«إلى أي مدى سوف يستجيب التاريخ لهذه العناوين التي يصيغها (كذا) معمر القذافي؟ وإلى أي مدى يكون لهذا الرجل الذي يفاجئ العالم بكل أمر لا يتوقع أن يجسد تطوراته على الأرض؟ وحين كان الجميع يخمن حلا لهذه الأسئلة كان التاريخ يصر على أن يسلس قياد أحداثه لأمر هذا الجديد الذي طلع به معمر القذافي على العالم».
«الزحف الأخضر»، أيلول ــ سبتمبر ــ ١٩٨٩
لم تمض ساعات على هذا «الزحف» حتى كان القذافي يفاجئ العالم فعلا. لقد سبقته الجِمال والنُوق إلى بلغردت لتبرك في حديقة السفير الليبي قرب خيمة منصوبة للزعيم القادم في أية لحظة والذي يمكن لمسؤولي يوغسلافيا أن ينتظروا ساعات لاستقباله في المطار حتى يقال لهم إنه وصل، منذ فترة، إلى... سبها. وفي حين كان مؤتمر عدم الانحياز يعاني مخاض التحول نحو «الاعتدال» و«الواقعية» كانت مساهمة القذافي فيه، بعد أن أسلست الجِمال والنوق قيادها له، التهديد اليوم بأنه سيدخل القاعة ممتطيا حصانه. وكان من الطبيعي أن يفاجأ الصحافيون بذلك فيسألوه فيستدعيهم إلى لقاء يعلن فيه أنه غيّر رأيه في وسيلة النقل المناسبة لأن أنظمة السير في يوغسلافيا لم تلحظ إمكانية التجول في المدينة فوق حصان!
توجه الرئيس الليبي إلى بلغراد يخامره شعور بالاعتزاز. فلقد انتهى للتو من الاحتفال بالذكرى العشرين لثورته وأقام من أجل ذلك احتفالات جماهيرية (طبعا) كانت من الدقة والتنظيم بحيث إن عددا أكبر من الضيوف المهمِّين أصيب بكدمات مؤذية وهو يحاول أن يشق طريقه بين أعضاء «اللجان الثورية». مصدر الاعتزاز هو أن القذافي مارس، في المناسبة، الهوية المحببة لديه: طالما أن صناعة التاريخ صعبة فلماذا لا نعيد كتابته؟
قل كلمتك وامشِ
ألقى أمام الوفود خطابا هو حالة نموذجية عن الإيحاء الذاتي والقائم على إقناع النفس بالعظمة. قال: «إن ما يقلق أميركا وفرنسا والجهات الإمبريالية ليس مقررات القمم العربية سواء عقدت في الدار البيضاء أو عمان أو طرابلس وإنما تقلقهم المواقف التي تتخذها الجماهيرية الليبية التي لم تتغير في شأن اعتبار إسرائيل فوق التراب الفلسطيني أمرا غير شرعي وناتجا من مخلفات الحرب العالمية الثانية لذلك لا بد من أن يختفي».
يطيب للقذافي أن يكون مصدر قلق للجهات الإمبريالية فهو يعرف أنه لن يكون، في أي حال من الأحوال، مصدر تهديد جدي لها. ما يقوم به لا يعدو كونه «إقلاق راحة» وهو لا يستدعي أكثر من رفع الصوت أو إحداث ضوضاء ما. هذه «العجقة» يسميها مواجهة. أما عجزه عن الفعل في قرارات القمم العربية، وبالتالي في السياسات العربية، فيدفعه، وهو القومي العربي المتعصب، إلى أن يختصر الأمة كلها في قطر وإلى تحميله ما لا يجرؤ زعيم قطري على تحميله لبلده. وهو إذا كان يجرؤ على ذلك فبالضبط لأن الحمل خفيف: نبرة عالية ومخصصات شهرية لحفظه، «الكتاب الأخضر» والقائمين مقام الشعب الليبي بما يمكن تسميته، تجاوزا، «ثورات» تقلق راحة الإمبريالية!
