ان نشوء «سلطتين» فلسطينيتين في العام ٢٠٠٧ في منطقتين مختلفتين - سلطة حركة حماس في غزة وسلطة حركة فتح في الضفة الغربية - زاد في الحاح سؤال أصلي: من هم الفلسطينيون؟ من ينطق باسمهم؟ ماذا يريدون؟ باي معنى يشكلون مجتمعا سياسيا؟ وكيف لهم ان يحققوا تطلعاتهم؟
ان المثابرة العنيدة لهذه الاسئلة خلال ما يقارب القرن من الزمن يشدد على بعض القوانين الحديدية والمفارقات في التاريخ الفلسطيني الحديث التي تستحق المعالجة في نقاشات عن اسباب المحنة الحالية وآثارها وعن الكيفية التي بها نستطيع ان نبتكر استراتيجيات خلاقة لتحقيق الحرية والسلم والعدالة. اقصد بـ«قوانين حديدية» القوى التاريخية التكوينية التي نتجت من التفاوت الكاسح في علاقات القوى الذي سجن الفلسطينيين في فقص من حديد١. واعني بـ«مفارقات» سخريات التاريخ التي تخرّب السرديات القومية عن الماضي. واني أحاجج ان القوانين الحديدية والمفارقات هذه تستدعي اعادة تقييم نقدية للعلاقة بين مفهومي «فلسطين» و«فلسطينيين» لكما لاعادة تقييم نقدية للمشروع المتمركز حول الدولة الذي رافق حقبات متتالية من الحركة الوطنية الفلسطينية.
عن مفارقات وقوانين حديدية
ان الدينامية المركزية او القانون الحديدي للنزاع على فلسطين منذ ان بدأ في اواخر القرن التاسع عشر، تمحورا حول الرفض القاطع الذي واجهت به اعتى قوتين في ذلك النزاع - الحركة الصهيونية (ولاحقا الحكومة الاسرائيلية) وداعمَيها الرئيسيين، بريطانيا اولا والولايات المتحدة تاليا - الاعتراف بوجود الفلسطينيين بما هم جماعة سياسية او السماح بذلك. وقد سمح عدم الاعتراف هذا لطاقتي الدفع لذلك النزاع - الاستيلاء على الارض والاجلاء السكاني للفلسطينيين من اراض الجدود - ان تستمرا دون توقف خلال ما يقارب القرن. وهذا بالمناسبة ما يفسّر الرسالة المركزية للعلاقات العامة الاسرائيلية، التي هي، في واقع الحال، النقيض عن الحقيقة. اعني ان المطلوب الاعتراف به هو حق اسرائيل في الوجود.
ان للقانون الحديدي سلالات طويلة تمتد من شعار الخلاصيين المسيحيين في اواخر القرن التاسع عشر - «ارض بلا شعب لشعب بلا ارض» - الى المحو السياسي الدؤوب للسكان الاصليين في كلمات «وعد بلفور» في العام ١٩١٧ وفي «وثيقة الانتداب على فلسطين» الصادرة عن «عصبة الامم» وصولا الى الانكار الصفيق لوجودهم كجماعة سياسية بعد العام ١٩٤٨ كما عبّرت عنه العبارة سيئة الذكر لرئيسة الوزراء غولدا مئير في العام ١٩٦٩ «الشعب الفلسطيني غير موجود»٢. وقد استمر الوضع على هذا المنوال مع العبارة الحديدية «لا تفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية الارهابية» من حرب ١٩٦٧ الى اتفاق اوسلو العام ١٩٩٣ وصولا الى ترسيمة «لن نفاوض ياسر عرفات» في فترة ما بعد اوسلو وصيغة «محمود عباس ضعيف جدا لنتحدث اليه»، قبل انتخابات العام ٢٠٠٦. وقد لخّص دوڤ فايسغلاس، المستشار السياسي لرئيس الوزراء آريل شارون، هذا النسق في التعامل كما يلي:
«لقد نجحنا، من خلال المعالجة المناسبة، ان نزيح مسألة العملية السياسية عن جدول الاعمال. وقد ثقّفنا العالم كي يفهم انه لا يوجد احد لنتحدث اليه. ولقد نلنا شهادة «لا وجود لاحد نتحدث اليه»... ولن تُسحَب هذه الشهادة الا عندما يحدث كيت وكيت- اي عندما تصير فلسطين هي فنلندا»٣.
