العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

التأريخ لـتغيير العالم

النسخة الورقية

تمهيد

«... بعد خمس وسبعين سنة من وفاة ماركس، كان ثلث الجنس البشري يعيش في ظل أنظمة تحكمها أحزاب شيوعية تدّعي أنها تمثل أفكاره وتحقق تطلعاته. وما يزال أكثر من عشرين بالمائة منها قائما حتى الآن، مع أن أحزابها الحاكمة ــ مع استثناءات طفيفة ــ أحدثت تغيراتٍ مثيرةً في سياساتها. ومجمل القول إنه لو كان ثمة مفكر ترك بصمة عظمى لا تمّحي على القرن العشرين، فإنه كارل ماركس. وما عليك إلا ان تعبر إلى مقبرة «هايغيت» التي تضم رفات كارل ماركس وهربرت سبنسر في ضريحين متقاربين على نحو يثير الاستغراب. وعندما كان كلاهما على قيد الحياة، كان هربرت يُعد أرسطو عصره، بينما كان كارل مجرد شخص يعيش على السفح الأسفل من تلّة هامبْستِد ويقيم أَوَدَهُ بفضل معونة مالية من صديق. أما اليوم، فلا أحد يعرف أن سبنسر يرقد في تلك البقعة، بينما يتوافد الحجاج المُسِنّون من اليابان والهند لزيارة ضريح كارل ماركس، ويصر الشيوعيون الإيرانيون والعراقيون المنفيون على أن يُدفنوا تحت ظلاله».

بهذه العبارات المشوبة ببعض الغلو، يستهل المؤرخ البريطاني العالمي إريكْ هوبْزباومْ كتابه الأخير. وقد استمد المؤرخ الماركسي العالمي هوبْزْباوْم عنوانه من إحدى مقولات كارل ماركس المأثورة في رده على معاصره الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ الذي درس على هيغل ثم تَحَوَّل في ما بعد عن المثالية الفلسفية، وركز على أهمية الدراسة العلمية للصفات الإنسانية . انتقد فيورباخ اللاهوت المسيحي في كتابه «أفكار حول الموت والحياة» (١٨٣٠)، إلا أنه مع ذلك وضع قيمة عالية للدين؛ لأنه رأى أن الدين قد عبر عن تصور الإنسانية لجوهرها الحقيقي. وعرض فيورباخ هذا الرأي في كتابه الضخم «جوهر المسيحية» (١٨٤١). ورأى أن الفلاسفة، أمثال هيغل، لهم نظرة تجريدية مبالغ فيها عن الطبيعة الإنسانية، وقد فاتهم أن يُدركوا مغزى المعاناة المادية الصلبة. ومع أن هذه الآراء أثرت على ماركس، إلا أن الأخير ومفكرين آخرين هاجموا فيورباخ ، لأنه اكتفى بالآراء النقدية لحالة البشر، ولم يتصرف بشكل مباشر لتعديلها. وقد أوجز ماركس انتقاداته في إحدى عشرة نقطة اسماها «أطروحات حول فيورباخ»، التي يقول في الفقرة الأخيرة منها: «لقد اقتصر الفلاسفة حتى الآن على تفسير العالم بأشكال مختلفة؛ بينما المهم هو تغييره».

من المؤكد أن هوبْزباومْ لم يكن في هذا المقام يرمي إلى تخليد ماركس أو تأبيد الماركسية. غير أن ما يرمي إليه، على الأرجح، هو ما اختتم به مقدمته هذه بقوله: «في أوائل تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٠٨، عندما أعلنت صحيفة «فاينانشال تايمز» بالبنط العريض في الصفحة الأولى: «تشنُّج الرأسمالية»(...) لم يعد ثمة من شك في أن ماركس قد عاد مرة أخرى إلى مسرح الحياة العامة. وهو لن يغادر المسرح طالما ظلت الرأسمالية العالمية تعاني أقسى موجة من التخبط والتأزم منذ أوائل الثلاثينات من القرن المنصرم. ومن جهة أخرى، فإن من المؤكد تقريبا أن ماركس القرن الحادي والعشرين سيكون مختلفا كل الاختلاف عن ماركس القرن العشرين».

