ثمة ما يشبه الإجماع في أوساط الدارسين المعاصرين على اعتبار إريك جون بلير هوبزباوم (١٩١٧ ــ ٢٠١٢) واحداً من أشهر المؤرخين المعاصرين في بريطانيا وأوروبا؛ بل إنّ الباحثين اليساريين ينزعون إلى اعتباره أبرز مؤرخي هذه الأيام في العالم أجمع، أو أفضل مؤرخي القرن العشرين. ويميل آخرون إلى وضعه، جنباً إلى جنب، مع المؤرخ الفرنسي الراحل فرنان بروديل (١٩٠٢ ــ ١٩٨٥). تركّز الفئة الأولى على جدارة هوبزباوم العلمية، ونهجه الموضوعي العميق الشامل المتعدد الأبعاد في دراسة التاريخ الحديث، بينما تضيف الفئة الثانية سلسلة أخرى من السمات التي تميز منهجه الفكري، من بينها منظوره الماركسي المادي الجدلي في تحليل الظواهر التاريخية، والتزامه التعايش مع واقع العالم المعاصر السياسي والاجتماعي حتى في اوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، واستمراره، حتى وهو في اواسط التسعينيات من عمره، في التعبير عن مواقفه وآرائه الجريئة إزاء أحداث الساعة، بما فيها «الربيع العربي»!
وعلى الرغم من ان هوبزباوم كان شيوعياً، إلا انه لم يكتب كالشيوعيين في ذلك الوقت. لقد كان ماركسي المنهج، لكنه أنتج دراسات مختلفة عن الكتابات اليسارية المألوفة آنذاك؛ فهو لم يكن كبعض أقرانه من الماركسيين الذين يحمّلون كتاباتهم نصوصاً آيديولوجية للتدليل على واقعة أو ظاهرة تاريخية ما. بل إن هوبزباوم كان يستعمل الأدوات والمفاهيم الماركسية في إطاره النظري بسهولة ومرونة وذكاء، مما يجعل تأثيره على القارئ عميق الوقع.
الاسكندرية، فيينا، لندن
ولد هوبزباوم في الإسكندرية عام ١٩١٧، لأب بريطاني وأم نمسوية، وانتقل إلى فيينا بعد وفاة والده ليعيش مع والدته، وليتابع دراسته في برلين. واضطر للرحيل إلى بريطانيا عام ١٩٣٣، إثر تعاظم النزعة النازية والفاشية في ألمانيا، والنمسا، وإيطاليا، ومناطق أخرى من أوروبا الوسطى. وكان لمعاصرته صعودَ الفاشية وفشل الليبرالية أثر كبير في تكوين آرائه السياسية اليسارية واقترابه من الماركسية. كما أنّ هذه التجربة أثرت في اهتماماته البحثية لموضوع الهويات وظواهر التعصب العرقي والديني والإثني.
وفي لندن، أكمل دراساته الجامعية وحصل على الدكتوراه في التاريخ من «كينغز كوليج» في جامعة كمبريدج، وعمل محاضراً في جامعة لندن- كلية بيركبيك - وأصبح أستاذاً للتاريخ الاقتصادي الاجتماعي عام ١٩٧٠، وزميلاً في الأكاديمية البريطانية عام ١٩٧٨. وفي العام ١٩٩٨، قُلِّد وسام الشرف في بريطانيا والكومنولث. وعلى الرغم من أنه كان شيوعياً منذ العام ١٩٣٦، إلا أنه ندد بالغزو السوفياتي لهنغاريا عام ١٩٥٦، وعدل عن الحزب الشيوعي البريطاني إلى الحزب الشيوعي الإيطالي، وظل محافظاً على منظوره الماركسي العريض في توجهاته الفكرية وممارساته العملية.
