعم المالي. وفيما تمّ منع (م ت ف ) وأحزابها السياسية من قِبل إسرائيل، سُمح، إلى حدٍّ ما، للمنظمات التابعة لها بالعمل، إذ تمّ اعتبارها منظماتٍ لتأمين الخدمة العامة. وفي الفترة بين نهاية انتفاضة ١٩٨٧ وأوسلو، كان قطاع الـ«إن جي أوز» يُستخدم باعتباره القناة الأساسية للمساعدات الأجنبية، الأمر الذي اسهم في تأمين الخدمات إلى عموم السكان. وتضمّن هذا الأمر العيادات والمدارس ورياض الأطفال والمشاريع المدرّة للدخل. فكانت النتيجة أن ممثّلي هذه الـ«إن ج أوز» أصبحوا مهمين وحازوا على سلطةٍ أكبر حتى من أحزابهم الأم.
ولقد تحوّل دور الـ«إن جي أوز» في الضفة الغربية وقطاع غزة بتأثيرٍ من عملية بناء الدولة التي بدأت إثر مؤتمر مدريد عام ١٩٩١. وتعد آثار ديناميكيات بناء الدولة في الأشكال المختلفة من التنظيم في المجتمع المدنيّ هامةً لفهم حقيقة عملية كبح حراك المرأة الفلسطينية. إذ إن الديناميكيتين المزدوجتين لبناء الدولة والتنجيز أدتا إلى مزيدٍ من التشظّي والكبح لكل الحركات الاجتماعية. فدورة الحياة المحدودة لـ«المشاريع» أدت إلى التشظي بدلاً من خلق ما سمّاه تارو (١٩٩٤) بـ «الربط الشبكيّ المستدام»، حيث يتمّ الحفاظ على الروابط بين الاقتصاد والمنظمات بدفقٍ اعتياديّ.
تعدّ الـ«إن جي أوز» النسائية في العالم العربي بالنسبة للبعض عوامل فاعلة هامة للتنمية والدمقرطة وبالتالي التحديث (قنديل ١٩٩٥). ومع ذلك، وبحكم اعتمادها على «عامل التمويل»، فهي تقدّم أجندة غربية وتكون ممثِّلة لنخبة من النساء (شلبي ٢٠٠١؛ حمامي ١٩٩٥؛ حنفي وطبر ٢٠٠٢)، وفي ما يخص الثقافة (والتغيير الاجتماعيّ ) تقوم الـ«إن جي أوز»، بحسب البعض، بإعادة إنتاج البنى الاجتماعية البطريركية والعشائرية بدلاً من تغييرها (جوزيف ١٩٩٧). وقد لا تكتفي الـ«إن جي أوز» بالإسهام في كبح العناصر الأقل «تشاركية» في الثقافة الاجتماعية والسياسية القائمة، إذ إن التنجيز، بحد ذاته، يملك بعداً ثقافياً وقيم انتشارٍ تشجع على الاتكالية، والافتقار الى الاعتماد على الذات، والترويج لنماذج جديدة للاستهلاك. فمن الشائع أن تقرأ في إعلانات الصحف الفلسطينية عن نشاطاتٍ اجتماعية جماعية منظَّمة من قبل مجموعات من الشباب، مثل تنظيف الشوارع وزراعة الأشجار والرسم على الجدران وما إلى ذلك، مذيّلةً بشعار صغير يشير إلى اسم المتبرع الذي موّل هذه المشاريع. كما يلاحَظ أن كثيراً من أنشطة الـ«إن جي أوز» تُعقد في فنادق فارهة، التي تقدم أطعمةٍ باذخة، وتوزع مواد برّاقة، وتستعين بشباب «متأنقين» للمساعدة في تنظيم الحدث أو النشاط، الأمر الذي أدى إلى الاختفاء التدريجيّ للصورة «القديمة» للناشط الاعتياديّ بلهجته ومظهره القرويين.