بعبارة اخرى - ان هذا لن يحصل ابداً. على الاقل ليس قبل ان تكون الديناميات الاساسية لمصادرة الارض وللاجلاء السكاني قد اخذت مجراها بما يرضي النخبة الاسرائيلية الحاكمة، ما يسمح لاسرائيل بأن تعلن عن حدودها اخيراً.
والمفارقة في الامر هنا ان الانكار العنيد للفلسطينيين بما هم جماعة سياسية، او حتى محوهم، هو نتاج قوى فكرية ومادية سابقة على وجود الفلسطينيين بما هو شعب في المعنى الحديث للكلمة، اي بما هم جماعة يفترض اعضاؤها وجود تطابق واضح عندهم بين الهوية والارض، حيث التعبير الحتمي عن ذاك التطابق هو سيادة الدولة. هذا لا يعني ان الذين يسمّون انفسهم اليوم فلسطينيين ليسوا السكان الاصليين للاراضي التي صارت فلسطين الانتدابية العام ١٩٢٢. الاحرى انه يعني بديلا من ان يوجد تطابق طبيعي وجِد ولا يزال يوجد توتر ناتج من «مناكفة زمنية» بين فلسطين والفلسطينيين، كأنما الواحد منهما لا يوجد الا على حساب الآخر. ان سمة مميزة من سمات هذا الوضع هي تخلف زمني يقضي على الفلسطينيين بأن يكونوا بموجبه متأخرين بخطوة او خطوتين الى الوراء، ولذا عاجزين بانتظام عن التحكّم بقواعد الاشتباك. فقبل ان يتمكنوا من ذلك بوقت طويل، كانت تلك القواعد تتطلب وعيا قوميا سائدا في كل ذهن وشهادة استملاك للارض مبنية على مسوح عقارية ممسوكة في كل يد كشروط مسبقة للحق في ادعاء ملكية الارض، والحق في الكلام، والحق في نيل الاعتراف بهم بما هم جماعة سياسية. وكان قبول الفلسطينيين تلك الشروط المسبقة يعني الخوض في سباق لن يستطيعوا الفوزبه ابدا، اما رفضة فكان يعني طردهم خارج العملية السياسية الرسمية (اي صيغة «لا يوجد احد نتحدث اليه»).
لا نهاية للمفارقات التي نجمت عن ذلك التوتر «المحايث». تستحق اربع مفارقات منها ان نوليها اهتماما خاصا لأن كل واحدة منها تعيّن منعطفا من المحو والولادة للهوية او للارض، ولكن ليس لكليهما معا.
المفارقة بين الهوية والارض
المفارقة الاولى هي نشوء دولة سمّيت «فلسطين» مثّلت هزيمة ماحقة للتطلعات السياسية للذين سوف يسمّون لاحقا الشعب الفلسطيني. فالى العام ١٩٢٠، كان انشاء كيان سياسي مستقل في جنوب سورية الخيار الاقل حظوة بالتأييد عند الذين يعبّرون عن آراء سياسية محددة في العقود الاخيرة من الحكم العثماني (مع الاعتراف بأنهم كانوا اقلية).
