العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

مصر: ثورة يناير تطلق النقابات العمالية المستقلّة

النسخة الورقية

تعتبر المرحلة الانتقالية الحالية مرحلة حرجة بالنسبة إلى الثورة المصرية. إذ رغم أنّ الثورة المضادة لم تنتصر بشكل واضح، مع هزيمة مرشح النظام السابق أحمد شفيق في الانتخابات الرئاسية، وعلى الرغم من انتخاب رئيس مدني لأول مرة، إلا أنّ هذا التحوّل شكلي، إذ لم يحدث تغيير لا في سياسات النظام الحاكم الخارجية عن سابقتها، ولا تغييرات على مستوى السياسات الاقتصادية والاجتماعية. لا تزال سياسات النيوليبرالية نفسها تنفّذ، والموازنة ذاتها من عهد مبارك تقر الآن. كذلك بقيت سياسة الاقتراض من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، مع الخضوع لشروطهما التي تزيد من إفقار غالبية الشعب المصري. لم يحدث أي تغيير في السياسات المنحازة لأصحاب الأعمال ضد العمال بحجة تشجيع الاستثمار، وتحريك عجلة الانتاج، وغيرها من الأقوال التي ما زلنا نسمعها، بل إن الأمر في الأيام الأخيرة تعدى ذلك بحيث أصبح نظام محمد مرسي يضطهد العمال ويصدر الاحكام عليهم بتهم التحريض على الإضراب. كذلك يلقى القبض على العمال والعاملات من منازلهم بالتهم نفسها، وحتى في حالة الإفراج المؤقت يتعمدون رفع قيمة الكفالة التي يعجز العمال والموظفون عن دفعها. وهذه الحرب التي يتعرض لها العمال ونقاباتهم أخيراً بشراسة أكثر من أي وقت سابق، تجعلنا نفتح ملف علاقة الطبقة العاملة المصرية بالثورة، ونحاول فهم هذه العلاقة، وأين نقاط الضعف في حركة الطبقة العاملة وما سبل معالجتها، وأين نقاط القوة لكي نركز ونبني عليها.

النقابات المستقلة لعمال وفلاحي وصيادي وعموم حرفيي ومهنيي مصر تعتبر حدثاً جديداً في الساحة المصرية، لا بد من النظر إليه ودراسته من هذا المنطلق، خصوصاً لأنه أحد أهم مكتسبات الثورة المصرية. كما أنّ التنظيم داخل المجتمع المصري كان أحد أهم الشروط التي لم تكن متوفرة بعد إطاحة الديكتاتور مبارك، والتي لو كانت متوفرة لما دخلنا في المتاهات التي نسير فيها الآن. فلو كنا منظمين في نقابات وأحزاب ولجان شعبية وغيرها، لاستطعنا فرض مسارات مختلفة، ولعل أهمها أن لا يأتي العسكر للحكم بعد إطاحة حاكم عسكري. ولعل أهمية التنظيم وفي القلب منها تنظيم الطبقة العاملة، هو ما يفسر الحرب التي تشن علي العمال ونقاباتهم الناشئة من قبل الثورة المضادة، وكان في مقدمتها المجلس العسكري منذ إزاحة مبارك. وهذه الحرب مستمرة حتى الآن بل وتزداد شراسة يوماً بعد يوم.

فبعد إطاحة مبارك، وتشكيل أول حكومة برئاسة عصام شرف، عيّن لأول مرة وزير قوى عاملة ليس نقابياً من التنظيم الأصفر، بل أستاذ قانون ومن أهم مستشاري منظمة العمل الدولية، وهو الدكتور أحمد حسن البرعي. وهو كان ممن يطالبون بالحرية النقابية تطبيقاً للاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها مصر، وكان قد أعلن تأييده سابقاً للنقابات المستقلة التي نشأت قبل «٢٥ يناير»، وأولها نقابة موظفي الضرائب العقارية المستقلة. بعد تعيينه، اتفق مع منظمة العمل الدولية على رفع اسم مصر من القائمة السوداء في مقابل إعلان الحرية النقابية، وأصدر أوامره لموظفيه في الوزارة والمديريات لكي يتلقوا أوراق الإيداع الخاصة بالنقابات المستقلة. كما وعد بسرعة إصدار قانون الحريات النقابية الذي سينهي مرحلة الأحادية في النقابات والتي استمرت لأكثر من ستين سنة. هكذا وصلت اعداد النقابات الجديدة حتى أيار/مايو الماضي ٨٦٠ نقابة مستقلة.

