منذ بدء حصار بيروت، انصرف جهد المدافعين عنها الى التفكير في المرحلة التالية والتحضير لها بكافة الوسائل. وكان ابرز المهمات طبعا تنظيم مقاومة الغزو وقد تأكد انه ليس عملية مؤقتة بقدر ما هو احتلال قابل لأن يدوم. وكان ابرز الصعوبات الانتقال من الوجود المسلّح العلني لتنظيمات اليسار الى العمل المقاوِم سواء المدني السرّي او العسكري بكل مستتبعاته البشرية واللوجستية والمعنوية.
توالت الاجتماعات لترتيب انطلاقة مقاومة الاحتلال في أواخر آب/اوغسطس ومطلع ايلول/سبتمبر. انعقد آخرها في عيادة الدكتور حسني كالوت، الموضوعة بتصرّف قيادة الحزب الشيوعي في منطقة كركول الدروز. حضر الاجتماع الرفاق جورج حاوي وخليل الدبس عن الحزب الشيوعي ومحسن ابراهم وكاتب هذه السطور عن منظمة العمل الشيوعي وحسين حمدان عضو المكتب السياسي لحزب العمل الاشتراكي العربي، فرع لبنان. وتقرر فيه العمل المشترك بين التنظيمات اليسارية الثلاثة تحت إسم «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» (جمّول) وسمّي الرفاق الياس عطالله وزهير رحال وحسن حمدان مسؤولين عن الاشراف على العمل المقاوم كل في تنظيمه على ان يتم التنسيق فما بينهم. وكان الرفيق جورج حاوي هو من اقترح اسم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. كذلك إتفق على ان يتولى خليل الدبس وفواز طرابلسي التنسيق بين الحزب والمنظمة على اعتبار انه تقرر ان يتخفّى الامينان العامان. وقد علّق أبو أنيس على الاتفاق ضاحكاً «كل الحركة الشيوعية الآن بيد أولاد مشغرة!». وجرى ايضا التداول في إمكان ان يسكن الامينان العامان معا في مخبإ آمن مشترك. ولكن صُرِف النظر أخيرا عن الفكرة وسكن كل منهما على حدة.
أحاط إلتباسان برواية ذلك الاجتماع الاخير. الاول هو ان جورج حاوي عندما روى وقائع تلك الفترة لغسان شربل في مجلة «الوسط»، سمّى صاحب العيادة «رفيقنا حسين مجذوب»، بدلا من حسني كالوت، او وقع خطأ في نقل غسان شربل للاسم (جورج حاوي يتذكّر، الحرب والمقاومة والحزب، حوارات مع غسان شربل، مقدمة غسان تويني، دار النهار، ٢٠٠٥، ص ٢٨). ووقع إختلاط آخر في اسم الرفيق حسين حمدان عندما تواترت روايات تقول إن المسؤول الثالث الذي وقّع على بيان الدعوة الى المقاومة المسلحة للاحتلال الاسرائيلي، إضافة الى جورج حاوي ومحسن ابراهيم، هو الرفيق الراحل حسين حمدان (ابو فادي) عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني، بدلا من حسين حمدان، ممثل حزب العمل، الذي حضر اجتماع التأسيس لكنه لم يوقّع على البيان.
سبقت اجتماع كركول الدروز عدة اجتماعات دارت كلها مدار ترتيبات ما بعد الغزو. انعقد اجتماع موسع بين قيادتي الحزب والمنظمة تناول الحركة الوطنية اللبنانية اختلف خلاله الامينان العامان حول مصيرها. إقترح الرفيق جورج ان يتخلّى الشيوعيون، ممثلين بشخص محسن ابراهيم، عن الامانة العامة التنفيذية للحركة، وتشكيل امانة عامة من ثلاثة شخصيات مستقلّة. خالفه الرفيق محسن. وكانت حجة جورج ان التنازل ضروري لانقاذ الحركة. لم يمكن انقاذ الحركة اصلا. حسم وليد جنبلاط الامر، بصفته رئيس الحركة الوطنية، ربما نزولا عند شرط عربي ودولي حاسم، إذ طلب وليد وقف نشاط الحركة الوطنية وحل مؤسساتها، وهذا ما حصل.
