العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣

٢٠ أوسلو

السياقات والتداعيات

النسخة الورقية
ملف

قريباً تطلّ علينا الذكرى العشرون للتوقيع على اتفاقيات أوسلو، التي اعتُبرَت بشكل عام آنذاك بمثابة اختراق تاريخي نحو طريق حلّ النزاع الإسرائيلي ــ الفلسطيني، بينما يسود الاعتراف اليوم بأنها فاشلة، في أحسن الأحوال، أو ربما خطوة بعيدة عن إيجاد حلّ لهذا الصراع. بات الوقت مناسباً لتقويم معنى تلك الأحداث وأبعادها في إطار بحثنا عن طريق المستقبل انطلاقاً من ذلك.

في أيلول/سبتمبر ١٩٩٣، أشرف الرئيس كلينتون على مصافحة بين رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في حديقة البيت الأبيض ــ في اختتام «يوم الرهبة»، على حدّ وصف وسائل الإعلام لذلك الحدث بخشوع. كانت المناسبة إطلاق «إعلان المبادئ» للحل السياسي للصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني، وهو الإعلان الذي نتج من اجتماعات سرية عُقدت في أوسلو برعاية الحكومة النرويجية.

جرت مفاوضات مستقلة بين إسرائيل والفلسطينيين منذ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٩١، أرستها الولايات المتحدة خلال نشوة النجاح التي شعرت بها بعد حرب العراق الأولى، والتي كرست مبدأ «ما نقوله (الأميركيون) يسري» بحسب العبارة الانتصارية للرئيس جورج بوش الأب. ولقد افتُتحت المفاوضات خلال مؤتمر مقتضب في مدريد، وتواصلت في ظل السلطة الأميركية العليا (وتقنياً الاتحاد السوفياتي الذي كان يحتضر، وذلك بهدف تأمين وهم «الرعاية الدولية»). وكان الوفد الفلسطيني، المشكَّل من شخصيات فلسطينية من داخل الأراضي المحتلة (باتوا يسمون منذ تلك الفترة «فلسطينيي الداخل»)، يقوده حيدر عبد الشافي، الشخصية الفلسطينية المكرَّسة وغير الفاسدة ذات الميول اليسارية القومية، وهو قد يكون الشخصية التي كانت تحظى في تلك الفترة بالقدر الأعلى من الاحترام في فلسطين. وقد تمّ استبعاد «فلسطينيي الخارج»، أي منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتخذ من تونس مقراً لها برئاسة ياسر عرفات، رغم أنه كان للمنظّمة مراقب غير رسمي هو فيصل الحسيني. وكذلك تمّ استبعاد العدد الهائل من اللاجئين الفلسطينيين عن المفاوضات بشكل كامل، ولم تؤخذ حقوقهم بعين الاعتبار، حتى تلك المعقودة لهم بموجب قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

الخلفية والسياق

بهدف تقدير طبيعة ومعنى اتفاقيات أوسلو، والتداعيات التي نتجت منها، من المهم فهم الخلفية والسياق اللذين ظلّلا مفاوضات مدريد وأوسلو. سأبدأ باستعراض أبرز الخلفيات المباشرة التي حدّدت سياق المفاوضات، ثم أنتقل إلى «إعلان المبادئ» وتداعيات عملية أوسلو الممتدة حتى يومنا هذا، ثم أضيف بضعة كلمات حول الدروس التي يجدر استخلاصها.

كانت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل والولايات المتحدة قد أعلنت مواقف رسمية حول القضايا الأساسية الموضوعة على جدول أعمال مفاوضات مدريد وأوسلو. قُدمَت مواقف منظمة التحرير الفلسطينية في إعلان المجلس الوطني الفلسطيني ذات تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٨٨، الذي تضمن سلسلة طويلة من المبادرات الدبلوماسية التي أُسقطَت، مع الدعوة إلى إنشاء دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في العام ١٩٦٧، ومطالبة مجلس الأمن الدولي بـ«وضع وضمان إجراءات تكفل الأمن والسلام بين جميع الدول المعنية في المنطقة، من ضمنها الدولة الفلسطينية» جنباً إلى جنب مع إسرائيل. وكان إعلان منظمة التحرير الفلسطينية، الذي حظي بالإجماع الدولي الساحق القاضي بإيجاد حل دبلوماسي، هو نفسه عملياً مشروع القرار الذي قدمته «دول جبهة التحدّي» (مصر وسوريا والأردن) في كانون الثاني/يناير ١٩٧٦ إلى مجلس الأمن الدولي. وهو مشروع قرار واجهته الولايات المتحدة بالفيتو مجدداً في العام ١٩٨٠. وفي غضون ٣٥ عاماً، قامت الولايات المتحدة بإعاقة الإجماع الدولي، وهي لا تزال تمارس ذلك، هذا إن وضعنا المجاملات الدبلوماسية جانباً.

