في ١٢ تموز ٢٠٠٦، وبعد بضع ساعات من خطف حزب الله لجنديين إسرائيليين على الحدود بين اسرائيل ولبنان، شنت تل أبيب حرب لبنان الثانية بأهداف واسعة، محورها نزع سلاح حزب الله. بعد شهر من القتال، كانت اسرائيل مجبرة على قبول اتفاق وقف إطلاق النار الصادر عن مجلس الأمن الدولي، الذي لحظ إبعاد حزب الله عن الحدود ونشر الجيش اللبناني، بدعم من قوة متعددة الجنسيات، وذلك على طول الحدود التي كان قد أبعد عنها في الحرب الأهلية عام ١٩٧٦. للوهلة الأولى، أشارت الحرب إلى وجود شرخ في العلاقة بين جيش الدفاع والمجتمع الإسرائيليين. فالانحدار البارز في إيمان المواطنين بالجيش عكس خيبة الأمل لدى مختلف الجماعات من أداء الجيش الإسرائيلي في الحرب (بن دور وآخرون ٢٠٠٧). وقد قلص شعور الخيبة ذاك من قيمة أي إنجاز استراتيجي زعمت الحكومة تحقيقه (ماكوفسكي ووايت، ٢٠٠٦). مع ذلك، لطالما كان هناك اعتراف من قبل باحثين إسرائيليين بأزمة في العلاقة بين العسكر والمجتمع (انظر على سبيل المثال «بيري»، ٢٠٠١). لذا فإن للأمر صلة في البحث الجاري حول كيفية اشارة الحرب إلى حصول تغيير حقيقي في مكانة الجيش أو إلى أي مدى دفعت بدلاً من ذلك، توجهات سابقة أكثر هيكلية وتنظيماً، ساهمت في إنتاج الفشل. أما الأمر الأكثر حساسية فهو دراسة الآثار المحتملة للحرب على العلاقات بين الجيش، المجتمع، والحياة السياسية.
يمكن القول بأن حرب لبنان الثانية عكست وسرَّعت حصول تغيير أوسع في طريقة الإشراف المدني على الجيش. هذا التغيير يمكن وصفه بأنه تحول من «السيطرة الجمهورية» إلى «سيطرة السوق» على الجيش. فنموذج الجندي ــ المواطن التاريخي الذي بواسطته كان المجتمع السياسي يشرف على الجيش من خلال المجموعات الاجتماعية التي تخدم في الجيش ومن خلال الشبكات الاجتماعية التي برزت منه، حلت محله سيطرة السوق. إذ تتسم سيطرة السوق بالمراقبة ذات التوجه التجاري لنشاط الجيش، والناشئة من التغيير في تركيبته الاجتماعية، وتأثير الجو التنافسي على غرار السوق الذي يجبر الجيش على تسويق خدماته عن طريق السماح بالاختراق الإعلامي والحوار مع الشعب مباشرة، و«تسليع» الخدمة العسكرية كجزء من عملية الاحتراف. هذا النوع من السيطرة له تأثير متناقض على حرية الجيش بالعمل: تتوافر للجيش حرية عمل أكبر في إدارة السياسات الحربية، وذلك عائد إلى التغييرات في تركيبته الاجتماعية إلى حد كبير، لكنه بالمقابل يمتلك موارد أقل أيضاً لتمويل هذه السياسات، بسبب انتقادات مضخمة صادرة عن اتجاه السوق.
يقدم القسم الأول من هذه الورقة النظرية التي تحدد أساس سيطرة السوق. ويستعرض القسم الثاني حالة اسرائيل كمثال لهذه النظرية. أما القسم الثالث فسيركز على حرب لبنان الثانية وآثارها.
المفاهيم النظرية
تاريخياً، كان النمط الجمهوري للسيطرة على القوات المسلحة متجسداً في نموذج الجندي ــ المواطن الذي بواسطته نُقلت السيادة من الحاكم إلى مجتمع المواطنين العاملين في الجيش والمسيطرين عليه سياسياً. فكلما اعتمدت الجيوش على أسس جماهيرية أكثر، كانت الدول أكثر استجابة للمساومة مع جماعات تتحكم بالموارد البشرية والمادية الضرورية لشن حرب. وحصل تبادل في المساهمة العسكرية مقابل السيطرة السياسية على الجيش عبر توطيد أسس المؤسسات التمثيلية وأشكال أخرى من الحقوق السياسية والاجتماعية (تيلي، ١٩٩٧، ١٩٣-٢١٥). فضلاً عن ذلك، وحيث إن الدولة الحديثة ربطت المشاركة العسكرية بالمشاركة السياسية، فقد كان الذهاب للحرب مشروطاً بدعم المجتمع المحلي، تحديداً بدعم أولئك الذين يقع على أكتافهم مباشرة عبء الحرب وكذلك مجموعات المواطنين الذين يوفرون الطاقة البشرية للجيش لأداء تلك المهمة. بمعنى آخر، كان الجيش مراقباً، بطريقة غير مباشرة، من قبل هذه الشبكات الاجتماعية من الشباب الذين يكوّنون صفوفه. كان هذا النموذج الجمهوري للسيطرة السياسية. تجدر الإشارة إلى أن مصطلح «السيطرة المدنية» يعود إلى الترتيبات المدنية المشتركة الهادفة إلى تقييد قدرة الجيش على العمل المستقل من خلال مجموعة وتركيبة من الآليات المؤسساتية وغير الرسمية (كالإعلام وجماعات المصالح/ الاحتجاجات). إن السيطرة الفعالة تعني أن المدنيين قادرون على وضع حدود وقيود على حرية الجيش بالعمل بأسلوب يتوافق والأهداف السياسية التي يرسمها السياسيون بنحو مستقل، وأن الجيش سيلتزم بهذه التوجيهات المدنية
منذ السبعينيات، شهدت المجتمعات الغربية، وبشكل تدريجي، فصلاً أساسياً للمواطنة عن الجندية، الأمر الذي أضعف الدافع لدى الطبقة الوسطى للخدمة في الجيش. هذا الدافع للخدمة انحدر بشكل بارز عندما أصبحت الطبقة الوسطى قادرة على تحقيق إنجازات لم تعد تعتمد بعد اليوم على الخدمة العسكرية (بورك، ١٩٩٥). عندها أصبح الجيش موظفاً بكل ما للكلمة من معنى. إذ لم يعد الأشخاص العاملون في الخدمة يتبعون استدعاء ما وإنما أصبحوا منخرطين في مهنة (موسكوس ١٩٧٧). واسترعت الجيوش المهنية اهتمام الطبقة الوسطى الأدنى، الأقليات الإثنية، والنساء، الذين شغلوا الفراغ الذي تركته مجموعات الطبقة الوسطى (إنلوي، ٢٠٠٣). بناءً على ذلك، حصل تحوّل من نمط المواطن ــ الجندي التاريخي المسيطر سياسياً إلى ما يمكن وصفه «بسيطرة السوق على القوات المسلحة»، تحول يمكن رسمه وقولبته كالتالي.
المراقبة ذات التوجه السوقي
على حد تعبير المؤرخ بروس بورتر، «إن أكثر ما يكون صوت الناس مسموعاً هو عندما تحتاج الحكومات إما إلى أموالهم وإما إلى أجسادهم دفاعاً عن الدولة» (بورتر، ١٩٩٤، صفحة١٠). مع ذلك، فقد ولَّدت إعادة التنظيم الاجتماعي للجيوش نموذج تعبير متمايزاً: فقد احتجّت الطبقة الوسطى، تدريجياً، على «تضحيتها المالية»، ما يعني، العبء المالي لاستعدادات الحرب، وتبنّت انتقاداً للجيش ذا توجه سوقي، ما قاد إلى تقليص حجمه وإلى فرض قيود موازنة عليه. في الوقت نفسه، تقبّل «المضحّون بأجسادهم» خسارتهم إما بسبب القيمة الاجتماعية التي عزوها للخدمة العسكرية وإما بسبب عجزهم عن إطلاق احتجاج مجدٍ قابل للتطبيق، وهو عجز تجسّد خصائصه الطبقة الوسطى الأدنى. في ظل هذه الظروف، بقيت الأسس نفسها للتفكير العسكري لا اعتراض عليها.
