المناسبات الدالة نادرا ما يجري الاحتفال بها. والهجوم الياباني على القاعدة البحرية الاميركية في «بيرل هاربر» خير مثال على ذلك. أُهمل غيرها ايضا وغالبا ما نستطيع ان نتعلم دروسا ثمنية من تلك المناسبات لما ينتظرنا الآن في الواقع.
اننا الآن عاجزون عن الاحتفال بالذكرى الخمسين لقرار الرئيس جون ف. كيندي شنّ العدوان الاكثر تدميرا واجراما لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية: غزو جنوب فيتنام وتاليا كل الهند الصينية، مخلّفا ملايين القتلى واربعة بلدان مجتاحة وضحايا لا زالوا يزدادون عددا بسبب الاثار البعيدة المدى لزخ جنوب فيتنام باشدّ المواد الكيماوية الحاملة للسرطان، المعروفة آنذاك، وقد استخدم لتدمير غطاء الارض النباتي وإبادة المزروعات الغذائية. ومع ان الهدف الرئيسي كان جنوب فيتنام الا ان الغزو توسع شمالا، ليبلغ المجتمع الفلاحي البعيد في لاوس الشمالية الى ان وصل كمبوديا المدينية التي تساقطت عليها قنابل تساوي الكمية المذهلة لكل العمليات الجوية التي نفذتها القوات الحليفة في منطقة المحيط الهادئ خلال الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك قنبلتان ذريتان. تم ذلك تنفيذا لاوامر هنري كيسنجر التي قالت «[أقضوا على] اي شيء يطير او اي شيء يتحرّك»، وهي دعوة للابادة الجمعية نادرة في سجلات التاريخ. قليل من هذا باقٍ في الذاكرة، ومعظمه كان بالكاد معروفا في ما يتعدى حلقة ضيّقة من الناشطين.
عندما شُنّ الغزو لخمسين سنة خلت، اثار اهتماما ضعيفا الى درجة ان جهودا قليلة بذلت لتبريره، بالكاد تجاوزت خطاب الرئيس [كيندي] العاطفي أمام الجمعية العامة للامم المتحدة حيث حذّر قائلا: «اننا نواجه عبر العالم مؤامرة مرصوصة لا ترحم تعتمد بالدرجة الاولى على وسائل خفية لتوسيع دائرة نفوذها». واذا ما نجحتْ المؤامرة في تحقيق أهدافها في لاوس وفيتنام، «فإن البوابات سوف تفتح على مصراعيها». وفي مناسبة اخرى زاد في التحذير من «ان المتكاسلين، والانانيين، والمجتمعات الرخوة سوف يطاحون مع حطام التاريخ ووحدهم الاقوياء... سوف ينجحون في البقاء على قيد الحياة»، وكان في تلك المناسبة يتأمل في فشل العدوان والارهاب الاميركيين في سحق استقلال كوبا.
ما إن بدأ الاحتجاج يتصاعد بعد نصف دزّينة من السنوات، حتى تنبأ برنارد فول، رهو مؤرخ عسكري محترم واختصاصي في شؤون فيتنام، ولا ينتمي الى فريق «الحمائم»، قال: «فيتنام بما هي كيان ثقافي وتاريخي... مهدّدة بالفناء... الريف يموت بالمعني الحرفي للكلمة تحت ضربات أكبر آلة عسكرية أطلقت على مساحة من الارض بذلك الحجم في التاريخ». وكان يشير ايضا الى جنوب فيتنام. وعندما انتهت الحرب بعد ثماني سنوات مريعة، كان التيار الرسمي من الرأي العام منقسما بين الذين يصِفون الحربَ بأنها «قضية نبيلة»، كان بالامكان كسبها بالمزيد من الدأب، وفي الطرف المقابل النقاد الذين يرون اليها على انها «خطأ» اثبت انه باهظ الكلفة. بحلول العام ١٩٧٧ بالكاد اثار الرئيس كارتر اي انتباه عندما شرح اننا لسنا مديِنين لفيتنام «بأي دين» لأن «الدمار كان متبادلا».
دروس حرب العراق
هذه دروس ثمينة لايامنا هذه، عدا تذكيرنا بأن الضعفاء والمهزومين وحدهم مطالبون بتقديم الحسابات عن جرائمهم. درس اول: لكي نفهم مجريات الامور، علينا ان ننتبه ليس فقط الى الاحداث الحاسمة في العالم الحقيقي، التي غالبا ما يغفلها التاريخ، ولكن ايضا لما يعتقده الزعماء ونخبة اصحاب الرأي، مهما اختلط بالوهم. ودرس آخر: الي جانب شطحات الوهم التي يجري انتاجها لتخويف الجمهور وتعبئته (ربما كان يؤمن بها البعض من سجناء بلاغتهم) يوجد ايضا تخطيط جيوستراتيجي مرتكز على مبادئ عقلانية وهو تخطيط يظل مستقرا عبر فترات طويلة لأنه متجذر في مؤسسات راسخة وفي مشاغل تلك الفترات. يصح هذا على حالة فيتنام ايضا. سوف اعود الى هذا الموضوع، مكتفيا هنا بالتشديد على ان العوامل الدائمة في نشاطات الدول عادة ما تكون مخفية على نحو جيد.
حرب العراق حالة دالة. جرى تسويق الحرب لدى جمهور مرعوب على الاسس المألوفة من الدفاع عن النفس ضد خطر مرعب يهدد بقاء البشرية: «المسألة الوحيدة» أعلن بوش وبلير، هو أن صدام حسين سوف ينجز برامجه لتطوير اسلحة الدمار الشامل. عندما يلقى سؤالٌ وحيد الجوابَ الغلط، ينزاح خطاب السلطة بلا كبير جهد الى «حنينيا الى الديمقراطية» فيمتثل الجمهور المتعلم ويسير في الركب، وهذا كله من باب الروتين. لاحقا، عندما تعذّر التكتم على حجم الهزيمة الاميركية في العراق، اعترفت الحكومة بهدوء بما كان واضحا منذ البداية. خلال العامين ٢٠٠٧ و٢٠٠٨، اعلنت الادارة رسميا ان اتفاقا نهائيا يجب ان يوفر للولايات المتحدة قواعد عسكرية والحق في شنّ عمليات ميدانية وان يمنح المستثمرين الاميركيين موقع الامتياز في قطاع الطاقة الثري ــ وهي مطالب ما لبثت ان تخلت عنها في وجه مقاومة عراقية. وقد اخفي هذا كله بعناية عن الجمهور الواسع.