الأمور سهلة. وتسمح للقذافي ادعاء الحضور في التوازنات العالمية. وطالما أنه حاضر فيها فلم لا يعيد صياغتها؟ (كتابتها بالأحرى!).
نضع جانبا الصلة التي يقيمها بين عدم شرعية إسرائيل وضرورة زوالها لنتوقف عند حديثه عن نتائج الحرب العالمية الثانية ــ ومنها إسرائيل، الآيلة إلى الزوال في رأيه.
نحن هنا أمام رئيس دولة يفترض فيه أن يكون مُلمّا بألف باء السياسة الدولية. ومع ذلك فإنه يدلي بأقوال يستطيع أي طالب في أي مدرسة إعدادية أن يخالفه فيها لا بل أن يفحمه. إن نتائج الحرب العالمية الثانية راسخة إلى حد أن التوازن الدولي، برمته، قائم عليها حتى الآن وأن إعادة النظر فيها لا تقبل أي مزاح، ولا هذا النوع من المزاح بالتحديد (أحداث بولونيا، التطورات بين الألمانيتين دلائل على ذلك). أما الإشارة إلى أن إسرائيل هي من نتائج هذه الحرب فكان يفترض فيها أن تكون مقدمة للحديث عن صعوبة «اختفائها» لا العكس. هذا إذا كنا معنيين فعلا بهذا الاختفاء لا بإقلاق الجهات الإمبريالية فقط. (النزاع العربي ــ الإسرائيلي، أكثر من سواه بين النزاعات الإقليمية كلها، يحمل بعدا دوليّا مؤكدا ــ يجعل من معرفة حقائق الوضع الدولي شرطا لازما لأي انتصار).
لكن العقيد في واد آخر، يهمه تسجيل الموقف بغض النظر عن مردوده وإمكانية تنفيذه. يخاطب العالم وأذناه ترهفان السمع إلى وتيرة تصفيق «اللجان الثورية» إلى حد أنه ينسى أنها لجان «متفرغة» لذلك وأنه مسؤول عن «تفريغها» (تفريغ يمكن للقارئ أن يملأه بالمعنى الذي يفضله). عاد القذافي إلى الموضوع نفسه في بلغراد ولكن بشكل أكثر «عيانية» هذه المرة. لقد اقترح «تفريغ» فلسطين من اليهود. ونقلهم إلى مناطق أخرى بينها منطقة الألزاس واللورين. وبما أنه يملك حدّا من التماسك في تفكيره فقد برر اقتراحه هذا بضرورة تشكيل حزام بشري يمنع انفجار الحرب مجددا بين ألمانيا وفرنسا. أما أن ألمانيا غير مسلحة، أما أن فرنسا تملك جيشا في ألمانيا، أما أن التنسيق بين البلدين قائم بالتحديد على الصعيد العسكري، أما أن أوروبا الغربية متجهة نحو شكل من الاندماج الاقتصادي (والسياسي؟)... فهذه كلها أمور لا تعني «عقيدنا». لقد قرر أن هذه نتائج الحرب العالمية الثانية، (بعد حرب طبعا)، وأنتج من هذا الخليط حلا لأزمة الشرق الأوسط. وحصل كل ذلك في قمة عدم الانحياز التاسعة في بلغراد حيث امتنع البيان الختامي عن رشق الإمبريالية والصهيونية ولو... بوردة!