التنافس على غرار السوق
منذ الثمانينيات، كان على الجيوش أن تتنافس للحصول على مواردها البشرية والمادية. لقد دفعت التنافسية الجيوش الغربية إلى نشر خلافاتها علناً مع السياسة الرسمية بغرض النقاش وتجنيد حلفاء. وقد أشار المحلل العسكري سام سركيسيان إلى أن الجيوش لا يمكنها البقاء شريكاً سلبياً، بل عليها التحرك والاقتراب أكثر من النظام السياسي (٢٠٠٢). فضلاً عن ذلك، إن الجيوش تقوم بالتحاور مباشرة مع الشعب بأسلوب أدى إلى تعديل العلاقات العسكرية ــ الإعلامية في «عصر ما بعد الحداثة» من طريقة احتكار الجيش للإعلام (ضمن إجراء تبادل للقيود الإعلامية في مقابل الوصول إلى المعلومات)، إلى طريقة جديدة يجري فيها «التودد» لوسائل الإعلام من قبل الجيش، الذي تبنى أساليب العلاقات العامة (موسكوس، ٢٠٠٠). هذا التغيير يعني، من بين جملة أمور، أن حواراً مباشراً بين الجيش والشعب قد يؤثر في، ويعدِّل، النموذج التقليدي للسيطرة المدنية التي كان قد توسط بها سابقاً السياسيون (انظر جونسون وميتز، ١٩٩٥).
التسليع
إن النموذج التقليدي لـ«المواطن ــ الجندي»، المبني على أساس السيطرة السياسية، يحل محله، تدريجياً، نموذج جديد هو سيطرة السوق. فالمراقبة ذات التوجه السوقي للجيش، إخضاع الجيش لتنافس السوق، وتسليع الخدمة العسكرية ــ مع الآثار السياسية المترتبة على ذلك ــ كلها تجسد خصائص نوع السيطرة الجديدة. وفي حين أن النموذج الجمهوري يتسم بالمشاركة السياسية المباشرة تتوسطها مؤسسات سياسية تهدف إلى تشكيل سياسات تتعلق بالسلم والحرب من خلال مراقبة الجيش، فإن سيطرة السوق تتسم بالضغوط المباشرة وغير المباشرة الموضوعة على مؤسسات سياسية، مع تركيز على موارد الجيش.
انتقال السيطرة السياسية في اسرائيل
منذ بداياتها، كانت المراقبة السياسية لجيش الدفاع الإسرائيلي تتزايد وبثبات. وللمفارقة، كلما ازدادت عسكرة المجتمع الإسرائيلي والحياة السياسية فيه ــ بمعنى أن يصبح استخدام القوة أمراً مشروعاً ــ كان السياسيون أكثر نجاحاً في مأسسة السيطرة الفعالة على جيش الدفاع الإسرائيلي. إن غرس مبدأ إخضاع القوات المسلحة للمؤسسة السياسية في الأذهان خلال الفترة الممتدة ما قبل الدولة وأوائل عمر الدولة أدى إلى تمهيد الطريق أمام بناء قيود رسمية وغير رسمية على العمل العسكري المستقل خلال الفترة الممتدة من الخمسينيات وحتى السبعينيات (ليفي، ١٩٩٧).
منذ حرب ١٩٧٣، أصبحت المراقبة المؤسساتية (من قبل الأجهزة المدنية) أقوى بكثير، وكانت مدعومة بواسطة آليات مراقبة مؤسساتية عامة. ودخلت الحركات الاجتماعية الساحة، بدءاً بحركة « السلام الآن» في السبعينيات وصولاً إلى حركة «عدالة» (منظمة الحقوق المدنية للفلسطينيين الإسرائيليين) في العقد الأخير من القرن الماضي، واستخدمت وسائل عامة وقانونية لتقييد جيش الدفاع الإسرائيلي. كانت هذه الجهود متفشية جداً بحيث تآكلت الاستقلالية الذاتية الاحترافية للجيش إلى درجة أن جيش الدفاع الإسرائيلي اتسم بصفة «الخضوع المبالغ فيه» للمؤسسات المدنية (كوهين، ٢٠٠٦). أما القضايا التي تمكنت من الإفلات من نظر العامة فهي مراقبة الآن بسبب عمل هذه الحركات والضغوط التي فرضتها على مؤسسات الدولة.
على سبيل المثال، كانت مناقشة الموازنة الأمنية تحصل علناً منذ الثمانينيات. وكان الأداء العملي لجيش الدفاع الإسرائيلي مراقباً منذ «الخطأ الفادح» لحرب ١٩٧٣. إضافة إلى ذلك، وبعد حادث التدريب في قاعدة «تزيليم» في صحراء النقب في العام ١٩٩١ التي قتل فيها خمسة جنود بواسطة صاروخ ــ حادثة أشعلت تظاهرات غير مسبوقة من قبل الأهالي ــ كان يجري التدقيق بالحوادث العسكرية بنحو روتيني. في الوقت نفسه، أدّت التظاهرات ضد التوزيع غير العادل للعبء العسكري إلى محاولات تشريعية للحد من سلطة جيش الدفاع الإسرائيلي باستدعاء الاحتياط. أخيراً، نجحت الجماعات المهمشة من المثليين جنسياً والنساء في إزالة القيود الموجودة على ترقياتهم داخل الجيش.
هذا النموذج الخارج عن المؤسساتية يجسّد جوهر السيطرة الجمهورية. فمعظم الجماعات الاجتماعية المنخرطة في عملية المراقبة هذه كانوا من أهالي جنود الاحتياط والمجندين الذين دعموا وعززوا مشاركتهم العسكرية وهم يضحّون للتعبير عن مزاعمهم بأسلوب يؤثر في أداء جيش الدفاع الإسرائيلي لوظيفته. وقد كشف العصر الذهبي للجمهورية عن نفسه، إلى حد ما، بعد حرب لبنان الأولى عام ١٩٨٢. فبعد عدة أسابيع من اندلاع الحرب، برزت حركات احتجاج، محورها حركة «السلام الآن» الراسخة أكثر من غيرها (أسست عام ١٩٧٨)، للتظاهر ضد تحول الحرب في لبنان من عملية سريعة إلى محاولة لتشكيل «نظام جديد»، والذي وصل إلى ذروته في حصار بيروت. وعن طريق المطالبة ببديل للطريقة العسكرية المقبولة، وسَّعت هذه الحركات نطاق انتقادها لا ليشمل فقط طريقة عمل الجيش وإنما هدفه نفسه (انظر هيلمان، ١٩٩٩). أما الأمر المحوري في هذا النقاش فكان تعريف الحرب كـ«حرب خيار»، المتميز عما كان يوصف به سابقاً، أي حرب اللاخيار»، وبالتالي غرس مفهوم البديل للعدوانية.
مع هذا التغيير، أصبحت المراقبة المؤسساتية مخولة الصلاحيات، بدمجها قيماً جديدة في الأسلوب الذي كانت تسيطر به على الجيش سياسياً. عملياً، ومنذ حرب ١٩٨٢، تآكلت استقلالية الدولة الداخلية في توجيه وتنفيذ السياسات العسكرية. ووصلت هذه الظاهرة إلى ذروتها في أواخر التسعينيات مع حركة «الأمهات الأربع»، المكوّنة بغالبيتها من أمهات الجنود الذين خدموا في لبنان اللواتي تظاهرن ضد ما اعتبرنه تضحية لا معنى لها في الحرب الجارية في لبنان. وكانت تظاهرة «الأمهات الأربع» احد العوامل التي دفعت الحكومة إلى اتخاذ قرار بسحب الجيش الإسرائيلي أحادياً من لبنان في العام ٢٠٠٠، بعد ١٨ عاماً من الحرب.