اذا اخذنا في الاعتبار هذه الدروس، يفيد القاء نظرة على ما يجري التشديد عليه في مجلات السياسة والرأي الرئيسية في هذه الايام. نكتفي بالمجلة الاوفر سمعة من مجلات المؤسسة الحاكمة، «فورين أفّيرز» التي يقول عنوان غلاف عددها في كانون الاول/ديسمبر ٢٠١١ بالخط العريض «هل قضي الامر بالنسبة لاميركا؟». يدعو المقال الى «الانسحاب» من «مهمات انسانية» في الخارج تستهلك ثروة البلد بقصد وقف الانحدار الاميركي الذي بات يشكل الموضوع الرئيسي في خطات العلاقات الدولية، يرافقه في العادة ملحق يقول إن القوة تنتقل الى الشرق، الى الصين وربما الى الهند ايضا.
المقالان الرئيسيان هما عن اسرائيل ــ فلسطين. الاول بتوقيع مسؤولَين اسرائيليين كبيريَن، معنون «المشكلة هي الرفض الفلسطيني»: لا يمكن حل النزاع لأن الفلسطينيين يرفضون الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، علما ان الفلسطينيين منسجمون في ذلك مع الممارسة الدبلوماسية المألوفة وهي ان يجري الاعتراف بالدول، وليس بأي قطاع مميز في داخلها. وما مطلب الاعتراف هذا الا وسيلة جديدة لردع خطر تسوية سياسية سوف تنسف اهداف اسرائيل التوسعية.
الموقف المقابل يدافع عنه بروفسور أميركي بعنوان «المشكلة هي الاحتلال» وعنوانه الفرعي «كيف ان الاحتلال آخذ في تدمير الأمة». اية امّة؟ اسرائيل طبعا. ويظهر المقالان التوأمان تحت عنوان «اسرائيل المحاصَرة».
اما عدد كانون الثاني/يناير ٢٠١٢ فينطوي على دعوة جديدة للحرب الجوية ضد ايران فورا، قبل ان يفوت الاوان. يحذّر المؤلف «من مخاطر الردع»، ويحذر في الوقت ذاته ان «المتشككين في العمل العسكري عاجزون عن تقدير مقدار الخطر الحقيقي الذي تمثله ايران النووية بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الاوسط وما يتعداه». تفترض توقعات هؤلاء المتشككين القاتمة ان العلاج اسوأ من المرض - اي ان نتائج هجوم اميركي على ايران سوف تكون بسوء النتائج المترتبة على تحقيق ايران مطامعها النووية، إن لم تكن اسوأ. لكن هذا افتراض خاطئ، على حد قول الكاتب. الحقيقة ان ضربة عسكرية ترمي الى تدمير برنامج ايران النووي، اذا ما أديرت بعناية، سوف توفر على المنطقة والعالم خطرا حقيقيا وتحسّن على نحو دراماتيكي وضع الامن الوطني للولايات المتحدة على المدى البعيد.
يحاجج آخرون ان الاكلاف سوف تكون باهظة، حتى ان البعض في القطب الآخر يشير الى ان الهجوم سوف يشكل انتهاكا للقانون الدولي ــ ومثله موقف «المعتدلين» الذين يلقون دوريا التهديدات باستخدام العنف منتهكين بذلك ميثاق الامم المتحدة.
هل من انقاذ للانحدار الاميركي؟
فلنراجع هذه المشاغل السائدة واحدة واحدة.
الانحدار الاميركي حقيقي، مع ان الرؤية الكارثية تعكس المنظور المألوف للطبقة الحاكمة الذي يقول ان اي شيء ما دون السيطرة التامة يعادل الكارثة الشاملة. فعلى الرغم من المراثي، لا تزال الولايات المتحدة القوة المسيطرة عالميا الى حد كبير، ولا منافس لها في الافق المرئي وليس فقط من المنظار العسكري حيث تتسلطن الولايات المتحدة وحيدة.
لقد سجّلت الصين والهند نموا سريعا (وإن يكن شديد التفاوت) الا ان هذه وتلك لا تزالان في عداد البلدان الفقيرة جدا، تعانيان من مشكلات داخلية ضخمة لا تعاني منها بلدان الغرب. والصين هي الآن المركز الرئيسي العالمي للانتاج الصناعي، ولكنها كذلك بصفتها الي حد كبير مصنعا تجميع يعمل الصلاح البلدان الصناعية المتقدمة الموجودة على اطرافها وللشركات العربية المتعددة الجنسيات. وهذا دور معرّض لأن يتغيّر مع الوقت. توفر الصناعة اساسا للتجديد، وللاختراقات احيانا، كما هي الان الحال في الصين. والمثال الذي اثار اعجاب الخبراء الغربيين هو استيلاء الصين على السوق العالمي النامي للوحات الشمسية، ليس بسبب رخص اليد العاملة ولكن بسبب التخطيط المتساوق والتجديد المتزايد ابتكارا.
الا ان الصين تواجه مشكلات جمة. بعضها ديموغرافي، كتبت عنه مجلة «ساينس» (العلم) كبريات الاسبوعيات الاميركية. تبّين الدراسة ان نسبة الوفيات تراجعت على نحو حاد في الصين خلال العهد الماوي «أساسا بسبب التنمية الاقتصادية والتحسينات على التعليم والخدمات الصحية، وخصوصا حركة الصحة العامة التي ادت الى انخفاض حاد في الوفيات جراء الاوبئة». توقف هذا التقدم مع افتتاح الاصلاحات الرأسمالية في السنوات الثلاثين الاخيرة، واذا نسبة الوفيات تتصاعد منذ ذلك الحين. ثم ان النمو الاقتصادي الاخير في الصين قد اعتمد اساسا على «الوفرة الديموغرافية»، اي على العدد الكبير جدا من نسبة السكان الذين في سنّ العمل. «على ان فرصة جني فوائد هذه الوفرة قد تنسدّ عما قريب» يصاحبه «تأثير عميق على التنمية»: «ان فائض امداد الايدي العاملة الرخيصة، الذي يشكل احد العوامل الرئيسية وراء المعجزة الاقتصادية الصينية، لن يعود متوفرا».
وما الديموغرافيا الا واحدة من المشكلات الجادة العديدة التي تنتظر الصين. اما بالنسبة للهند فالمشكلات أصعب بكثير.