ما الذي مهد لنشأة النقابات المستقلة؟

منذ أكثر من ستين عاماً وعمال مصر محرومون من حقهم في التنظيم بعد أن تم تأميم نقابات العمال التي كانت موجودة وفاعلة قبل حركة ضباط يوليو. وبناء اتحاد عمال مصر في ١٩٥٩ بشكل هرمي (لجان نقابية في مصانع وإدارات ومستشفيات- نقابات عامة- اتحاد عام) سحب كل الصلاحيات من النقابات القاعدية المرتبطة بالعمال بالفعل، واعطاها للمستويات الأعلى. هكذا انتقلنا من ١٤٠٠ نقابة منتشرة أفقياً قبل التأميم، إلى ٢٣ نقابة عامة فقط، تضم جميع اللجان النقابية. ايداع الصلاحيات لدى مجلس إدارة الاتحاد جعل مهمة أجهزة الأمن وأجهزة الدولة سهلة في السيطرة على الاتحاد وبالتالي على النقابات.

وبحكم هذه النشأة وهذه التركيبة فاتحاد عمال مصر منذ تأسيسه كيان تابع للحكومات المتتالية طوال الوقت، يحاول أن يسيّد وجهات نظرها وسط العمال، حتى لو كانت وجهات النظر هذه والسياسات ضد مصالحهم. فقد وافق على سياسة الخصخصة التي خربت المصانع والشركات وشردت العمال، كما وافق على منظومة القوانين التي تتماشى مع سياسة الليبرالية الجديدة.

كذلك استُخدم من قبل كل الرؤساء في المراحل المختلفة، كل لمصالحه. فاستخدمه السادات في انقلاب ١٩٧١ (ما يعرف بثورة التصحيح)، وكذلك في حشد العمال في مناسبات معينة، مثل استقبال الرئيس الأميركي بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد. كما أدان الاتحاد إضرابات العمال في المحلة وحلوان في بداية السبعينيات، وظل في إدانته للاضرابات في كل موقع تطلب منه الحكومة ذلك، آخرها إضرابات عمال غزل المحلة في ٢٠٠٦، والضرائب العقارية، والمطاحن وغيرها. ووضعت قيادات الاتحاد نفسها في الخندق نفسه مع نظام حسني مبارك، فبدلاً من أن يقفوا مع عمال مصر كانوا في صف النظام يحاولون إجهاض الثورة. ورئيسه حسين مجاور مع وزيرة القوى العاملة عائشة عبد الهادي، وهي من قادة الاتحاد قبل إلحاقها بالوزارة، كانوا ممن خططوا ونظموا ما عرف بموقعة الجمل.

ولم تكتفِ قيادات الاتحاد بذلك بل إنهم مع انتخابات الرئاسة في مرحلتها الأخيرة، اختاروا الاعلان عن انحيازهم لرجل النظام القديم أحمد شفيق، وما إن أعلنت النتيجة حتى كان عليهم البحث عن طريقة لتملق الرئيس الجديد، فلم يجدوا سوى حق عمال مصر في الإضراب لكي يقدموه قرباناً له، فتوجهوا إليه بمبادرة وقف الاضرابات والاعتصامات لمدة عام (لكن طلبهم لم يؤثر على موقف العمال).