مع ذلك، ورغم القيود المؤسساتية على جيش الدفاع الإسرائيلي، ورغم التحدي للعسكرة الثقافية، استعاد الفكر العسكري تفوقه على الفكر المدني. وبالتالي، فقد صيغ اتفاق أوسلو كاتفاق عسكري، مع تأكيد أكبر على الأمن منه على الاقتصادات والقدرة السياسية على إدارة الدولة (مايكل، ٢٠٠٧). لاحقاً، وعندما اندلعت انتفاضة الأقصى، أملى الجنرالات أوامرهم برد هجومي على الصدامات مع الفلسطينيين في الوقت الذي ظل فيه السياسيون صامتين (بيري، ٢٠٠٦). وبالتالي كانت ترتيبات الإشراف المؤسساتي على المستوى السياسي أقل أهمية عندها. وللمفارقة، ساهمت عسكرة الحياة السياسية، وإلى حد كبير، بمراقبة الجيش، وليس العكس. لقد رفعت وعي الجيش وإدراكه لضرورة إبراز نفسه كمؤسسة شاملة، سياسية تقوم بمناقصات الحكومة، وخلقت اعتماداً على الصف السياسي بصفته مصدر الموارد للجيش والمزود له (ليفي، ١٩٩٧).
تلخص حرب لبنان الثانية المرحلة الثالثة في تطور السيطرة السياسية، بعد المراحل المؤسساتية والخارجة عن المؤسسات التي ميَّزت العملية الانتقالية من السيطرة الجمهورية إلى سيطرة السوق.
سيطرة السوق خلال الحرب وبعدها
أثّرت العناصر المتأصلة في أعراض سيطرة السوق في الأسلوب الذي كانت تدار به الحرب كما أثّرت في العلاقات العسكرية ــ الاجتماعية لاحقاً على غرار النماذج الثلاثة في القسم النظري: المراقبة ذات التوجه السوقي، التنافس على غرار السوق، والتسليع.
إن التعديل الاجتماعي لجيش الدفاع الإسرائيلي مثال ممتاز عن التمييز بين «التضحية بالمال» و«التضحية الجسدية».فمنذ حرب ١٩٨٢، كانت طبقة الأشكيناز العلمانية الوسطى ــ الجماعة الاجتماعية المهيمنة التي أسست جيش الدفاع الإسرائيلي، وشغلت أعلى المراتب فيه وعرفت بإنجازاتها في الجيش ــ تنأى بنفسها تدريجياً عن الخدمة العسكرية وترفض الجيش كسبيل ومسار وظيفي. وقد ساهم الضعف الذي أثبته الجيش في حرب ١٩٧٣، والذي تضخم لاحقاً في لبنان وفي الانتفاضة الأولى (١٩٨٧-١٩٩٣) بتآكل هيبة الجيش والدافع إلى الخدمة العسكرية.
اشتدت هذه العملية مع اختراق العولمة الاقتصادية والثقافية للمجتمع الإسرائيلي بدءاً من منتصف الثمانينيات، والتغييرات البنيوية في الاقتصاد في روح العقيدة الليبرالية الجديدة التي تم تقديمها آنذاك. لقد عززت العولمة أخلاقيات اقتصاد السوق بخطابه الحامل للخصائص الليبرالية والذي تحدى الرموز والالتزامات الجماعية السابقة (رام، ٢٠٠٥). أما النتيجة الإجمالية فكانت تآكلاً في الدور التاريخي للجيش في تعريف وتحديد الهرمية الاجتماعية لإسرائيل التي بواسطتها تحولت المكانة العسكرية إلى مكانة اجتماعية مدنية ومحددة الجماعات الاجتماعية المهيمنة والهامشية. أما الآن، فإن قيمة مساهمة المرء في الدولة من خلال الخدمة العسكرية لم تعد بالضرورة المعيار الذي يحدد توزيع السلع الاجتماعية ويبرر الهيمنة الاجتماعية لمجموعة على حساب أخرى. لقد حل الإنجاز الفردي مكان اختبار المساهمة الوطنية (شافير وبيليد، ٢٠٠٢). وفاقم اتفاق أوسلو (١٩٩٣ــ١٩٩٩) من هذا التوجه، وأدّت «أزمة الدافع» الناجمة عنها إلى هبوط أكبر في عدد الجماعات العلمانية من الطبقة الوسطى في الوحدات القتالية (انظر نيفو وشور، ٢٠٠٢).
خلال التسعينيات، ملأت الفراغ الذي أحدثه تراجع الطبقة الوسطى العلمانية مجموعات كانت تُسند إليها سابقاً أدور هامشية في الجيش:
مزراحيم (المهاجرون من بلدان عربية) في أقل القطاعات تنقلاً؛
الأشكيناز المتدينون ــ الوطنيون، تحديداً الشباب المتدينين غير الحريديم (المتدينون المتشددون)، بعضهم ممن كانوا طلاب مدارس دينية؛
المهاجرون في الآونة الأخيرة، تحديداً من الاتحاد السوفياتي السابق وإثيوبيا؛
الدروز والبدو، الذين هم جزء من الأقلية غير اليهودية في إسرائيل؛
النساء، رغم أن ذلك كان يحصل بشكل تدريجي (البحث في إعادة التنظيم الاجتماعي مستمد من ليفي، ٢٠٠٧، صفحة ٧٧-٩٠).
هذا التغيير ملأ الجيش بمجموعات موالية للطريقة العسكرية. إذ جاهدت هذه المجموعات الجديدة لبناء هويتها المحاربة الفريدة لمواءمتها مع قيمة الدفع قدماً بـ«الصالح العام»، الذي كان يعتبر قيمة بحد ذاته. فالرغبة بالنجاح في الجيش جعلت التوجهات السياسية وحتى الأخلاقية السابقة تبدو ضبابية. وكما أشاد عدد من أفرادها بالقيم الوطنية، فقد اعتبرت هذه المجموعات الخدمة العسكرية بمثابة وسيلة لتحقيق قيمها الإيديولوجية عن طريق حماية حدود «إسرائيل الكبرى» في مقابل العالم العربي العدائي على ما يبدو.
بسبب التركيبة الجديدة لجيش الدفاع الإسرائيلي، أصبحت التضحية «بالجسد» في مقابل التضحية «بالمال» متمايزتين ولم تعودا متداخلتين، تغيير كان له آثاره بالنسبة إلى السيطرة السياسية على جيش الدفاع الإسرائيلي.
إن «المضحّين بالمال» هم المعنيون غالباً بموارد الجيش كدافعي الضرائب وأولئك الذين يتحملون العبء الأكبر للتباطؤ الاقتصادي في زمن الحرب. ولا شيء أوضح في هذا التوجه من الصعود المثير لحزب «الشينوي» لطبقة الأشكيناز الوسطى في انتخابات ٢٠٠٣. فقد شدد برنامج «الشينوي» على سياسات تحسين مستوى العيش لناخبيه، تحديداً الجنود السابقين من الطبقة الوسطى ــ العليا. وكان حزب «الشينوي» متحمساً بسبب العبء المزدوج لدى ناخبيه، المؤلف من العبء الضريبي والخدمة العسكرية ــ خاصة في صفوف الاحتياط، حيث الطبقة الوسطى ــ العليا كانت لا تزال مفرطة التمثيل.
وحتى عندما كان الجيش يخوض حرباً ضد الفلسطينيين، فقد عادت الانتقادات لموارده إلى الظهور بطريقة أشد وأكثر كثافة، وظهرت في الهجوم على شروط التوظيف التي يتمتع بها أشخاص في الخدمة المهنية والحزمات التقاعدية الملائمة لهم. بالتوازي مع ذلك، صادقت الحكومة على اقتطاع في الموازنة العسكرية، في الوقت نفسه الذي توفر فيه إعانة ضريبية لصالح الطبقة الوسطى وما فوق. هنا أيضاً كانت الموازنة العسكرية خاضعة لمبادئ الليبرالية الجديدة «لحكومة صغيرة» والقوة الشرائية العامة القوية، برغم انخراط جيش الدفاع الإسرائيلي في المناوشات والصدامات الجارية (على سبيل الأمثلة، انظر بلوكر، ٢٠٠٣).
عندها لا عجب أن يكون جنود الاحتياط المرسلون إلى المعركة خلال حرب لبنان الثانية قد وجدوا أنفسهم من دون جهوزية ويقاتلون بمعدّات وتجهيزات متدنية النوعية (لجنة فينوغراد، صفحة ٥١-٥٣). فضلاً عن ذلك، وكما كشفت الحرب، فقد تحدى «المضحّون بالمال» الفكر العسكري، بشكل رئيس، عن طريق التساؤل حول موارده. وقد تجنبت الحكومة حتى الإعلان عن حالة طوارئ كوسيلة لتجنب التعويض على السكان والمصالح التجارية عن الأضرار المالية الناجمة التي تسببت فيها الحرب، وإلحاق الضرر بالتصنيف الائتماني لإسرائيل في الأسواق المالية العالمية (انظر شهادة الوزير رافي إيتان في لجنة فينوغراد، صفحة ٢٥). ولم تغب قيود الموازنة عن نظر الحكومة إطلاقاً، حتى خلال الحرب.
