١٨ تشرين الثاني ٢٠١٢ يوم سيتذكره جيدا عمال لبنان ونقابيوه على أنه بداية لمرحلة تأسيس النقابات المستقلة. في هذا اليوم، جرت انتخابات نقابة العاملين في مؤسسة سبينيس لبنان. فبعد أشهر من التنكيل بالنقابيين، تهديدا وصرفا واعتداء، أصبحوا يتمتعون بالحماية القانونية بعد إجراء انتخابات لانتخاب مجلس النقابة.
فشلت الإدارة في تطويع القضاء لمصلحتها. تقدم عدد من عمال الشركة المدفوعين منها بشكوى قضائية من أجل تأجيل الانتخابات بداعي «التسييس». ترافق ذلك مع إقدام الإدارة مرة أخرى على إذلال موظفيها عبر الضغط عليهم لتوقيع عريضة لوزارة العمل تعلن رفضهم النقابة. فما كان من قاضي الأمور المستعجلة في بيروت نديم زوين إلا أن رد طلب الجهة المستدعية معللا ذلك بـأن: «التدبير يمس الحقوق النقابية المصانة دستوريا وقانونا ولا يجوز لقاضي الأمور المستعجلة التدخل بموجب أمر على عريضة، وبصورة مسبقة، لإجابة الطلب إلا متى كان في القضية أسباب قانونية مبررة مهمة وثابتة بشكل واضح.» صدّ قرار القاضي مرة أخرى محاولات إدارة الشركة التدخل في الشؤون النقابية وحرمان عمالها من حق التنظيم النقابي.
جهد الكثير من الكتاب والصحافيين والناشطين أخيراً في كتابة مقالات عدّة، للتأكيد على فكرة واحدة مفادها أن لا صراع طبقياً في لبنان. وذهب أكثرهم تشاؤما إلى حد القول إنّ لا وجود لطبقة عاملة أصلاً، وأنّ الوعي الطائفي متأصل في النفوس، وهو بالتالي المحرك الأساسي لأي فعل سياسي، حتى وإن اتخذ طابع الاحتجاج الاجتماعي. إلا أنّ المعارك ذات الطابع العمالي والنقابي التي يشهدها لبنان في الفترة الأخيرة، في أكثر من قطاع، عادت لتبيّن، بعكس زعم هؤلاء، أنّ الصراع الاجتماعي والطبقي والخارج عن الاصطفاف السياسي/ المذهبي موجود، حتى وإن افتقر إلى التنظيم بفعل عوامل ذاتية داخلية وسياسية واقتصادية وتاريخية، إلا أنه ليس من المستحيل أن يعود فيطوّر أدواته التنظيمية والسياسية. ولذلك، من المهم إعادة الاعتبار إلى دوره كرافعة أساسية لأي تغيير في البنية الاقتصادية وربما السياسية الموجودة. وفي هذا الإطار، تكتسب قضية عمال شركة «سبينيس» أهمية كبيرة كونها ترسم ملامح عودة قوية لحراك عمالي ونقابي يمثل مصالح العمال فعلياً، خصوصاً أنّها أول نقابة عمالية مستقلة في القطاع الخاص يتم تأسيسها في لبنان، منذ عقود.
بين تعسف الإدارة وتآمر وزير العمل
تعود بداية معركة عمال «سبينيس» إلى اليوم الذي تبلغوا فيه قرار إدارة الشركة بعدم الالتزام بتطبيق مرسوم تصحيح الأجور رقم ٧٤٢٦ الصادر عن مجلس الوزراء. عللت الادارة قرارها بأنّ الزيادة «لا تتناسب مع حصّة الفرد في الناتج المحلي، ولا تتماهى مع سلوك الاقتصاد الناجح، فضلاً عن أنها ستؤدي إلى زيادة معدلات التضخمّ في السوق». واردفت أنّ «تطبيق هذه الزيادة الكبيرة بالصيغة الواردة في المرسوم يؤدّي إلى إنهاء خدمات ٣٠ بالمئة من الموظفين»، علماً أنّ سلسلة «سبينيس» على امتداد الشرق الأوسط تحقق أرباحاً ضخمة تصل إلى نحو مليار دولار سنوياً، بالاستناد إلى تصريح سابق لمديرها التنفيذي. وقد مكنتها الارباح التي تجنيها من التوسع بشكل مطرد والى افتتاح ثمانية فروع في لبنان وحده.
لا شك في أنّ مخالفة إدارة «سبينيس» للقوانين بالشكل العلني ذاك، ما كانت لتكون لولا تمتعها بالحماية السياسية. فهذه الشركة التجارية الخاصة ترتبط مصالحها بمصالح عدد من السياسيين اللبنانيين كجبران طوق وياسين جابر ومصباح الأحدب وغيرهم. هؤلاء يؤجرون الشركة أراضي تقيم عليها فروعها، مقابل توسطهم لتوظيف عدد من العمال، يتحوّلون إلى قوى انتخابية عند كل استحقاق. هكذا تتغذى القوى الرأسمالية في لبنان من الفساد السياسي والزبائنية، فتتبادل الدعم والتغطية على المخالفات ويقوي الواحد منها الآخر.