لا تجمِع الاصوات الخبراء المرموقين على القول بالانحدار الاميركي. تنفرد «الفايننشال تايمز» دون سائر وسائل الاعلام الدولية بأنها الاكثر جدية ومسؤولية. وقد خصصت مؤخرا صفحة كاملة للتوقعات المتفائلة بأن التكنولوجيا الجديدة لاستخراج الطاقة الاحفورية في شمال أميركا قد تسمح للولايات المتحدة بأن تحقق الاكتفاء الذاتي في الطاقة، فتحافظ بالتالي على همينتها الكونية لقرن اضافي من الزمن. ولكن لا ذكر هنا لنوع العالم الذي سوف تحكمه الولايات المتحدة جراء الحدث السعيد، وليس بسبب نقص الادلة.
في الوقت ذاته، تفيد «وكالة الطاقة الدولية» بأنه مع التزايد المتسارع للاصدارات الكاربونية جراء استخدام المحروقات الاحفورية، سوف يبلغ العالم حدود السلامة بحلول العام ٢٠١٧ اذا استمر العالم في الاتجاه السائر فيه حاليا. «الباب ينغلق»، يقول كبير اقتصاديي «الوكالة»، و«سوف ينغلق الى الابد في القريب العاجل». قبل ذلك بقليل اصدرت «دائرة الطاقة» في الولايات المتحدة احدث الاحصائيات عن الاصدارات الكاربونية التي «قفزت الى رقم قياسي» هو اعلى من السيناريوات الاكثر تشاؤما التي توقعتها «الندوة الدولية عن التغيّر المناخي». لم يفاجأ العديد من الصحافيين بذلك، بمن فيهم برنامج التغيّر المناخي في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، الذي يحذر منذ سنوات من ان توقعات «الندوة الدولية عن التغيّر المناخي» محافظة جدا. ان مثل هذه الانتقادات لتوقعات «الندوة» نادرا ما تصل الى الرأي العام.
باختصار ان الانحدار الاميركي قابل للوقف اذا تخلينا عن الامل بعيش يليق بالبشر، وهذا التخلي هو التوقع الارجح نظرا لتوازن القوى في العالم.
«فصل ثرواتنا عن فقر الآخرين»
اذا وضعنا هذه الافكار المزعجة جانبا، ترينا نظرة مقرّبة الي الانحدار الاميركي ان الصين تلعب بالتأكيد دورا كبيرا فيه مثلما فعلت خلال ستين سنة. فالانحدار الذي يثير هذا القدْر من القلق ليس ظاهرة جديدة. انه يعود الى نهاية الحرب العالمية الثانية عندما كانت الولايات المتحدة تسيطر على نصف ثروة العالم وتتمتع بأمن لا يضاهى وبالتوسع على المدى الكوني. وكان المخططّون مدركين بالطبع للتفارق الكبير في نسبة القوة ومصممين على المحافظة عليه.
صيغت الفكرة الرئيسية بصراحة باعثة على الاعجاب في مذكرة حكومية رئيسية العام ١٩٤٨. المؤلف واحد من مهندسي «النظام العالمي الجديد» يومها، رئيس «موظفي التخطيط السياسي في وزارة الخارجية»، السياسي والاكاديمي المحترم جورج كينان، المصنّف في فئة «الحمائم» المعتدلين داخل بيئة المخططين. لاحظ كينان ان الهدف السياسي المركزي هو الحفاظ على «موقع التفارق» الذي يفصل ثروتنا الضخمة عن فقر الآخرين. لتحقيق ذلك، نصح بما يلي «يجب ان نكفّ عن الحديث عن أهداف غامضة وغير حقيقية مثل حقوق الانسان، وعن رفع مستويات المعيشة والتحويل الديمقراطي» ويجب ان «نتعاطى بواسطة مفاهيم القوة الصريحة» دون ان «تعوقنا الشعارات المثالية» عن «الغَيْرية ومنفعة العالم». ومع ان كينان كان يشير بنوع خاص الى آسيا الا ان ملاحظاته قابلة للتعميم، مع بعض الاستثناءات، على جميع المشاركين في المنظومة الكونية التي تديرها الولايات المتحدة. ومفهوم بوضوح ان «الشعارات المثالية» يجب استعراضها بشكل بارز عند توجيه الحديث الى الآخرين المفترض بهم الترويج لتلك الشعارات، بمن فيهم الطبقات المثقفة.
افترضت الخطط التي اسهم كينان في صياغتها وتطبيقها ان الولايات المتحدة سوف تسيطر، بداهة، على نصف الكرة الارضية الغربي، والشرق الاقصى والامبراطورية البريطانية السابقة (بما فيها موارد الطاقة التي لا تضاهى في الشرق الاوسط) وعلى ما يمكن السيطرة عليه من آسيا الاوروبية، وخصوصا مراكزها التجارية والصناعية. لم تكن تلك اهدافا غير واقعية نظرا لتوازن القوى السائد. لكن الانحدار وقع فجأة.
مطاردة «الفيروسات»
عام ١٩٤٩ اعلنت الصين استقلالها، وهو حدث معروف في الخطاب الغربي وفي اميركا بصفته «خسارة الصين»، رافقته الاتهامات والنزاعات المريرة حول تعيين المسؤول عن الخسارة. والاصطلاح ذو دلالة. فالمرء لا يخسر الا ما يملكه. والافتراض الضمني هنا ان الولايات المتحدة تملك الصين شرعا ومعها معظم الاجزاء الباقية من العالم، وهو ما إفترضه عمليا معظم راسمي السياسات بعيد الحرب العالمية الثانية.
شكلت «خسارة الصين» الخطوة الكبيرة الاولى في «انحدار اميركا» ترتبت عليه نتائج سياسية كبيرة، احداها القرار الفوري بدعم جهود فرنسا لاستعادة مستعمراتها السابقة في الهند الصينية، بحيث تقي تلك المستعمرات من «الخسران» هي ايضا. غير ان الهند الصينية لم تكن شاغلا رئيسيا على الرغم من مزاعم الرئيس آيزنهاور وامثاله عن مواردها الغنية. كان الشاغل هو «نظرية الداما» التي يجري الاستهزاء بها عندما لا تسقُط أحجار الداما، ولكنها تبقى مبدأ موجها للسياسة لأنه مبدأ عقلاني الى حد بعيد. وإن كان لنا ان نتبنى صيغة هنري كيسنجر، لقلنا ان منطقة تعصى على السيطرة قابلة لأن تتحول الى «فيروس» سوف «ينشر العدوى» مشجعا الآخرين على الاقتداء بتلك المنطقة. في حالة فيتنام، كان الخوف هو ان يُعدي «فيروسُ» التنمية المستقلة اندونيسيا، التي تملك موارد غنية حقا. والخوف ان يؤدي ذلك باليابان ــ وهي «حجر الداما الاكبر»، حسب تسمية مؤرخ آسيا المرموق جون دوور ــ الى «التكيّف» مع آسيا مستقلة بما هي مركزها التكنولوجي والصناعي في منظومة قد تتفلّت من قبضة القوة الاميركية. وسوف يعني ذلك فعلا ان الولايات المتحدة قد خسرت حقبة المحيط الهادئ من الحرب العالمية الثانية، وهي الحرب التي خاضتها لصد محاولة اليابان تأسيس مثل هذا «النظام الجديد» في آسيا.