وعلى أية حال، هذا المقال مهتمٌّ بشكلٍ أكبر بالأبعاد السياسية للتنجيز بما هو عملية تدخِل ايضا تغييرات في تكوين الحركات النسائية النخبوية (غويتز ١٩٩٧). ففي الحالة الفلسطينية يُعتبر بروز الـ«إن ج أوز» وعملية التنجيز أنهما مسبِّبان لانتقالٍ في علاقات القوة: من «تمكين» النساء على مستوى القاعدة إلى «الاستقواء» عليهنّ من قِبل النخبة الجديدة (جاد ٢٠٠٤). ومع اعتبار الـ«إن جي أوز» مرادفاً للـ«التقدميّ» والـ«تشاركيّ» بين الداعمين ذوي النوايا الحسنة للـ«إن جي أوز» الدولية المعروفة، فهذا الترابط مجرد تفكير متفائل في أفضل الأحوال ووهمٌ في أسوئها.
نشوء «مجتمع مدني» فلسطيني جديد
تُميِّز الـ«إن جي أوز»، التي انتشرت في مرحلة ما بعد أوسلو، نفسها عن الأشكال الأقدم التي كانت تندرج تحت الجمعيات الخيرية أو الأطر الجماهيرية، التي كانت لها بنيةٌ، وخطاب وقادة ومشاريع وشبكات مختلفة كلياً (تركي ١٩٨٩؛ شلبي ٢٠٠١). كانت المنظمات الجماهيرية الأقدم بنى منفتحة ذات أجندات شعبية تسعى لحشد أكبر شريحة ممكنةٍ من الطلاب والعمال والنساء والشباب في تنظيمات تخدم كل هذه القطاعات (هلترمان ١٩٩٠)، فيما تنشط المنظمات الأحدث في المدن وتديرها نخبة من الطبقة الوسطى المدينيّة وتكون كياناتٍ أصغر من سابقاتها تعتمد على تمويل أجنبي.
بدأ انهيار المنظمات القاعديّة الجماهيرية منذ بداية التسعينيات، حيث كان مرتبطاً بانهيار ما تسميه فيفيان (٢٠٠٤) «السياسات المؤسساتية»، أي السياسات التي تُمارَس من خلال مؤسسات كالاتحادات النقابية والأحزاب. وأطلقت عملية السلام عملية بناء الدولة التي أصبحت فيها أجندة الجندر بيدقاً بيد الباحثين عن أساس جديد للشرعية بعد انقسام أحزابهم بين الراغبين في بناء جمهور جديد لهم والراغبين في تشكيلٍ تلفيقي لفسحةٍ جديدةٍ بين العموم عبر الادعاء أن الدولة ستستند الى المواطَنة وحقوق المرأة. ومع أواسط التسعينيات، لم تكن حركة حماس قد شكّلتْ رؤية جندرية متماسكة. ومع ذلك، عبر توجيه نيرانها الى أية جماعة أو منظمة يمكن أن تزعم تغيير الشريعة، اطلقت الحركة حملة منظَّمة للاساءة الى سمعة المنظمات النسائية التي تتّبع منهج الاعتماد على الحقوق، والى نزع شرعيتها، ومعها كل المنظمات النسائية الأخرى. في تلك الأثناء، كانت الـ«إن جي أوز» الجديدة تنازع الأشكال القديمة للمنظمات القاعدية الجماهيرية على الشرعية والموارد والفضاء في الاماكن العامة.