دور العمال في الثورة

هناك وجهتا نظر في الثورة المصرية، إحداهما تقول بأنّ الثورة ولدت يوم ٢٥ يناير/ كانون الثاني ٢٠١١ وبالتالي فهي ثورة شباب الفايس بوك الذين اخذوا مبادرة الدعوة إلى التظاهر في هذا اليوم ضد سياسة الداخلية يوم عيدها، وضد سياسات القمع والتعذيب، ومطالبين بالديمقراطية ومحاسبة الطغاة الذين عَذبوا. وهناك وجهة النظر الأخرى والتي أتبناها، ومفادها أنّ الثورات لا تولد بدون سابق إنذار، وأنّ مراحل المخاض فيها قد تمتد لعشرات السنين، وهذا ما حدث في مصر. إذ إنّ الحراك الشعبي في مصر لم يتوقف منذ بداية القرن، وظل في تصاعد مستمر حتى صبيحة ٢٥ يناير/ كانون الثاني، وكل مراحل الصراع الطبقي في العشر سنوات السابقة كانت تمهيداً لهذا اليوم. والمخاض الحقيقي للثورة لم ينته بإزاحة مبارك بل هو مستمر لحين تحقيق شعاراتها ومطالب الشعب المصري وأحلامه. وقد أخذ الصراع الطبقي عدة أشكال. فقد بدأ في ٢٠٠١ بالحركة الواسعة للتضامن مع انتفاضة الشعب الفلسطيني، والتي عرّت النظام المصري وفضحت دوره المتواطئ في القضية الفلسطينية، ثم تلاها الحراك ضمن الحركة العالمية ضد الحرب في العراق، والتي كانت ذروتها في يومي ٢٠-٢١ مارس/ آذار ٢٠٠٣، والتي توجه فيها عشرات الآلاف من المتظاهرين الغاضبين بالنقد مباشرة ضد النظام الحاكم ورئيسه مبارك. وبان ذلك في هتافاتهم، وكذلك في تكسير صورة مبارك ودوسها. وقد ذكّر هذا النظام بانتفاضة ١٩٧٧، وجعله يتصرف بعنف شديد حتى ضد شخصيات عامة وبرلمانيين سحلهم في الشارع، واقتحم نقابات مهنية مثل نقابة المحامين لكي يختطف المعتصمين بداخلها، ويعتدي عليهم ويعتقلهم.

بعد ٢٠٠٣، بدأت مرحلة جديدة من الصراع الطبقي في مصر. مرحلة وجهت فيها الحركة نقدها وسهامها بشكل أساسي للنظام. فكانت حركة واسعة للمطالبين بالعمل في عدد من المحافظات، وحركة الفلاحين الذين يطردون من أراضيهم بعد صدور قانون ٩٦ لسنة ١٩٩٢، وكذلك احتجاجات العطشانين الذين يطالبون بالمياه ليشربوا ويسقوا زرعهم. وكذلك كان لدينا معركة القضاة المطالبين باستقلال القضاء، والتحركات ضد التوريث لجمال مبارك، وضد التمديد لمبارك. هذه الحركات والوقفات التي لم يشارك فيها وقتها عامة الشعب، قامت بفتح كوة صغيرة عبر جدار الديكتاتورية السميك، والذي عبرت منه وقامت بتوسيعه بعد ذلك الكثير من الحركات (نذكر منها اضراب أكثر من ٢٤ ألف عامل بغزل المحلة، وأكثر من ٥٥ ألف موظف بالضرائب العقارية اللذين تمكنا من ليّ عنق الحكومة وتحقيق مطالبهم).

علي الرغم من أهمية عام ٢٠٠٧ بالنسبة للحركة العمالية، إلا أنه لا يمكن أن نتحدث عن كون الصعود في الحركة قد بدأ منها، خصوصاً على مستوى عدد الاحتجاجات. إذ يمكن ملاحظة أن عدد الاحتجاجات حقق طفرات متتالية منذ بداية الألفية الجديدة مقارنة بالوضع في التسعينيات، حيث وصل إجمالي الاحتجاجات العمالية في ١٩٩٨ إلى ٤٢ احتجاجا، ثم قفز هذا العدد في نهاية عام ٢٠٠٠ إلى ١٣٥ احتجاجاً، وتوالى الارتفاع ليصل في عام ٢٠٠٤ إلى ٢٣٥ احتجاجا (١).