اما طريقة معالجة هذه المشكلة فكانت واضحة: تدمير «الفيروس» و«تلقيح» المعرّضين لأن يصابوا به. في حالة فيتنام، كان الخيار العقلاني هو تدمير اي امل في تنمية مستقلة ناجحة وفرض الدكتاتوريات القاسية في الجوار. نفّذت تلك المهمات بنجاح ــ مع ان للتاريخ حيله هو ايضا. فها ان شرقي آسيا تشهد الآن وضعا مشابها للذي كان يُخشى منه سابقا، لخيبة واشنطن.
تحققَ اهمُّ انتصار في الهند الصينية العام ١٩٦٥ عندما نجح انقلاب عسكري مدعوم اميركيا بقيادة الجنرال سوهارتو، في تنفيذ مذابح واسعة النطاق شبّهتها «السي. آي. إي» ذاتها بجرائم هتلر وستالين وماو. «المجزرة البشرية المروّعة»، كما وصفتها «نيو يورك تايمز»، تناقلتْ صحافة التيار السائد في أميركا اخبارها بدقة وبحبور غير ملجوم. كانت «شعاع نور في آسيا» حسب ما كتب المعلّق الليبرالي جايمس رستون في «نيو يورك تايمز». قضى الانقلاب على خطر الديمقراطية إذ دمّر الحزب السياسي الجماهيري العريض الذي يمثل الفقراء [الحزب الشيوعي الاندونيسي ] واقام دكتاتورية سوف تراكم واحدا من ابشع سجلات الانتهاك لحقوق الانسان في العالم، وفتحت ثروات البلاد واسعة امام المستثمرين الاجانب. فلا عجب بعد كل تلك الارتكابات الرهيبة، وضمنها اجتياح تيمور الشرقية الاقرب الى الجريمة بحق الانسانية، ان ترحّب إدارة كلنتون بسوهارتو العام ١٩٩٥ بما هو «رجل يروق لنا».
وبعد سنوات من احداث ١٩٦٥ المروعة، فكّر ماك جورح باندي، مستشار ادارتي كينيدي وجونسون للامن الوطني، أنه من الحكمة انهاء حرب فيتنام في ذلك الوقت، وقد قضي علي «الفيروس» تقريبا وامكن اعادة «حجر الداما» الرئيسي الى مكانه، معززا بدكتاتوريات مدعومة من الولايات المتحدة على امتداد المنطقة.
وقد اتخذت اجراءات مشابهة بانتظام في أمكنة اخرى من العالم. كان كيسنجر يشير الى خطر الديمقراطية الاشتراكية في تشيلي. ذلك الخطر الذي قضي عليه في تاريخ آخر منسي، ما يسمّيه الناس في اميركا اللاتينية «١١نوفمبر الآخر [تشيلي ١٩٧٣]» الذي فاق الـ«١١ نوفمبر [نيويورك ٢٠٠١]» الذي يُحتَفل به في الغرب عنفا ومرارة. فُرِضت على تشيلي دكتاتورية وحشية هي جزء من وباء القمع القاسي الذي انتشر في كل ارجاء اميركا اللاتينية وصولا الى جنوبيها في ظل حكم دونالد ريغان. كذلك أثارت «فيروسات» مماثلة قلقا كبيرا في امكنة اخرى من العالم، بما فيها الشرق الاوسط، حيث خطرُ القومية العلمانية غالبا ما قضّ مضاجعَ المخططين البريطانيين والاميركيين ودفعهم الى دعم الاصولية الاسلامية لمجابهته.
استمر الانحدار الاميركي على الرغم من تلك الانتصارات. بحلول العام ١٩٧٠، كانت حصة الولايات المتحدة من الثروة العالمية قد انخفضت الى ٢٥٪ واستقرّت عندها تقريبا، وهي حصة جبارة ولكنها أدنى بكثير مما كانت عليه في نهاية الحرب العالمية الثانية. حينها كانت العالم الصناعي «ثلاثي القطب»: أميركا الشمالية المتمحورة حول الولايات المتحدة؛ واوروبا المتمحورة حول المانيا، وشرق آسيا، المنطقة الصناعية الاكثر دينامية، المتمحورة حينها حول اليابان وقد باتت تضم الآن المستعمرات اليابانية السابقة: تايوان وكوريا الجنوبية والصين مؤخرا.
خطر الديمقراطية الحقيقية
في الوقت ذاته تقريبا دخل الانحدار الاميركي مرحلة جديدة هي مرحلة الانحدار المسبَّب ذاتيا. افتتحت السبعينات تغيرا ملحوظا في الاقتصاد الاميركي إذ نقل المخططون، في الدولة كما في القطاع الخاص، الاقتصاد الى القطاع المالي والى تصدير الصناعات الى ما وراء البحار، مدفوعين جزئيا بانخفاض معدلات الربح في الصناعة المحلية. خلقت هذه القرارات دورة مقفلة صارت فيها الثروة شديدة التمركز (على نحو دراماتيكي في الـ.،١ ٪ من السكان) وانتجت تمركزا عاليا في السلطة السياسية، وبالتالي في التشريع، ما ادى الى دفع الدورة الى الامام بواسطة السياسات الضريبية والمالية، تحرير الاسواق والتعديلات الهيكلية، والتغيرات في قواعد حاكمية مجمعات الشركات الكبرى سمح بتراجم ارباح ضخمة في جيوب المديرين التنفيذيين، وما شابه. في تلك الاثناء، استنقعت غالبية الاجور الحقيقية، ولم يستطع الناس تدبّر امورهم الا بزيادة اعباء العمل على نحو حاد (فيما يتعدى اوروبا) وبالديون غير المغطاة وبانفجار الفقاعات المالية منذ ايام ريغان، ما أنتج ثروات دفترية لا تلبث ان تتبخر حين تنفجر الفقاعات (فجري تعويم المرتكبين بأموال دافعي الضرائب). في موازاة ذلك، ازداد النظام السياسي تمزقا فيما اندفع الحزبان الى البحث عن تمويلهما في جيوب كبريات الشركات المجمّعة مع ارتفاع أكلاف الانتخابات، وارتقى الجمهوريون الى مستوى المهزلة والديمقراطيون (وقد باتوا في معظمهم من صنف «الجمهوريين المعتدلين» السابقينن) لاحقون في ركابهم.