لاحقاً، أجرى سيفر بلوكر، وهو محرر صحافي في صحيفة يديعوت أحرونوت، أكثر الصحف الإسرائيلية شعبية، تحليلاً حول مكاسب الحرب وكلفتها كوسيلة لتحدي قرار الحكومة والاعتراض على قرار زيادة موازنة الدفاع بعد الحرب. واحتسب بلوكر أن مقتل ٢٥٠ مقاتلاً لحزب الله (العدد الذي ذكرته المنظمة في تقاريرها) يساوي إنفاق ٣.٥ مليارات دولار، ما يعني أن قتل إرهابي واحد كلّف إسرائيل ١٤ مليون دولار. ويؤكد بلوكر، أنه كان بإمكان إسرائيل شراء تقاعد ٢٠٠٠ من مقاتلي حزب الله بمليار دولار ــ وتوفير مبلغ ٢.٥ مليار دولار على الاقتصاد. وأن هذا الأمر «كان ليحصل من دون حرب...». مع ذلك، وفي ضوء جو الطوارئ الذي أعقب الحرب، ومع التوقعات بوقوع جولة أخرى من الأعمال العدائية، ظلت الأصوات ذات التوجه السوقي صامتة مؤقتاً، لكن بذور انشقاقها كانت قد زرعت.
وبعد أشهر قليلة من الحرب، عيّنت الحكومة لجنة خاصة (لجنة بروديت، ٢٠٠٧) لدرس موازنة الدفاع. ووجدت اللجنة بعض الشوائب الهامة في الإدارة الاقتصادية لجيش الدفاع الإسرائيلي وانتقدته بسبب قصفه غير الفعال للقذائف والقنابل، وانتقدت هيكلية الرواتب غير الفعالة، الافتقار لحسابات الكلفة المجدية، الاستخدام غير السليم وغير المفيد للموارد الموجودة، بناء القوة الهشّ، وأموراً أخرى أيضاً. عملياً، دعت اللجنة إلى إخضاع إدارة جيش الدفاع الإسرائيلي إلى قيود اقتصاد السوق. وقد أشارت هذه التوصيات، إلى حد ما، إلى انتصار «المضحين بالمال».
من جهة أخرى، التزم «المضحّون بالجسد»، الذين تشكل الجماعات الدينية الوطنية عصبهم، بالنموذج التقليدي للمواطن ــ الجندي الجمهوري. ووفق هذا النموذج، ينبغي أن يشرف على الجيش الجنودُ الذين يشكلون صفوفه، إن لم يكن مباشرة (كما في جنود الاحتياط)، فعلى الأقل بطريقة غير مباشرة من خلال شبكاتهم الاجتماعية. وعشية فك الارتباط الأحادي عن قطاع غزة صيف ٢٠٠٥ (الذي شمل إخلاء المستوطنات اليهودية)، كشف نموذج السيطرة السياسية هذا عن نفسه في محاولات المعسكر الديني كبح الانسحاب عن طريق تشجيع الجنود على عصيان أوامر الإخلاء. ولأنه كان مقيداً بهذه المحاولة من قبل مجموعة بارزة في الجيش، فقد عدَّل جيش الدفاع الإسرائيلي استراتيجيته للإخلاء (ليفي، ٢٠٠٧، صفحة ٢٤٥-٢٧٩). وخلال الحرب على لبنان، تصاعد هذا الالتزام الجمهوري وقاد بعض الجنود المتدينين، من بينهم مستوطنون، إلى التهديد برفض القتال إلا إذا تراجع رئيس الوزراء أولمرت عن إعلانه بأن نتائج الحرب في لبنان ستعزز «خطة الالتقاء»، تحديداً خطة الانسحاب أحادياً من جزء من الضفة الغربية (ويس وحداد، ٢٠٠٧). بالواقع، لقد امتثل أولمرت لهذا الإنذار، الذي اثبت مدى فاعلية السيطرة والتحكم «من الداخل».
مع ذلك، فقد سمح «المضحّون بالجسد» للدولة باستعادة استقلاليتها الداخلية في المجال العسكري، كما تثبت طريقة الاحتجاجات.
ما إن وصل الاصطفاف الاجتماعي لجيش الدفاع الإسرائيلي إلى ذروته في أواخر التسعينيات، حتى استعادت الدولة كثيراً من قوتها وسلطتها المستقلة لإدارة سياساتها العسكرية. وعلى عكس حرب ١٩٨٢ والانتفاضة الأولى (١٩٨٧-١٩٩٣)، كانت حركة السلام خلال انتفاضة الأقصى (من العام ٢٠٠٠) صامتة تماماً تقريباً، ولم يكن لمنظمة عامة للجنود أو لأهاليهم أي تأثير هام في الساحة السياسية.
بعد حرب لبنان الثانية، كان جنود الاحتياط أول من تظاهر ضد الأداء المتواضع لجيش الدفاع الإسرائيلي. مع ذلك، فقد تركت التركيبة المتغيرة للجيش بصمتها على جنود الاحتياط، الذين وظف الناطقون باسمهم لهجة أكثر صقورية من الماضي. لقد برروا الحرب لكنهم انتقدوا إدارتها التي قادت إلى فشل متصور. ولم يطرح التبرير للحرب خلال حرب لبنان الثانية. وفقاً لذلك، وبدعم من العائلات الثكلى، ألحت المنظمات التابعة لجنود الاحتياط على تأسيس لجنة مساءلة حكومية للتحقيق بإدارة الحرب، مطلب تمت تلبيته جزئياً.
وفي أسلوب مختلف، ارتفعت المساومة بين الجيش وحركته الاجتماعية إلى مستوى جديد. فحتى ذلك الحين، كانت المساومة تجري حول شروط الخدمة على المستويين، الفردي والجماعي، أو حول الطبيعة السياسية للمهمات المصادق عليها من قبل الصف السياسي. في كل الأحوال، وبما يتعلق بعمل الجيش وأدائه، فقد كانت المساومة مقيّدة بقضايا خارجة عن صلب عمل الجيش وأدائه، كالحوادث أو التحرشات الجنسية. رغم ذلك فقد تمت المساومة على الأساس الاحترافي للجيش الآن، لا سيّما أداؤه في الحرب. فبالنسبة إلى الاحتياط على أقل تقدير، كانت هذه المساومة على استعدادهم لتلبية النداء عند الاستدعاء للخدمة في المستقبل مشروطة ضمنياً بالتحسينات في الإدارة المهنية والاحترافية لجيش الدفاع الإسرائيلي. وكانت العوائق التي يمكن المساومة عليها أدنى مما كانت عليه في الماضي.
إن التركيبة الجديدة لجيش الدفاع الإسرائيلي ليست الموضوع الوحيد الذي له صلة بالطريقة الجديدة للاحتجاجات وإنما التركيبة الاجتماعية أيضاً لضحايا الجيش في القتال. فقد هبطت خسائر الجيش خلال حرب لبنان الثانية من الطبقة الوسطى العلمانية (الأشكيناز العلمانية والميزراحيم المتنقلة) من ٧٠٪ إلى ٥٤٪ نسبة إلى الأسبوع الأول من حرب ١٩٨٢، وهذا انحدار أكبر ولا بأس به من الانخفاض النسبي في هذا الوزن الديمغرافي لهذه الطبقة الوسطى. وقد ملأت الجماعات الدينية والهامشية هذه الفجوة (ليفي، ٢٠٠٧، صفحة ٢٢٩-٢٣٢). هذا التغيير الاجتماعي انعكس في إعادة تشكيل الأخلاقيات المسلوبة التي كانت منعكسة أساساً في انتفاضة الأقصى، من تظاهرة تساءلت إن كانت الحرب عادلة (على نمط حرب لبنان الأولى)، إلى تظاهرة تتقبل التضحية وحتى استعراض الفخر والعزة بهذه التضحية، وحدَّ الاحتجاجات بالجانب الفعال لأداء جيش الدفاع (ibid، صفحة ١٢٨-١٣١).