عمل هوبزباوم رئيساً لكلية بيركبيك - جامعة لندن، وأستاذاً زائراً في عدد من كبريات الجامعات الأوروبية والأميركية والآسيوية. وبالإضافة إلى أن مؤلفاته الأساسية قد ترجمت إلى أكثر اللغات الحية (بما فيها العربية في السنوات القليلة الماضية)، فإن ما أسهم في تأثيره الفكري هو إتقانه لعدد من اللغات وأبرزها: الإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية والإسبانية. وإضافة إلى اهتماماته الأكاديمية والفكرية والسياسية، فإنه عازف ماهر لموسيقى الجاز، وله دراسات وكتاب مطبوع في هذا المجال، وآخر عن الترابط بين الجاز والمقاومة والاحتجاج.
التأريخ بما هو عقد صلات
درج إريك هوبزباوم على التأكيد في المقدمات التمهيدية لكل أعماله على أنه لا يسرد التاريخ، ولا يعيد صياغته، ولا يؤرخ لوقائعه أو يصف أحداثه كما تفعل جمهرة «المؤرخين» من قُدامى ومحدثين على السواء. إنه، كما يقول، إنما يتوجه إلى القارئ والمراقب والباحث الذكي المتعلم فحسب، فيدرس ظواهر التاريخ الأساسية والأحداث الكبرى المؤثرة في حياة الناس في المجتمعات البشرية، ويحلل أسبابها ونتائجها المباشرة وغير المباشرة، ويربط بعضها ببعض على نحو متكامل، في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية دون استثناء، بحيث تكون الحصيلة النهائية صورة نابضة بالحياة للواقع البشري في مرحلة معينة، تتسلسل على نحو جدلي مع ما يسبقها وما يليها من مراحل.
وفي سياق الإطار الفكري الجدلي العام الذي تحرك فيه هوبزباوم، استهل أول مؤلفاته المهمة «العصاة البدائيون» (Primitive Rebels)، المنشور عام ١٩٥٩، بمقولة أعتقد أنّ المؤرخين العرب المحدثين هم في أمسّ الحاجة إليها لدراسة الماضي والحاضر على حد سواء. فهو يرى أن الحركات الاجتماعية التي حدثت في غرب أوروبا وجنوبها في القرنين التاسع عشر والعشرين، وقام بها فلاحو الأندلس في إسبانيا، وعمال المناجم في درهام في بريطانيا، وحتى المافيا في صقلية، لم تكن وقائع لا يمكن التكهن بها، أو أحداثاً منبتّةَ الصلة بما قبلها وبعدها وحولها. كما أنها ليست من التفاهة إلى حد دفع أكثر المؤرخين إلى تهميشها أو اعتبارها فوراتٍ عرضيةً وحالاتٍ عابرةً من التمرد التلقائي الفاشل (وتلك، في ما أرى، هي المقاربة التي ناقش بها أغلب المؤرخين العرب ظواهر مهمة في التاريخ العربي الإسلامي قبل حركة القرامطة، وثورة الزنج وغيرهما). ويرى هوبزباوم أنّ هذه الحركات، سواء ما نشأ منها عن أصول ريفية أو فلاحية أو برز في المراحل ما قبل الحضرية وقبل الصناعية، تمثل احتجاجاً عنيفاً على القمع والفقر. إنها صرخة للثأر من الطغاة ومن أصحاب الثروة والجاه، وحلم غامض بتقليم أظفارهم وانتزاع أنيابهم، وإزالة أخطائهم وخطاياهم ضد الناس البسطاء العاديين.