لم يكن الانتقال من تبنّي الأجندة الجندرية إلى الاهتمام المتجدد بالأجندة الوطنية معتمدا على ارتباط مستمر بالجماهير الفلسطينية أو بأي انغماس في النشاط الوطني، بل كان ذلك بسبب الـ«إن جي أوز» الدولية وغيرها من اللاعبين الدوليين الذين كان لهم دور محوريٌّ في اختيار نظرائهم الفلسطينيين ممّن انتقوهم بعناية للتحدث باسم المصلحة الوطنية الفلسطينية. ولقد تمّ اختطاف الأجندة الوطنية بشكل فعلي، بعد الانتفاضة الثانية، من قبل الـ«إن جي أوز» الدولية والدول الاجنبية والمانحين الأجانب الذين ركّزوا على مجموعة محددة من القضايا تخصّ بناء عملية السلام وتسوية النزاعات وقضايا مماثلة أخرى. ولقد خلقوا جمهورا يتكون من جماعات بأكملها باتت هي المحاورة للوكالات الدولية.
ترافقت الحاجة للاختصاصيين – أو «المختصين» بحسب الاصطلاح المحليّ – مع تنامي شاطات المنظمات النسائية. وكان الناشطون في المجال النسائيّ بحاجةٍ إلى أشخاص بمهاراتٍ اختصاصيةٍ «لدفع عملنا الى امام»: ولقد تمّ تزويد الاختصاصيين في مجالس الإدارة وفي الإدارات بمصالح مختلفة ورؤية بديلة. وشهدت الفترة بين عامي ١٩٨٨ و١٩٩٤ انتشاراً للمنظمات النسويّة. وطرح العدد المتنامي للمؤسسات خطاباً جديداً بخصوص النساء ومكانتهنّ، ولكن في اطار من الانهيار المستمر للحراك النسائيّ. وكان التمايز بين «الاختصاصيّ» و«السياسيّ» أحد العوامل التي أضعفت أنواع المبادرات التي كانت موجودةً في ما سبق بين المنظمات النسائية في فلسطين. وأدى التخصص إلى دفع المسؤولية نحو الأعلى لا نحو الأسفل؛ نحو الإقصاء لا الاحتواء؛ كما أن «التسلسل الهرمي» يجلب البيروقراطية معه. وكما يلاحظ فريدمان، فبالنتيجة «تسعى السلطة للانتقال نحو الأعلى، فيسود التخصص (الذي يكون نازعاً للسلطة بشكل دائم تقريباً)» (١٩٩٢: ١٤٢).
في تلك الفترة، كان ثمة طلب متزايد من قبل منظمات المرأة وحقوق الإنسان الدولية لتضمين صوتٍ فلسطينيٍّ في نشاطاتها. وقد أدى هذا إلى ما يدعوه الفلسطينيون بـ«مناضلي الحقيبة» أو «مناضلي طائرة الجت»٢. وفيما شهدت الانتفاضة الأولى انفصالاً كثيرٍاً من القادة النساء عن المنظمات القاعدية الجماهيرية لصالح المجتمع الدوليّ (عبر المشاركة في كثيرٍ من النشاطات والمؤتمرات) شهدت الانتفاضة الثانية انتقالاً إلى قادة «إن جي أوز» ممثلين لصوت «المجتمع المدنيّ» الفلسطينيّ. ومن خلال تحليل هذا الانتقال، يشير حنفي وطبر إلى ما يسمّيانه بروز «نخبة مُعولمة» فلسطينيةٍ أكثر ارتباطاً بالفاعلين الدوليين أي الـ«إن جي أوز» والممولين بالمقارنة مع الشرائح الانتخابية المحلية، حيث تميزوا بكونهم تابعين لأجندةٍ دولية، داعمين لعملية السلام، مدنييّن واختصاصيين (حنفي وطبر ٢٠٠٢). وقد لوحظ بأن «النخبة المعولمة» أسقطت النخبة القديمة (الجمعيات الخيرية والأنشطة القاعدية النسائية)، من خلال عملية تنافس وسباقٍ عل الاستمرار التنظيميّ.