المفارقة الثانية هي ان انشاء بريطانيا لدولة فلسطينية بذاتها من خلال «عصبة الامم» ارتكز على انكار مشغول بعناية لوجود الفلسطينيين بما هم جماعة سياسية. وهكذا فالمفاوضات الطويلة بين الحكومة البريطانية وقادة الحركة الصهيونية التي سبقت وعد بلفور (١٩١٧) حول موقع «غير اليهود» (وقد كانوا ٩٠ ٪ من السكان) نتجت منه صيغة سمحت لهؤلاء بحقوق مدنية ودينية فقط، فيما جرى الاعتراف جهارا بالحقوق السياسية لليهود. وقد أدخِلت هذه الصيغة بحرفيتها في «وثيقة الانتداب» حيث لا ذكر إطلاقا لكلمة «عرب» وحيث ترِد كلمة «فلسطيني» مرة واحدة (ومن سخرية الاقدار انها وردت في صدد الدعوة الى تسهيل حصول اليهود على «الجنسية الفلسطينية»). وإن التعنّت البريطاني ضد السماح للفلسطينيين بأن يشكلوا المؤسسات ذاتها التي كلّفهم الانتداب بتطويرها، يضاف اليه عجز القيادات المحلية عن اعادة تصوّر ثقافة سياسية، قد تحجرت بسبب قرون من السيطرة الامبراطورية العثمانية، تستطيع ان تجابه بفاعلية الحكم البريطاني والمشروع الصهيوني، عزّز من التوتر بين الهوية والارض الذي لازم الفلسطينيين منذ بداية النزاع. ويرجّح لهذا التوتر ان يستمر طالما ان الحركة الوطنية الفلسطينية حبيسة الاساس النظري التي رسمته الحركة الصهيونية والقوى الامبريالية التي انشأت نظام الدولة الحديثة في الشرق الاوسط.
اما المفارقة الثالثة فهي تدمير فلسطين ذاتها بما هي دولة في العام ١٩٤٨ الذي اعلن لحظة الانعطاف في عملية تشكل الفلسطينيين بما هم شعب. فمن المؤكد ان تغليب الهوية الوطنية الفلسطينية على اشكال اخرى متوافرة من الهويات كان ينمو بوتيرة متسارعة منذ تشكيل الدولة الفلسطينية بُعيد الحرب العالمية الاولى، وما من شك في ان الثورة الكبرى خلال الاعوام ١٩٣٦-١٩٣٩ ضد الحكم البريطاني جعلت من عملية التشكل هذه عملية لا ارتداد عنها. على الرغم من ذلك، فإن الذاكرات المشتركة عن صدمة اقتلاع مجتمعهم وتجارب الحرمان، واللجوء، وفقدان الدولة، صارت العلامة الفارقة لـ«الحالة الفلسطينية» خلال الحقبة الثانية من الحركة الوطنية الفلسطينية. ويمكن ان نذكر هنا مفارقتين اقل اهمية: الاولى هي تأسيس «منظمة التحرير الفلسطينية» في العام ١٩٦٤ بواسطة «جامعة الدول العربية» بمبادرة من الرئيس جمال عبد الناصر قد حصل تحديدا لتقديس فلسطين ومنع الفلسطينيين من ان «يمتلكوا» انفسهم بما هم جماعة سياسية؛ والثانية، ان اعتراف العرب والامم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية بما هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، العام ١٩٧٤، قد قام على اساس تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن هويتها بما هي حركة تحرر وطني وتبنيّها، بدلا من ذلك، هوية دولة في المنفى تسعى الى حكم الاراضي المحتلة بعيد حرب حزيران ١٩٦٧.
المفارقة الرابعة هي تلك التي تتجلى امام ناظرينا الآن حيث يجري «تبليع» الفلسطينيين دولة (او دولتين) بالقوة ضد ارادتهم بعد عدة عقود من مطالبتهم بدولة، واقول ضد ارادتهم لانه يصعب تخيل فلسطينيين يوقعون على صفقة تلغي حقهم في العودة، وفي القدس الشرقية ونصف الضفة الغربية في مقابل دولة غير محددة الحدود، ولا تجاور جغرافي ولا سيادة ولا جدوى اقتصادية ولا وسائل دفاع عن النفس ولا سيطرة على الموارد. باختصار صار انشاء دولة فلسطينية، مثلما ينادي بها رؤساء الولايات المتحدة الاميركية ورؤساء الوزراء الاسرائيليون، الوسيلة التي بموجبها يجري قطع الطريق على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، عوضاً عن تحقيقه.
هل للفلسطينيين صوت؟
اللافت للنظر كثيرا الآن انه لا تزال مسألة من ينطق باسم الفلسطينيين مسألة قيد البحث بعد قرن كامل من الزمن. ويعود ذلك، الى حد بعيد، الى حقيقة ان التوتر بين الارض والشعب الذي يخترق تلك المفارقات هو توتر سابق على العصر الحديث. فمن حظ الذين يسمّون انفسهم فلسطينيين (او من سوء حظهم) انهم سكان مساحة صغيرة نسبياً وهامشية اقتصادياً تقدّسها ثلاثةً ديانات توحيدية في العالم وتشكل جسراً ارضياً يربط بين القارتين الافريقية والآسيوية. فإن السكان الذي فلحوا الحقول وبنوا المدرجات وكاروا في حوانيت الحواري لهم بالتالي علاقة فصامية بالمكان الذي يسمونه بيتا لهم.