وبحلول العام ١٩٨٨، بات من الصعب احتمال الموقف الأميركي الرفضي. وفي كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام، كانت الإدارة المنتهية ولايتها للرئيس ريغن قد أضحت بمثابة أضحوكة العالم من ناحية جهودها المتزايدة اليائسة للادعاء أنها الوحيدة في العالم غير القادرة على الاستماع إلى اقتراحات منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية. فقررت واشنطن، على مضض، «إعلان النصر»، مدّعيةً بأن منظمة التحرير على الأقل اضطرت على أن تنطق بـ«العبارات السحرية» لوزير الخارجية الأميركية في حينها جورج شولتز، والإعراب عن نيتها اتّباع المسلك الدبلوماسي. ومثلما يوضح شولتز في مذكراته، كان الهدف من ذلك تأمين الحد الأقصى من الإذلال لمنظمة التحرير، من خلال اعترافها بأن عروض إحلال السلام لا يمكن التعامل معها بمزيد من الرفض. لقد أبلغ شولتز الرئيس ريغن أنّ عرفات كان يقول نصف الكلام المطلوب قوله في مكانٍ، والنصف الآخر في مكان ثانٍ، موضحاً أن عرفات لم يكن جاهزاً ليقول الكلام كاملاً، معرباً عن خضوعه الكامل وفق نمط متواضع متوقع إزاء الأوامر الدنيا.

بموجب ذلك، ستكون المحادثات ذات المستوى المنخفض مع منظمة التحرير الفلسطينية مسموحة، لكن على أساس أنها ستكون بلا معنى. وقد تم التشديد على منظمة التحرير للتخلي تخصيصا عن مطلبها بتنظيم مؤتمر دولي، وذلك لكي تحافظ الولايات المتحدة على سيطرتها على العملية.

في أيار/مايو ١٩٨٩، ردّت الحكومة الإسرائيلية، القائمة على تحالف حزبَي الليكود والعمال، رسمياً على الموافقة الفلسطينية على حلّ الدولتين، معلنةً أنه لن يكون بالإمكان إقامة «دولة فلسطينية إضافية» بين الأردن وإسرائيل (على اعتبار أن الأردن هي أصلاً دولة فلسطينية وفق الإملاء الإسرائيلي، بغض النظر عما قد يكون رأي الأردنيين والفلسطينيين)، وأنه «لن يطرأ أي تغيير على وضعية يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وغزة إلا بما يتوافق مع المبادئ التوجيهية الأساسية للحكومة الإسرائيلية». أكثر من ذلك، شدد الردّ الإسرائيلي على أن إسرائيل لن تخوض مفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية، لكنها قد تسمح بتنظيم «انتخابات حرة» خاضعة للحكم العسكري الإسرائيلي، بينما جزء كبير من القادة الفلسطينيين مطرودون من بلادهم أو يقبعون في السجون من دون أن توجَّه لهم تهم.

لقد أيّدت إدارة بوش الأب هذه الرؤية الإسرائيلية من دون اي شروط في كانون الأول/ديسمبر ١٩٨٩ (خطّة بايكر). فكانت تلك هي المواقف الثلاث عشية مفاوضات مدريد، في ظلّ تأدية واشنطن دور «الوسيط النزيه».

عندما ذهب عرفات إلى واشنطن للمشاركة في «يوم الرهبة» في أيلول/سبتمبر ١٩٩٣، كان الموضوع الرئيسي في صحيفة «نيويورك تايمز» عبارة عن احتفال بالمصافحة على اعتبار أنها «صورة دراماتيكية ستحوّل السيد عرفات إلى رجل دولة وصانع سلام»، وهو الذي نبذ أخيراً العنف تحت الوصاية الأميركية. وفي نهاية المقال، كتب صاحب العمود، أنطوني لويس، أنه حتى تلك اللحظة، كان الفلسطينيون «يرفضون المساومة». بالطبع، كانت الولايات المتحدة وإسرائيل هما مَن يرفض الدبلوماسية، ومنظمة التحرير كانت هي مَن يعرض التسوية على امتداد سنوات، لكن أن يقلب لويس للأدوار والوقائع كان أمراً طبيعياً في تلك الصحيفة ولم يتعرض لأي مراجعة نقدية.

كذلك شهدت سنوات ما قبل مفاوضات مدريد وأوسلو تطورات خطيرة أخرى. ففي كانون الأول/ديسمبر ١٩٨٧، اندلعت الانتفاضة في غزة وانتشرت بسرعة في جميع أنحاء الأراضي المحتلة. تلك الانتفاضة المنضبطة ذات القاعدة الجماهيرية العريضة، شكلت مفاجأة لمنظمة التحرير في تونس، بقدر ما فاجأت قوات الاحتلال الإسرائيلي بنظامها العسكري وشبه العسكري القائم على المراقبة وزرع المتعاونين معها. لم تكن الانتفاضة موجهة ضد الاحتلال وحده، كانت أيضاً ثورة اجتماعية داخل المجتمع الفلسطيني، كسرت أنماط خضوع النساء وسلطة الاقطاع واشكالاً أخرى من الهرمية والهيمنة.