تنجيز الأجندة الوطنية
كان الناشطون في المجال النسائيّ منغمسين بشكل كبير في الحركة الوطنية الفلسطينية منذ البداية. ولقد سعوا إلى تحريك الرأي العام، سواء كان ذلك في العالم العربيّ أو في عموم العالم، لدعم حقوقهم الوطنية في الاستقلال والحكم الذاتيّ. وتمت استعادة هذا الدور في ما بعد عبر الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية بشكلٍ أساسيٍّ خارج الأراضي المحتلة. وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى وانتقال مركز الصراع إلى الأراضي المحتلة، حملت الحركات النسائية الفلسطينية على عاتقها هذا الدور في الأراضي المحتلة بشكلٍ كبير، حيث كانت مجهَّزةً بشكلٍ أمثل للتعبير عن معاناتها وواقعها اليوميّ في ظل السياسات التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيليّ.
وعلى أية حال، فابتداءً من التسعينيات، بدأت آثار التنجيز بالتوضّح ضمن تشكيل الأجندة الوطنية. وقد كانت هذه المكانة مقبولةً لأن بعض أكبر ممولي الـ«إن جي أوز» الفلسطينية أكدوا «شروطٍ اللياقة السياسية» في محاولة لفصل هذه المنظمات عن السياسة. ومجدداً، سيكون الحديث مجرد إفراط في التبسيط فيما لو اعتبرنا الـ إن جي أوز متلقّين سلبيين، وبأن الممولين، بكل بساطة، يتّبعون أو ينفذون سياسات حكوماتهم. ودار جدلٌ بأن الـ«إن جي أوز» المحلية، علاوةً على الممولين الدوليين، تملك فسحةً للتفاوض على علاقاتهم المتبادلة. فعلى سبيل المثال، يقول كوهين وكوماروف بأن الـ«إن جي أوز» «لا تلبّي حاجةً، بل تُفاوض على علاقاتٍ من خلال إقناع الأطراف الأخرى، اي المنظمات، الأحداث والعمليات [...] بأنها تتصرّف كسماسرة للمعاني» (كوهين وكوماروف ١٩٧٦: ٨٨ مقتَبس في هلهورست ٢٠٠٣: ١٩١).
وبغية صياغة أساسٍ جديدٍ للشرعية ـ متمايزٍ عن ذاك المكتسب من خلال مشاركة القادة القاعديين للحركات النسائية في النضال الوطنيّ - أفرط الناشطون الجدد (قادة المنظمات غير الحكومية) في استخدام لغة «الخبرة المطّلعة» وفي ارتباطاتهم مع المتبرعين الدوليين. وأصبح من المعتاد أن تسمع، في هذه اللقاءات، عن عدد ممثلي الدول المهمين ووكالات الأنباء الذين التقوا بهؤلاء القادة النسائيين الجدد، وعن عدد الجوائز الدولية التي نالوها بفضل جهودهم في «عملية السلام» وتقدُّم المرأة. ورغم ذلك، لم تكن هذه اللغة مقنعةً للقادة القدماء، بل وتُقابَل أحياناً بالسخرية، على حد تعبير أحد القادة «القدماء»: «حين كنا ننظّم المظاهرات، كانوا يوقفون سياراتهم أمام التظاهرات، ويُخرجون شعاراتهم ويقفون في الصف الأول ليتم تصويرهم. لعل بمقدورهم تسويق هذا للخارج، ولكن لم يكن ثمة من يصدّق ذلك في الداخل».