فهم من جهة صاغوا عبر القرون شبكة متينة من العلاقات المخصوصة والحميمة بالارض تتحكم بوجودهم ذاته، من العيش الى الكرامة. ومن جهة اخرى، فتلك المساحة المقدسة والاستراتيجية ميالة للتجريدات والرغبات الاديولوجية - اعني الى الاستحواذ عليها باسم الله والحضارة - من قوى اعتى قوة من سكانها. فاذا استثنينا الحملات الصليبية، فاللحظة الحاسمة في الاستحواذ الاوروبي على تلك الارض عانت في القرن التاسع عشر عندما جرى تحويل مجموعة من المقاطعات التابعة للسلطنة العثمانية الى «الارض المقدسة» المسيطر عليها اوروبيا، ذات الحدود المعيّنة والخريطة المرسومة بحذافيرها. فمن خلال البعثات الاكاديمية والدينية المتنوعة، التي تطلبت الكثير من السَير على الاقدام واعمال المسح والحفر والبناء، جرى تأمين الارض واستعادتها (وإن المواصلة الشغوفة للنشاطات ذاتها من قبل الحركة الصهيونية والدولة الاسرائيلية إن هو الا استمرار لذلك النهج). هكذا تحولت التجريدات والرغبات الى شبكة من العلاقات المميزة بالارض على حساب ما هو موجود اصلا من شبكات. وهكذا فإن انتاج «الارض المقدسة» قد ارسى الاسس الثقافية والمادية لانكار حق الفلسطينيين في الوجود حتى قبل ان يصيروا شعبا، وضَمن نجاح الحركة الصهيونية حتى قبل ان تبدأ تلك الحركة في التعبير عن نفسها.
ما معنى الانتساب الى الجماعة السياسية الفلسطينية؟ وكيف يرى الآخرون الى هذا الانتماء؟ ازداد تعقيد هاتين المسألتين بعد اختفاء فلسطين في ١٩٤٨. فما دام احتلال الارض الواسع النطاق والاجلاء السكاني اللذين تسببت بهما النكبة كانا مجرد حلقات في سلسلة من عمليات المحو، فلا عجب ان تنجح الحكومة الاسرائيلية والمجتمع الدولي، مؤقتا على الاقل، في تحويل النضال الفلسطيني من اجل الاستقلال وتقرير المصير الى «قضية لاجئين» انسانوية لكنها لاسياسية. وهكذا وبما ان الفلسطينيين جماعة خلقها الفقدان، فكلما اقتربوا من العثور على صوتهم الخاص، كلما ازداد النظر اليهم كقوة تخريبية. لهذا اتسمت سياسات الانظمة العربية بنهج تقديس فلسطين في اللغو وقمع الفلسطينيين في الممارسة، ما يعزز التوتر القائم اصلا بين ارض وشعب.
يعود الفضل الى قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وخصوصا الى ياسر عرفات، في اعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية ومنحها صوتا. لكن منظمة التحرير الفلسطينية، وقيادتها التي تسيطر عليها حركة فتح، بما هي حركة وطنية محكومة بالمنفى، فقد كانت مهتمة بوجود عملاء لا شركاء. فلم تأبه للفلسطينيين الذين بقوا فيما صار دولة اسرائيل، ولا هي اعتنت كثيرا في الاراضي المحتلة من العام ١٩٦٧ الى ما بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان العام ١٩٨٢ بكثير. وفي كل الاحوال، فإن الانجاز العظيم المتمثل في انشاء عنوان سياسي اوحد للفلسطينيين قد جرى التخلي عنه عند توقيع اتفاقات اوسلو على مرجة البيت الابيض في ايلول ١٩٩٣. وهاكم لحظة اضافية حبلى بالمفارقة: فإن «اعلان المبادئ» - الذي يفترض انه اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية بما هي تنظيم يمثل الشعب الفلسطيني كما اعترف بمبدأ الارض مقابل السلام - قد ادى مباشرة الى القضاء عمليا على منظمة التحرير الفلسطينية والى خلق وقائع جديدة على الارض جعلت من قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة أمرا مستحيلا. وبعد مرور كل هذه السنوات من عمر «عملية السلام»، بات من الواضح ان الفلسطينيين قد فشلوا، رغم التضحيات الجسام، في خلق قيادة تمثيلية فعالة قادرة على ان تقودهم نحو بناء الدولة، حتى لا نتحدث عن العودة والمساواة والازدهار.