ثم تضاعف هذا العدد أكثر من ثلاث مرات عما قبله بعد اضراب عمال غزل المحلة وموظفي الضرائب العقارية، فقد كان عدد الاحتجاجات في ٢٠٠٧ حوالي ٧٥٦ احتجاجاً [٢]، وانخفض في ٢٠٠٨ إلى ٧٠٨. وقد كانت الأشهر الأقل عدداً في الاحتجاجات خلال ٢٠٠٨ هي أبريل/نيسان ومايو/ايار ويونيو/حزيران (الأشهر التالية مباشرة لأحداث ٦ أبريل/نيسان بالمحلة). وفي ٢٠٠٩ كان عدد الاحتجاجات ٧٤٢، وقد بلغ عدد الاحتجاجات حتى شهر مايو/ايار ٢٠١٠ ٤٨٣ احتجاجاً، وهو ما يعني زيادة عدد الاحتجاجات عن كل السنوات الماضية، إذ اقترب عددها من ٥٠٠ في خمسة أشهر فقط.

والحقيقة أنّ القفزة الأخيرة في ٢٠٠٧ في التحركات العمالية لم تكن على مستوى حجم الاحتجاجات فقط، لكن كان هناك تحول نوعي في طبيعتها وحركتها منذ ذلك التاريخ، لتدخل الحركة العمالية خلال العامين التاليين في مرحلة جديدة لم تشهدها الطبقة العاملة المصرية منذ أربعينيات القرن الماضي.

ملامح التحوّل في طبيعة الاحتجاجات العمالية

أ- دخول قطاعات هامة وذات ثقل كبير إلى حلبة الصراع: في مقدمتها قطاع الغزل والنسيج، وبالتحديد بقايا القطاع العام القديم الذي لعب دور القائد للحركة في هذه الفترة، نظراً لما يتوافر لديه من مزايا غير موجودة لدى نظرائه في القطاع الخاص المنتشر في المدن الجديدة مثل العاشر من رمضان وغيرها، من تركز لأعداد كبيرة في المصانع والشركات. إذ في غزل المحلة كان هناك ٢٤ ألف عامل، وفي غزل كفر الدوار ١١ ألف عامل. هذا بالإضافة للخبرة النضالية والتاريخ النضالي لهذه المواقع، فقد بلغت نسبة الاحتجاجات في قطاع الغزل والنسيج في ٢٠٠٧، ١٨.١٪ من إجمالي عدد الاحتجاجات، ثم انتقل هذا التأثير إلى قطاعات أخرى مثل النقل العام والسكة الحديد. فقد بلغت نسبة احتجاجات العاملين في قطاع النقل والمواصلات في ٢٠٠٧، ١١.٤٪، ووصلت في ٢٠٠٨ لـ ١٤.٨٪.

وفي ظل وضعية الطبقة الحاكمة ونظامها السياسي في تلك اللحظة، استطاعت هذه الدفعة الحصول على مكاسب كبيرة وصلت إلى درجة تعميم بعض مكاسب عمال غزل المحلة (بدل الوجبة والأرباح،) على قطاع الغزل بأكمله.

ب- دخول قطاعات جديدة في الاحتجاج: سقطت حواجز الصمت عن قطاعات أخرى كنا نظنها أبعد فئات العاملين بأجر عن الانضمام لحركة الاحتجاج، ونقصد هنا موظفي الدولة والمهنيين أمثال الأطباء والمعلمين، الذين كان المجتمع ينظر لهم قبل ذلك باعتبارهم فئات مميزة. اعلن هؤلاء بحركتهم ومطالبهم بؤس أوضاعهم الطبقية، التي تدهورت بشدة تحت وطأة سياسات الليبرالية الجديدة. وكان المثال الأشهر في هذه الحالة حركة موظفي الضرائب العقارية، فقد شجع انتصارهم نظراءهم في دواويين حكومية أخرى على الاحتجاج رغم عدم قدرتهم على إحراز النجاح نفسه، إلا أن بعضهم استطاع الحصول على بعض المكاسب.