رغم أنّ توقيت الانتفاضة كان مفاجئاً، إلا أن فعل الانتفاضة لم يكن مفاجئاً، على الأقل بالنسبة للذين تنبّهوا للعمليات العسكرية الإسرائيلية المدعومة أميركياً داخل الأراضي المحتلة. كان لا بد أن يحدث شيء ما. قلّة فقط من الناس يمكنهم تحمُّل الوضع. لقد عانى الفلسطينيون في السنوات العشرين الماضية تحت الاحتلال العسكري، القمع الشديد، والعنف والإذلال الوحشي، في حين كانوا يشاهدون بأم العين أن ما تبقى لهم من بلدهم يتلاشى في ظلّ تنفيذ إسرائيل لبرامج الاستيطان، المزوّدة بشبكة هائلة من البنى التحتية الهادفة إلى دمج أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية في دولة إسرائيل، بموازاة سرقة الموارد وتدابير أخرى لمنع التنمية المستقلة. كل ذلك بدعم أميركي حاسم، عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً اضافة الى دعم ايديولوجي للتأثير على الكيفية التي صيغت من خلالها القضايا.

«الأميّة كعقاب»

فلنأخذ مثالاً عن إحدى الحالات التي لم تُثر أي قلق في الغرب. قبل اندلاع الانتفاضة بوقت قصير، قُتلَت طفلة فلسطينية تُدعى انتصار العطار برصاصة وهي في باحة مدرستها في غزة على يد أحد سكان مستوطنة يهودية قريبة من المكان. كان الرجل واحداً من بين عدة آلاف من المستوطنين الإسرائيليين الذي ذهبوا إلى غزة متمتعا بمساعدات مالية كبيرة، في ظل حماية جيش هائل، مستحوذين على الجزء الأكبر من الأرض ومن المياه النادرة أصلاً للقطاع، ليقيموا «بسخاء في ٢٢ مستوطنة وسط ١.٤ مليون فلسطيني معوز»، بحسب وصف الباحث الإسرائيلي آفي راز١.

تمّ توقيف قاتل الطفلة، شمعون يفراه، لكن أُفرج عنه بكفالة سريعاً عندما رأت المحكمة أن «سلوكه لم يكن بالقساوة التي تبرِّر» مذكرة اعتقاله. وقد أشار القاضي في تعليقه إلى أنّ يفراه لم يكن يقصد سوى ترويع الطفلة عبر إطلاق النار عليها في بهو مدرستها، ولم يكن يقصد قتلها، بالتالي «لسنا أمام حالة شخص مجرم تجدر معاقبته وردعه وتلقينه درساً من خلال سجنه». لقد حُكم على يفراه بالسجن مع وقف التنفيذ لمدة ٧ أشهر، على وقع احتفال المستوطنين رقصاً وغناءً داخل قاعة المحكمة. بعدها ساد الصمت المعتاد. في نهاية المطاف، كان الأمراً روتينياً.

هكذا كان. بعدما أُفرج عن يفراه، كشفت الصحافة الإسرائيلية عن قيام آلية عسكرية بإطلاق النار على باحة مدرسة داخل مخيم للاجئين في الضفة الغربية، ما تسبب بإصابة خمسة أطفال، وذلك «بهدف ترويعهم فحسب». لم تصدر أية أحكام بحق مرتكبي هذا العمل، ولم يلفت الحدث الانتباه مجدداً. كانت تلك مجرد حادثة أخرى في برنامج «الأمية كعقاب»، بحسب الصحافة الإسرائيلية، وقد شمل هذا البرنامج إغلاق المدارس، واستخدام قنابل الغاز، وضرب التلامذة بأعقاب البنادق، ومنع المساعدات الطبية عن الضحايا. وأبعد من المدارس، ساد عهد من العنف الأكثر قساوة، حتى أنه أصبح أكثر وحشية خلال الانتفاضة تحت أوامر وزير الدفاع إسحاق رابين. وبعد عامين من العنف والقمع الساديّين، أبلغ رابين مسؤولي حركة «السلام الآن» أنّ «سكان الأراضي المحتلة يتعرّضون لضغط عسكري واقتصادي قاسٍ. في النهاية، سيتمّ كسرهم»، وسيقبلون بالشروط الإسرائيلية. تماماً مثلما فعلوا عندما استعاد عرفات السيطرة من خلال عملية أوسلو.

تواصت مفاوضات مدريد بين إسرائيل وفلسطينيي الداخل دون نتائج حاسمة ابتداءً من العام ١٩٩١، لأن عبد الشافي أصرّ على وقف تمدُّد المستوطنات الإسرائيلية. جميع المستوطنات غير قانونية، وهو ما كرّرته السلطات الدولية، من بينها مجلس الأمن الدولي (من بين القرارات في هذا الشأن، قرار مجلس الأمن رقم ٤٤٦، الذي صوّتت لصالحه ١٢ دولة في مقابل امتناع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والنروج عن التصويت). وفي وقت لاحق، ثبّتت محكمة العدل الدولية عدم قانونية المستوطنات. وقد نالت اعتراف السلطات الإسرائيلية القضائية العليا والحكومية في أواخر عام ١٩٦٧، مع بدء مشاريع الاستيطان. وقد شمل المشروع الإجرامي التمدُّد الكبير وضمّ القدس الكبرى، في خرق صريح للقرارات المتكررة لمجلس الأمن الدولي.