فرصة ام كارثة؟
ثلاثة احداث مفصلية - اجلاء المستوطنات الاسرائيلية من غزة (الذي انجز في سبتمبر ٢٠٠٥) والانتصار الانتخابي الكاسح لحركة حماس (يناير ٢٠٠٦) وفشل الاجتياح الاسرائيلي للبنان (يوليو-اوغسطس ٢٠٠٦) - اسست لمرحلة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني من اجل تقرير المصير الوطني.
واذا ما وضعنا تلك الاحداث على خلفية التدخل العسكري الاميركي في العراق وافغانستان، وتصعيد الحملة الاميركية لعزل ايران وربما اجتياحها، واعادة صياغة اللغة السياسية بناء على خطوط طوائفية او اثنية (وخصوصاً الثنائية السنة الشيعية) فإنها - الاحداث - تطرح تحديا غير مسبوق لانظمة الحكم في الشرق الاوسط التي ظهرت بعيد الحرب العالمية الاولى، كما لبعض الهويات الوطنية التي تبلورت على امتداد القرن العشرين. والمفارقة هنا ان الدولة الفلسطينية قد تولد في وقت يبدو فيه ان اساسات هذا النظام قد تهاوت.
آذَنَ اجلاء مستوطنات غزة بأن النقاش الطويل داخل الحركة الصهيونية بين المتطرفي في مسألة الارض والمتطرفي في مسألة السكان قد جرت تسويته تقريبا. بسرعة وبتصميم، ها هي اسرائيل تفرض «ضربتها القاضية» على ترتيبات الحل النهائي، بما فيها تلك المتعلقة بترسيم الحدود. فمن شِبه المؤكد الآن ان بعض الاراضي الفلسطينية لن تكون جزءا من اسرائيل وانه في المستقبل القريب، اقلاً، سوف يبقى نصف الشعب الفلسطيني تقريبا - المحروم من دولة ومن الحرية - ضمن حدود فلسطين كما كانت زمن الانتداب.
ان الانتصار الساحق الذي حققته حركة حماس في الانتخابات النيابية الفلسطينية في يناير ٢٠٠٦، وسيطرتها العسكرية على غزة في يونيو ٢٠٠٧، ختمت الحقبة الثانية من الحركة الوطنية الفلسطينية وآذنت بولادة حقبة جديدة مجهولة الامد سيكون الاسلام السياسي جزءا عضويا منها إذا لم نقل انه الجزء المهيمن عليها. فهذه الحقبة - وهي جزء من تيار اقليمي اوسع يشهد الصعود الاسلامي في تركيا وفي تونس ومصر بعد «الربيع العربي »- تعيد طرح السؤال عن الكيفية التي سوف يحقق بها الفلسطينيون تقرير المصير واي مجتمع يطمحون الى بنائه.
هنا تواجه حركة حماس معضلة. فهي، من جهة، سمحت للعديد من الفلسطينيين ان يتجاوزوا العجز والحرمان بأن يدمجوا في لغة سياسية واحدة أجندات اجتماعية وأخلاقية وسياسية ووفرت البناء التحتي لتحقيق تلك الاجندات على المستوى المحلي. لكن من جهة ثانية، تثير نظرتها للعالم وتكتيكاتها السياسية مشكلة رئيسة على معظم حركات المجتمع المدني والتضامن الدولي (نقابات، حركات نسوية، جمعيات حقوق انسان، الخ.) التي تلتزم مبادئ الانسانية العلمانية واللاعنف.