ثم انتقل مركز ثقل الاحتجاجات العمالية من حيث العدد من عمال القطاعات الصناعية إلى قطاعات الخدمات بداية عام ٢٠٠٨. فقد كانت نسبة الاحتجاجات في قطاع الخدمات، ٤١.٤٪ في عام ٢٠٠٧، ثم أصبحت، ٤٨.٩٪ في عام ٢٠٠٨، ووصلت في عام ٢٠٠٩ إلى ٥٨.١٪. وقد وصل خلال شهر مايو/ ايار ٢٠١٠ عدد الاحتجاجات في قطاع الخدمات إلى ٥١ من إجمالي ٩٦. في حين أنّ الاحتجاجات في القطاعات الصناعية كانت ١٨ احتجاجاً فقط، وقد كان في مقدمة المحتجين في القطاعات الخدمية العاملون في قطاعي التعليم والقطاع الطبي والموظفين، فقد بلغت نسبة مشاركتهم في عام ٢٠٠٩، ٣٣.٢٪ من الاحتجاجات بشكل عام.

ج- المطالب: رغم أنّ المحور الرئيسي الذي دارت حوله الاحتجاجات العمالية خلال السنوات الأخيرة كان المطالب الاقتصادية، الأجر بتنويعاته المختلفة، والفصل والنقل التعسفي، التصفية، المعاش المبكر، العمالة المؤقتة وغيرها، إلا أنها شهدت أيضاً خيطاً رفيعاً من المطالب السياسية البدائية وغير الناضجة التي غالباً ما استخدمها العمال وقتها وسيلة ضغط في معاركهم الاقتصادية لاحراز تقدم في المفاوضات حول مطالبهم المباشرة. هكذا بدأنا نشهد هجوماً عنيفاً في الأغلبية الساحقة من التحركات العمالية ضد التنظيم النقابي الرسمي باعتباره لا يمثل العمال ويقف دائماً ضد مصالحهم لخدمة الدولة وأصحاب الأعمال. وتكررت هذه النغمة بدرجات مختلفة من الحدّة ومن حيث التنفيذ في مواقع أخرى، حتى جاءت الخطوة الأكبر في حركة موظفي الضرائب العقارية الذين أعلنوا بالفعل نقابتهم المستقلة عن التنظيم النقابي الرسمي. وإضافة إلى قضية التنظيم، بدأ يظهر بشكل خافت ملمح سياسي جديد له علاقة بالموقف من قضية الخصخصة، إذ بدأت يتردد في أوساط بعض العمال المحتجين انتقادات لا تتعلق فقط بمساوئ نظام المعاش المبكر، لكن أيضاً بسياسة الخصخصة التي سلمت العمال لقمة سائغة لرأس المال الذي حوّل حياتهم إلى جحيم، وبدأ يظهر مطلب العودة للقطاع العام، والذي أصبح الآن محور حركة الشركات المخصخصة خصوصاً بعد أن حصل العمال على حكم قضائي بعودة أكثر من خمس شركات للقطاع العام بسبب الفساد في البيع والتعدي على حقوق العمال. وهناك عشرات القضايا من عمال في شركات آخرى ما زالت في المحاكم. المهم أن حكومات ما بعد الثورة بدلاً من تنفيذ أحكام عودة الشركات للقطاع العام هي من يطعن فيها ضد العمال.