نهبط من هذا العالم الخرافي إلى أرض الواقع قليلا، مع العلم أن الهبوط إلى أية أرض سيكون مستحيلا طالما أن الحرب الألمانية ــ الفرنسية ستطيح بالكرة الأرضية كلها. ولكننا مع ذلك سنحاول الهبوط. ماذا نرى؟ نرى أن خطر التفريغ الوحيد المطروح حاليا هو خطر تفريغ ما تبقى من فلسطين ممن تبقى من أهلها. إن التوازن الحقيقي بين العرب وإسرائيل يهدد بتحويل هذا الكابوس إلى أمر واقع لا تنفع في درئه عقيرة القذافي. هذا ما حصل في ١٩٤٨ وما تكرر في ١٩٦٧. هناك في إسرائيل، اليوم، من يدعو إلى «الترانسفير» ويحظى بتأييد واسع من أجل ذلك. وهناك في فلسطين انتفاضة مستمرة منذ عامين، وشعب يواجه صلف الاحتلال. ويتعرض أبناؤه للإبعاد الحقيقي في حين أن المحتفلين في ليبيا تدمى أيديهم تصفيقا لإزالة إسرائيل من غير أن يكلفهم ذلك سوى بحة في الصوت يزول أثرها في اليوم التالي.
أين الجدية في هذه الحالة؟ أين الجهل، أين المزاج، أين المزايدة، بل أين اللوم؟ لعلنا أمام مزيح من هذه الصفات «الحميدة» كلها. كيف يمكن أن ننسى أنه قبل أن يكون صوت القذافي في السماء كانت رجلاه على الأرض؟ لقد سبق له، عشية هذا الخطاب، أن وقّع اتفاقا لتسوية النزاع الحدودي مع التشاد وهو الذي ملأ العالم ضجيجا بأن «شريط أوزو» جزء لا يتجزأ من التراب الليبي لا مجال لأية مساومة عليه. فعل ذلك تقديرا منه لموازين القوى واحتراما لما يعرف في أفريقيا بـ «الحدود الموروثة عن الاستعمار». ان الاستعداد للقبول بالتحكيم حول «أوزو» يعيد الاعتبار لقاعدة من قواعد الحياة السياسة في «القارة السمراء». وهذه القاعدة هي، في أحسن الأحوال، بمستوى ثبات «نتائج الحرب العالمية الثانية» ومع ذلك لا يملك المرء إلا أن يسائل القذافي: هل تملك، منفردا، حق التفريط بجزء من الوطن الليبي وبالتالي، بجزء من الوطن العربي؟ وهل يمكن لمن يبدي استعدادا للتفريط بالأمس أن يلقي، في اليوم التالي، محاضرة عصماء مثل التي ألقيت في احتفالات أول أيلول (سبتمبر)؟!
ثورة قامت في مكان لا يليق بقائدها...
«الفاتح هي الأمل الطالع في ليل البشرية القاتم». لقد خان السجع كاتب افتتاحية «الزحف الأخضر». كان يمكنه أن يقول «الفاتح هي الأمل القادم في ليل البشرية القاتم». لكنه فضّل الصيغة الأولى واثقا أن قراءه لا يتوقفون عند هذه التفاصيل. لكن المشكلة أن قائده معمر القذافي لا يشاركه الثقة في هؤلاء القراء وفي «ثقافتهم وعلمهم». يقول العقيد ما حرفيته: «إن أوروبا الغربية هي أفضل مكان لتطبيق النظرية العالمية الثالثة، والشيء الأساسي أن العالم سيتقدم فكريّا، بمرور الزمن، لصالح النظرية العالمية الثالثة. ليبيا مكان غير مناسب لتطبيق النظرية. أوروبا الغربية هي أفضل مكان لتطبيق النظام الجماهيري، حيث يوجد الشخص المثقف والمتعلم. ولكن كلما تخلفت المجتمعات كلما واجهت النظرية صعوبة في تطبيقها... لم يكن واجبا أن تقوم في ليبيا مثل هذه الثورة، بل في بلد يكون نموذجا، لو قامت في السويد أو في سويسرا لكانت أفضل...