في تصديره لهذا الكتاب الذي يضم بين دفتيه ستة عشر فصلا ونحو خمسمائة صفحة، يقر هوبزباوم بأن الجانب الأكبر من محتوياته يمثل سلسلة من الدراسات والمحاضرات التي قدمها على مدى نصف القرن الماضي في مناسبات شتى بلغات غير الإنكليزي، كالإيطالية والألمانية، أو وضعها كمقدمات لبعض أعمال ماركس مثل الـ«غروندريسّه» [المخطط العام للتكوينات الاجتماعية قبل ــ الرأسمالية] أو إنغلز مثل «اوضاع الطبقة العاملة في إنكلترا»، أو كليهما مثل «البيان الشيوعي». والموضوع الوحيد عن مفكر ماركسي بعد ماركس وإنغلز يدور تحديدا حول أنطونيو غرامشي الذي خصص له فصلين من هذا الكتاب. وقد روجعت هذه الدراسات وحُدِّثت ووُسّعت لتكون الآن في متناول القراء الناطقين بالإنجليزية عموما، وبصورة خاصة، على حد تعبير هوبزباوم، «القراء الذين يبدون اهتماما خاصا بماركس والماركسية، وبالتفاعل بين السياق التاريخي من جهة، ونشوء الأفكار وآثارها من جهة اخرى». ويضيف المؤلف أن المناقشات حول هذه المسالة «ينبغي أن لا تنحصر في سجال «مع» أو «ضد»، وهو الفضاء السياسي والآيديولوجي الذي هيمنت عليه تيارات شتى من الماركسيين وخصومهم؛ ذلك أن الماركسية كانت خلال المائة والثلاثين عاما الماضية قضية محورية في الأوساط الفكرية في العالم الحديث، مثلما كان لها، جرّاء قدرتها على حشد القوى الاجتماعية، حضور كاسح، بل حاسم أحيانا، في تاريخ القرن العشرين [وذلك يدعو] إلى التفكُّر في مستقبلها ومستقبل البشرية في القرن الحادي والعشرين».

وفي هذا السياق، يلاحظ هوبزباوم أن سقوط الماركسية الرسمية السوفياتية قد حرر ماركس من الانطباع العام السائد الذي ماهى بينه وبين اللينينية، نظريا، وأنظمة الحكم اللينينية، ممارسةً، وغدا واضحا كل الوضوح أن ثمة اسبابا عديدة ووجيهة تدعو إلى أن يؤخذ في الحسبان ما قاله ماركس عن العالم. ومن النقاط الأبرز في هذا المجال أن العالم الرأسمالي المُعوْلم الذي تكشف في تسعينات القرن العشرين كان، على أكثر من وجه، وبصورة قاطعة لا مراء فيها، مماثلا للعالم الذي توقعه ماركس في «البيان الشيوعي». واتضح ذلك في رد الفعل العام سنة ١٩٩٨ الحافل بالفوران في الاقتصاد العالمي، في ذكرى مرور مائة وخمسين عاما على صدور ذلك الكتيّب. «ومن المفارقات أن من أعاد اكتشاف ماركس لم يكن الاشتراكيون، بل الرأسماليون؛ إذ كان الاشتراكيون في حالة من الإحباط حالت بينهم وبين الاستفادة من تلك المناسبة».

الماركسية في عصرها وآثارها

في القسم الأول من «كيفية تغيير العالم» يتقصى هوبزباوم المنابع التي استلهم منها ماركس وإنغلز أفكارا أسهمت في بلورة منظورهما حول الاشتراكية: بدءا من فلسفة روسّو المساواتية، ونظرة برودون للمِلْكية بوصفها «سرقة»، وتحليل فورييه لقضية العمل، وانتهاء بتصورات كل من أوِين و فيورباخ للفلسفة المادية. ويشير هوبزباوم إلى أن الاشتراكية الماركسية تختلف عما قبلها في ثلاث نواح مهمة على الأقل: فهي تقدم نقدا شاملا للرأسمالية؛ وتحلل الاشتراكية بوصفها مرحلة أساسية في سيرورة التطور التاريخي؛ وتحدد طبقة البروليتاريا بوصفها هي الفاعل والعامل الأساسي للتغيير الثوري (ص ٤٤). ويؤكد هوبزباوم أن الاشتراكية الماركسية لم تقتصر على أن تحل محل المفاهيم البديلة الأخرى أو تعلن نهايتها فحسب، بل تجاوزت ذلك لتطرح برنامجا سياسيا مؤثرا يتناغم مع الأوضاع التاريخية التي كانت سائدة آنذاك، وما زالت تميِّز أيامنا هذه على حد كبير.