خلال تلك الفترة التحضيرية، انعقدت ايضا اجتماعات مشتركة عديدة بين الامينين العامين للحزب والمنظمة وقادة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية قبل خروجهم من بيروت. وقد حضرتُ الاجتماع الاخير مع الرفيقين جورج حبش، الامين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة، الامين العام للجبهة الديمقراطية الشعبية لتحرير فلسطين، الذين إنعقد في احد مقرّات ابو انيس السرّية، في الطبقة الرابعة تحت الارض من مبنى كان لا يزال قيد البناء في شارع كليمنصو مقابل نزلة عين المريسة. وقد إتفق في ذلك الاجتماع على ان تدعم الجبهتان المقاومة اللبنانية وان يشارك مناضلو الجبهتين في عمليات المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي على الاراضي اللبنانية تحت إسم «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية».
في صباح يوم ١٦ ايلول/سبتمير، التقى الرفيقان جورج ومحسن في شقتي في الزيدانية، وكنت فيها والرفيق زهير رحال، وتوجّها منها بعد ان إنضم اليهما الرفيق مصطفى احمد (عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني حاليا ) الى منزل كمال جنبلاط بإنتظار مجيء باقي قادة الحركة الوطنية. ولما لم يتمكن احد غيرهما من الوصول، انتقلا الى مركز تجمع الشبيبة الديمقراطية غير البعيد عن بيت جنبلاط حيث كتبا البيان وأرسلاه للنشر في الصحف (انظر: مصطفى احمد، جريدة السفير، ٦/٨/٢٠٠٥).
هكذا انطلقت «جمّول». وانتشرت في سائر المواقع اللبنانية.
قاوم المدافعون عن بيروت الحصار الاسرائيلي وقاوموه عندما تقدمت قواته لاحتلال عاصمة لبنان ولم يتركوه يرتاح طوال فترة احتلاله بيروت الى ان غادر. لم يتجاوز وجود القوات الاسرائيلية في بيروت الاسبوعين. بدأت بالانسحاب من بيروت يوم ٢٧ ايلول/سبتمبر، بعد ان مهّدت لمجزرة صبرا وشاتيلا وأسهمت في تنفيذها وتغطيتها. لن ينسى من كان حينها في بيروت مشهد الانسحاب. خرج الجنود الاسرائيليون محمّلين في شاحناتهم وآلياتهم تتقدمهم سيارات «جيب» عليها مكبّرات صوت تهيب بأهل بيروت «لا تطلقوا النار علينا، اننا منسحبون». كتب روبرت فيسك، مراسل «التايمز» اللندنية، في تقريره عن ذلك اليوم ان الإنسحاب تم «في الوقت المناسب ... كانت عمليات الاغتيال ضد افراد القوات الاسرائيلية في بيروت تتوالى بمعدل واحدة كل خمس ساعات. وكان الجنود الاسرائيليون قد بدأوا يتورطون في حرب عصابات ضدهم.» (جريدة التايمز، ٢٧ايلول/ سبتمبر ١٩٨٢). وسجّلت جريدة «النهار» في زاوية «اسرار الآلهة » نبذة تقول إن عمليات «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» قد عجّلت في اتخاذ العدو قراره بالانسحاب من عاصمة لبنان.
باقي القصة معروفة في خطوطها العريضة وإن يكن يعوزها التوثيق والتدقيق وشهادات البطلات والابطال الذي صنعوها. ما هو ليس معروفا بما فيه الكفاية عن بدايات «جمول» هو إسم شهيدها الاول: مهدي مكاوي، المقاتل في منظمة العمل الشيوعي، الذي سقط مطلع تشرين الاول/اكتوبر على محور الشويفات خلال كمين نصبه ورفاقه في «جمّول» للقوات الاسرائيلية المنسحبة من بيروت والمتمركزة في المطار وجواره.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.