لقد تحوّلت الدعوة للتغيير الاجتماعيّ إلى مشروعٍ زي وخطة، وجدولٍ زمنيّ، وميزانيةٍ محدودةٍ ينبغي أن يكون «مملوكاً» بهدف الترويج له وتأمين تمويلٍ أكبر. ويتفاقم هذا الأمر مع «متلازمة الرصاصة السحرية» (فيفيان ١٩٩٤): الرأي المنتشر بين أعضاء الـ«إن جي أوز» المسؤولين عن تصميم وإنتاج وترويج المشاريع بأن عليهم إثبات نجاحهم فيما لو أرادوا الحفاظ على تمويلهم. وثمة لازمةٌ مترافقةٌ مع متلازمة الرصاصة السحرية هي نزعةٌ لتمويه الأخطاء وتقديم المشروع كقصة نجاحٍ مبالغٍ بها. إن التفسير المعتمد حصرياً على ضغط المتبرع ناقصٌ على أية حال، إذ يمكن اعتبار الـ«إن جي أوز» إسهاماً في قصص نجاح الممولين. وحين يكون الممولون مُنقادين بمنطق فعالية أموالهم، فالـ«إن جي أوز» منقادةٌ بضرورات التخصص والترويج. إنه «منطق المشروع» إذاً، وتنجيز القضايا المرتبطة بالتغيير الاجتماعيّ والمشاركة الشعبية، ما ينبغي التدقيق فيه. وليس ثمة وضعٌ تكون فيه هذه الحالة في أقصاها أكثر مما يتعلق بالنشاطات المترافقة بـ«السلام» في هذه المنطقة.
السلام المبرمَج بمشاريع
ترافق المظهر البصريّ لـ «عملية السلام» (المصافحة بين رابين وعرفات في حديقة البيت الأبيض عام ١٩٩٣) بغزارةٍ مع المشاريع المتمحورة حول تسوية النزاع، معايير بناء السلام، بناء الثقة، «توليد عملية السلام»، و«المفاوضات الموازية» ممولةٍ من متبرعين دوليين. وعادةً ما تتضمن هذه المشاريع، المكتوبة بإنكليزيةٍ تقنيةٍ عالية، ناشطين في شؤون المرأة في مؤتمراتٍ بأوروبا أو في اللقاءات الأميركية مع إسرائيليين، بهدف تحطيم الحواجز النفسية، دفع النساء إلى صنع القرار، وتقوية المفاوضات الموازية المعتمدة على الجندر. وفي معظم الحالات كان اختيار النظراء المحليين يقع على عاتق الممثلين الدوليين.
تُؤخذ كثير من القرارات السياسية المتعلقة بقضايا محورية ترتبط باللاجئين، القدس، أشكال المقاومة، وشكل الدولة المستقبلية في المؤتمرات في المجال الدوليّ دون استشارة أحد في البلاد. قد يجادل البعض بعدم وجود نظير للاستشارة. قد يكون هذا صحيحاً، وبالفعل فإن كثيراً من الممثلين الذكور في المجال الدوليّ لا يستشيرون أحداً «في البلاد». ولكن الاختلاف في نشطاء الـ«إن جي أوز» الفلسطينية هو أنهم غير مدعومين من أيّ ممثلٍ سياسيٍّ شرعيٍّ في السلطة الفلسطينية أو المجتمع المدنيّ، إذ هم لا ينتمون إلى أية شريحةٍ انتخابيةٍ أو حزبٍ سياسيٍّ أو منظمات. وادّعاء المؤهلات والتخصصات النسوية هو المعيار الأساسيّ لكي يكون المرء مؤهّلاً للمشاركة في هذه المؤتمرات. وتعد التقارير المكتوبة بحرَفيةٍ، وقنوات التواصل السهلة والفعالة هامةً في هذا السياق. وعلى أية حال، فإن بعض نخب هذه الـ«إن جي أوز» يفتقرون للتدريب السياسيّ كقادةٍ ناشطين، الأمر الذي يؤثر، في كثيرٍ من الأحيان، على شرعيتهم في البلاد.