لخّص الصحافي الإسرائيلي داني روبنشتاين بدقّة الموقف الإسرائيلي السائد مع بداية مؤتمر مدريد، وهو أحد أفضل المحللين المتخصصين بقضايا الأراضي المحتلة٢. كتب روبنشتاين أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل قد توافقان في مدريد على إعطاء بعض «الحكم الذاتي» للفلسطينيين بموجب ما تفرضه اتفاقيات «كمب دايفيد» الموقّعة في العام ١٩٧٩، لكن «هذا الحكم الذاتي سيكون شبيهاً بذلك الممنوح لمخيمات أسرى الحرب، حيث يتمتع الأسرى بـ«الاستقلالية» في تحضير وجباتهم وتنظيم مناسباتهم الثقافية من دون تدخل سجّانهم». سيتم منح الفلسطينيين أكثر بقليل ممّا كانوا يتمتّعون به: السيطرة على الخدمات المحلية... وستتواصل مشاريع الاستيطان الإسرائيلية.

تسريع الاستيطان والقدس الكبرى

فيما كانت مفاوضات مدريد والمفاوضات السرية في أوسلو تسير على قدم وساق، تمّ توسيع مشاريع الاستيطان بشكل سريع، في المرحلة الأولى في ظل عهد إسحاق شامير، وبعدها مع إسحاق رابين الذي أصبح رئيساً للحكومة في العام ١٩٩٢، و«تباهى بأنه تمّ خلال عهده بناء منازل استيطانية في الأراضي الفلسطينية أكثر مما بُني منذ العام ١٩٦٧». شرح رابين مبدأه المسيِّر بشكل موجز: «المهم هو ما يتواجد داخل الحدود، ومكان تواجد الحدود هو أمر أقل أهمية، طالما أنّ الدولة (الإسرائيلية) تغطّي معظم «أرض إسرائيل» (فلسطين التاريخية)، وعاصمتها القدس».

وبحسب تقارير باحثين إسرائيليين، كان هدف حكومة رابين توسيع «منطقة القدس الكبرى الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية» بشكل جذري، لتضم المنطقة الممتدة من رام الله حتى الخليل وصولاً إلى حدود معاليه أدوميم بالقرب من أريحا، و«الإنتهاء من خلق الدوائر الاستيطانية اليهودية المجاورة في منطقة القدس الكبرى، وذلك بهدف محاصرة المجموعات الفلسطينية، والحد من تطورها، ومنع أي إمكانية لأن تكون القدس الشرقية عاصمة فلسطينية». أكثر من ذلك، فقد «وضعت شبكة طرقات واسعة النطاق قيد التشييد، لتكون العمود الفقري لمسار الاستيطان».

تم توسيع مشاريع الاستيطان بسرعة بعد اتفاقيات أوسلو، ومن ضمن هذه المشاريع تشييد مستوطنات جديدة و«تدشيم» مستوطنات قديمة، وتقديم إغراءات خاصة لجذب مستوطنين جدُد، ووضع مشاريع طرقات سريعة لتحويل الأراضي الفلسطينية الى كانتونات. باستثناء القدس الشرقية، اتسعت عمليات البناء بنسبة ٤٠ في المئة بين ١٩٩٣ و١٩٩٥، بحسب دراسة أجرتها حركة «السلام الآن».

زاد التمويل الحكومي الإسرائيلي للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية بنسبة ٧٠ في المئة عام ١٩٩٤، أي في العام الذي تلا تاريخ التوقيع على الاتفاقيات. وأفادت «دُڤار» صحيفة حزب العمال الحاكم حينها أن حكومة رابين حافظت على أولويات حكومة شامير اليمينية المتطرفة التي خلفتها. ففيما كانت حكومة «العمال» تدّعي السعي لتجميد الاستيطان، فقد «ساعدته مادياً أكثر من حكومة شامير حتى»، من خلال توسيع المستوطنات «في كل الضفة الغربية، حتى في أكثر البقع استفزازيةً». وقد استمر تطبيق هذه السياسات في السنوات اللاحقة، وهي تشكل الأساس للمشاريع الحالية لحكومة نتنياهو. وهي سياسات تهدف إلى السماح لإسرائيل بإحكام سيطرتها على حوالى ٤٠ إلى ٥٠ في المئة من الضفة الغربية، أما الباقي فيكون مقسماً إلى كانتونات داخل سجن، بينما تسيطر إسرائيل على غور الأردن، بشكل منفصل عن قطاع غزة، وذلك في خرق صريح لاتفاقيات أوسلو، فتضمن بالتالي أن أي كيان فلسطيني محتمل لن يكون له أي منفذ إلى العالم الخارجي.

الانتفاضة وصراع الداخل مع الخارج

المبادرون بالانتفاضة هم فلسطينيو الداخل. حاولت منظمة التحرير الفلسطينية فرض بعض السيطرة على الأحداث، لكن من دون نجاح كبير. وقد عمّقت مشاريع مطلع التسعينيات، حين كانت المفاوضات جارية، غربة فلسطينيي الداخل عن قيادة منظمة التحرير المقيمة في الخارج.