وما دام الفلسطينيون لن يستطيعوا تحقيق الحرية وتقرير المصير بأنفسهم، فمن الضروري ان يجدوا وسائل لتحقيق الطاقات التقدمية الكامنة في القانون الدولي ومبادئ حقوق الانسان دون ان يلتزموا على نحو غير نقدي بالاسس الفلسفية لتلك المبادئ (وهي، كما يعلمنا التاريخُ المعاصر، تتجذر فيها العنصرية والتوسع الامبراطوري والاستغلال الكولونيالي والتطهير العرقي والابادة الجمعية). وعليهم ايضاً ان يجدوا وسائل الاعتراف بالطاقات التقدمية الكامنة في تقاليدهم الثقافية والدينية الموروثة، وان يغرفوا منها، دون تجميدها في دروع دفاعية محافِظة تعزز من التراتبات الداخلية.
اما الحد التاريخيّ الفاصل الثالث فهو فشل اسرائيل في حربها ضد حزب الله في حرب يوليو ٢٠٠٦. فاذا كان العام ١٩٦٧ بمثابة الذروة في قوة اسرائيل العسكرية في المنطقة، فالعام ٢٠٠٦ يعلن اخفض مستوى في تلك القوة. وقد بدأت عملية الانحدار مع حرب الاستنزاف التي شنتها مصر بعيد العام ١٩٦٧، رغم المكاسب الاسرائيلية الظاهرية، مرورا بحرب ١٩٧٣ واجتياح لبنان ١٩٨٢، والانسحاب الاجباري من جنوب لبنان ٢٠٠٠ واعادة احتلال المنطقة «الف» من الاراضي الفلسطينية المحتلة في ابريل ٢٠٠٢. كل هذه الاحداث تشير الى حقيقة بسيطة: ان استخدام العنف لفرض وقائع جديدة على الارض يؤدي الى نتائج اقل فاقل فاعلية. في العراق وافغانستان، كما في فلسطين ولبنان، تتزايد وتتضخم الكلفة التي تتكبدها الولايات المتحدة واسرائيل للحفاظ على مستوى عال من القمع. ولا يتجلى ذلك في تصاعد المقاومة ضدهما وحسب وانما ايضا في الفروقات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي الى تذمر محلي جدي في تلك المناطق. ان هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ سمحت بعقد زواج النيوليبرالية مع المغامرات العسكرية، على ان شهر العسل قارب نهايته. فعاجلا او آجلا، سوف يتجذر مسار المفاوضات السياسية الحقيقية. واهم الالتزامات السياسية طويلة المدى التي يمكن للفلسطينيين ان يتعهدوا بها هو التحويل الديمقراطي لنظام التمثيل الذاتي تبعهم، وتشييد بنية قيادية وتصوّر طرائق خلاقة جديدة للتحضير لتلك المفاوضات وتأطيرها بحيث لا يكررون اخطاء اوسلو.
فيما يتعدى ترسيمة «الهوية-الارض-السيادة»
يروق للعديد منا ان يعتقد ان القانون الدولي سوف يجري الالتزام به، في نهاية المطاف، وان تحقيق تقرير المصير في عصر التحرر من الاستعمار حتمي قدر حتمية الالتزام بالقانون الدولي وان العدالة سوف تسود في نهاية المطاف. على ان هذه المعتقدات ليست قوانين حديدية ولا هي حتى توقعات واقعية بالضرورة. انها مجرد نتاج اتجاه نظري وضعي وموقف اخلاقي يوجّه الممارسة. لا حتمية في خلاص الفلسطينيين. صحيح انهم نجحوا في البقاء والمقاومة اطول مما توقع معظم المراقبين. على ان هذه الجهود المضنية كان ثمنها التشجيع على نمو تيار ريفي لامبالٍ ومتمحور على الذات في ثقافة سياسية فلسطينية تأبى النقد الذاتي. وهكذا فالفلسطينيون قد تحملوا قيادات متناوبة تم ترفيعها من فوق [دون انتخاب] ارتكبت اخطاء استراتيجية وتواطأت مع قواعد سلوك وتصرّف مصممة عن قصد لقطع الطريق على تقرير مصير جدي. بعبارة بسيطة، لا حرية او عدالة دون تعيين واسع لماهية «السياسي» بحيث يعطي من الاهمية للفلسطينيين قدر ما يعطيه لفلسطين بادراجه المسائل الاجتماعية والثقافية في الاجندة الوطنية؛ او دون عقد تحالفات عبر الحدود الدولية والنفسية بما يتضمن حكماً اعادة النظر فيما يعنيه تقرير المصير وما تعنيه السيادة.