ويتحول هوبزباوم بعدها إلى التمعن في أفكار ماركس وإنغلز حول عدد من القضايا المحددة ويستعرض عددا من النصوص المتصلة بها، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، نظرة ماركس المتعددة الأبعاد والجوانب للدولة بوصفها أداة تخدم مصالح الطبقات الحاكمة ولكنها لا تمثل تلك الفئات بصورة مباشرة. كما يتطرق إلى أهمية السياق العالمي للحشد الثوري. وينوه بدراسة ماركس للتكوينات قبل ــ الرأسمالية ولكنه يعتبرها «أولية ومنقوصة». كما يشدد هوبزباوم على ضرورة النظر إلى «أوضاع الطبقة العاملة في انكلترا» لانغلز و«الغروندريسّه» وغيرها من الكتابات الأخرى من حيث أهميتها في تبيان مراحل التطور الفكري لدى هذين المفكرين وبوصفها مؤشرات على تصوراتهما حول الرأسمالية الصناعية في القرن التاسع عشر. أما «البيان الشيوعي»، فهو، على حد تعبير هوبزباوم، أكثر من مجرد وثيقة ماركسية أو سياسية «كلاسيكية»، بل هو، من الوجهة التاريخية، تصوير لنزعات النظام الرأسمالي التخريبية الشرسة، ودعوة لحفز وتجييش الشغيلة الذين يمثلون أغلبية سكان المعمورة، وتنظيمهم جماعيا لإنهاء استغلال الأقلية للأكثرية، وخلق مجتمع جديد تسوده العدالة.

جدلية الاستمرارية والثورة

ومع أن هوبزباوم يخصص فصلين قصيرين للحديث عن أنطونيو غرامشي في القسم الثاني من الكتاب، فإنه يرى أن نظرية الأخير حول «الفعل السياسي» ما زالت عظيمة الأهمية في ايامنا هذه للمعنيين ببلورة الاستراتيجيات الثورية الرامية إلى التجسيد الواقعي لهذا المجتمع. وهو يعتبر غرامشي «المفكر الأكثر أصالة في الغرب منذ عام ١٩١٧» (ص ٣١٦) لأنه، أساسا، استطاع أن يطرح الاستراتيجية الثورية «كما هي في واقع الأمر، وليس كما ينبغي ان تكون من الوجهة النظرية» (٣٢٦)، ولأنه اعتبر أن الاشتراكية لا تعني مجرد المِلْكية الاجتماعية والتخطيط للتنمية الاقتصادية فحسب، بل تنطوي كذلك على مواصلة النضال لتحويل السلوك الاجتماعي وخلق شعب جديد «يكون، في آن معا، نفيا وتجسيدا مجددا للماضي» (٣٣٠). ويرى هوبزباوم أن ملاحظات غرامشي حول ديالكتيكية الاستمرارية والثورة، وحول «حرب المواقع»1 ينبغي إعادة طرحها مجددا كاستراتيجية نضالية قبل، وخلال، وبعد الانتقال إلى الاشتراكية، لأنها، شأنها شأن أعمال ماركس وإنغلز، ذات صلة وثيقة بالمداولات المعاصرة.

كيف نغيِّر العالم. حكايا ماركس والماركسية، ٢٠١١
الكاتب: إريك هونزباوم.
مراجعة: فايز صيّاغ.

Eric Hobsbawm: How to Change the World: Tales of Marx and Marxism, Little, Brown, UK, 2011

في القسم الثاني من الكتاب، يتتبع هوبزباوم الآثار التي تركتها كتابات ماركس وإنغلز وانتشارها على نطاق واسع في أوساط الحركات الماركسية، ويرى أن تلك المؤلفات، على الرغم مما وجهه النقاد لهذين المفكريْن، قد أسهمت بصورة عميقة في تشكيل المَشاهد والتضاريس الفكرية والسياسية في العالم أجمع منذ أربعينات القرن التاسع عشر. وبعد أن يؤكد هوبزباوم وجهة نظره من أن «الأثر السياسي للماركسية هو، دونما شك، الإنجاز الأهم الذي حققه ماركس من الناحية التاريخية» (٣٤٧)، يقوم بدراسة موسعة للنقد الذي وجهه في القرن التاسع عشر إلى ماركس وإنغلز «النقاد الفكتوريون»2 الذين تقبل معظمهم نظرية ماركس حول «القيمة»، واستشهدوا بآرائه حول البطالة، وأعربوا عن تقديرهم لتفسيره التاريخي لنشأة النظام الرأسمالي. كما أن النقاد الفكتوريين لم يشككوا في دوافع ماركس، ولا في أصالته أو نزاهته؛ واستعاضوا عن ذلك بالتحدث عنه بــ«نبرة ازدرائية» (٢٠٧). غير أن تلك اللهجة التحقيرية لم تمنع أعمال ماركس وإنغلز من التأثير البالغ إبّان التوسع الكبير الذي شهدته الحركات العمالية والاشتراكية في الثمانينات والتسعينات من ذلك القرن خلال «الأممية الثانية».