فضلاً عن ذلك، ساهمت الحرب في كسر المحرمات وفي كون التركيبة الاجتماعية للضحايا ليست على الأجندة العامة. فللمرة الأولى، بحث الخطاب العام التمثيل الطبقي ــ الأخلاقي للضحايا. هذا الخطاب ترافق مع تعليقات شائكة أطلقتها مجموعات معيّنة ضد النخبة السابقة في الخدمة العسكرية الذين هم بأساسهم من الأشكيناز العلمانيين ــ تعليقات من حركة الكيبوتز بشكل رئيس (الذين زادوا من حصتهم بين الضحايا) وقيادة الجماعات المتدينة والمستوطنين. كانت هذه هي خلفية الانتقاد الذي وجهه رئيس مديرية شؤون الموظفين في جيش الدفاع الإسرائيلي، الجنرال أليعازر ستيرن، ومفاده أن أطفالاً من عائلات المتطوعين في تل أبيب، قلب الطبقة الوسطى ــ العليا، لم يكونوا ممثلين في عداد وفيات جيش الدفاع الإسرائيلي، ما حفز بالتالي على إثارة جدل عام. رداً على ذلك، سُمعت أصوات تعبِّر عن الطبقة الوسطى ــ العليا وهي تقول بأن «تل أبيب» ترمز إلى طريقة بديلة من المساهمة المدنية إزاء المجتمع، أو حتى تصنع مساهمة عسكرية لا تهدد الحياة في القطاعات التقنية للجيش. شكّل هذا النقاش بُعداً آخر لخطاب الفجيعة الجديد الذي رفع من شأن الخسارة واستفاد منها كمصدر فخر وقوة بدلاً من أن تكون مصدر طاقة سياسية مستخدمة لنزع الشرعية عن حالة الحرب.
إنّ لا مبالاة «المضحّين بالمال» في أوساط الطبقة الوسطى، والقاعدة الضيقة «للمضحين بالجسد» من بينهم، والتوجه القومي لـ«المضحّين بالجسد» أمور عملت كلها على توسيع حرية الجيش بالعمل. أما قيود هذه الحرية فيمكن أن تبرز فقط من محاولات «المضحّين بالمال» لخفض موارد الجيش.
التنافس على غرار السوق
كونه عمل في بيئة تنافسية، غيَّر جيش الدفاع الإسرائيلي طريقة عمله. ففي ضوء التوقعات في أوساط دافعي الضرائب المدنيين بأنه ينبغي تحميل المسؤولية والمحاسبة لمن يوفر الأمن، دخل كبار العاملين في الجيش المساومة المباشرة مع مواطنيه ــ الزبائن كطريقة تنافس على الموارد والشرعية. وبالكاد يكون مستغرباً، إذاً، أن يكون رؤساء هيئة الأركان في العقد الأخير من القرن الماضي قد رعوا مفهوماً جديداً لدورهم وعززوه. لقد بدأوا بالنظر إلى أنفسهم على أنهم مدينون بالفضل للشعب، وليس للحكومة، حتى أنهم يشدّدون على هذه النقطة في تعليقات عامة علنية معينة. وفقاً لذلك، تعرض هؤلاء للانتقاد بسبب كونهم «رؤساء هيئة أركان سياسيين» (انظر على سبيل المثال مقاربة الضباط في ندوة موثقة من قبل نيفو وشور، ٢٠٠٣). في كل الأحوال، لم يكونوا مختلفين بذلك عمن سبقوهم بالطريقة التي أداروا فيها الشؤون العسكرية، وإنما فقط في البيئة التي نقلوا رسائلهم بها من خلالها.
كذلك قاد حوارهم مع العامة رؤساء الجيش إلى تقاسم آرائهم غير المعالجة، بالدرجة الأولى، من دون الاعتماد على وساطة سياسيين (على سبيل المثال، تصريحات رئيس هيئة الأركان موشيه يعالون حول مخاطر الانسحاب الأحادي من قطاع غزة). لقد اصطدم حق الشعب بالمعرفة مع أسس الإشراف التقليدية على الجيش، ومع الأسس التي تتجه نحو خلق تقسيم، وموضعة آليات الوساطة السياسية بين قادة الجيش والشعب وإلغاء حقوق الجنود بالاختلاف علناً مع من هم أرفع منهم سياسياً.
مع هذا النموذج من الولاء المباشر تجاه العامة، ابتعد الجيش أيضاً عن علاقته المترددة مع الإعلام وتبنّى علاقات أكثر قرباً منها بكثير، إلى درجة التسويق للجيش بشكل فاعل وناشط من خلال الإعلام. ويمثل تحرك كهذا انتقالاً من التلاعب إلى المغازلة بحسب تعبير موسكوس. وقد انتشرت الفكرة الاستهلاكية لـ«التسويق المباشر» إلى القطاع العسكري.
خلال حرب لبنان الثانية، لعب الإعلام دوراً أكبر في كشف الثغَر والإخفاقات التشغيلية بشكل منهجي، كاصطدام المروحيات، الافتقار للدفاعات الإلكترونية على متن سفينة صواريخ والذي أدى إلى ضربها بواسطة صاروخ، شكاوى جنود الاحتياط بما يتعلق بمستوى تدريبهم وتجهيزاتهم، الاحتكاكات بين الجنرالات، إلى ما هنالك. وقد وصل الاختراق الإعلامي للجيش إلى مستوى لم يصله من قبل خلال حالة طوارئ، وبذلك فقد جرى انتقاده علناً بسبب افتقاره للحس الوطني (ويمان، ٢٠٠٧). فضلاً عن ذلك، لقد شجع الجيش، بحد ذاته، على الاختراق الإعلامي عن طريق السماح بالتغطية الإعلامية من دون وضع قيود هامة.
مثًّل الدور الذي لعبه الإعلام المفارقة التي قدّمها كوهي: لدى الإعلام وسائل أكثر لتدارس الجيش والتدقيق فيه، إلا أنّ تفوّق الفكر العسكري لا يزال مهيمناً. وإضافة إلى النقد الموجّه للأداء، وقف الإعلام، بشكل لا لبس فيه، وراء الأجندة العسكرية. وكان النقد محدوداً بأداء الجيش (تقرير كيشيف، ٢٠٠٧). وللمفارقة، هذا هو نوع النقد الذي يكرس تفوق التفكير العسكري، لأنه يعزز الإيمان بأن هناك حلاً عسكرياً لمشاكل سياسية، حل بالإمكان تنفيذه إذا ما استطاع الجيش الأداء بمستوى مناسب. فضلاً عن ذلك، وعلى امتداد الحرب، انتُقد القادة السياسيون السابقون لسماحهم لحزب الله بأن يصبح أقوى، ما يعني، لعدم شنهم حرباً استباقية. نتيجة لذلك، تم دفع البحث عن بدائل سياسية للحرب جانباً. وتعايش الخضوع الزائد للجيش والعسكرة مع بعضهما مجدداً.
بالإمكان تقفّي هذه المفارقة وصولاً إلى طابع المواجهة بين الجيش والإعلام. فمع النظام السوقي للإعلام الإسرائيلي منذ التسعينيات (مع انحدار الصحافة الحزبية ونمو سيطرة الشركات على الإعلام)، أثّرت مقاربة الأخبار، كما لو أنها سلعة، في هذا المجال أيضاً. إنها مواجهة بين مواصلة الإعلام لأخبار قابلة للتسويق ولمواصلة الجيش الشرعية. نتيجة لذلك، فإن إلقاء لمحة خاطفة على الصحافة منذ التسعينيات وحتى العقد الأخير من القرن الماضي يكشف عن أنه برغم تكثيف الإعلام تدقيقه بالجيش وتجاوزه على الدوام عوائق تقليدية كالرقابة العسكرية، فإن قضايا هامشية نسبياً كانت تشكل بؤرة التركيز لديه. فالحوادث والإخفاقات العسكرية، الصراعات داخل الجيش والنزاعات بين شخصيات عسكرية وسياسيين، والإخفاقات في سياسات الموارد البشرية كانت من بين القضايا التي غطاها الإعلام. وقد اجتذب انتقادُ الجيش كتاب الأعمدة الاقتصادية في الصحف أيضاً، حيث كان التركيز على قضايا الأداء غير الفعال اقتصادياً. في كل الأحوال، كانت القضايا الموضوعية المتصلة بدور الفكر العسكري في تشكيل السياسات الإسرائيلية مهملة (انظر دور، ٢٠٠٤ حول انتفاضة الأقصى). وبالحديث عن الناحية الهيكلية، أدى الإفراط في التعرض والانكشاف للصحافة إلى توجه هذه الأخيرة للتعامل مع الحوادث الصغيرة في الوقت الذي تهمل فيه الصورة الشاملة. والمثير للسخرية هو أنه لو توَفرت معلومات أقل، فربما كانت الصحافة أكثر ميلاً لإطلاق بحث ونقاش حول القضايا السياسية الكلية.