د- انتشار عدوي الاحتجاج: لقد أصبح الاحتجاج الجماعي (إضرابات واعتصامات وتظاهرات، إلخ) الأداة الأساسية التي لم يعتمدها فقط العمال والموظفون والمهنيون، بل قطاعات أخرى غير منظمة من الفقراء لانتزاع مطالبهم، سواء هؤلاء الذين فقدوا منازلهم وتركتهم الدولة مشردين في الشوارع، أو العطشانون في قرى الدلتا نتيجة نقص مياه الشرب أو الفلاحون المحتجون على نقص مياه الري أو انتزاع الأراضي منهم لصالح الاقطاع الجديد، أو الجياع المحتجون على نقص الخبز المدعوم، وغيرهم. حتى بات البعض من كتاب الحكومة يصف الصورة بـ«حمى الاضراب»، الأمر الذي جعل ظاهرة الاحتجاج الاجتماعي مثار اهتمام الكتاب والصحف البرجوازية، الذين أخذوا يحللون وينظّرون ويحذّرون من انتفاضة جماهيرية قادمة.

ولم يقف دور العمال عند التحضير للثورة، بل إنّهم كانوا موجودين في الميادين العامة. فهل يمكن تصور أن العمال غير موجودين في مدينة عمالية مثل المحلة الكبرى والتي كان يخرج لشوارعها يومياً أكثر من نصف مليون مواطن؟ فإذا استبعدنا العمال فمن اين يأتي النصف مليون في شوارعها؟ كذلك في الإسكندرية التي كان يخرج لشوارعها ما بين المليون والاثنين مليون مواطن يومياً. ولكن خرج هؤلاء العمال للميادين فرادى، وذلك له عدة أسباب، لعل أهمها حرمان العمال من نقابات تعبر عنهم وتدافع عن مصالحهم، وتوحد مواقفهم تجاه السياسة العامة لمدة تجاوزت الستين عاماً. وما أن انتهت الإجازة التي تعمد نظام حسني مبارك اعطاءها للعمال والموظفين في بداية الاعتصام ــ اعتقاداً منه بأن هذا سوف يجعلهم يبقون في بيوتهم ولا يخرجون للمشاركة في الاعتصامات ــ وعاد العمال لأعمالهم وجدنا موجة غير مسبوقة من الاعتصامات والإضرابات، ربما وصلت للمئات من مواقع العمل في اليوم نفسه، والتي اعتقد أن الكثير منها لم يتم رصده أو تغطيته اعلامياً وذلك لانشغال الجميع في الميادين. وعلى الرغم من هذا فإذا نظرنا إلى رصد «مؤسسة أولاد الأرض» لاحتجاجات العمال في الستة أشهر الأولى من عام ٢٠١١ [٣]، لوجدنا ما وصفته المؤسسة بأعنف موجة للاحتجاجات عبر تاريخ الحركة العمالية. فقد بلغ عدد احتجاجات العمال في هذه الفترة، نحو ٩٥٦، وقد وصف التقرير الحركة في الفترة التي بدأت باليوم السابع من فبراير/ شباط وقبل خمسة أيام من إزاحة مبارك، بأنها أشد الاحتجاجات العمالية من حيث الكم والكيف على مدى تاريخ مصر، وأن ذلك كان من أهم العوامل المؤثرة التي أدت إلى سرعة وتيرة الثورة وزيادة الموقف اشتعالا وتضييق الخناق على القائمين على النظام.

ولم تكن هذه الموجه الاحتجاجية مهمة من حيث الكم فقط، بل كانت مهمة من حيث الكيف أيضاً، بحيث هددت فعلاً بشل حركة النظام. فقد شارك عمال السكة الحديد، خصوصاً عمال الورش سواء في بولاق، أو في أبو راضي، والعاملون بشركات الخدمة في القطارات. كما شارك عمال ٤ مصانع من المصانع الحربية في الإضراب عن العمل يومي ٩ و١٠ فبراير/ شباط. وعندما تدخل وزير الحربية سيّد مشعل، واعتبر يوم ١٠ فبراير/ شباط إجازة، خرج العمال إلى الشارع وحدثت بينهم وبين الأمن مواجهات واسعة. وذلك اضافة الى تظاهر عمال النقل العام بالأتوبيسات أمام ماسبيرو. ولم تكن احتجاجات العمال في هذه الفترة في القاهرة وضواحيها فقط، بل في كل المحافظات. ومنذ ١١ فبراير/ شباط وجدنا عمال غزل المحلة، وعمال مدن صناعية مهمة مثل مدينة السويس، والاسماعيلية والاسكندرية، ومدينة السادات، والمنطقة الاستثمارية ببور سعيد، والدقهلية، وحلوان يشاركون في الإضرابات والاعتصامات، رافعين مطالبهم، والتي رغم أنّها تخص كل موقع علي حدة، إلا أنّها وبشكل واضح ترفض الآثار التي ترتبت علي تطبيق السياسات النيو ليبرالية الجديدة، ورفعوا بجوارها تأييدهم لمطالب الثورة.