«الفشل عن سابق تصور وتصميم» هو عنوان دراسة أخيرة لـ«مؤسسة السياسة الاقتصادية»، التي كانت المصدر الرئيسي للاحصائيات الموثوقة عن تلك التطورات خلال سنوات. وعبارة «عن سابق تصوّر وتصميم» دقيقة لأن ثمة خيارات اخرى كانت متاحة. و«الفشل» ذو اساس طبقي كما تشير الدراسة ذاتها. إذ لا يوجد فشل عند اصحاب القرار. بل ان السياسات فشلت بالنسبة للاكثرية العريضة ــ الـ٩٩٪ كما يظهرون في مخيلّة حركة «احتلال وال ستريت» ــ وللبلد، وقد إنحدر البلد، وسوف يستمر في الانحدار في ظل تلك السياسات. احد عوامل الانحدار هو نقل تصدير الصناعات الى ما وراء البحار. فكما تبيّن الأمثولة السالفة الذكر، توفر الطاقة الصناعية الاساس والحافز للتجديد وللارتقاء الى مراتب أرقى من حيث الحذاقة في الانتاج والتصميم والابتكار. وهذه ايضا يجري تلزيمها لما وراء البحار هي ايضا، فهذا ليس إشكالا بالنسبة لـ«رؤساء دواوين المال» الذين يتصاعد دورهم في رسم السياسات، ولكنه يشكل مشكلة للشعب العامل وللطبقات الوسطى، وكارثة محققة للاكثر اضطهادا، الافارقة الاميركيين، الذين لم يتخلصوا ابدا من تراث العبودية وآثاره البشعة والذين تبخرّت ثرواتهم الضئيلة اصلا بعد انفجار فقاعة الإسكان في العام ٢٠٠٨ التي اطلقت الازمة المالية الاخيرة والاسوأ الى الآن.
في تلك الاثناء، تستمر «الخسائر» في التصاعد في غير مكان. في العقد الاخير، اتخذت اميركا الجنوبية خطوات ناجحة للتحرر من السيطرة الغربية، لاول مرة منذ ٥٠٠ سنة، وهنا وقعت خسارة جسيمة. فاتجهت المنطقة نحو الاندماج، وبدأت في مواجهة البعض من المشكلات الداخلية الرهيبة التي تعاني منها مجتمعات تحكمها نخبٌ أوروبية، في معظمها، تشكل جزرا صغيرة من الثروات الكبيرة وسط بحر من البؤس. وقد تحررت تلك البلدان ايضا من كل القواعد العسكرية الاميركية ومن املاءات «صندوق النقد الدولي». وظهرت منظمة جديدة، CELAC (مجموعة دول اميركا اللاتينية والبحر الكاريبي) تضم جميع بلدان نصف الكرة الارضية عدا الولايات المتحدة وكندا. اذا ما تسنى لهذه المنظمة ان تعمل، سوف تشكل خطوة اضافية في مسار الانحدار الاميركي، فيما كان يعتبر على الدوام «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة.
والاخطر من ذلك هو خسارة بلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا التي نظر اليها المخططون منذ الاربعينات بما هي «مصدر مذهل للقوة الستراتيجية، وواحد من اعظم الجوائز المادية في تاريخ العالم». ان السيطرة على احتياطي الطاقة في تلك البلدان سوف يسمح بـ«سيطرة مكينة على العالم»، حسب تعبير ا.ا. بيرل، مستشار روزفلت النافذ. اذا تبيّن ان توقعات قرن من الاكتفاء الذاتي الاميركي في الطاقة قائم على الموارد الشمال اميركية كانت واقعية، فسوف يتراجع مغزى السيطرة على الشرق الاوسط وشمال افريقيا، الى حد ما ولكن ليس بمقدار كبير. ذلك ان الشاغل الرئيسي كان على الدوام هو السيطرة اكثر منه الوصول الى الموارد. مهما يكن، ان النتائج المتوقعة، المذكورة اعلاه، تنذر بالسوء الى درجة تجعل من النقاش مجرد تمرين أكاديمي.
«الربيع العربي» وهو تطور آخر ذو اهمية تاريخية، قد يحمل على الاقل «خسارة» اميركية جزئية في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا. سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها جاهدين لمنع هذه النتيحة، بمقدار من النجاح الى الآن. والتزمت سياساتها تجاه الانتفاضات الشعبية التزاما دقيقا بالتعليمات المعهودة: تأييد القوى الاكثر استعدادا لتقبل النفوذ والسيطرة الاميركيين. الدكتاتوريون الاثيرون يحظون بالتأييد ما داموا ممسكين بالسلطة (كما في الدول النفطية الرئيسية). وعندما لم يعد هذا ممكنا، يتخلون عنهم ويحاولون ترميم الانظمة القديمة قدر المستطاع (كما في حال تونس ومصر). اما السياق العام فمألوف: سوموزا، ودوڤالييه، ماركوس، موبوتو، سوهارتو والعديدون غيرهم. في حالة واحدة، ليبيا، تدخلت القوى الامبريالية الثلاث بقوة للمشاركة في انتفاضة للاطاحة بدكتاتور زئبقي لا يوحي بالثقة، فاتحة المجال امام ما هو متوقع من تمكين السيطرة على موارد ليبيا الغنية (النفط اساسا، ولكن الماء ايضا وهو ذو اهمية خاصة بالنسبة للشركات الفرنسية المجمّعة) وصولا الى امكان انشاء قاعدة لـ«القيادة الاميركية لافريقيا» (وهي محصورة الآن في المانيا) والى صدّ الاختراقات الصينية. لم تكثر المفاجآت من حيث السياسات.
الاهمية الحاسمة هنا هي خفض خطر الديمقراطية الفعالة يمارس فيها الرأي العام نفوذا بارزا على السياسات. وهناايضا لم يتعدّ الامر الروتين، كما هو متوقع. ان نظرة الى استطلاعات الرأي العام التي نظمتها الشركات الاميركية في بلدان الشرق الاوسط وافريقيا الشمالية تفسّر بسهولة الخوف الغربي من الديمقراطية الحقيقية حيث يمارس الرأي العام نفوذا وازنا على السياسات.