إن انتشار أنواع محددة من المشاريع يرتبط عادةً بسلطة جماعة المتبرع في الإملاء أو التأثير على أجندات الـ إن جي أوز المحلية (كوينبرت وسنغر ١٩٩٦؛ بنتو-دوشينسكي ١٩٩١). ويدّعي البعض أن تدفق مثل هذه المشاريع لا يعكس بالضرورة سياسةً ممنهجةً من قبل الـ«إن جي أوز» والمتبرعين الدوليين. فمجتمع المتبرع الدوليّ ليس متناغماً، بل مرتبط بمصالح، رؤى، وسياسات متباينة. وعلى سبيل المثال، تقترح تشابوت (١٩٩٩) بأن ثمة اختصاصيين دوليين في التنمية استخدموا مصالحهم الشخصية، المختلفة عن مصالح مموليهم، لتحقيق دورٍ أكبر للـ«إن جي أوز» الدولية في نظام الحكم العالمي. وتقول بأن هؤلاء الممثلين الدوليين قاموا بتطوير «خطاب تنميةٍ، فيه تأكيدٌ متزايدٌ على دور العوامل الخارجية في التنمية الوطنية، ويقوم، في الوقت ذاته، بتحقيق الاستقلال الذاتيّ للدولة وخلق فضاءٍ للمثلين غير المرتبطين بالدولة في التنمية» ( ١٩٩٩: ٢٣٨).
واني أجادل بأنهم، علاوة على قدرتهم على إقناع المتبرعين الدوليين بأهمية عملهم، ينغمس «ناشطو السلام»، بالقدر ذاته، في هذه العملية مدفوعين بمصالحهم الذاتية. وارى ان الاشتغال في نشاطات «عملية السلام» من قبَل كثيرٍ من الـ«إن جي أوز»، بعيداً عن قضية حصولها على التمويل، يدعم رغبتها باكتساب المزيد من السلطة والشرعية، إذ قد يسهم نشاط «عملية السلام»، في نهاية الأمر، في تشكيل قاعدة سلطةٍ لنخبة الـ«إن جي أوز» للوصول إلى مواقع صنع القرار سواء في السلطة الفلسطينية أو في قيادة الحركات النسائية الفلسطينية وغيرها من الحركات الأخرى.
الاختصاصيون الجدد
لقد أنتج الجَمْع بين التعليم وخبرة العمل كادراً من الاختصاصيين الدوليين في التنمية ممن يقضون جلّ حياتهم العملية في سلسلة من التكليفات في العواصم الكبرى العالمية وعواصم البلاد منخفضة الدخل. وتقترح كارابيكو أن هؤلاء الاختصاصيين أصبحوا منفصلين بدرجة ما عن بلادهم الأصلية؛ إذ قد تكون آراؤهم ومصالحهم مختلفةً كلياً عن مصالح المشرّعين والمواطنين الاعتياديين الذين يموّلون منظمات التنمية الدولية. ومع الحفاظ على تلك المسافة عن مموّليهم، يجدون فرصاً وإغراءاتٍ فريدةً لممارسة امتيازات شخصيةٍ واختصاصية. إن هؤلاء الاختصاصيين، لا السياسيين أو الدبلوماسيين الوطنيين، هم من أسس الخطاب التنموي الدوليّ، وكتَبَ تقارير الأمم المتحدة، ووضعو مسوّدات التصريحات في المؤتمرات، وصمّم الاستراتيجيات اللاحقة للمؤتمرات وساعد الدول-الأمم الجديدة على تغيير سياساتها التنموية الوطنية (كارابيكو ٢٠٠٢).