وفي ظل هذه الظروف، لم يكن مفاجئاً أن يبحث عرفات عن وسيلة لإعادة فرض سلطة منظمة التحرير. وقد سنحت له الفرصة لفعل ذلك من خلال المفاوضات السرية بينه وبين إسرائيل برعاية نرويجية، مقوِّضاً بذلك القيادة المحلية في الداخل. وفيما انتهت هذه المفاوضات السرية في آب/أغسطس ١٩٩٣، فإنّ التباعد المتزايد (بين الداخل والخارج) كان مادّة لكتابات لميس أندوني، إحدى الصحافيات القليلات اللواتي تابعنَ بدقّة تطوّرات الفلسطينيين الواقعين في ظل الاحتلال وفي مخيمات اللجوء في الدول المجاورة.

أشارت أندوني إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية «تواجه أزمتها الأسوأ منذ تأسيسها، إذ إن المجموعات الفلسطينية ــ باستثناء حركة «فتح» ــ والمستقلين آخذة في الابتعاد عن منظمة التحرير، في ظلّ تقلُّص المجموعة المحيطة بياسر عرفات». أكثر من ذلك، تلفت أندوني إلى أن «أرفع عضوين في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الشاعر محمود درويش وشفيق الحوت، استقالا من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير»، على وقع عرض المفاوضين الفلسطينيين تقديم استقالاتهم. وحتى التنظيمات التي ظلّت منضوية في منظمة التحرير، فإنها اخذت تنأى بنفسها عن عرفات. وفي السياق، دعا مسؤول حركة «فتح» في لبنان عرفات إلى الاستقالة، فيما كانت وتيرة المعارضة الموجهة ضد عرفات وضد فساد منظمة التحرير وتسلّطها تتزايد في الأراضي المحتلة. وجنباً إلى جنب مع «التفسُّخ السريع للتنظيم الأساسي، وخسارة عرفات للدعم داخل صفوف حركته... فإنّ التفسخ السريع لمؤسسات منظمة التحرير والتآكل الثابت للقاعدة الجماهيرية للمنظمة قد يجعلان أي انفراج في محادثات السلام من دون أي معنى».

ولاحظت أندوني أنّه «لم يسبق أن وصلت المعارضة للقيادة الفلسطينية ولعرفات شخصياً إلى هذا المستوى على امتداد تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية، بينما، وللمرة الأولى، يسود شعور متعاظم بأن الحفاظ على الحقوق الوطنية الفلسطينية لم يعد يتوقف على الدفاع عن دور منظمة التحرير الفلسطينية. وبات كثيرون يعتقدون أن سياسات تلك القيادة هي التي تدمّر المؤسسات الفلسطينية، وتعرّض الحقوق الوطنية الفلسطينية للخطر».

«اوسلو» تغلّب الخارج على الداخل

لهذه الأسباب، أشارت أندوني إلى أن عرفات كان يواصل السير بخيار أريحا ــ غزة الذي أتاحه له اتفاق أوسلو، وهو الخيار الذي أمل عرفات أن يعزّز سلطة منظمة التحرير، خصوصاً وسط مؤشرات تفيد بأن الحكومة الإسرائيلية قد تخطو الخطوة الباقية من خلال الحديث مباشرة مع منظمة التحرير، وبالتالي إنقاذ الشرعية التي تخسرها المنظمة داخلياً.

كانت السطات الإسرائيلية مدركة بلا شكّ للتطورات الجارية داخل الأراضي الفلسطينية، ويُحتمَل أن تكون قد خلصت إلى نتيجة إيجابية في ما يتعلق بتقويمها للاتفاق الذي عقدته مع هؤلاء الذين «يدمّرون المؤسسات الفلسطينية ويعرّضون الحقوق الوطنية الفلسطينية للخطر»، قبل أن يسعى المواطنون إلى تحقيق أهدافهم وحقوقهم الوطنية بوسائل أخرى.

كانت ردة الفعل على اتفاقيات أوسلو بين الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة متفاوتة. لقد انتاب البعض أمل كبير، فيما لم يجد آخرون أسبابهم للاحتفال بالاتفاقيات. ورأت لميس أندوني أن «بنود الاتفاق أشعرت حتى أكثر الفلسطينيين اعتدالاً بالخطر والقلق إزاء احتمال أن تعزّز هذه الاتفاقيات السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية». وقد علّق صائب عريقات، وهو مفاوض فلسطيني رئيسي، قائلاً: «يبدو أن هذا الاتفاق يهدف إلى إعادة تنظيم الاحتلال الإسرائيلي، وليس إنهائه تدريجياً». حتى فيصل حسيني، الذي كان مقرّباً من عرفات، قال إن اتفاقيات أوسلو «ليست حتماً البداية التي كان شعبنا يأملها». بدوره، انتقد حيدر عبد الشافي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لموافقتها على الاتفاق الذي يسمح لإسرائيل بمواصلة الاستيطان، ومصادرة الأراضي «وتهويدها وضمّها» إلى منطقة القدس التي مدّدتها وسيطرت عليها، وبإخضاع الفلسطينيّين لـ«الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية». وقد رفض عبد الشافي المشاركة في احتفال التوقيع على الاتفاق في حديقة البيت الأبيض. وبحسب ما كتب يوسف إبراهيم في صحيفة «نيويورك تايمز»، فإنه بالنسبة لكثيرين، كان «السلوك الدنيء لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك السير بمسار يتجاهل الفلسطينيين الذين عانوا طيلة ٢٧ عاماً من الاحتلال الإسرائيلي لمصلحة فلسطينيين مقيمين في المنفى أتوا من تونس للاستيلاء على السلطة»، أمراً مقزِّزاً. وأضاف إبراهيم أنّ ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية «رُشقوا بالحجارة على يد شبان فلسطينيين عندما كانوا في الآليات العسكرية الإسرائيلية في طريقهم إلى أريحا». وقد كشفت اللائحة المؤقتة التي أعدّها عرفات لأسماء أفراد سلطته أنه «مصمّم على ملئها بموالين له، وبعناصر من الشتات الفلسطيني»، بحسب ما كتب جوليان أوزان من القدس في صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، علماً أنّ اللائحة لم تتضمّن سوى اسمين فلسطينيين «من فلسطينيي الداخل»، هما فيصل الحسيني وزكريا الآغا، وكلاهما من الموالين لعرفات. أما باقي الأسماء، فكانوا من الفصائل السياسية الموالية لعرفات من المقيمين خارج الأراضي المحتلة.