لم تعد أوروبا مهددة بالزوال بفعل حرب ألمانية ــ فرنسية. وهذه بشرى سارة. ولكنها مهددة، بكل حضاراتها ودياناتها وأفكارها وتياراتها ونظمها الاجتماعية وعقائدها، بأن تعيش ردحا من الزمن قبل اعتناق النظرية العالمية الثالثة. حتى «ليل» السويد وسويسرا فسيبقى «قاتما» بانتظار القنديل الليبي. الوقت يضيع سدى. فليبيا بلد لا يستحق النعمة التي حلت عليه، بلد لا يليق بقائده ولا يصلح تربة خصبة لأفكاره. أكثر من ذلك ليست ليبيا مختبرا جديرا بتجريب الثورة فيه حتى إذا نجحت يصار إلى تصديرها، معلبة، إلى شعوب «مثقفة ومتعلمة» تحتاج إلى هذا «اللقاح النظري».
لا ندري إذا كان القذافي يحترم شعبه كثيرا ولكن الواضح أنه مغتاظ منه ويشعر أنه مظلوم بينه: كأن لا يكفي هذا الشعب أن يكون قليل العدد فهو، فوق ذلك، متخلّف. ما العمل مع شعب، لا يصلح، لا كما ولا نوعا، لإضاءة «ليل البشرية القاتم»؟ الفاتح هي الأمل الطالع «ليست بصفتها ثورة شعب بل بصفتها فكرة أطلقها رجل واكتشف، متأخرا، أنه فعل ذلك في مكان ليس هو الأفضل لتطبيقها. «الظلام الليبي» ليس الأب الشرعي لفكر القذافي، أنه الخطر الأول على هذا الفكر. لو أن السويديين ليبيون أو لو أن القذافي سويدي لكانت الأمور على غير ما هي عليه. لكن «مع مرور الزمن» وتقدم السويديين «فكريّا» سينتهي الأمر بهم إلى مساعدة القذافي في حمل المشعل لإضاءة «ليل البشرية القاتم». وعندما يحصل ذلك فإن «عصور التنوير» التي عرفتها أوروبا الغربية ستبدو سوادا كلها أمام «الوهج الأخضر»!
أفكار «الكتاب الأخضر» في كل مكان
هل يعني ذلك أن على البشرية أن تنتظر «مرور الزمن»؟ كلا، لا يمكن للأمور أن تكون على هذا السوء. فالزمن غدار وقد يمر... ببطء. ولذلك فإن أفكار «الكتاب الأخضر» تتسرب بالرغم من الحصار المضروب عليها. يبدو أن شيئا منها تسرب إلى الفرنسيين قبل قرنين من الزمن فقاموا بثورتهم وأسسوا جمهوريتهم. ولكن هذه الجمهورية هي ما قبل تاريخ «العصر الجماهيري» الذي ستدخله فرنسا، حتما، بمجرد قراءة الكتاب كاملا، فتقدم على الخطوة الأولى التي تؤكد بلوغها سن الرشد الثوري: إلغاء النظام الديمقراطي البرلماني! (كان هذا، تقريبا، هو التعليق الليبي على الاحتفال بالمائوية الثانية للثورة الفرنسية).
وما يقال عن الثورة الفرنسية يقال عن خصميها اللدودين رونالد ريغان ومارغريت تاتشر. يقول القذافي أنهما أصيبا بالمس الجماهيري فاعتمدا «الرأسمالية الشعبية» من غير أن يدركا. يا لسخرية الأقدار! ــ أنها اختراع يملك عدوهما، القذافي، براءته. «يوجد في أميركا الآن، يقول العقيد، تسعة آلاف شركة امتلكها تسعة ملايين من العمال بعد ١٩٨٢، أي بعد ظهور «الكتاب الأخضر». هذا صحيح. وقد حصل مثله في بريطانيا. سوى أن ذلك تم في إطار تفكيك القطاع العام واستيلاء فئة اجتماعية جديدة تستند إليها «الثورة المحافظة». وإذا قيل أن ذلك حصل قبل ترجمة «الكتاب الأخضر» إلى الإنكليزية كان الجواب المحتمل: ومن قال أن البريطانيين والأميركيين ليسوا «خضرا» في طبعهم؟ وبالمناسبة فإن ميخائيل غورباتشوف، في رأي القذافي، ليس إلا «دالتونيا» مصابا بعمى الألوان. فهو يحسب أن البيرسترويكا تجديد للثورة الحمراء في حين أنها «بيرسترويكا خضراء» والتعبير للقذافي شخصيّا، الذي يضيف «أن غورباتشوف قدّم قانون التشاركيات بتأثير النظرية العالمية الثالثة والكتاب الأخضر»!