ومع حيازتهم لسلطة الـ«إن جي أوز» الدولية، قد يظن المرء أن بمقدور بعض هذه السلطة تقديم تمويلٍ مقطّر ومزيد من النفوذ للاختصاصيين المحليين «للقيام بالعمل الاختصاصيّ»، أي إنجاز خطة المشروع، والترويج والتقييم، على الأرض. وتتزايد قوة العلاقات مع الممّول بمقدار جودة العمل الاختصاصيّ. وبمقدار ما يكون الاختصاصيون المحليون على مستوى التوقعات، تتزايد فرصهم ليصبحوا جزءاً من «المجتمع الافتراضيّ» (كاستيلز ١٩٩٦) الذي يخلق طريقا للمهنة قامت بشقّه تلك المنظمات ذات التوجهات الإنسانية التي تصوغ ثقافتهم ونظام إيمانهم. ويتضمن هذا النظام إيماناً بمركزية التنمية للتقدم البشريّ في مسؤولية الحكومات عن ترويجها، في الحاجة للمساعدة التنموية الدولية لدعمها، في تعريف التنمية بحسب الشروط «الإنسانية» لا الاقتصادية (أو السياسية) (تشابوت ١٩٩٩). وبذا، لا تكون الصلة مع المانحين الدوليين طريقاً باتجاهٍ واحد، بل يتفاعل المانحون والممثلون المحليون في شبكةٍ من العلاقات الأكثر تعقيداً من مجرد فرض طرف ما إرادته على الآخر. هذا لا يعني بأن للطرفين السلطة ذاتها، بل لمجرد إيجاد إشكاليةٍ في الصلات بينهم لتتضمن المصالح الشخصية لكلٍ من المانح والمتلقّين مما يعطيهم السلطة لتحديد ما ينبغي الأخذ به وما ينبغي تركه.
ملاحظات ختامية
في التحليل السابق، أجادل بأن التخصص، كجزءٍ من عملية التنجيز، قد لا يقود إلى مشاركةٍ أكبر لـ«الجماعات المستهدَفة» أو مستوى القاعدة الجماهيرية. فـ«منطق المشروع» يدفع قُدُماً نحو الأعلى باتجاه المشاركة العمودية، لا نحو الأسفل باتجاه المشاركة الأفقية، وقد يقود إلى تركيزٍ أكبر للسلطة في يد الإداريين. ويؤدي التنجيز إلى تحويل الدعوة للتغيير الاجتماعيّ إلى مشروعٍ بخطةٍ، جدول زمنيّ، وميزانية محدودة يكون «مملوكاً» للترويج، ويستخدم لأغراض المسؤولية وجها لوجه مع الممولين. وقد يؤدي تركيز السلطة هذا إلى كبح انتشار حراك اجتماعيّ يكون في حاجةٍ مستمرة لارتباط الشبكيّ، التأنّي، والحشد، ويعتمد على اتصال يوميٍّ وصلاتٍ شخصية. إن عملية الانتشار هذه مستهلِكة للزمن وصعبة على الاحتواء في جدولٍ زمنيّ، لا سيما في الوضع دائم التغيّر في فلسطين. وفي هذا السياق، قام التخصص ومنطق المشروع بتقديم قاعدة سلطة جديدةٍ لنخب الـ«إن جي أوز» لانتقاء قضايا المرأة التي ينبغي دفعها أمام الاهتمام العام. ويؤدي نقص الوعي عند اختصاصيي الـ«إن جي أوز» في القوى الفاعلة في المجتمع المدنيّ والمجال العام إلى المجازفة بإضعاف الدعوات إلى علاقاتٍ جندريةٍ أكثر اتزاناً، وترسيخ المزيد من الممثلين المحافظين في المجتمع المدنيّ.
وغالباً ما يتم تقديم الـ «إن جي أوز»كمتلقّين سلبيين للتأثير الخارجيّ، تحت رحمة ميول المتبرعين. ولكن تحليل الـ «إن جي أوز المعتمدة على التبرعات» في فلسطين يوضح الدرجة التي وصل إليها ممثلو الـ«إن جي أوز» في امتلاك السلطة للتلاعب، إعادة التفاوض، وشَرْعَنَة أجندات المتبرعين، مستخدمين المبالغ المخصصة للسلام لتوسيع أجنداتهم الخاصة. إنهم جزء من «نخبة معولمة» وبذلك يكونون مرتبطين باللاعبين الدوليين وتابعين لأجندات دولية. وقد أثبتت هذه الصلات محورية دورها في «تنجيز» الأجندة الوطنية في فلسطين، محوِّلةً إياها من نضال لتحقيق الحكم الذاتيّ ودولةٍ ذات سيادة إلى «مشاريع» خاضعةٍ لتمويل المتبرع، بحيث يلعب المتبرعون دوراً محورياً في انتقاء نظرائهم المحليين.