وقد اثار قرار إدارة الشركة بلبلة كبيرة بين الموظفين والعمال، ودفع الموظف سمير طوق وعدداً من زملائه إلى المبادرة لتوقيع عريضة اعتراضاً على هذا القرار وإيصالها إلى الإدارة. فردّت على هذه الخطوة بشكل انتقامي عبر صرف طوق تعسفياً، والضغط على الموظفين الآخرين لسحب تواقيعهم.
دفع تعسف الإدارة ببعض الموظفين والعمال إلى التفكير بإنشاء نقابة للدفاع عن حقوقهم وحقوق زملائهم. فبدأت الاتصالات في ما بينهم وخاصة في فرعي «سبينيس» في منطقتي ضبيه والأشرفية. تم بالفعل إنشاء هيئة تأسيسية للنقابة مكونة من ١٢ عضواً، وتقدمت بطلب ترخيص إلى وزارة العمل. إلا أنّ وزير العمل اللبناني سليم جريصاتي وضع طلب الترخيص في الدرج، وامتنع عن التوقيع عليه معطياً بذلك فرصة إدارة «سبينيس» فرصة للتخلص من أعضاء الهيئة التأسيسية، واحداً تلو آخر. لم تتردد الإدارة للحظة. صرفت رئيس الهيئة التأسيسية ميلاد بركات ذاكرة صراحة أنّ أسباب الصرف تتعلق بنشاطه النقابي (تحريض العمال والعاملات، تعليق لافتات خاصة بالنقابة، اعطاء تصريحات صحافية، الخ.) كما عمدت إلى ممارسة الضغط على الموظفين والعمال لثنيهم عن الانضمام إلى النقابة وإلزامهم بتوقيع عريضة رفعتها إلى وزارة العمل تنص على أن العمال والموظفين يرفضون تأسيس النقابة، وأنّ المؤسسين أصحاب غرض سياسي، وهو ما تذرع به جريصاتي لتبرير تأخير التوقيع على طلب الترخيص وتأخير منح المؤسسين حصانة قانونية.
استمر أعضاء الهيئة التأسيسية بشجاعة قل نظيرها في فضح انتهاكات ادارة «سبينيس» لأجرائها، وتقدموا بشكويين إلى وزارة العمل والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، يطلبون فيهما التحقق من مدى التزام «سبينيس» بالقوانين. وعلى الأثر، وضع مفتش وزارة العمل تقريراً يثبت وجود مخالفات واسعة تتعدى عدم تصحيح الأجور إلى وجود عدد كبير من العمال لا يحصلون على أجر وغير مسجلين بالضمان، يعملون بصفة حمّالين، ويلزم كل واحد منهم بدفع «خوّة» مقدارها خمسة آلاف ليرة يومياً للشركة مقابل عملهم لديها في تحميل الأكياس للزبائن. أي أنّ هؤلاء يعملون بالسخرة مقابل الإكراميات. ذلك فضلاً عن وجود موظفات وموظفين يعملون بالساعة من دون التصريح عنهم لصندوق الضمان الاجتماعي.
وفي هذه الأثناء استمرت الإدارة بترويع النقابيين، فعمدت إلى إبلاغ عضو الهيئة التأسيسية مخيبر حبشي بصرفه عن العمل. وهو قرار عادت عنه بعد يوم واحد على أثر حملة الاستنكار الواسعة التي أثارها قرار الصرف من قبل ناشطين ونقابيين ومحامين وصحافيين، كانوا داعماً أساسياً لهذه النقابة الوليدة.
النقابة وحالة التضامن
منذ بداية التحرك، لاقت قضية عمال وعاملات «سبينيس» تجاوباً من قبل بعض وسائل الإعلام، ولم يخلُ الأمر أيضاً من دعم قوى سياسية واجتماعية ونقابية شكلت حالة من الإسناد لنضالهم. وبالفعل، فإن حالة الاحتضان الذي لاقته النقابة الناشئة من قبل ناشطين في لبنان قل مثيلها. إذ لم يحدث أن حصل دعم إعلامي ونقابي وسياسي لقضية عمالية كالذي حصل مع قضية عمال «سبينيس». فعلى المستوى الإعلامي، كانت الصفحة الاقتصادية في جريدة «الأخبار» السباقة في متابعة انتهاكات الشركة لحقوق الأجراء (وجرى لاحقاً معاقبة الجريدة عبر قرار الشركة بمنع بيعها وتداولها بين موظفي «سبينيس») ولحقت بـ«الأخبار» وسائل إعلامية وصحف أخرى كـ«السفير» والـ«أل بي سي»، فيما غابت هذه القضية، بشكل كلي أو تم عرضها بشكل هامشي في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى بسبب الضغوط التي مارسها مدير الشركة مايكل رايت على إدارات الوسائل الإعلامية. هكذا، عمدت الـ«أو تي في» مثلاً إلى عدم معاودة بث مقابلة أجرتها مع وزير العمل السابق شربل نحاس تطرق فيها إلى انتهاكات الشركة الفاضحة لحقوق العاملين.