أحدث الحوار المباشر مع الشعب بوساطة الإعلام «نشر دعاية» للقيادة العليا. ففي كانون الثاني ٢٠٠٧، وعندما كان التحقيق الذاتي الذي أجراه الجيش عن الحرب على وشك الانتهاء، استقال رئيس هيئة الأركان دان حالوتس من منصبه. وكان حالوتس أول رئيس هيئة أركان يتنحى عن منصبه بداعي الضغوط الشعبية، إذ تقاعد الجنرال ديفيد آليعازر بعد حرب ١٩٧٣، لكن ذلك كان رداً على توصية من لجنة التحقيق الحكومية، وليس بسبب الضغط الشعبي، والتي كانت توجهها في ذلك الحين القيادة السياسية وليس الجيش. في الماضي، كانت تُسمع الأصوات الداعية إلى استقالة رئيس هيئة الأركان فقط عندما كان ينظر إليه على أنه ينفذ سياسات مثيرة للجدل سياسياً، وليس عند انتقاد أدائه المهني.
فضلاً عن ذلك، كان سلوك حالوتس منذ نهاية الحرب يوجهه مبدأ وجوب إعادة الجيش ترسيخ ثقة الشعب به، وهو سبب فيض التحقيقات التي جرت في الجيش والتي نشرت نتائجها للعلن بكميات غير مسبوقة. هذه الشفافية كانت مظهراً وتعبيراً عن الحوار المباشر بين القيادة العسكرية والشعب، حوار يتجاوز القيادة السياسية.
لم يستقل حالوتس لأن القيادة السياسية دفعته لذلك، وإنما لأنه كان قد استوعب الحقيقة بأن ثقة الشعب به أصبحت في الحضيض، ما جعل من الصعب عليه العمل، وتسبب أيضاً في تآكل الثقة به داخل المؤسسة العسكرية.
كان الانتقاد الشعبي العلني للجيش بعد الحرب مسؤولاً عن إضعاف آليات الوساطة أكثر بين الشعب وكبار ضباط الجيش، وأشار إلى مرحلة أخرى في العملية التي أصبح فيها الجنرالات عبارة عن شخصيات عامة. وفي غياب نشاط هام من جانب القيادة السياسية لتعزيز سلطتها على الجيش أو تمثيل مصالحها في الساحة العامة، وفي ضوء واقع تراجع الحكومة عن البدء بتغيير في قيادة الجيش بداية الحرب، بل وعدم تقديمها مساندة كاملة للمؤسسة العسكرية، وقف الجنرالات وحيدين في الخطوط الأمامية للحوار مع الشعب، وأخفقوا.
فضلاً عن ذلك، تفاقمت الدعاية بسبب الاحتجاجات العلنية لجنرالات متقاعدين، انتقدوا أداء الجيش المشوب بالعيوب ودعوا إلى استقالة حالوتس. وفي تحرك غير مسبوق، اختار جنرالات متقاعدون الحوار العام العلني وتخلوا عن القنوات الأكثر حميمية المستخدمة سابقاً في الشبكة الاجتماعية في حالات النقاش المشابهة. وجسّد مظهر هذا الاحتجاج نفسه خرقاً في الشبكة الاجتماعية المتماسكة لأشخاص عسكريين حاليين وسابقين، شبكة تدفع بمصالحهم المشتركة قدماً (انظر باراك وشيفر، ٢٠٠٦). وكان انتقاد الجنرالات للقيادة العليا سبباً لأن يكسر صورة المؤسسة نفسها أكثر حتى، تلك المؤسسة التي كانوا ينالون مكافآتهم منها، رمزياً ومادياً. وهذا يستتبع القول بأن أعمالهم تعكس استيعابهم الداخلي للإقرار بأن صورة الجيش قد وصلت إلى درجة من الانحطاط بحيث إنها بررت حصول احتجاج غير مسبوق تحديداً من قبل أولئك الذين كانت مكافآتهم مرتبطة بتلك الصورة.
إن تحويل الجنرالات إلى شخصيات عامة لا يحوّل توازن القوى بينهم وبين السياسيين لصالح ضباط الجيش فحسب، بل يمكنه أيضاً تعزيز الافتقار للوضوح الذي يتسم به الجيش أساساً في مجتمع السوق ــ الحدود المبهمة بين التنفيذ الصحيح والسليم لمتطلبات المهنية العسكرية من جهة، وتسويق الحاجات من جهة أخرى. فالجيش الذي يقاتل لأجل مكانته العامة بوساطة سياسية ضعيفة، يميل للتأكيد على الانجازات الحربية لتبرير موارده وبالتالي لتعزيز الثقة العامة به. إن جيشاً كهذا من الصعوبة بمكان تقييده سياسياً.
بالإجمال، إن الحوار المباشر، الانكشاف أمام الإعلام الذي أبعد الصحافيين عن التساؤل حول الفكر العسكري ونشر الدعاية عن القيادة العسكرية، أمور عملت كلها، مجدداً، على توسيع مجال عمل الجيش عن طريق تعزيز الفكر العسكري.
التسليع والتكنولوجيا
خلاصة القول، لعبت مسألة إعادة التنظيم (الاصطفاف) الاجتماعي لجيش الدفاع الإسرائيلي التي وصلت إلى ذروتها في أواخر التسعينيات دوراً هاماً في التقليل من القاعدة الاجتماعية للاحتجاجات. في كل الأحوال، لم تكن إعادة التنظيم (الاصطفاف) الوسيلة الاستراتيجية الوحيدة التي ساعدت جيش الدفاع الإسرائيلي على زيادة استقلاليته بالعمل. في الوقت نفسه، بدأ جيش الدفاع بزيادة استخدامه للأسلحة ذات التكنولوجيا الكثيفة المتقدمة والتي تبقي المحارب بعيداً عن ضحيته، وبالتالي تبلِّد وعيه السياسي والتقليل من المخاطرة بنفسه، الأمر الذي قد يقلل من الكلفة السياسية لانتشاره. وقد بيّنت العمليتان الكبيرتان اللتان شُنتا في جنوب لبنان في التسعينيات ضد دولة مصغرة ناشئة يديرها حزب الله النموذج الجديد ــ عملية تصفية الحساب وعملية عناقيد الغضب. هنا، دعا الرد العسكري إلى «مكافحة النيران»، ما يعني الاعتماد الشديد على الهجمات الجوية من دون استخدام قوات برية اقتحامية. وقد شملت المقاربة الجديدة استخدام ذخائر دقيقة وطويلة المدى هدفت إلى الضغط على السكان المحليين لتقييد نشاطات حزب الله. أما في حرب لبنان الثانية، فقد وصلت هذه المقاربة إلى ذروتها مع الاعتماد الكامل تقريباً على سلاح الجو خلال الأيام الأولى من الحرب.