وكان طموح هذه الحركات، في جوهره، في غاية البساطة، وهو أن لا يعيش الناس في عالم جديد متكامل، بل في عالم تسوده روح العدل والإنصاف ويعامل فيه الناس على قدم المساواة. إلا أن هذه الحركات التي تتشابه، من حيث طبيعتها، مع جوانب من حروب العصابات الحديثة، كانت جميعها تفتقر إلى عنصرين جوهريين لازمين هما: أيديولوجية متماسكة تحدد الأهداف والمرامي القريبة والبعيدة، وتنظيم مترابط يضم أطراف الحركة ويحدد مسؤوليات الأعضاء فيها ودرجات انتمائهم وأساليب عملهم.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الحركات تظل مسالكَ جانبيةً ومؤشراتٍ بارزة على مسيرة المجتمعات في المستقبل، ومكوناتٍ رئيسيةً في القوة الدافعة التي تحرك مسارات التاريخ البشري. والأهم من ذلك كله أن هذه الحركات الاجتماعية (البدائية) على ما بينها من اختلاف، تمثل آخر الأمر روافد مؤثرة تعزز التوجه نحو التغيرات الكبرى التي تتجلى في التاريخ الحديث في سلسلة من المنعطفات والثورات الحاسمة في العالم، ومنها الثورات الصناعية، والفرنسية، والأميركية، وأخيراً الروسية. ويعتقد إريك هوبزباوم، في هذا السياق، أنّ ما قاله المفكر الإيطالي اليساري أنطونيو غرامشي عن الحركات الفلاحية في جنوب إيطاليا في العشرينيات من القرن التاسع عشر، ينطبق على كثير من الجماعات في عالمنا المعاصر. لقد كانت جماهير الفلاحين، في نظره، «في حالة دائمة من الاختمار، بيد أنّها، بصفتها كتلةً جماعيةً، كانت تفتقر إلى قوة مركزية تعبر عن تطلعاتها واحتياجاتها».
وقد سلك هوبزباوم هذا النهج الاستقصائي المتكامل نفسه في دراساته اللاحقة التي تناول فيها انتفاضة العمال الزراعيين في جنوب وشرق انكلترا عام ١٨٣٠ («الكابتن سوينغ» ١٩٦٩)، والسِيَر السياسية والفكرية لعدد من ثوار القرن العشرين (ثوار: مقالات معاصرة ــ ١٩٧٣)، وسلسلة من الدراسات عن الحركات العمالية في بريطانيا وأوروبا.
وفي جميع هذه الدراسات التحليلية للحركات والأوضاع والظروف الممهدة للتغيرات الاجتماعية الكبرى في التاريخ الحديث، إرتاد إريك هوبزباوم سبيلاً جديداً في التأريخ الاقتصادي والاجتماعي، تبلور بعد ذلك في مقاربات جيل من أبرز العلماء الاجتماعيين في الستينيسات والسبعينيات من القرن الماضي لقضايا التغير الاجتماعي والحركات الاجتماعية والتحليل التاريخي المقارن، ومن بين هؤلاء: تشارلز تيللي Charles Tilly (١٩٢٨-٢٠٠٨)، وثيدا سكوكبول
Theda Skocpol (١٩٤٧)، وأنتون بلوك Anton Blok (١٩٣٥-). وينطلق هؤلاء وغيرهم، على العموم، من عدد من المفاهيم التي أرسى هوبزباوم دعائمها في الدراسات التحليلية، ومن بينها مفهوم «العصيان الاجتماعي»، وما كان، بموجب التعريف «الرسمي»، يُدعى «الجريمة الاجتماعية». ويفسر هذان المفهومان كثيراً من الأنماط المختلفة السائدة في التاريخي والاجتماعي السياسي لمجتمعات متباينة وفي عصور مختلفة. وكانت معظم ظواهر العصيان هذه تُعرَّف، حتى عهد قريب، وفق المنظور التقليدي، حتى في المؤسسات التعليمية، بأنها حركات تمرد تقوم بها جماعات من اللصوص أو المجرمين أو المهمشين من طفيليات المجتمع. وجاءت هذه المدرسة الفكرية الجديدة في العلوم الاجتماعية لتُخرِج هذه الحركات من نطاق الرؤية التقليدية، وتُدخلَها في عداد مظاهر الرفض والاحتجاج على جوانب محددة في الواقع الاجتماعي المؤسسي، وفي سياق تاريخي محدد. وفي هذا السياق، يقول هوبزباوم في سيرته الذاتية «أزمنة لافتة: حياة في القرن العشرين»
Interesting Times: A Twentieth Century Life (٢٠٠٠)، إنه لو لم يكن مؤرخا، لكان عالم اجتماع، ويستدرك قائلا إن المنهجين التاريخي بُعدان متكاملان ووجهان لعملة واحدة هي التي يستخدمها في منظوره التحليلي.