النقابات المستقلة إمكانات ومخاطر

تتعرض تجربة بناء النقابات المستقلة للكثير من محاولات تشويه، فتارة تتهم بالعمالة والتمويل من الغرب، وتارة تتهم بالهشاشة وقلة العدد، بالإضافة لاتهامها منذ البداية بأنها حركة تفتيت للطبقة العاملة. لكنها ساهمت في تأسيس نقابات ديمقراطية قاعدية، تعبر عن العمال وتدافع عن حقوقهم، وهي التجربة التي رغم ما يشوبها من عوامل داخلية مرتبطة بالانفصال عن التراث النقابي لعشرات السنين، وما يترتب عليها من عدم الخبرة، والحاجة إلى التدريب والتثقيف حتى يستطيع النقابيون ممارسة دورهم، لكن النقابات المستقلة نجحت في الاختبار الأول لها في قيادة العمال في معظم المواقع التي توجد بها في إضراباتهم واعتصاماتهم من أجل حقوقهم. وهو ما تحاول أجهزة الدولة استخدامه في التشهير بأنّ النقابات المستقلة هي نقابات داعية إلى الإضراب مما يوقف عجلة الانتاج ويخرب الاقتصاد. وهناك الكثير من الاساليب التي استخدمت طوال العام ونصف، وتستخدم الآن بشراسة أكبر لمحاربة العمال ونقاباتهم الناشئة، ومحاولة كسر حركتهم.

وفي النهاية لا يسعنا إلا أن نرى أنّه رغم أنّ المعركة واحدة سواء معركة الثورة والثوار، ومعركة العمال مع الثورة المضادة التي تحاول أن تكسر العمال وحركتهم، وتنظيماتهم النقابية من حيث كونهم في قلب استمرار الثورة، إلا أنه ما يزال هناك انفصال واضح بين العمال الذين ما زالوا يخوضون معاركهم المجزأة هنا أو هناك، وبين القوى السياسية التي ما تزال تنظر إلى العمال ومطالبهم على أنها مطالب فئوية، وأنّهم بعيدون عن المعارك المرحلية مثل معركة الديمقراطية، أو التمييز ضد المرأة أو الأقباط أو غيرها. هذا في الوقت نفسه الذي تترك القوى السياسية العمال في معاركهم التي سبق أن شرحناها. ولا بد هنا من سد هذه الفجوة بين السياسي والاجتماعي، وأن تقف القوى السياسية مع العمال في معاركهم الاجتماعية المجزأة، وفي معركتهم الحالية، والتي تعتبر معركة حياة أو موت ليس فقط بالنسبة إلى العمال بل للثورة المصرية كلها. كل ذلك حتى تستطيع أن تأخذهم الثورة معها للاهتمام بالقضايا السياسية العامة التي لا يرونها ولا يناضلون من اجلها الآن. وربما كانت حملة قانون الحريات النقابية ووقف التعسف ضد النقابيين، وعودة العمال المفصولين التي بدأت مؤخراً، والتي يشارك الاتحاد المصري للنقابات المستقلة بنقاباته وببعض العمال خارج النقابات المستقلة فيها، وكذلك بعض مراكز المجتمع المدني والقوى الشبابية، والاحزاب السياسية وفي القلب منها الاحزاب الاشتراكية، ربما كانت هذه الحملة بداية جيدة لسد هذه الفجوة، إذ إن معركة قانون الحرية النقابية هي قضية ديمقراطية بامتياز، ولكنها في صلب حركة العمال.

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.