راقب المؤرخ المشهور اريك هوبزباوم ثورات العام ٢٠١١ بحماس ولاحظ ان الطبقات الوسطى في ربع القرن الاخير وليس الطبقة العاملة هي التي تحرّك الامور. لعله كان متسرّعا في تعميمه انطلاقا من التجربتين التونسية والمصرية في مطالعها قبل ان تستكب كل الثورات مشاركة جماهيرة واسعة، من فقراء ومهمشي المدن والارياف. وهذه هي ترجمة لمقابلة اجراها معه البرنامج الدولي لمحطة البي. بي. سي البريطانية في ٢٣ كانون الاول/ديسمبر ٢٠١١.
«غمرني فرح عظيم اذ اكتشفت مجددا انه يمكن للناس ان ينزلوا الى الشوارع وان يتظاهروا وان يسقطوا حكومات»، قال هوبزباوم في ختام عام من الانتفاضات الثورية في العالم العربي.
عاش حياته في الظل او في وهج الثورات.
ولد قبل اشهر من الثورة الروسية العام ١٩١٧، وكان شيوعيا معظم سنيّ حياته البالغة الى جانب انه كاتب ومفكر خلاق ومؤثر.
انه الان في منتصف سنيه التسعين، ينعكس شغفه المستمر بالسياسة في عنوان آخر كتبه «كيف نغيّر العالم» وفي اهتمامه الدؤوب بـ«الربيع العربي».
«بالتأكيد شعرت بالحماس والارتياح»، يقول وهو يتحدث اليّ في منزله اللندني، على مبعدة مسيرة على الاقدام من هامستد هيث.
كُتبٌ عن الجاز - وقد كان ناقد موسيقى جاز ذات يوم - تتزاحم على المكان مع مؤلفات في التاريخ بلغات مختلفة.
«اذا كان لا بد من اندلاع ثورة، يجب ان تشبه هذه الثورات في ايامها القليلة الاولى على الاقل: الناس في الشوارع يتظاهرون من اجل المطالب المحقّة».
ويضيف: «ولكننا نعرف ان مثل هذه الامور لن تدوم».
انها تذكّرني بثورة ١٨٤٨ الاوروبية
المؤرخ يقارن بين «الربيع العربي» ٢٠١١ و«عام الثورات» قبل ذلك بقرنين تقريبا، عندما اندلعت ثورة في فرنسا فلحقت بها ثورات في الدول الايطالية والالمانية، وفي امبراطورية آل هابسبرغ وما يتعداها.
«انها تذكرني بالعام ١٨٤٨، وهي ثورة اخرى إعتمدت على قواها الذاتية، فبدأت في بلد ثم انتشرت بسرعة على امتداد القارة الاوروبية.»
للمحتشدين في «ميدان التحرير»، وهم الآن قلقون على ثورتهم، يحمل اليهم هربزباوم بعض العزاء.
«بعد عامين على ثورة العام ١٨٤٨ بدت الثورة كأنها فشلت. لكنها لم تفشل في المدى البعيد. تحقق من جرائها الكثير من الخطوات الليبرالية. فالثورة إذا كانت تفشل على المدى المباشر فإنها تحقق نجاحا نسبيا على المدى البعيد، مع انها لا تتخذ شكل ثورة »
بالرغم من ذلك، وربما بإستثناء تونس، لا يرى امكانية فعلية لقيام ديمقراطيات ليبرالية او حكومات تمثيلية في العالم العربي على غرار أوروبا.
دور جديد للطبقات الوسطى
يقول هوبزباوم انه لم يتم الانتباه بما فيه الكفاية للفوارق القائمة بين الدول العربية في خضم الاحتجاجات الجماهيرية: «اننا في خضم ثورة ولكنها لم تعد الثورة ذاتها».
«ما يجمع بينها هو التذمر المشترك وتماثُل القوى المحتشدة - طبقات وسطى تحديثية، خصوصا طبقة وسطى طلابية واسعة، وطبعا التكنولوجيا التي تسهّل الآن تعبئة المحتجين على نحو غير مسبوق».
وتمتد أهمية وسائل الاتصال الاجتماعية الى الحركة العالمية للعام المنصرم. اي احتجاجات حركة «إحتل» في اميركا الشمالية واوروبا. تلك ايضا لفتت نظر اريك هوبزباوم وحازت على اعجابه الى حد كبير.
ويحاجج هوبزباوم ان تلك الحركة تعود في أصولها الى الحملة الانتخابية لباراك اوباما، التي نجحت في تعبئة الشباب، غير الفاعلين سياسيا في العادة، من خلال الانترنت الى حد كبير.
«ان الاحتلالات الحالية لم تكن حركات احتجاج جماهيرة، في معظم الاحوال. اي انها لم تكن جماهيرية بنسبة ٩٩٪. لكن «جيش المسرح» المشهور المكون من طلاب ومن هواة الثقافة البديلة كان جماهيريا. في بعض الاحوال، لقيت تلك الحركات صدى لدى الرأي العام كما يتضح من حركات الاحتلالات ضد«وال سرتيب» وضد الرأسمالية.
على ان اليسار القديم عبر العالم، الذي كان هوبزباوم جزءا منه، بما هو مشارك وراوٍ وطامح الى التحديث، ظل على هوامش حركات الاحتجاج والاحتلال الجماهيرية.
«ان اليسار التقليدي مشدود الى نمط من المجتمعات لم يعد له وجود او هو في طور الافلاس. كان يؤمن بحركات الطبقة العاملة الجماهيرية بما هي محرّك المستقبل. الحال ان هذا لم يعد ممكنا لأن مجتعاتنا قد تقلصت فيها القطاعات الصناعية اصلا.»
«ان حالات التعبئة الجماعية الاشد فاعلية اليوم هي تلك التي تبدأ من الطبقة الوسطى الجديدة التحديثية وخصوصا من الجسم الطلابي المتضخم جدا»
«وحركات الاحتجاج تلك هي الاشد فاعلية في البلدان حيث يشكل الشباب والشابات جزءا اكبر من السكان مما هم عليه في اوروبا»
ليس يتوقع اريك هربزباوم ان تتسع رقعة الثورات العربية الى اماكن اخرى من العالم، على الاقل ليس بما ينذر بثورات جديدة.
ان اندفاعة اقوى من اجل الاصلاح حصلت في الثمانينات حيث حركات شبابية ومنتمية الى الطبقة الوسطى انتزعت السلطة من يد العسكر في كوريا الجنوبية.
عن الدراما المستمرة في البلدان الناطقة بالعربية يلاحظ مؤرخنا انها تذكّر بالثورة الايرانية العام ١٩٧٩ وهي اول ثورة تتبنّى اللغة السياسية للاسلام. ويمكن ان يتوقع المرء ان تلقى تلك الثورة صدى في العالم العربي في الاشهر الاخيرة.
«ان الذين قدّموا تنازلات للاسلام، دون ان يكونوا اسلاميين أنفسهم، تعرضوا للتهميش. وهذا يشمل الليبراليين والاصلاحيين والشيوعيين. ان الاديولوجيا الجماهيرية الظاهرة الآن ليست هي اديولوجيا اولئك الذين بدأوا التظاهرات.»
في حين ان الربيع العربي حمل له الفرح، فذلك الوجه من وجوه الثورات يرى اليه على انه «مفاجيء ولا يستحق الترحيب بالضرورة».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.