اميركا واسرائيل في مواجهة سائر العالم
ان اعتبارات مشابهة تقود مباشرة الى الشاغل الرئيسي الثاني الذي يعالجه عدد «فورين أفّيرز» المذكور اعلاه: النزاع العربي ــ الاسرائيلي حيث يتجلّى الخوف من الديمقراطية على اوضح وجه. في يناير ٢٠٠٦ جرت في فلسطين انتخابات شهد المراقبون الدوليون انها كانت حرة وعادلة. كانت ردة الفعل الفورية للولايات المتحدة (ولاسرائيل بالطبع)، وقد لحقت اوروبا بما بتهذيب، هي فرض عقوبات قاسية علي الفلسطينيين لانهم صوّتوا في الاتجاه الغلط. ليس في ذلك اي تجديد. انه منسجم مع المبدأ العام ــ اللامبدئي ــ الذي تعترف به الاكاديميا الرسمية: الولايات المتحدة تؤيد الدميقراطية اذا، وفقط اذا، كانت نتائجها متوافقة مع اهدافها الستراتيجية والاقتصادية، تلك هي الخلاصة الكئيبة التي يخلص اليها طوماس كاروثرز، عضو المدرسة النيو ريغانية، والباحث الاكثر حذرا وتبجيلا بين محللي مبادرات «الترويج للديمقراطية».
على نطاق اوسع يمكن القول ان الولايات المتحدة قد قادت جبهة الرفض في اسرائيل-فلسطين لخمس وثلاثين سنة حاجزة التوافق الدولي الذي ينادي بتسوية سياسية وفق شروط معروفة الى درجة لا تستدعي تكرارها. واللازمة الغربية المقدسة هي ان اسرائيل تسعى الى مفاوضات دون شروط مسبقة وهو ما يرفضه الفلسطينيون. العكس هو الادق. إن الولايات المتحدة واسرائيل تضعان شروطا مسبقة والادهى انها مصوغة بحيث تضمن ان تؤدي المفاوضات إما الى الاستسلام الفلسطيني وإما الى لا نتيجة.
اول هذه الشروط المسبقة هو ان تكون المفاوضات تحت رعاية اميركية، اي بما يشبه المطالبة بأن تشرف ايران على المفاوضات في النزاع السني-الشيعي في العراق. ان مفاوضات جادة هي مفاوضات تجري في رعاية طرف حيادي، يفضّل ان يحظى باحترام دولي، كالبرازيل مثلا. وسوف يكون غرض المفاوضات حل النزاعات بين متخاصمين: اميركا واسرائيل من جهة ومعظم العالم من جهة ثانية.
الشرط المسبق الثاني هو ان تكون اسرائيل حرة في توسيع مستوطناتها غير الشرعية في الضفة الغربية. نظريا، تُعارِض الولايات المتحدة هذه الافعال، ولكنها تعارضها بأن تربّت برفق على معصم اسرائيل فيما تستمر في تزويدها بالدعم الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري. عندما تقدِّم الولايات المتحدة اعتراضات محدودة، تستطيع وقف اعمال البناء بسهولة كما كانت الحال في مشروع E 1 الذي يلي «القدس الكبرى» بمعاليه أدوميم، ويقطع الضفة الغربية عمليا بالنصف، وهو ذو اولوية عالية جدا بالنسبة للمخططين الاسرائيليين (على اختلاف اطيافهم) لكنه أثار بعض الاعتراضات في واشنطن، بحيث اضطرت اسرائيل الى اللجوء لاجراءات مراوغة لتنفيذ المشروع بالتقسيط.
بلغ ادعاء المعارضة مستوى المهزلة في شباط/فبراير الماضي عندما صوّتت ادارة اوباما على قرار لمجلس الامن يدعو الى تنفيذ السياسة الاميركية الرسمية (مع اضافة ملاحظة غير مثيرة للجدال تقول ان المستوطنات ذاتها غير شرعية، مع فصل ذلك عن موضوع التوسع). منذ ذلك الحين قلّ الكلام عن وقف توسيع المستوطنات، المستمر باستفزاز مقصود. وهكذا فيما استعد ممثلون اسرائيليون وفلسطينيون للاجتماع في الاردن في كانون الثاني/يناير ٢٠١١، أعلنت اسرائيل عن اعمال بناء جديدة في بسغات زيئيف وهار هوما، وهي مناطق من الضفة الغربية اعلنت اسرائيل انها ضمن منطقة القدس التي جرى توسيعها الى ابعد حد، وضمها وبناء المستوطنات فيها وإنشاؤها بما هي عاصمة اسرائيل، وكل هذا في انتهاك صريح لاوامر مجلس الامن. اما الاجراءات الاخرى فتواصل تنفيذ المشروع الاكبر وهو مشروع فصل ما سوف يتبقى من بؤر للادارة الفلسطينية في الضفة الغربية عن المركز الثقافي والتجاري والسياسي للحياة الفلسطينية في القدس السابقة.
ان تهميش الحقوق الفلسطينية في السياسة والخطاب الاميركيَين ليس عصيا على الفهم. فالفلسطينيون لا يملكون الثروة ولا القوة. وهم لا يقدمون شيئا تقريبا لما يشغل السياسات الاميركية، والحقيقة انهم قيمة سلبية فيها، لانهم عنصر ازعاج يحرّك «الشارع العربي». اما اسرائيل في المقابل فحليف يُتكل عليه. انها مجتمع غني يملك صناعة تكنولوجية متقدمة معظمها مخصص للاغراض العسكرية. ولعقود من الزمن، شكلت اسرائيل حليفا عسكريا واستراتيجيا قيّما جدا، خصوصا منذ العام ١٩٦٧، عندما قدّمت خدمة جلّى للولايات المتحدة والعربية السعودية بتدميرها «الفيروس» الناصري فتأسست «العلاقة المميزة» مع الولايات المتحدة على الشكل المستمر منذ ذلك الحين. واسرائيل ايضا مركز نامٍ للاستثمارات الاميركية في التكنولوجيا المتقدمة. فهذه والصناعات الحربية وثيقتا الارتباط في البلدين.