«الاحتياجات» مقابل «المطالب»

وتكشف النظرة إلى المضامين الحالية لاتفاقيات أوسلو أن مثل ردود الفعل تلك كانت مفرطة في التفاؤل.

كان «إعلان المبادئ» صريحاً جداً في إرضاء المطالب الإسرائيلية، وفي المقابل تغاضى عن الحقوق الوطنية الفلسطينية. وكان مطابقاً للمفهوم الذي صاغه دينيس روس، المستشار الرئيسي لبيل كلينتون والمفاوض في كامب ديفيد عام ٢٠٠٠، وهو الذي تولّى في عهد أوباما لاحقاً منصب المستشار الرئيسي أيضاً. وبحسب شرح روس، فإنّ لإسرائيل «احتياجات»، في المقابل فليس للفلسطينيين سوى «مطالب» من الواضح أنها أقل شأنا٣.

وينص البند الأول من «إعلان المبادئ» على أن النتيجة النهائية للعملية هي إرساء «حل دائم مبني على قرارات مجلس الأمن الدولي رقم ٢٤٢ و٣٣٨». يجدر بالأشخاص المتابعين للدبلوماسية المتعلقة بالصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني، أن يفهموا سريعاً ماذا يعني ذلك. لا يتضمن القراران ٢٤٢ و٣٣٨ بتاتاً أي كلام حول الحقوق الفلسطينية، ما عدا الاشارة إلى «حل عادل لمشكلة اللاجئين»، وهي الاشارة التي ظلّت مبهمة. وتحيل القرارات الدولية اللاحقة إلى الحقوق الوطنية الفلسطينية، لكن تمّ تجاهُل هذه القرارات في «إعلان المبادئ». إن كان الهدف النهائي لـ«عملية السلام» هو مثلما نصّ عليه «إعلان المبادئ» صراحةً، فإنّه يجدر بالفلسطينيين توديع آمالهم بتحصيل بعض حقوقهم الوطنية في فلسطين التاريخية.

وتتكفّل البنود الأخرى من «إعلان المبادئ» بالكشف عن ذلك بوضوح أكبر. فتنص هذه البنود على أن تبسط السلطة الفلسطينية سيطرتها على «أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، باستثناء المسائل التي سيتم التفاوض حولها في مفاوضات الحل النهائي، أي: القدس، المستوطنات، المواقع العسكرية والسكان الإسرائيليين». وهو استثناء يشمل كافة القضايا. أكثر من ذلك، تنص تلك البنود على أنه «بعد الانسحاب الإسرائيلي، ستبقى إسرائيل مسؤولة عن الأمن الخارجي والداخلي وعن النظام العام للمستوطنات والسكان الإسرائيليين. وبإمكان القوات العسكرية الإسرائيلية والمدنيين مواصلة استخدام الطرقات بحريّة داخل قطاع غزة ومنطقة أريحا»، أي المنطقتين اللتين تعهّدت إسرائيل بالانسحاب منهما في نهاية المطاف. باختصار، لن يكون هناك تغييرات جذرية بعد تطبيق هذه البنود. كما أن «إعلان المبادئ» لم يتطرّق بكلمة إلى مشاريع الاستيطان التي تحتلّ مكاناً رئيسياً في الصراع، حتى قبل أن يقوّض التوسيع الكبير بموجب عملية أوسلو احتمالات واقعية بإمكانية تحقيق تقرير مصير فلسطيني ذات معنى.

باختصار، فقط عن طريق الخضوع لما يسمّى أحياناً «التجاهل الدولي»، يمكن للمرء تصديق أنّ عملية أوسلو كانت خطوة باتجاه السلام. غير أنّ تلك المعزوفة تحوّلت إلى دوغما افتراضية بين المعلّقين والمفكرين الغربيين.