إن الاعتماد على التكنولوجيا جنباً إلى جنب مع التسليع جعل سلاح الجو «جيشاً احترافياً ضمن جيش». فطيارو سلاح الجو يجمعون الخدمة الإلزامية مع الخدمة المهنية. وفي أوائل العقد الأخير من القرن الماضي، تم إضفاء الطابع المهني والاحترافي أكثر على سلاح الجو وذلك بتمديد فترة الخدمة من ٥ سنوات إلى ١٢ سنة، بما في ذلك التدريب والدراسات الأكاديمية. وقد قلل تسليع هذا النموذج من اعتماد سلاح الجو على جنود الاحتياط، عموده الفقري سابقاً. وبالتالي، فقد أضعف النموذج الجديد إمكانية الرفض في أوساط الطيارين في الاحتياط، وهي قضية أساسية برزت بعد دعم عدد من كبار الطيارين في الاحتياط للتحرك الرافض في انتفاضة الأقصى بسبب ضرب المدنيين الأبرياء. وفي ضوء الحساسية إزاء الخسائر في حرب لبنان الثانية ــ التي ثبتت بعد اختراقات على نطاق صغير انتهت بعدد مرتفع نسبياً من الخسائر والضحايا ــ يمكن المرء أن يرى سبب سحب الجنود الذين تم نشرهم من سلاح الجو. فإطالة الحرب مع العجز عن تحقيق أهداف عسكرية معينة كان فقط، هو الذي زاد من الدور الذي لعبته القوات البرية. مع ذلك، لم تكن فقط العملية البرية هي التي تم تأجيلها لبعض الوقت بسبب الحساسية من إمكانية سقوط ضحايا، وليس فقط أنه تم استدعاء الاحتياط في وقت متأخر بسبب الثمن السياسي لتعبئتهم، وإنما تم تنفيذ العملية نفسها بتردد أيضاً. لقد أعاد التسليع النصفي ــ سلاح الجو وليس القوات البرية ــ تشكيل نشاطات الحرب.
بالواقع، لقد أرست الحرب أسس تسريع التحول إلى جيش محترف. وبذلك قد يكون التسليع امتد إلى القوات البرية أيضاً، وهذا محتمل.
أولاً وقبل كل شيء، أبطل النموذج الحالي للتجنيد الإلزامي، المبني على فترات قصيرة الخدمة الإجبارية ونظام الاحتياط. لقد كشفت الحرب الفجوة المتقلصة بين الأداء الاحترافي لجنود جيش الدفاع الإسرائيلي وبين رجال الميليشيات اللبنانية، لأن الحرب اندلعت نتيجة نجاح حزب الله في خطف اثنين من جنود الاحتياط. بمعنى آخر، لقد تمركز رجال الميليشيا، وبشكل دائم، على جبهة معينة سادوا فيها على جنود الاحتياط الذين ينفذون خدمتهم لفترة زمنية قصيرة فقط كل عام. هذا الفشل للقوات البرية أشعل حرباً كشفت المستوى المتدني للياقة القتالية لجنود الاحتياط. وفقاً لذلك، فقد كان الدرس الرئيس المستخلص من هذا الإخفاق هو زيادة مستوى التدريب. زيادة العبء الذي ينتج التسليع.
نظرياً، يمكن تصور الجنود في منظومتي مكافآت في آن معاً: مكافآت مادية ومكافآت رمزية نابعة من المكانة والشرف العائدين للخدمة العسكرية والمترجمتين بالمكانة الاجتماعية. فالمكافآت الرمزية المخففة، عموماً، تزيد توقع مكافآت مادية أكبر، كنوع من سد أو استبدال التعويض (ليفي، ٢٠٠٧).
في إسرائيل أيضاً، أدّت المكانة العالية لجيش الدفاع الإسرائيلي والدور الذي شغله في تحديد الهرمية الاجتماعية للمرء إلى تمكين الدولة من تجنيد الجنود مقابل أجر متدن. في كل الأحوال، ومنذ التسعينيات، عانى جيش الدفاع الإسرائيلي من التآكل في مكانته الاجتماعية، مع التآكل المتلازم في المكافآت الرمزية. وبشكل أكثر تحديداً، خسر جيش الدفاع الإسرائيلي منذ حرب ١٩٨٢، تدريجياً وبشكل منهجي، ثقة مختلف المجموعات: طبقة الأشكيناز الوسطى ــ العليا في حرب ١٩٨٢ المستمرة سياسياً وفي الانتفاضة الأولى، كما خسر جزءاً من المجموعات الدينية الوطنية في مسألة فك الارتباط (عن غزة). وأضافت حرب لبنان الثانية الجنود الاحتياط من الطبقة الوسطى إلى القائمة.
عندما اندلعت الحرب وتمت تعبئة فرق الاحتياط بتردد، وأُرسلوا وهم غير جاهزين للقتال لأهداف غامضة، أصبح واضحاً أن جيش الدفاع الإسرائيلي قد انتهك، وببساطة، «عَقْده السيكولوجي» مع جنود الاحتياط. ووفقاً لمصطلحات هذا العقد، فإن جنود الاحتياط مستعدون دائماً للاستدعاء، في حين يضمن جيش الدفاع الإسرائيلي أن المجند أو المجندة سيتلقى التدريب، ويتم تجهيزه بالمعدات والاستفادة منه واستخدامه جيداً. لذا، من المنطقي الافتراض بأنه في بداية الحرب، سوف يجعل تآكل الثقة مسألة سحب وتفعيل عمل الاحتياط في المستقبل أمراً أكثر صعوبة. وعانى المجندون من تأثير مشابه، والذي عزز «أزمة الدوافع»، حيث أضعفت الحرب ثقتهم بقدرة الجيش على حماية أرواحهم عن طريق نشرهم بشكل فعال في مهمات حيوية.
أدى انحدار المكافآت الرمزية إلى رفع الضغوط للحصول على مكافآت مادية، عملية كانت قيد المساومة بين الجيش ومجنديه، جنود الاحتياط بشكل رئيس. هذه المساومة قادت الحكومة في عامي ٢٠٠٥ و ٢٠٠٦ إلى المصادقة على إصلاحات في نظام التجنيد مبنية على أساس تقصير فترة الخدمة العسكرية، التقليل من حجم الجيش، زيادة الانتقائية، وتقديم مكافآت محسنة، خاصة لأولئك الذين يخدمون فترات زمنية ممددة. في كل الأحوال، إن الانتقائية المتزايدة ترفع الضغوط لأجل المكافآت المادية، ومن المنطقي التكهن أن يقوم جيش الدفاع الإسرائيلي بتقديم مكافآت أفضل لتجنب النقص في فريق العمل المؤهل، جزء منها سيكون بشكل تبادل الخدمة الممددة مقابل تعويضات محسنة. إن زيادة المكافآت المادية ستزيد الانتقائية مجدداً. لذا، ولخفض رواتب الجيش سيكون هناك اعتماد متزايد على جيش صغير نسبياً إنما لديه مكافآت جيدة. أما النتيجة النهائية لهذه العملية فستكون احترافية متزايدة للجيش.
بالإجمال، إن الجمع ما بين تزايد سوء «العجز الرمزي» السابق مع تزايد الانتقائية لخلق جيش أصغر إنما مدرب بشكل أفضل، سيولّد تسليع الجيش، ما يعني، الخدمة مقابل الدفع. من جهة أخرى، إن عجز الموازنة يضع قيوداً على قدرة الجيش على تقديم مكافآت مادية للمجندين من الطبقة الوسطى. ولهذا السبب، فإن المجندين الأرخص أجراً ــ أولئك الذين دافعهم محنة اقتصادية، أو أمر ايديولوجي ــ عسكري، أو مصلحة في حراك اجتماعي والذين تعتبر البدائل المقدمة لهم من قبل سوق العمل المدني أقل جاذبية ــ هم تجمع المرشحين الرئيس المتوَفر، المثالي لجيوش مهنية.
قد تكون الاحترافية مفضلة أيضاً من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي والسياسيين كوسيلة لاستعادة الاستقلالية العسكرية. فجنود الاحتياط هم «مدنيون معبّأون» يحضرون معهم قيمهم المدنية إلى خدمة الاحتياط، ومن وجهة النظر تلك، فإنهم يساومون مع الجيش حول طبيعة خدمتهم وظروفها وشروطها. وعند عودتهم إلى حياتهم الطبيعية، يكون هؤلاء عرضة لترجمة تجربتهم في الخدمة العسكرية في طاقة سياسية، مستغلين قدرتهم على تنظيم وتفعيل شبكات اجتماعية (انظر بن آري وآخرين، ٢٠٠٤).