ادرك بأن تحليلا «بعد وطني» للتاريخ الحديث لشعب من الشعوب، لم يحقق بعد طموحاته الوطنية، يطأ ارضا مفهومية/نظرية وعرة، حتى لا نقول انه يسير في حقل من الغام سياسية. ان التساؤل عن المدى الاقليمي للاعتراف بالفلسطينيين كشعب وعن معاني السيادة فيما النزاع لا يزال «حارا» يمكن ان يفهمه البعض على انه تحدٍّ لحق الفلسطينيين في فلسطين الى كونه ينسف لغة تقرير المصير السياسية التي تقع في صميم النضال الوطني الفلسطيني. وهذه ليست بمشاغل نافلة. يتمتع المؤرخون الاسرائيلون المراجعون ترف تفكيك الاساطير الصهيونية القومية تحديدا لانه توجد سردية تاريخية اسرائيلية نامية جدا يمكن استهدافها ولأن اسرائيل هي القوة العظمى في الشرق الاوسط ذات المستوى الرفيع من الثقة بالنفس ومن الانجاز. في المقابل، فالفلسطينيون هم الطرف الاضعف جدا في النزاع المستدام. ثم ان تراثهم المادي والثقافي، من الامكنة الى اسماء الامكنة، كان ولا يزال عرضة لعملية محو منهجية وإسكات التعبير بالاضافة الى غياب مؤسسات وطنية والى سلسلة متوالية من الانقطاعات القاسية في العام ١٩٤٨ تفسر لماذا السرديات الوطنية الفلسطينية مبعثرة تدور في معظهما حول ثنائية: المحو/التأكيد؛ الاستعمار/المقاومة. الثنائية الاولى مهووسة بسياسات الهوية وغالبا ما تفترض اشياء تحتاج الى تفسير، من مثل كيف اصبح الفلسطينيون شعبا وما علاقتهم بالمكان. اما الثنائية الثانية، فقد استوعبتها المجابهة السياسية مع الصهيونية وترقى غالباً الى موقع الضحية الاخلاقي الرفيع فيما هي تتعامى عن التناقضات الداخلية. لهذه الاسباب، فاسلوبا السرد كلاهما عاجز عن ارساء الاسس للغة تعبئة جديدة تتغذى من الحساسية للممارسات الاجتماعية والثقافية التي تنتج معنى ان يكون المرء فلسطينيا وتحوله المعنى تحويلا في الآن ذاته.
ان نقاشا نقديا لترسيمة «الهوية-الارض-السيادة» يمكن ان يصوّب نحو آفاق جديدة. فاولا، يجب على الفلسطينيين ان يتشكلوا بما هم جماعة سياسية ويجعلوا صوتهم مسموعا من خلال مؤسسات سياسية ديمقراطية مرتكزة الى مطالب الاقسام الثلاثة من الشعب الفلسطيني اليوم: حق العودة لخمسة ملايين في الشتات الذي يشكلون اكبر واقدم جماعات من اللاجئين في العالم؛ الحرية لنحو ٣،٨ ملايين في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة يعيشون في ظل احتلال عسكري شرس منذ اربعة عقود من الزمن؛ والحقوق المتساوية لـ ١،٢ مليون فلسطيني هم المواطنون الفلسطينيون في اسرائيل.
ثانيا، من الضروري ربط وتفعيل هذه الاهداف الثلاثة (المتناقضة والمتوازية طبعا) من خلال استراتيجيات خلاقة طويلة المدى قادرة على اعادة رسم قواعد اللعبة وكسر القانون الحديدي. فمن شبه المستحيل ان نتصور كيف يمكن للفلسطينيين ان يحققوا ذلك دون تحويل «السلطة الوطنية» و«حكومة حماس » الى كيانات توفر الخدمات ودون الاستثمار، في الوقت ذاته، في تنمية قيادات سياسية في المؤسسات العليا الممثلة لكافة التيارات الرئيسية داخل الجسم السياسي الفلسطيني.