الرأسمالية ليست الحل

ويوضح هوبزباوم في فصل لاحق أن عددا من الماركسيين الجدد في ثلاثينات القرن العشرين قد استهوتهم اعمال ماركس المتوافرة آنذاك خلال أزمة «الكساد الكبير» في النظام الرأسمالي والمناعة الظاهرية التي كان الاتحاد السوفياتي يبديها تجاه الركود الاقتصادي. إلا أن هوبزباوم يشير، بحق، إلى أن جمهرة من العمال عدلوا عن السعي لتحقيق الثورة البروليتارية خلال تلك الفترة وكرسوا جهودهم لإلحاق الهزيمة بالنازية. ويضيف هوبزباوم أن الماركسية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي قد ابتعدت عن الحركات والأحزاب العمالية وغدت ترتبط اساسا بأوساط المثقفين. وقد حفز نشر الأعمال غير المعروفة أو غير المتوافرة سابقا على قيام تيارات متعددة في نطاق الإطار الماركسي، وأسهم في إرباك «الماركسية الرسمية». غير أن انحسار الماركسية بلغ في الثمانينات والتسعينات حدا أصبح النفوذ الماركسي معه أثرا بعد عيْن؛ بل إن ماركس، خلال «السنوات العجاف» للماركسية في أواخر القرن العشرين كان يعتبر، في أحسن الحالات، مفكرا مرذولا، وفي أسوإ مسؤولا عن موجة التطهير والتصفيات الستالينية، وفظائع الكولاك، والاستخبارات السوفياتية (كي. جي. بي.) (٣٨٥).

وعلى الرغم من هذا وذاك، فإن هوبزباوم ما زالت تعلله الآمال العريضة بمستقبل الماركسية، وإن بصور مختلفة عما كانت عليه. ففي الفصل السادس عشر الأخير من «كيفية تغيير العالم» المعنون «ماركس والحركة العمالية: القرن الطويل»، يعرب عن اعتقاده بأن ازمة عام ٢٠٠٨ الاقتصادية، بوصفها «المعادل اليميني لانهيار جدار برلين»، قد قدمت البرهان الحاسم والدليل القاطع على أن الرأسمالية لا تمثل الجواب الوافي على مشكلات الانسانية (٤١٤). يضاف إلى ذلك أن السوق لا يستطيع أن يقدم حلا للمشكلات الكبرى التي تواجه البشر في القرن الحادي والعشرين. وقد أثبتت الدول النيولبرالية أنها لا تساند إلا نسقا اقتصاديا استغلاليا تنتفع منه القلة القليلة على حساب الكثرة الكاثرة. ومع ذلك، فإن الطبقة العاملة لم تكن، كما تكهن ماركس، «حفارة قبر» الرأسمالية، كما أنها، على حد تعبير هوبزباوم، لم تتحول إلى قوة مقتدرة قادرة على إحداث التغيير الاجتماعي الثوري.

الابتهاج بـ «الربيع العربي»

ربما أفلح هوبزباوم في تشخيص جانب من الأزمة التاريخية التي تواجهها الرأسمالية، غير أن «كيفية تغيير العالم» يطرح من الأسئلة أكثر مما يقدمه من إجابات. وإذا كانت ثمة من إجابات، فإنها قد تتمثل في أحاديث صحافية وتلفازية أدلى بها في الآونة الأخيرة بعد صدور «حكايا ماركس والماركسية» في شهر شباط/فبراير عام ٢٠١٠، وبعد سلسلة من التطورات والانتفاضات والمنعطفات المؤثرة التي شهدها وما يزال يشهدها العالم والعالم العربي منذ مطلع عام ٢٠١٠.

سنستخدم هنا لوصف هوبزباوم مصطلحا ابتُذل في الإعلام الفضائي العربي أيما ابتذال. إن إريك هوبزباوم كان، وما يزال، «شاهدا على العصر» بكل ما يعنيه هذا المصطلح من معانٍ ودلالات؛ مراقبا لأحداثه، ومعايشا ومحللا لتطوراته، ومعقّبا على مشاهده وتقلباته. ولا بد أنه شهد سلسلة التظاهرات الاحتجاجية والاعتصامات والانتفاضات والثورات التي مازالت تجتاح بعض العواصم والحواضر العربية مطالبة بالحرية والخبز والكرامة، مثلما تتصاعد مطالبها في أثينا وعواصم أوروبية أخرى، وتحتل وول ستريت ومراكز المال والأعمال في أرجاء العالم منددة بالفساد والبطالة واللامساواة. ففي مقابلة تلفازية مع الـ «بي بي سي» في كانون الأول/ديسمبر الماضي حول ثورات «الربيع العربي»، أعرب عن الانشراح والارتياح «والابتهاج الغامر لأنني اكتشفت مجددا أن بوسع الناس أن ينزلوا إلى الشارع، ويتظاهروا، ويسقطوا الحكومات».