تعلّم الجيش هذا الدرس عندما رأى الدور الذي أدّاه الاحتياط في التظاهرات والاحتجاجات المنظمة. وكونه تعلم هذا الدرس، فقد قرر الجيش أن يبني الحرب المستمرة على قاعدة القوات البرية، ما يعني إدارتها بعيداً عن نظر العامة (تامير، ٢٠٠٥، ١٠-١١، ٢٧٤).كذلك الأمر تم رمي جنود الاحتياط في قلب القتال ضد الفلسطينيين في الانتفاضة، خلال «عملية الدرع الدفاعي» (٢٠٠٢) بشكل رئيس، فقط بعد تثبيت مشروعية هذه الحرب في القتال الذي قام به الجنود النظاميون. وخلال حرب لبنان الثانية، كان الثمن السياسي لاستدعاء جنود الاحتياط مفهوماً من قبل الحكومة، والقيادة العسكرية كجزء من ذخيرة يرجع اليها تعلموها من خلال التجربة المتراكمة منذ حرب ١٩٨٢ (انظر لجنة فينوغراد، ٢٠٠٧، صفحة ٩٨). وبذلك فإن التردد السياسي بسحب الاحتياط وإرسالهم في عمليات برية ضخمة خلق الانطباع بأن الجيش قد فشل بتحقيق أهدافه. في الوقت نفسه، فإن أولئك الذين تم استدعاؤهم قاموا بإشعال تظاهرات لاحقاً ، كما فصلنا آنفاً. لذا، فإن إضفاء الاحترافية على نظام الاحتياط سيضمن نزع الطابع السياسي عنه أيضاً.
التسليع يولّد التشدد والقتال. فبقدر ما يرسخ الجيش اعتماده على المجندين الهامشيين والمتدينين المدفوعي الأجر، فإنه سيتبنى توجهاً أكثر ولعاً بالقتال. إن وزن الطبقة الوسطى سينحدر لصالح جماعات أكثر قومية وتشدداً في المجتمع، نظراً للعلاقة المتبادلة بين التطلعات السياسية وموقع الطبقة الإثنية. فضلاً عن ذلك، وفي جيش غير متوازن سياسياً، ستتوسع حرية العمل للقيادة العليا بما أنها تتحرر من الهواجس المتعلقة بتقسيم الصفوف عن طريق توظيف تكتيكات محل جدل سياسياً.
هناك مسألتان مرتبطتان بالتسليع تساهمان أيضاً بهذه المشكلة. الأولى هي أن خدمات الشراء المالية، بدلاً من الجنود المجندين إدارياً، تحرف التوقعات عن مجال المكافآت الرمزية (كالاعتراف بايديولوجية سياسية) إلى توقعات بمكافآت مادية. عندها ستكون الخدمة العسكرية غير مسيسة، بما أن الجندي المحترف ليس ميالاً للعصيان، وهذا طبيعي. فالتسليع سيضعف التوقعات السياسية في أوساط كل من المجندين والجماعات الاجتماعية المدنية الآتين منها، وبالتالي يخفض الحافز على المراقبة السياسية للجيش «من الداخل». ثانياً، سينعكس التسليع أيضاً في تقلص الأسس الاجتماعية للتجنيد. وكما أظهر تحليل خطاب الفجيعة في ضوء التغييرات في تركيبة الضحايا، وكما يعرض التمايز بين «التضحية بالجسد» و«التضحية بالمال»، فإن انحدار مستويات المشاركة العسكرية ينطوي على قوة مساومة بالنسبة إلى المشاركة السياسية في مقابل الدولة بهدف مراقبة سلوك الجيش. هذا الانحدار سيزيد من حدة فتور النخبة إزاء الجيش، مع عواقب من الصعب حلها بالنسبة إلى السيطرة الديمقراطية عليه.
بالتالي، بالإمكان نشر جيش احترافي بشكل أسهل لأداء مهمات محل جدل سياسياً. إن احترافية الجيش قد تستفيد من التغيير، لكن التسليع قد يجعل النموذج التقليدي للسيطرة السياسية يتآكل.
استنتاجات
عكست حرب لبنان الثانية، وسرَّعت حصول تغيير أوسع في طريقة الإشراف المدني على الجيش، وتحديداً، التحول من السيطرة الجمهورية إلى سيطرة السوق. ومع انحسار النموذج الجمهوري التقليدي لسيطرة المواطن ــ الجندي، احتلت الآليات ذات التوجه السوقي الصدارة.
اتسم النموذج الجديد الذي ازدهر في مجتمعات غربية وكذلك في إسرائيل بثلاث سمات رئيسة:
- مراقبة للجيش ذات توجه سوقي ناشئة من التمييز بين التضحية المالية/ الجسدية؛
- جو تنافسي على غرار السوق يحكم الممارسات العسكرية ويجبر الجيش على تسويق خدماته عن طريق السماح بالاختراق الإعلامي وبالحوار مباشرة مع الشعب، وبالتالي تحويل الجنرالات إلى شخصيات عامة؛
- تسليع الخدمة العسكرية، ما يفسد المبادئ الجمهورية للمشاركة العسكرية التي من خلالها يمكن للمجتمع السياسي تشكيل مصيره الخاص به، مع القرار بالمضي إلى حرب في قلب هذه المشاركة.
هذه العملية كان لها تأثير متناقض على حرية العمل للجيش: فالجيش تتوافر له حرية عمل أوسع في إدارة السياسات الحربية، وذلك عائد، وإلى حد كبير، إلى التغيير في تركيبته والاحتراف التدريجي لأفراده. ويتطابق مجال العمل الأوسع مع رغبة الجيش بعرض قدرته أكثر كوسيلة لتعزيز شرعيته في بيئة تنافسية. في الوقت نفسه، لدى الجيش موارد أقل لتمويل هذه السياسات، بسبب النقد ذي التوجه السوقي الذي يقيّده ليعدّل طريقة العمل وفق متطلبات السوق. ونظراً لحاجته إلى التنافس مع مؤسسات أخرى في السوق وعالم التجارة، فإن سياسات الجيش محكومة بالسوق على نحو متزايد. إن حرية العمل ليست متماثلة ومتناسبة مع موارد الجيش المتقلصة. وقد أعطيت للحكومة القدرة على شن حرب بين عشية وضحاها لكن لم تعط لها القدرة على تحمل حرب مكلفة.
هذا التناقض كشف عن نفسه في الحرب. ونظراً للتغيير في التركيبة الاجتماعية للوحدات الميدانية وتأثيره على خطاب الفجيعة، لم تواجه الحكومة مقاومة كبيرة لقراراتها لا من جنودها ولا من شبكاتهم الاجتماعية. بمعنى آخر، لقد أثبت النموذج الجمهوري للسيطرة عدم فاعلية. في الوقت نفسه، قيَّدت نماذج أخرى نمت خارج الخضوع التدريجي لجيش الدفاع الإسرائيلي لقوى السوق الجيش. فقد ترددت الحكومة في إعلان حالة الطوارئ لتجنب تأثير سلبي على الموازنة. وقاد الاعتماد على سلاح الجو الذي أصبح سلعة إلى تردد في تفعيل القوات البرية. أخيراً، لقد جعل تعرض جيش الدفاع الإسرائيلي للتدقيق والفحص التطفلي من قبل الإعلام وشبح المحاسبة العامة الضباط مترددين عند إصدار الأوامر.
أصبحت آليات السوق، بالتالي، الآليات الأكثر فاعلية التي يمكنها تحدي تفوّق الفكر العسكري عن طريق تقييد المؤسسة مادياً. مع ذلك، تثبت سيطرة السوق فاعليتها فقط عندما تصبح كلفة الحرب مرتفعة جداً نسبة إلى المكاسب السياسية والاقتصادية غير المباشرة، ما يعني أن النشاط العسكري المتدني الكلفة الذي لا يؤثر على معيشة الطبقة الوسطى ــ العليا ومصالحها الجوهرية، يمكن أن يأخذ مجراه دون عوائق. فقد فشلت السياسات الإسرائيلية في تطوير آليات سياسية وثقافية فاعلة يمكنها أن تحقق التوازن للتفوق العسكري، رغم تعزيز وسائل الإشراف على المؤسسة العسكرية. في كل الأحوال، إن السيطرة على المؤسسة العسكرية ليست صعبة، أو تشكل تحدياً، كالسيطرة على التفكير العسكري. وتلعب آليات السوق دورها في تحقيق هذا التحدي، إلا أن الحاجة إلى إعادة تأهيل الآلات الجمهورية تعتبر صحيحة اليوم أكثر من أي وقت مضى.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.