ترتكز منهجية هوبزباوم في التحليل السياسي الاجتماعي على قاعدة معرفية موسوعية حول جميع مناحي الحياة في أوروبا وبقاع كثيرة من العالم في الفترة الممتدة بين بدايات القرن السابع عشر ومطلع القرن الحادي والعشرين في مجالات الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والفنون. وهو يرى أن مهمة المؤرخ هي «اكتشاف الأنماط والآليات التي حولت العالم من حال إلى حال». ولا تقتصر هذه المهمة، في رأيه، على اكتشاف الماضي، «بل تتجاوز ذلك إلى تفسيره، ومن ثَمَّ إيجادِ رابطةٍ تشده إلى الحاضر».
وفي هذا الإطار الذي يتحاشى السرد الوصفي، ويركز على التفسير الاجتماعي لحركة التاريخ، أي «من الأسفل للأعلى»، تمكّن هوبزباوم منذ عقود من وضع سلسلة من الدراسات المَعْلَمية في تحليل التاريخ الحضاري لأوروبا. وإلى جانب هذه الدراسات، نشر مخطوطة كارل ماركس «التشكيلات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية»
Formen, die der kapitalistischen Produktion vorhergehen (١٩٦٤) مترجمة إلى الإنكليزية، بعد أن وضع لها مقدمة نظرية وتحليلية موسعة عن أنماط الإنتاج قبل الرأسمالية. وكانت هذه المقدمة وتلك الوثيقة إضافة نوعية متميزة إلى الأدبيات الماركسية لتحليل المشاعات الاجتماعية القديمة وتبيان أثرها على البنية الاجتماعية. كما أنها كانت تمثل خروجاً عن إطار الماركسية السوفياتية التي حولت إلى نماذج جامدة متحجرة أنماطَ الإنتاج الخمسة المعهودة (المشاعية البدائية، ونمط الرق والسخرة، والنظام الإقطاعي، والنظام الرأسمالي، قبل حلول النظام الخامس المنشود: الاشتراكية والشيوعية).
وقد تخللت هذه المؤلفات دراسات مهمة من بينها «الصناعة والإمبراطورية» (١٩٦٤) عن الثورة الصناعية في بريطانيا، و«الأمم والقومية» في أوروبا منذ العام ١٧٨٠ (١٩٩٠)، وكتب أخرى. إلا أن إنجاز هوبزباوم الأهم والأكثر شهرة وذيوعاً في الأوساط الفكرية والأكاديمية في العالم يتمثل في ما أصبح يسمى «الرباعية»، عن التاريخ الحضاري لأوروبا منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر حتى مطالع القرن الحادي والعشرين، واشتمل ذلك على أربعة مؤلفات مرجعية هي «عصر الثروة - أوروبا ١٧٨٩- ١٨٤٨»(١٩٦٢)، و«عصر رأس المال – ١٨٤٨- ١٨٧٥» (١٩٧٥)، و«عصر الإمبراطورية ١٨٧٥- ١٩١٤» (١٩٨٧). وفي العام ١٩٩٤، استكمل هوبزباوم هذه السلسلة، بإصدار «عصر التطرفات: تاريخ القرن العشرين الوجيز ١٩١٤- ١٩٩١»، عن تاريخ العالم منذ الحرب العالمية الأولى حتى انهيار الاتحاد السوفياتي وأنظمة الكتلة الشرقية في أوروبا، وتغوّل الهيمنة الأميركية على الساحة الدولية. وقد وضع هوبزباوم للترجمات العربية لهذه «الرباعية» مقدمات خاصة طويلة يحلل فيها انعكاسات التاريخ الأوروبي وتداعياته خلال القرنين الماضيين على العالمين العربي والإسلامي. بل إنه أضاف إلى ترجمة «عصر التطرفات» العربية فصلا إضافيا عن أبرز التطورات العالمية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى عام ٢٠١٠.