http://www.bbc.co.uk/news/magazine-16217726

يُروى عن لينين أنه كان يعتقد أن الواقع الفعلي يظل أكثر تعقيدا واستعصاء على أي تصور نظري. وحين نمعن النظر في المقولات المطروحة في حديث هوبزباوم مع مراسل الـ «بي بي سي» أندرو وايتهيد، فإننا قد نعتبرها إرهاصا للفصل السابع عشر التكميلي الغائب لكتاب «كيفية تغيير العالم»، لأنها تعكس تحولا فكريا واضحا في المنطلقات المعهودة لهذا المفكر الماركسي العريق الذي أرّخ للثورات، وعاش الجانب الأكبر من سنيّه الخمس والتسعين في ظلها أو في ظلالها أو في الدعوة لها.

فخلافا لما تنبأ به وراهن عليه ودعا إليه ماركس والماركسيون القدامى، وهو منهم، يعلن هوبزباوم أن «عمليات الحشد الجماهيري الأكثر فاعلية في أيامنا هذه إنما تبدأ في أوساط طبقة وسطى جديدة محدَّثة ــ وبخاصة من الجسم الطلابي الآخذ بالتضخم [....] في بلدان تمثل الأجيال الشابة فيها أغلبية السكان، وتكون فيها التعبئة الجماهيرية أكثر يسرا باستخدام التقانة الحديثة. وإذا كان ثمة من ثورات بعد الآن، فإنها لا بد أن تحدث على هذا النحو، وعلى الأقل في أيامها الأولى، حيث يخرج الناس ويتظاهرون في الشارع مطالبين بما هو حق لهم».

ويعقد هوبزباوم مقارنة بين ثورات «الربيع العربي» وثورات عام ١٨٤٨ التي انطلقت من فرنسا وسرعان ما انتشرت في بقاع إمبراطورية الهابسبُرغ الأوروبية. ويقول إن الأخيرة فشلت خلال عامين على المدى القصير ولكنها نجحت جزئيا على المدى البعيد حين أسفرت عن إصلاحات ليبرالية جمة، ولكنها فقدت آنذاك طابعها الثوري المعهود. وقد يكون ذلك هو المآل الذي ستنتهي إليه الثورات العرًبية. ويشير إلى الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩، التي كانت مُخرجاتها الآيديولوجية مختلفة كل الاختلاف عن المُدخلات التي أسهمت في إشعالها أول الأمر، فكان من نتائجها النهائية تهميش أولئك الذين قدموا تنازلات للإسلام دون أن يكونوا إسلامويين، بمن فيهم الإصلاحيون واللبراليون والشيوعيون.

وفي هذا السياق، يخلص هوبزباوم إلى القول بأن «الربيع العربي» قد غمره بالفرح والتفاؤل من ناحية، وبالتخوف، من ناحية أخرى، من أن تكون الغلبة فيه آخر الأمر للإسلامويين على الطريقة الإيرانية.

وغني عن البيان أن الكثيرين يشاركون إريك هوبزباوم مشاعر الفرح والتفاؤل هذه، وتساورهم الهواجس والمخاوف نفسها على حد سواء.

  • 1. في معرض حديثه في «دفاتر السجن» عن «الهيمنة الثقافية» و«المثقف العضوي»، يميز غرامشي تمييزا استراتيجيا بين نوعين من الحرب أو النضال: «حرب المواقع» و«حرب المناورة» أما الأولى، فهي كفاح فكري وثقافي تخوضه القوى الثورية المعادية للإمبريالية من أجل خلق ثقافة بروليتارية تتصدى فيها لنسق القيم الأهلية الأصيلة للهيمنة الثقافية التي تمارسها البرجوازية. وستعمق الثقافة البروليتارية من الوعي الطبقي، وتتولى مهمة تعليم النظرية الثورية والتحليل التاريخي، وبالتالي تيسير التنظيم الثوري في أوساط الطبقات الاجتماعية. وعندما تتكلل حرب المواقع تلك بالنصر، يكون الزعماء الاشتراكيون قد تمتعوا بالسلطة السياسية والتأييد الشعبي الضروريين للبدء بشن حرب المناورة السياسية لتحقيق الاشتراكية الثورية.
  • 2. نسبة لعهد الملكة فكتوريا في بريطانيا، ١٨٣١-1901.
العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.