بين الاشتراكية الفرنسية، والارتداد اليميني التاتشري والريغاني، والمحاولة الإصلاحية الغورباتشوفية، قاسم مشترك واحد: الغَرْف من «الكتاب الأخضر»، والتأثر بالنظرية العالمية الثالثة. يتجمع العالم، بتياراته كلها، في حضرة القذافي. يستمع إليه، يستوعب أفكاره، ثم يتفرق ساعيا جهده للاقتراب من النموذج الأرقى. إذا نجحت ثورة وطنية تقدمية، كما في نيكاراغوا، أطلق عليها القذافي اسم «ليبيا الجديدة» (ألم يقل أن الثورة في ليبيا لم تكن واجبة أصلا؟!)، وإذا تحول تاجر المخدرات والعميل السابق للمخابرات المركزية الأميركية الدكتاتور نورييغا إلى خصم لواشنطن (تهربا من وجه العدالة) عمّد القذافي بنما باسم باسم «ليبيا الجديدة» (برضه!). وإذا استضافت طرابلس هنودا أميركيين يطالبون ببعض حقوقهم أسبغت عليهم لقب «لجنة ثورية»، ويحصل الأمر نفسه مع عناصر المجموعات النازية والفاشية القادمة من كندا أو غيرها. وهكذا يعود العالم، ببساطة مدهشة، إلى عناصره الأربعة: ليل قاتم، لجان ثورية، كتاب أخضر و... ساعة الصفر!
ثاتشر وريغان وغورباتشوف وفوقهم نيكاراغوا ونورييغا وهنود أميركا الحُمر والمجموعات النازية والفاشية القادمة من كندا وغيرها... كلهم يغرفون من «الكتاب الأخضر
في هِداية غورباتشوف
هل القذافي هو الذي يتبنى «البيريسترويكا»، أم الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف هو الذي يعتنق أفكار «الكتاب الأخضر»؟
صحيفة «البرافدا» تملك وجهة نظر «دقيقة» حول الموضوع. لذلك فإنها نشرت تعليقا في مناسبة الذكرى العشرين للثورة الليبية أشارت فيه إلى منجزاتها وانتقدت بعض أخطائها وأضافت أنها «أخطاء وقعت قبل قيام القيادة الليبية بإجراء بيريسترويكا في سياستها الخارجية خلال العامين الماضيين». وفي المناسبة نفسها كتب السفير السوفياتي السابق في ليبيا أوليغ بيريسيبيكين (رئيس أكاديمية الدبلوماسية في موسكو حاليا، لم يوافق القذافي على استقباله عندما كان سفيرا إلا بعد مضي تسعة أشهر على تعيينه وبعد أن طلب المقابلة بصفته مستشرقا لا سفيرا!)، كتب مقالا يقول فيه «أن الطريق الثالث للتنمية الذي اقترحه العقيد معمر القذافي في الكتاب الأخضر، يجمع بين طروحات الإسلام والمساواة والعدالة إلى جانب أفكار من الماركسية والقومية العربية وبعض الطروحات ذات الطابع الفوضوي وكان من تجلياتها موضوع فصل الثورة عن السلطة وتشكيل «اللجان الثورية».» أنه سفير يحاول بتواضع، أن يفهم. وهو يقدم بلغة دبلوماسية ما يمكننا اعتباره نقدا للانتقائية الفجة التي يمثلها فكر معمر القذافي كما جرى عرضه في «الكتاب الأخضر».