اوسلو ٢ يشرعن الاستيطان

لقد تمّ إلحاق اتفاقيات إضافية عُقدت بين عرفات/منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل باتفاقيات أوسلو. الاتفاق الاضافي الأول والأهم من بين جميع هذه الاتفاقيات، كان «أوسلو٢» في العام ١٩٩٥، قبل فترة قصيرة من اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين، الذي شكّل مقتله حدثاً مأساوياً بلا شك، إلا أنّ الأوهام التي تحاك حول «رابين صانع السلام» لا يمكن أن تصمد أمام التحليل.

ويمكن اعتبار اتفاق «أوسلو٢» بمثابة نص صاغته مجموعة طلاب قانون أذكياء تم تكليفهم بمهمة وضع نصّ يتيح للسلطات الأميركية ــ الإسرائيلية خيار فعل ما يحلو لها مع ترك المجال مفتوحاً لتحقيق نتائج أكثر إيجابية لها أيضاً. وفي حال لم تتحقّق هذه النتائج، سيكون بالإمكان إلقاء اللوم في ذلك على «المتطرفين» الذين نكثوا بوعودهم.

ولتوضيح الصورة، فإنّ اتفاق «أوسلو٢» ينص على أن المستوطنين الإسرائيليين (بشكل غير شرعي طبعاً) في الأراضي المحتلة سيظلّون خاضعين للقانون والقضاء الإسرائيليين. وبحسب المصطلحات الرسمية للنص، «تحتفظ الحكومة الإسرائيلية العسكرية (في الأراضي المحتلة) بالسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وبالمسؤوليات، بما يتوافق مع القانون الدولي» الذي لطالما قامت الولايات المتحدة وإسرائيل بتفسيره مثلما يحلو لهما، في ظل موافقة أوروبية ضمنية. ويضمن المنطق نفسه لهذه السلطات فرض فيتو فعلي على التشريع الفلسطيني. وينص الاتفاق المذكور على أن أي «تشريع من شأنه تعديل أو إلغاء قوانين موجودة (تفرضها إسرائيل) أو قرارات عسكرية... ليس له أي مفعول ويُبطَل من أساسه إن كان يتجاوز التشريع الموضوع من قبل المجلس الوطني الفلسطيني» (الذي لم يكن يمتلك أية سلطة في معظم الأراضي المحتلة، وأي سلطة له في أي مكان آخر مشروطة بالموافقة الإسرائيلية)، «وإلا فسيكون ذلك التشريع متعارضاً مع هذا الاتفاق أو مع غيره»؛ في التطبيق مثلما تحدّده الولايات المتحدة وإسرائيل.

أكثر من ذلك، يشير اتفاق «أوسلو٢» إلى أنّ «على الطرف الفلسطيني احترام الحقوق القانونية للإسرائيليين (من ضمنهم الشركات المملوكة من إسرائيليين) المرتبطين بأراضٍ تقع في مناطق خاضعة للولاية القانونية الاقليمية للمجلس الوطني الفلسطيني»، وذلك في المناطق المحدودة حيث كان يجدر بالسلطات الفلسطينية أن تفرض عليها تشريعها المشروط بالموافقة الإسرائيلية. والحقوق القانونية المضمونة للإسرائيليين هي خصوصاً حقوقهم المتّصلة بالحكومة وبما يُسمّى «قانون الغائب»، وهو نص قانوني معقَّد يتم بموجبه فعلياً نقل أراضي الفلسطينيين الغائبين عن أراضيهم التي استولت عليها إسرائيل، نقلها إلى التشريع الإسرائيلي. وتشكل هاتان الفئتان الأخيرتان السواد الأعظم من المنطقة، رغم أن حكومة إسرائيل، التي تضع حدودها بشكل أحادي، لم تقدّم بيانات رسمية عن ذلك. ونقلت الصحف الإسرائيلية أن «أراضي الدولة غير المأهولة» بلغت نحو نصف مساحة الضفة الغربية، ومجموع أراضي الدولة بلغت مساحتها حوالي ٧٠ في المئة.

بالتالي، ألغى اتفاق «أوسلو٢» إقرار معظم دول العالم افتراضياً، ومعهم جميع السلطات القانونية ذات الصلة، بأنه لا يحقّ لإسرائيل المطالبة بالأراضي التي احتلتها في العام ١٩٦٧، وأن المستوطنات غير قانونية. وبموجب هذا الاتفاق، اعترف الطرف الفلسطيني بشرعية المستوطنات، إلى جانب اعترافه بحقوق قانونية أخرى غير محدَّدة للإسرائيليين في الأراضي المحتلة، من بينها في «المنطقة أ» و«المنطقة ب» (الخاضعتين للسيطرة الفلسطينية المشروطة). لقد غرس اتفاق «أوسلو٢» بشكل أعمق، الإنجاز الرئيسي لـ«أوسلو١»: تم إلغاء جميع قرارات الأمم المتحدة ذات الأثر على الحقوق الفلسطينية، ومن ضمنها القرارات التي تتصل بلا شرعية المستوطنات، وبوضعية القدس، وحق العودة للاجئين. وقد ألغى ذلك، بجرّة قلم افتراضية، السجلّ الكامل للدبلوماسية الشرق أوسطية، ما عدا النسخة المطبَّقة في مسار «عملية السلام» الذي قادته الولايات المتحدة. ليست الوقائع الأساسية خارج التاريخ في السردية الأميركية فحسب، بل باتت رسمياً مقتلعة أيضاً. هكذا استمرّت هذه الحال حتى يومنا هذا.