كي لا ننسى العوامل الثقافية
عدا هذه الاعتبارات الاولية المتعلقة بسياسات الدول العظمى، ثمة عوامل ثقافية لا يجوز اغفالها. ان «الصهيونية المسيحية» وجدت في بريطانيا والولايات المتحدة قبل ولادة الصهيونية اليهودية بزمن طويل وشكلت ظاهرة بارزة في اوساط النخبة مع ما يترتب على ذلك من مترتبات سياسية (بما فيها وعد بلفور الذي تغذى منها). عندما احتل الجنرال أللنبي القدس، خلال الحرب العالمية الاولى، لقي التحيات في الصحافة الوطنية الاميركية بما هو ريشار قلب الاسد وقد انتصر في الحروب الصليبية اخيرا وطرد الوثنيين من الارض المقدسة. فكانت الخطوة التالية هي عودة «شعب الله المختار» الى «ارض الميعاد». عندما وصف هارولد ايكس، وزير داخلية روزفلت، الاستعمار اليهودي لفلسطين على انه انجاز «لا قرين له في تاريخ الجنس البشري» كان يعبّر عن رأي مشترك لدى تلك النخبة الاميركية. وتلقى مثل هذه المواقف مكانا لها بسهولة في العقائد «القَدَرية» التي شكلت عنصرا قويا في الثقافة الشعبية والنخبوية منذ تأسيس الولايات المتحدة: الايمان بأن لله مخططا مرسوما سلفا للعالم وبأن الولايات المتحدة تنفّذه بقيادة ربانية، كما عبّرت عن ذلك لائحة طويلة من الشخصيات القائدة.
الى ذلك فإن المسيحية الإنجيلية قوة شعبية رئيسية في الولايات المتحدة. اما في الاطراف، فتتمتع المسيحية الانجيلية «الخلاصية» بانتشار شعبي واسع، تعزّزَ مع قيام دولة اسرائيل العام ١٩٤٨، على اعتبار ان كل الدلائل تشير الى ان «نهاية الزمان» و«العودة الثانية» [للسيد المسيح] باتا وشيكين. ولقد تعاظمت اهمية تلك القوى في عهد رونالد ريغان، حين تخلى الجمهوريون عن الادعاء بأنهم حزب سياسي بالمعنى التقليدي للكلمة لتكريس أنفسهم في وحدانية مغلقة موظفة في خدمة نسبة مئوية ضئيلة من كبار الاغنياء وقطاع كبريات الشركات المجمعة. غير ان هذا الجمهور الصغير الذي يخدمه الحزب المُعاد تأسيسه لا يمكنه توفير الاصوات في الانتخابات، فكان على الجمهوريين الالتفات الى مكان آخر. فكان الخيار الوحيد هو تعبئة التيارات الموجودة اصلا، ولكنها نادرا ما عملت بصفتها قوة سياسية منظمة. التفتوا في المقام الاول الى «الاصلانيين» [المدافعين عن اميركا البيضاء البروتسطانتية الاصلية] الذين يرتعدون خوفا وحقدا، والى العناصر الدينية التي تعتبر متطرفة بالمقاييس الدولية ولكن ليس بالمقاييس الاميركية. ومن نتائج ذلك تبجيل نبوءات توراتية مزعومة، لا تؤدي دعم اسرائيل وغزواتها وتوسعها وحسب، وانما تؤدي الى الحب الشغوف بإسرائيل، بما هي اللبّ الآخر للتعاليم الدينية التي يتعيّن على مرشحي الحزب الجمهوري ان يتعلموها. علما ان الديمقراطيين لاحقون بهم هنا ايضا.
اذا وضعنا هذه العوامل جانبا، لا يجوز ان ننسى ان «المدى الانغلوسكسوني» ــ بريطانيا ومتفرعاتها ــ تكوّن من مجتمعات استعمارية استيطانية نهضت على رماد السكان الاصليين الذين تعرضوا للقمع او للابادة. ولا بد ان هذه الممارسات السالفة كانت صحيحة اساسا او حتى ملبّية «للمشيئة الالهية» في الحالة الاميركية. بناء عليه يحظى «ابناء اسرائيل» بالتعاطف الغريزي ذاته عندما ينتهجون هذا النهج الاستعماري الاستيطاني اياه. ولكن المصالح الجيوستراتيجية والاقتصادية هي الغالبة في المقام الاول والسياسات ليست محفورة في حجر.
«الخطر الايراني»
لنلتفت اخيرا الى القضية الثالثة من القضايا الرئيسية التي عالجتها مجلة المؤسسة الحاكمة المذكورة اعلاه: «خطر ايران». ترى النخبة والطبقة السياسية اليه على انه الخطر الرئيسي الذي يتهدد النظام العالمي عموما، وإن يكن ليس هذا ما تراه الاوساط الشعبية. تُبيّن استطلاعات الرأي في اوروبا ان اسرائيل هي الخطر الاول على السلام العالمي. وفي بلدان الشرق الاوسط وافريقيا الشمالية، تتشارك اسرائيل في تلك المرتبة مع الولايات المتحدة الى درجة أن ٨٠٪ من سكان مصر، عشية انتفاضة ميدان التحرير، كانوا يشعرون بأن المنطقة سوف تكون اوفر امنا فيما لو امتلكت ايران الاسلحة النووية، علما ان هؤلاء السكان كانوا يعلنون معارضتهم للنظام الايراني مع ذلك. وبناء على الاستطلاعات ذاتها، تبيّن ان ١٠٪ فقط يعتبرون ايران خطرا عليهم، وذلك خلافا للدكتاتوريين ولكن لهؤلاء حساباتهم الخاصة. في الولايات المتحدة، قبل الحملات الدعاوية المكثفة على امتداد السنوات القليلة الماضية، كانت اكثرية السكان تلتقي مع معظم سكان العالم في تأييد حق ايران في تخصيب اليورانيوم بما هي دولة موقّعة على «اتفاقية منع انتشار الاسلحة النووية». حتى في يومنا هذا، لا تزال اكثرية عريضة من الناس تؤثر استخدام الوسائل السلمية مع ايران. بل ان ثمة معارضة شديدة للاشتباكات المسلحة فيما لو نشبت حرب بين ايران واسرائيل. ان رُبع الاميركيين فقط يعتبرون ايران شاغلا اميركيا اصلا. ولكن ليس بالامر الجديد ان تلقى مثل هذا الفجوة، بل الهوة، بين الرأي العام والسياسات المعتمدة.