لكن المشكلة أن صاحب الكتاب لا يرضى بأي تواضع. لقد وضع مقدمة للترجمة الروسية لكتابه تعبّر، بدقة، عن الحالة العُظامية التي يعيشها. يقول العقيد:
«أقدم لكم كتابي الأخضر الصغير بفصوله الثلاثة الذي يشبه بشارة عيسى وألواح موسى أو خطبة راكب الجمل القصيرة (شارة إلى النبي محمد)... عشت سنين في فيافي الصحراء وفجوجها الخالية حيث أفترش الأرض وأتغطى بالسماء... وعاصرت الآن أزمة العالم الكبرى في السياسة والاقتصاد والاجتماع... وجمعت المأثورات والحكم والبديهيات ودرست التاريخ... ووجدت أن البشرية قد ألفت الكتاب الأخضر الذي هو دليل الانعتاق النهائي من العسف والاستغلال وصولا إلى الحرية وتحقيق السعادة... إن الثوريين الذين اعتنقوا نظرية كارل ماركس... اعتنقوها دون تعصب لأنها العلمية... يعتنقون اليوم البيريسترويكا والكتاب الأخضر لأنه الحل العلمي والنتيجة العلمية في العلاقة الجدلية(!) بين المذاهب السابقة وحل لتأزمها المعاصر... كل الناس ألفوا الكتاب الأخضر ولكنه مبعثر في أمثالهم وأشعارهم وأحلامهم كما كان القرآن مبعثرا في أوراق الشجر والعظام والجلود وجمعه عثمان، وكما كانت التوراة مبعثرة في الألواح. أنا فقط جمعت هذه المبعثرات الخالدة ورتبتها في ثلاثة فصول باسم الكتاب الأخضر لون الربيع. لون العشب... لون السماء (!)... لون الجنة»
من العلم إلى الأشعار والإصلاح، ومن العلاقة الجدلية إلى البديهيات والمأثورات ومن التوراة والإنجيل والقرآن إلى لون السماء الذي أصبح أزرق. يبدو أن البشرية كانت مبعثرة إلى أن أوقف القذافي «ركوب الحمار ورعي الغنم» وخرج من «فيافي الصحراء» ليقوم بعملية التوليف العظيمة هذه. لا يستطيع أحد أن يتنكَّر لهذا الكتاب لأنه مشارك فيه بشكل أو بآخر. يريد القذافي توريط الجميع. وهو، إذ يضع نفسه في مصاف الأنبياء، «يتواضع» إلى حد القول أنه لم يفعل أكثر من ترتيب ما همست به البشرية منذ وجودها الأول.
قد لا يكون الإمام الراحل الخميني أكثر وعيا بقضايا العالم ومشاكله من «الوعي الصحراوي» الذي يملكه القذافي، ولكنه بالتأكيد أكثر تواضعا منه.