بعض وثائق اوسلو مفقودة!

مثلما تم ذكره أعلاه، كان متوقعاً أن يحاول عرفات الاستفادة من الفرصة لتقويض القيادة الفلسطينية الداخلية، ولإعادة فرض سلطته الآخذة في التراجع داخل الأراضي المحتلة. لكنّ مسألةً أخرى مهمة يجدر التوقف عندها، وهي ما الذي كان المفاوضون النرويجيون يظنون أنهم ينجزون؟ ان الدراسة العلمية الوحيدة التي أجريت حول هذا الموضوع، على حد علمي، هي تلك التي أجرتها هيلدي هنريكسن وايج، التي كلّفتها وزارة الخارجية النرويجية بإجراء بحث حول هذه المسألة، ولهذه الغاية سُمح لها بالوصول إلى ملفّات داخلية، لتخرج بالاكتشاف اللافت، ألا وهو أن السجلّ التوثيقي لهذه المرحلة الحاسمة، مفقود٤.

تلاحظ وايج أنّ اتفاقيات أوسلو كانت بالتأكيد نقطة تحول في التاريخ الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني، التي كرّست أيضاً أوسلو كـ«عاصمة السلام في العالم». كان «متوقعاً من عملية أوسلو أن تجلب السلام إلى الشرق الأوسط»، بحسب وايج، لكنّ «بالنسبة للفلسطينيين، نتج من هذه العملية تقطيع أراضي الضفة الغربية، ومضاعفة أعداد المستوطنين الإسرائيليين، وبناء جدار فصل يشلّ الحياة، وإرساء نظام إقفال محكم للأراضي الفلسطينية، وفصل غير مسبوق بين قطاع غزة والضفة الغربية». وكانت التوقعات المتفائلة، غير واقعية للأسباب المذكورة أعلاه، وهي أسباب كانت جليّة آنذاك وتمّت مناقشتها ملياً، لكن ليس في وسائل الإعلام المهيمنة٥.

وتخلص وايج بكفاءة إلى أنه «يمكن اعتبار عملية أوسلو حالة تُدرَّس عن عيوب» نموذج وساطة طرف ثالث تقوم بها دولة صغيرة في صراعات غير متناسبة في موازين القوى»، وتشير بشكل صارخ إلى أن «عملية أوسلو جرت وفق المنطق الإسرائيلي، وقد تصرفت النروج كموظف وفيّ لدى إسرائيل». وكتبت وايج أن «النرويجيين اعتقدوا أنه من خلال الحوار وبناء تدريجي للثقة، يمكنهم خلق دينامية سلام لا عودة عنها، ودفع العملية قُدُماً للوصول إلى حلّ. لكن المشكلة في كل هذه المقاربة هي أن المسألة ليست قضية ثقة، لكن قضية موازين قوى. إن تيسير العملية يحجب الواقع. في النهاية، فإنّ النتائج التي قد يتم انجازها على يد طرف ضعيف ثالث وسيط، ليست أكثر مما سيسمح الطرف الأقوى بإنجازها... السؤال الذي يجدر طرحه هو عما إذا كان هذا النموذج من الوساطة يمكن أن يكون مناسباً».

إنه لسؤال جيّد وجدير بالتأمل، تماماً مثلما يتبنى الرأي العام الغربي المثقف اليوم الفرضية السخيفة التي تفيد بأن مفاوضات إسرائيلية ــ فلسطينية ذات معنى يمكن أن تجري جدياً برعاية الولايات المتحدة، كـ«وسيط نزيه»، وهي فعلياً شريك لإسرائيل لخمسة وثلاثين عاماً في إقفال الباب أمام الحلول الدبلوماسية التي تحظى بموافقة العالم كله تقريباً.

  • ١. Raz, The Bride and the Dowry, Yale, 2012.
  • ٢. هآرتس، ٢٣ تشرين الأول/أكتوبر ١٩٩١. حول المصادر هنا وأدناه حيث لا ذكر لها، إقرأ: تشومسكي، World Orders Old and New (Columbia University), 1994.
  • ٣. للاطلاع على تحليل مفصَّل عن مواقف روس، إقرأ نورمن فنكلستين، «دينيس روس وعملية السلام: إخضاع الحقوق الفلسطينيين للاحتياجات الإسرائيلية»، مجلة الدراسات الفلسطينية، ٢٠٠٧.
  • ٤. وايج، «هوامش أوسلو: لغز الملفات النرويجية المفقودة»، مجلة الدراسات الفلسطينية، خريف ٢٠٠٨.
  • ٥. إقرأ مثلاً إدوارد سعيد، «اتفاق عرفات»، The Nation (٢٠ أيلول/سبتمبر ١٩٩٣)، ومقال نوام تشومسكي «اتفاق عرفات وإسرائيل»، Zmagazine، تشرين الأول/أكتوبر ١٩٩٣.
العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣
السياقات والتداعيات

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.