ولمؤلفات هوبزباوم، في ما نرى، قيمةً وأهميةً متميزتان لدى القارئ والباحث والدارس والناشط العربي، لسببين على الأقل. يتجلى الأول في حرص المؤلف على عرض الآثار والتداعيات التي انداحت على بقاع العالم الأخرى، وبخاصة على المنطقتين العربية والإسلامية، جراء الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية، وحملات نابليون، والتوسع الاستعماري الأوروبي، وبدايات التفاعل الثقافي والعلمي والسياسي الحديث وبين العرب وأوروبا والهيمنة الإمبريالية المعولمة الراهنة.
أما السبب الثاني، فهو ما يؤكد عليه هوبزباوم في المقدمات التي وضعها خصيصاً لهذه للترجمات العربية لسلسلة الأسفار الأربعة التى وضعها عن التاريخ الحديث والمعاصر. فمنذ القرن السابع للميلاد، وعلى مدى ألف عام، كان «الغزاة» يدهمون أوروبا من الشرق لا من الغرب. وعلى الرغم من أن التبادل التجاري كان موصولاً بين الطرفين، إلا أن التحولات المثيرة في أوروبا منذ اندلاع الثورتين الفرنسية والصناعية قد عكست اتجاه الغزو. فمع توسع الأوروبيين الاقتصادي والعسكري، تصاعدت في أرجاء العالم الإسلامي دعواتٌ تُذكي روحَ المقاومة للغزو الأجنبي، وتسرّع بحركات التحرر الوطني، وتحض على الإصلاح الداخلي والتحديث في آن معاً.
ترك إريك هوبزباوم بصماته الفكرية والمنهجية على علم التاريخ الحديث، وأسهم إسهاماً كبيراً في تطوير أساليبه وتوسيع آفاقه. وقد حقق إنجازاته في هذا المجال في أجواء أكاديمية أوروبية لا ترحّب، بالضرورة، بأمثاله من المفكرين، بل تواجههم بالعزوف أحياناً، بل بما يشبه العداء في أحيان أخرى. إلا أن هوبزباوم، على الصعيدين المنهجي والموضوعي في كتابة التاريخ ظل موضع احترام وتقدير كبيريْن في الأوساط العلمية كافة.
الوفاء للرفاق ومناهضة الصهيونية
ومقابل هذا الاحترام والتقدير لإنجازه العلمي، عانى هوبزباوم الكثير بسبب آرائه السياسية؛ فعلى سبيل المثال، تأخرت ترقيته الأكاديمية إلى رتبة أستاذ حتى العام ١٩٧٠، على الرغم من إنتاجه العلمي الرصين وقيامه بالتدريس لمستويات جامعية متقدمة أكثر من عقدين.