أما على المستوى النقابي، فلم تغب قضية العاملين في «سبينيس» عن بيانات «الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين» الذي كان له دور بارز برفع الشكوى بانتهاكات الشركة إلى وزارة العمل. كذلك، بيانات «النقابة العامة للعاملين في المطابع والإعلام» و«اللقاء النقابي التشاوري» الذي نظم أيضاً لقاء تضامنياً في قصر الأونيسكو، و«مركز التدريب النقابي» الذي يساهم في التدريب والتثقيف النقابي لأعضاء الهيئة التأسيسية. كما حضرت وجوه نقابية من أساتذة وعاملين في المصارف وفي قطاعي الاتصالات والمستشفيات وغيرها إلى لقاءات تضامنية أخرى.
ولاقت قضية العاملين في «سبينيس» دعما سياسيا من وزير العمل السابق شربل نحاس وناشطين مستقلين ومجموعات يسارية ونسوية ومنهم من عمد إلى إنشاء «جمعية أصدقاء عمال سبينيس» التي نظمت اعتصاما أمام فرع «سبينيس» في منطقة الأشرفية في بيروت، لاستنكار سياسة صرف النقابيين والمطالبة بإعادتهم. كما تداعى عدد من الأحزاب السياسية، من اليمين واليسار، إلى لقاء تضامني مع العمال والعاملات في نادي الصحافة. أما على المستوى الدولي، فكان لرسالة الدعم التي أرسلتها منظمة العمل الدولية إلى أعضاء الهيئة التأسيسية أثر كبير في رفع معنوياتهم. وقد ادى صمود أعضاء الهيئة التأسيسية وحالة الاحتضان لحركتهم إلى تحقيق عدد من الانتصارات لصالح العمال والعاملات في الشركة.
انتصاران عبر القضاء والضمان
تعلّم نقابيو «سبينيس» سريعاً من تجربتهم ومن التضامن المؤثر الذي يحصلون عليه من أكثر من جانب. فتجربتهم تدفع بهم إلى أن يجمعوا بين خوض المعركة القانونية ضد الشركة لحفظ حقوقهم، وخوضها بوسائل أخرى عبر تنسيب المزيد من العمال إلى النقابة وإصدار البيانات والتصريح للإعلام والمشاركة في الفعاليات التضامنية. وقد أثمر نضالهم انتصارين شديدي الأهمية تمثلا أولاً برضوخ إدارة الشركة لقرار صندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالتصريح عن ٤٥٠ عاملاً وعاملة للصندوق يعمل أغلبهم حمالين من دون أجر. أما الثاني، فتمثل بالحكم التاريخي الذي أصدرته قاضية الأمور المستعجلة في بيروت، زلفا الحسن، التي منحت من خلاله حماية قضائية لحرية التنظيم والنشاط النقابيين لعمال شركة «سبينيس». فقد منعت القاضية بموجب هذا القرار الشركة من صرف أعضاء الهيئة النقايبة «وذلك خلال مدة أسبوعين من تاريخ صدور القرار الراهن، تحت طائلة غرامة إكراهية قيمتها مئة مليون ل.ل. عن كل مخالفة»، قابلة للتجديد إلى حين إفراج وزير العمل سليم جريصاتي عن الترخيص.
ولقرار القاضية هذا أهمية كبيرة إذ ملأ ثغرة في قانون العمل. فهذا الأخير لا يحمي العمال والعاملات الذين يبادرون إلى تأسيس نقابة في المرحلة ما بين إيداع طلب الترخيص أمام وزارة العمل والحصول عليه. فالشركة استغلت هذه الثغرة القانونية وحاولت التخلص من القيادات العمالية داخل الشركة وبالتالي محاولة إجهاض النقابة وتفريغها من أعضائها قبل ان يتسنى لها الحصول على ترخيص. فأتى قرار القاضية هذا ليكفل الحقوق والحريات الأساسية للعمال المكرسة وفق المعاهدات الدولية والنصوص والمبادئ القانونية كحقهم بالتمتع ببيئة عمل سليمة خالية من عوامل الضغط والترهيب، وحقهم، وبخاصة النقابيين، بحماية فعلية إزاء التدابير التعسفية للشركة ضدهم، وكذلك حقهم بالتمتع بالحرية النقابية وبإنشاء نقابات تمثل مصالحهم.
يقدّم عمال وعاملات الـ«سبينيس» اليوم نموذجاً عمالياً نضالياً على صعيد التنظيم الذاتي والنضال المدروس لأجل مطالب بديهية للطبقة العاملة في لبنان. وهم يقفون بشجاعة في وجه إجراءات الشركة الانتقامية ضد النقابيين، من خلال عمليات الضغط والترهيب التي تمارسها الإدارة على العمال بهدف التأثير على العضوية النقابية للعمال. ومما لا شك فيه أنّ نضال عمال وعاملات «سبينيس» مؤشر على أن قيام حركة نقابية مستقلة وحرة تمثل مصالح العمال هو أمر ممكن. كما أنّ نجاح تجربتهم يتيح نقلها إلى المزيد من المؤسسات، وبالتالي إعادة الاعتبار إلى الصراع العمالي والاجتماعي في لبنان.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.