وما نراه كنتيجةٍ لصعود الـ«إن جي أوز» ككلمة طنّانة تنموية هي نزعة لتخطئة أيّ وكلّ منظمة تتبنى هذا المصطلح لاعتبار نفسها تقدمية وديمقراطية. وفي حالة فلسطين، كان خطاب الـ«إن جي أوز» يُستخدم لخلق فضاءٍ في المجال العام على حساب المنظمات القاعديّة الجماهيرية القديمة. وقد أعادت صياغة الأساس «القديم» للشرعية القائم على المقاومة والتضحية كأساسٍ لتبعية المرأة وعزلها. وقد ساهمت قليلاً في السياق الكليّ الاجتماعيّ، الاقتصاديّ والسياسيّ بالمقارنة مع رغبات المتبرّعين والنخب الذين كانوا يسعون لدفع النمو المتسارع لهذه المنظمات في هذا الوضع. وبمواجهة هذه الخلفية، أؤمن بأن الـ«إن جي أوز» النسائية والخطابات الجديدة التي جلبوها إلى الفضاء العام قد عملت–وإنْ بشكلٍ غير متعمّد – لنزع السلطة، وتقويض الشرعية والتسبّب في تشظّي الممثلين العلمانيين للمجتمع المدنيّ وحركاتهم في فلسطين.
وبمواجهة كل الافتراضات المنتشرة في دوائر التنمية الدولية القائلة بأن الـ«إن جي أوز» أقرب الى «الشعب»، قادرة على مخاطبة الجماهير على مستوى القاعدة ومحرك للدمقرطة والتنمية، تبدو الحالة الفلسطينية مثل منبِّهٍ شديد للحاجة إلى الذهاب أبعد من الكلمة الطنّانة بحدّ ذاتها، والتأمل بنظرةٍ طويلةٍ وحادةٍ إلى ما يحدث فعلياً. وكما طرحتُ هنا، بما أن تنجيز الحركات النسائية الفلسطينية واستخدام الـ«إن جي أوز» النسائية كعملة في الحديث الذي تروّجه الـ«إن جي أوز» الدولية قد ساهم في تنامي السلطة والشرعية للإسلامويين، فمثل هذه النتيجة كافيةٌ ليكون هذا الاحتراز ضرورياً.
ترجمة: يزن الحاج
- ١. التنجيز NGOisation: يشير هذا المصطلح الحديث إلى قدرة المنظمات غير الحكومية «إن جي أوز» على تفريغ خطاب وممارسات الحركات الاجتماعية من مضمونها السياسيّ. وقد استخدم عدد قليل من الكتّاب هذا المصطلح، لعل أبرزهم الروائية والناشطة الهندية أرونداتي روي التي تحدّثت في مناسباتٍ متعددة عن «تنجيز السياسة»، وبالأخص «تنجيز مفهوم المقاومة»؛ إضافةً إلى سونيا ألفاريز (المُشار إليها في هذا المقال) والتي تشغل حالياً منصب أستاذ كرسي لينارد هورويتز لسياسات أميركا اللاتينية في جامعة ماساتشوستس أمهيرست. (المترجم)
- ٢. مناضل طائرة الجت Jet-setting Militants: ظهر مصطلح «أناس طائرة الجت» للدلالة على المشاركين الدائمين في النشاطات والمؤتمرات الباذخة، وعلى جماعة الأغنياء الموجودين دومًا كتجمعاتٍ في تلك المؤتمرات (حيث يتنقّلون عبر الطائرة الخاصة من اجتماعٍ لآخر). وقد دخل هذا المصطلح إلى التداول كبديلٍ عن المصطلح الأقدم «مجتمع المقهى» Café Society. (المترجم)
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.