وظل هوبزباوم يواجه صنوفاً شتى من النقد لا شأن لها بالنزاهة الأكاديمية أو الأمانة العلمية، تصدر لأسباب واعتبارات سياسية في التحليل الأخير، ومن مصدرين قد يبدوان متعارضيْن في الظاهر إلا أنهما يتقاطعان ويلتقيان في أكثر من ناحية. المصدر الأول هو بعض الأوساط الفكرية اليمينية والليبرالية التي تأخذ على هوبزباوم اعتناقه للشيوعية منذ شبابه، ورفضه الانسحاب من الحزب الشيوعي رغم شجبه للمواقف السوفياتية أكثر من مرة. وتأخذ عليه تلك الاوساط كذلك أنه لم يندد «بما فيه الكفاية» بفظائع ستالين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي . وتتلخص حجة هوبزباوم ضد هذه الانتقادات بأن الحركة التي انتمى إليها هي التي أدت، في المقام الأول، إلى اندحار الفاشية والنازية في أوروبا. ويضيف أنه لا يستطيع، على الصعيدين الشخصي والإنساني، أن يتنكر لماضيه النضالي، لأن كثيراً من رفاقه ضحّوا بأنفسهم وقضوا نحبهم ــ وعلى أيدي رفاقهم أحياناً ــ في سبيل قضية شريفة ومُثُل عليا، وهو لا يستطيع أن يضرب عرض الحائط بما قدّموا من تضحيات. وقد اتسعت الفجوة بين هوبزباوم وهذا الفريق من النقاد بعد انهيار نُظم الحكم الشيوعية في روسيا وأواسط أوروبا، وتزايد معارضته للسياسة والهيمنة الأميركية في الساحة الدولية.
أما المصدر الآخر للنقد الموجه إلى هوبزباوم فإنّ دوافعه السياسية لا تخفى على أحد؛ فهو، باعتباره مفكراً علمانياً وتقدمياً بالدرجة الأولى، يحمل منذ زمن موقفاً معروفاً ومشهوداً من إسرائيل والصهيونية. وخلال السنوات الأخيرة، أدى تشدده في موقفه من إسرائيل إلى تعاظم الحملات الصهيونية عليه. ففي لقاء طويل أجرته معه صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية في سبتمبر/أيلول ٢٠٠٢، يقول بمنتهى الصراحة والوضوح:
«لم أكن صهيونياً قط. ولكن بعد أن قامت إسرائيل واستقر فيها اليهود، لم تعد فكرة إزالتها وإزالتهم واردة. ولم أكن بتاتاً من الداعين إلى تدمير إسرائيل أو إذلالها. نعم، إنني يهودي. ولكن ذلك لا يعني أن عليّ أن أكون صهيونياً ولا مؤيداً بأي شكل من الأشكال للسياسات التي تنتهجها الآن حكومة إسرائيل، وهي سياسات كارثية شريرة؛ إنها سياسات ستؤدي بطبيعتها إلى التطهير العرقي في أراضٍ محتلة».
وفي الفصل الإضافي الأخير من «عصر التطرفات»، حيث يحلل هوبزْباوْم أبرز التطوّرات العالمية خلال العشرين سنة الأخيرة منذ انهيار المنظومة الشيوعية، تثبت الوقائع والتطورات التي نشهدها حولنا بصورة شبه يومية، صدقية الاستشرافات التي يطرحها. وفي معرض الحديث عن الاستراتيجية الأميركية في عهد أوباما يرى أنّ الأخير «قد أهدر فرصته وبددها» و»آفاق المستقبل، في تقديري، ليست مشجعة كثيراً»... ويضيف هوبزْباوْم: «عندما ننظر إلى أكثر مسارح النزاع الدولي سخونةً في العالم، فإنّ حلّ الدولتين، كما هو متصوَّر في الزمن الراهن، لا يفتح أفقاً مستقبلياً يمكن الركون إليه في فلسطين... وأشك في أن يكون الأمر وارداً في اللحظة الراهنة. ومهما كان نوع الحل، فإن شيئاً لن يحصل ما لا يقرر الأميركيون أن يغيروا رأيهم كلياً، ويمارسوا الضغط على إسرائيل، مع انه ليس ثمة ما يشير إلى حصول شيء من هذا القبيل!».
وبين هذا الفريق من النقاد وذاك، مضى إريك هوبزباوم قدماً في ما تبقى من أيامه الحافلة بالإنجازات العلمية والفكرية والمواقف السياسية. ويظل، في كل وقت، يردد عبارته المشهورة: «لقد أنجزت ما أنجزت دون أن أقدم أية تنازلات أو أساوم على الإطلاق».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.