لماذ ينظَر الى ايران على انها ذلك الخطر الجسيم؟ نادرا ما يناقش هذا السؤال، مع انه لا يصعب العثور على جواب عنه، علما بأننا لن نعثر عليه، كما العادة، في التصريحات المحمومة. الجواب الاوفر امتلاكا استنادا الى المرجعية هو الجواب الذي يقدمه البنتاغون وأجهزة الاستخبارات في تقاريرهما الى الكونغرس عن حالة الامن الكوني. وهي تقارير تقول ان ايران لا تشكل خطرا عسكريا. ذلك ان انفاقها العسكري قليل جدا حتى بمقاييس المنطقة، وهو ضئيل جدا بالقياس الى الولايات المتحدة. ثم ان لإيران قدرة متواضعة على نشر قواتها. وعقائدها الستراتيجية دفاعية مصممة بحيث تردع اجتياحا ما خلال مهلة تسمح للدبلوماسية بالتدخل. وتقول التقارير ايضا ان تطوير ايران للاسلحة النووية جزء من استراتيجيتها الدفاعية. وما من محلل جاد يصدق ان الملالي الحاكمين تواقون الى ان يروا بلدهم وممتلكاتهم تتبخر امام أعينهم، وهي النتيجة الفورية لمجرد اقترابهم من اعلان حرب نووية. وبالكاد ثمة حاجة لذكر اسباب اهتمام القيادة الايرانية بالردع في ظروف كهذه.
ما من شك في ان النظام الايراني يشكل خطرا جادا على شعبه، وللاسف انه ليس النظام الوحيد في هذا المجال. على ان الخطر الرئيسي على اميركا واسرائيل هو ان ايران قد تشكل رادعا لممارستهما العنف بحرية. والخطر الآخر هو ان الايرانيين يسعون بوضوح الى نشر نفوذه الى العراق وافغانستان وما يتعداهما. ان هذه الافعال «غير الشرعية» تسمّى أفعالا «مخلّة بالتوازن» (بل ما هو اسوأ من ذلك). في المقابل فإن فرض النفوذ الاميركي بواسطة القوة على نصف الكرة الارضية يساهم في «استقرار» والامن، وفق عقيدة تقليدية عمن يمتلك العالم.
منطقي جدا ان تجري محاولة منع ايران من الانضمام الى الدول المنتجة للاسلحة النووية، بما فيها البلدان الثلاثة التي ترفض توقيع «معاهدة منع انتشار الاسلحة النووية» وهي اسرائيل والهند وباكستان، اي البلدان الثلاثة التي ساعدتها الولايات المتحدة على تطوير أسلحتها النووية ولا تزال تساعدها. ليس من المستحيل مقاربة هذا الهدف ــ منع ايران من حيازة السلاح النووي ــ بالوسائل السلمية. احدى المقاربات التي تحظى بتأييد دولي كاسح، هي اتخاذ خطوات جادة نحو انشاء منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الاوسط تشمل ايران واسرائيل (وتنطبق ايضا على القوات الاميركية المعسكرة هناك) والافضل ان تمتد تلك المنطقة لتشمل جنوب آسيا ايضا. ان تأييد مثل هذه الجهود من القوة بحيث اجبر ادارة اوباما على الموافقة الرسمية عليها، ولكن مع تحفظ يقول بعدم وضع برنامج اسرائيل النووي تحت رقابة «الوكالة الدولية للطاقة النووية» وان لا يطلَب من اية دولة (والمقصود الولايات المتحدة) الاعلان عما تملكه من معلومات عن «التسهيلات والنشاطات النووية الاسرائيلية، بما فيها المعلومات المتعلقة بنقل المواد النووية الى اسرائيل في الماضي». الى هذا، يوافق أوباما على موقف اسرائيل القائل ان اي مقترح من هذا النوع يجب ان يكون مشروطا بتحقيق السلام الشامل اولا، وهو السلام الذي تستطيع الولايات المتحدة واسرائيل تأجيله الى ما لا نهاية.
الخطران الاكبران
لا حاجة إلى القول ان هذا المسح لا يصل الى مستوى استنفاد الموضوع. من بين العناوين الرئيسية غير المطروقة هو انزياح السياسات الاميركية نحو محور آسيا ــ المحيط الهادئ مع اضافات جديدة الى منظومة القواعد العسكرية الضخمة قيد التأسيس في جزيرة جيجو قبالة الشواطيء الكورية وفي شمال غرب اوستراليا وهي جميعا عناصر في سياسة «احتواء الصين». وعلى صلة وثيقة بكل هذا موضوع القواعد الاميركية في اوكيناوا، التي تلقى معارضة قوية من السكان منذ سنوات عدة، وتشكل مصدر أزمة دائمة في العلاقات بين الولايات المتحدة واليابان. لقد كشف المحللون الستراتيجيون الاميركيون ان افتراضاتهم الاساسية بالكاد طرأ عليها اي تغيّر، إذ يصفون نتيجة البرامج العسكرية الصينية على انها «معضلة أمنية» كلاسيكية حيث البرامج العسكرية والستراتيجيات الوطنية التي يراها مخططوها على انها دفاعية ينظَر اليها الطرف الآخر على انها «هجومية». (پول غودوين، معهد السياسات الخارجية). نشأتْ المعضلة الامنية هذه حول السيطرة على البحار المقابلة للسواحل الصينية. تنظر الولايات المتحدة الى سياساتها الرامية للسيطرة على تلك المياه على انها «دفاعية» فيما تراها الصين على انها تهديدية؛ وفي المقابل، ترى الصين نشاطاتها في المناطق المجاورة على انها «دفاعية» فيما تنظر اليها الولايات المتحدة على انها تهديدية. لا يمكن تصوّر ان مثل هذا النقاش يمكن ان يدور حول المياه الاقليمية الاميركية ولو بالخيال. وهذه «المعضلة الامنية الكلاسيكية» تكتسب معناها مجددا على افتراض ان للولايات المتحدة الحق في السيطرة على معظم اجزاء العالم، وان الامن الاميركي يتطلب ما يقارب تحقيق السيطرة الكونية المطلقة.
لم يطرأ تحوّل كبير على مبادئ السيطرة الامبريالية، لكن القدرة على تنفيذها قد انحدرت على نحو ملحوظ مع توزع مصادر القوة في عالم يزداد تنوعا. النتائج كثيرة. على انه من قبيل الاهمية القصوى ان نأخذ في الاعتبار ــ مع الاسف ــ ان ما من هذه النتائج يرفع الغيمتين الداكنتين اللتين تخيمان على كل ما يتعلق بالنظام الكوني: الحرب النووية والكارثة البيئوية، وكلاهما يهدد العيش اللائق للجنس البشري بالزوال بالمعنى الحرفي للكلمة. بل العكس صحيح. الخطران داهمان ويزدادان خطورة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.