... وهداية الخميني لغورباتشوف
عنَّ للخميني، قبيل وفاته، أن يوجه رسالة إلى هذا المسكين ميخائيل غورباتشوف يعرض عليه فيها دخول الإسلام. الرسالة طويلة لكننا سنحاول اختصارها. يؤكد الخميني أن أكبر ضربة نزلت بالاتحاد السوفياتي «هي محاربة الله والدين في المجتمع». ويعترف بغورباتشوف بأنه يحاول إصلاحا. لكنه يحذر قائلا: «من الممكن أن تميلوا إلى خيار العالم الغربي وما يتوهم من جنان خضر فيه مدفوعين بنتائج الأساليب الخاطئة والسياسات المنحرفة لأقطاب الشيوعية السابقين في المجال الاقتصادي. من الممكن أن يحدث لديكم ميل كهذا... ولكن الحقيقة هي في مكان آخر... لأن العالم الغربي مبتل أيضا بنفس ما ابتلت به الماركسية اليوم من وصول أساليب تعاملها مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية إلى طريق مسدود. الواجب هو التوجه نحو الحقيقة الواقعية... إن العلة الأساسية لمشاكل بلدكم لا تكمن في مشكلة الملكية والأزمة الاقتصادية وقضية الحريات. إن علتكم الأساسية هي في فقدان الإيمان الحقيقي بالله...» ويمضي الخميني راميا الشيوعية في «متاحف التاريخ» ناسبا إلى غورباتشوف أنه أنزل بها «ضربة قاضية» داخلا معه في سجال إيديولوجي حول إمكانية أن يدخل المعقول «المدرك بالعقل دائرة العلم حتى لو انعدم إدراكه بالحس». ويشفق الخميني على غورباتشوف فيمتنع أن يزجه «في تعقيدات مسائل الفلاسفة وتشعباتها خاصة الإسلاميين منهم» فيضرب له أمثلة من نوع «التمثل الحجري المنحوت على شكل إنسان...» ويوجه إليه النصيحة التالية:
«إذا رغبتم في التحقيق في هذا الموضوع فيمكنكم أن تأمروا المختصين بهذه العلوم أن يراجعوا إضافة إلى كتب الفلاسفة الغربيين مؤلفات الفارابي وأبي علي بن سينا رحمة الله عليهما في «حكمة المشائين» ليتضح أن قانون العلة والمعلول هو معقول وليس محسوسا... كذلك يمكنهم الرجوع إلى كتب السهروردي، رحمة الله عليه، في حكمة الإشراق... واطلبوا من الأساتذة الكبار أن يراجعوا أسفار الحكمة المتعالية لصدر المتألهين رضوان الله تعالى عليه... ولا أتعبكم أكثر، فلا أتطرق إلى كتب العارفين لاسيما محيي الدين بن العربي وإذا شئتم الاطلاع على مباحث هذا الرجل العظيم فيمكنكم أن تختاروا عددا من الأذكياء من خبرائكم الذين لهم باع طويل في أمثال هذه المباحث وترسلوهم إلى قم ليطلعوا، بالتوكل على الله، وبعد عدة سنين، عن العمق اللطيف لمنازل المعرفة، والدقيق غاية الدقة، ومحال بدون هذا السفر الوصول إلى هذه المعرفة».
الواضح أن الخميني يحيل غورباتشوف إلى كتب الفلاسفة المسلمين لا إلى كتبه هو، وأنه يقدم بدوره فيدعو إلى دين يؤمن به ولو أنه يظهر جهلا كبيرا بأسباب الأزمة في الاتحاد السوفياتي أو غيره. أما القذافي فإنه يعتبر نفسه فوق هؤلاء الفلاسفة جميعا، وفوق الخميني طبعا، ويجعل كتابه في مصاف الكتب المقدسة التي يجتهد المفكرون في تفسيرها والدعوة إليها، وهو، فضلا عن ذلك يتحدث إلى عالم (وعن عالم) يجهله جهلا مؤكدا ولا يدعي صلة به إلّا صلة الدعوة إلى تغييره!
عندما قال القذافي في البرلمان التونسي أن الشاعر الإنكليزي شكسبير عربي الأصل واسمه «الشيخ زبير» لم يكن مازحا. فلو أراد التنكيت لما أعاد الكرة مرة وثانية. لقد قال ما قاله وهو يعتبر أنه حسم الجدل حول المباراة الحضارية بين البريطانيين (حيث هم الآن) والعرب (حيث نحن الآن) وأكد تفوقنا الكاسح، ثقافيّا وعلميّا وتقنيّا وديمقراطيّا، عليهم.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.