ثالثا، لا يمكن للفلسطينيين ان يتخلوا عن المستوى الاخلاقي الرفيع باللجوء الى العنف العشوائي، والتعصب الديني، او المواقف القومية الشوفينية. ان الفلسطينيين يتمتعون بالحق في استخدام القوة من اجل انهاء الاحتلال الاجنبي حسب القانون الدولي. لكن هذا بعيد كل البعد عن تقديس الكفاح المسلح وعن الاستهداف المتعمّد للمدنيين لاسباب سياسية. فاي نوع من المجتمع يمكننا ان نبني على مثل تلك الافعال؟ وكيف يمكن تشجيع التعبئة القاعدية اذا كان الاهتمام والموارد مكرسة للميليشيات، خصوصا عندما تكون هذه عاجزة عن التصدي للعسكرية الاسرائيلية، وترتد للتناحر في ما بينها او ترتد ضد مجتمعها؟
ان كل ما ورد اعلاه يدعو الي اعادة التفكير في ترسيمة «الهوية/الارض/السيادة»، ابتداء بالحقيقة البدهية التي تقول إن الاسرائيليين باتوا يشكلون الآن امة في فلسطين وان النزاع الفلسطيني-الاسرائيلي ليس شاغلاً فلسطينياً او اسرائيلياً فقط. لا يمكن لـ«الارض المقدسة» ان يحتكرها طرف واحد ابدا، والاحتلال الكولونيالي لفلسطين موضع اهتمام دولي منذ وثيقة «عصبة الامم » في العام ١٩٢٢ وقرار التقسيم في العام ١٩٤٧ وصولا الى الحكم الذي اصدرته «المحكمة الدولية» عن عدم شرعية «جدار الفصل» في العام ٢٠٠٤. ولا مفرّ من التدويل، على الاقل بما هو مرحلة انتقالية، وهذا يتطلب المساومات على البعد الاقليمي او السكاني وعلى السيادة بالمعنى التقليدي السائد عند الاسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. الى هذا، عندما يصل الفلسطينيون الى التمتع بمقدار كاف من القوة، يجوز ان لا يعود امتلاك دولة هو الشكل الوحيد او حتى افضل شكل لتقرير المصير في عالم يزداد عولمة وتشابكا، مثلما ان القومية قد لا تعود هي الشكل الاجدى لتحقيق العدالة والمساواة والحرية لجماعات تربط بينها هوية واحدة.
لاسباب متنوعة، اولى العالم اهتماماً متزايداً لهذا النزاع اكثر منه لاي نزاع آخر في التاريخ. وقد يحوّل مثل هذا الاهتمام ضعف الفلسطينيين الى مصدر قوة ويقل التوتر الناجم عن مناكفة زمنية بين الهوية والارض إرهاصا بآفاق سياسية جديدة. ان القانون الحديدي الذي يتحكم بهم ومفارقات تاريخهم قد جعلت من الفلسطينيين رمزا خصيبا للوجه المظلم من الحداثة، وقضية تحتلّ مكانا بارزا لدى الحركات التقدمية عبر العالم. جميع الذين خبروا الحداثة لا بما هي تقدم وازدهار او بما هي تقرير مصير وخلاص، وانما بما هي احتلال استعماري وتجزئة اقليمية واجلاء سكانيا، يمكن ان يتعرفوا الى أنفسهم في التجربة الفلسطينية. على ان تسخير الطاقات السياسية الجبارة للجماعات الفلسطينية ولانصارها عبر العالم يتطلب تأسيس كيان تمثيلي يستطيع ان ينطق بوضوح بما يريده الفلسطينيون، وسبب ذلك، وحدود الفعل الاستراتيجي. ثم ان استنباط استراتيجيات مختلفة ووسائل تحقيقها يتضمنام بدورهما القدرة على تخيل مستقبلات مختلفة والتحرك باتجاه ثقافة سياسية تستطيع ان ترى ما يتجاوز ترسيمة «الهوية/الارض/السيادة».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.