تعود تعقيدات الوضع السوري إلى طبيعة بنائه الصراعي، الذي يتأسس على ثلاث طبقات تتفاعل في جدلية تزيد من صعوبة التحليل الطامح إلى الاقتراب من الدقة. يبدو بوضوح أن المستوى الأول للصراع يتمثل في المستوى المحلي السوري، الذي تنخرط فيه قوى سياسية وطائفية وجهوية متباينة ومصالح اقتصادية نافذة. ويتكون المستوى الثاني الإقليمي من صراع أساسي على سورية بين إيران الداعمة للنظام والمتحالفة معه، في مواجهة تركيا التي تتبنى إسقاط النظام السوري وتتحالف مع بعض فصائل معارضته السلمية والمسلحة. ولا يمنع الصراع التركي ـــ الإيراني من انخراط أطراف إقليمية لها مصالح في الصراع السوري، وإن ظل الملمح الرئيس للمستوى الثاني. ويظهر المستوى الدولي الثالث للصراع في الشد والجذب الدوليين بين روسيا والصين من ناحية، في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى. تركز هذه الورقة على تحليل المستوى الثاني للصراع، أي المستوى الإقليمي بين تركيا وإيران، من دون التطرق إلى المستوى المحلي بتعقيداته وحساباته، وإن لم تُخفِ تضامنها الواضح مع انتفاضة السوريين في مواجهة نظام ظالم وباطش فقد مشروعيته السياسية، ومع حقهم غير المشروط في الحرية والكرامة. وعلى المقلب الآخر، لا تتبنى الورقة رؤية المتباكين على مظلومية الشعب السوري، والمتوسلين انتفاضته لتحقيق أهداف إقليمية لا تصب في حقوق السوريين غير القابلة للمساومة، بحيث ترفع السقف ليصبح مطلوباً من الانتفاضة السورية إسقاط كامل المنظومة الإقليمية التي ينضوي فيها النظام بما تمثله من أفكار ومصالح ومعتقدات، فتزداد بالتالي معاناة السوريين أكثر من أي شعب آخر من شعوب «الربيع العربي». ولم تتناول الورقة أيضاً ــ بسبب الحيز المحدود ــ المستوى الثالث الدولي للصراع وتشابكاته وصفقاته المحتملة وتصادماته المحدودة.
تسير الورقة على عكس السير، بطريقة «الفلاش باك»، بادئة بإلقاء الضوء على اللحظة التاريخية والإقليمية الراهنة، ومركزية سورية في حراكات المنطقة وتوازناتها، مستعرضة صورة الصراع التركي ــ الإيراني في طبعته الحالية، قبل أن تعود لتضيف «الربيع العربي» وتداعياته على الوضع الإقليمي إلى الصورة. بعدها تنتقل إلى الصراع التركي ــ الإيراني في القرن الماضي والقرون الأخيرة ــ ليس بغرض تناول الماجريات ــ وإنما لقدرة الأحداث السابقة على تسليط الضوء على ما تريد الورقة الوصول إليه من خلاصات نهائية تتعلق باشتراطات وسيرورات الصراع بين القوتين الإقليميتين غير العربيتين إيران وتركيا.
سورية واللحظة الإقليمية الراهنة
يختتم الصراع الدائر في سورية وعليها حقبة تاريخية امتدت على مدار قرن كامل، منذ اتفاقية سايكس بيكو التي دشنت المشرق العربي بحدوده الحالية فاتحة الباب أمام ترتيبات إقليمية مغايرة، ومعها خرائط سياسية جديدة لدول المنطقة. تشبه اللحظة التاريخية الراهنة العام ١٩١٥، الذي حمل في طياته كل مقدمات التغيير الذي انفجر بعدها ليعصف بحدود وتوازنات المنطقة، ولم يتركها إلا وقد تغير وجهها بالكامل. ها هي «معاهدة سايكس بيكو» التي رسمت مصائر وأقدار المشرق العربي من وقتها وحتى «الربيع العربي» تتدشن في العام ١٩١٦، وبعدها بعامين صدر «وعد بلفور» (١٩١٧) الذي وعد اليهود بوطن قومي في فلسطين غيّر وجه المنطقة وشكل من وقتها صراع المنطقة الأساسي. بعدها بثلاث سنوات انتهت الحرب العالمية الأولى ١٩١٨ بنتائجها الوخيمة على المنطقة، في حين أعلنت «معاهدة سان ريمو» في العام ١٩٢٠ الانتداب على سورية. واختبر العام ذاته «معاهدة سيفر» التي أعطت الأكراد والأرمن في السلطنة العثمانية أقل من استقلال كامل وأكثر من حكم ذاتي. تلا ذلك مباشرة إبرام «معاهدة لوزان» عام ١٩٢٣، لتنظم انهيار السلطنة العثمانية وتشكل الأساس المادي والقانوني للجمهورية التركية التي قامت على أنقاضها، قبل إلغاء الخلافة في العام ١٩٢٤. من كان يدري في العام ١٩١٥ أن وجه المنطقة سيتغير بهذا الشكل في السنوات القليلة اللاحقة؟ أعتقد لا أحد. الآن تبدو توازنات المنطقة مستدعية لإعادة ترتيب جديد، يشبه كثيراً ترتيبات معاهدة «سايكس بيكو»، لكن اللاعبين الحاليين ليسوا القوى الخارجية حصراً كما كانت الحال قبل مئة عام، وإنما القوى الإقليمية غير العربية تركيا وإيران وإسرائيل.
كانت سورية وخرائطها وما حولها عقدة سايكس ــ بيكو المركزية، وفي التطورات المصيرية الراهنة تتربع سورية مرة أخرى في قلب المشهد. ويعود السبب في ذلك إلى مركزية الجغرافيا والتاريخ السوريين، إذ تختزل الجمهورية العربية السورية في طياتها لب وجوهر المشرق العربي: جغرافيته وتاريخه، فضلاً عن فسيفسائه العرقي والطائفي. يكثف موقع سورية الجيوــ سياسي كل توازنات القوى الإقليمية في الشرق الاوسط والمنطقة، حيث تمنع سورية تركيا من الوصول إلى عمق شبه الجزيرة العربية، مثلما تحبس العراق عن شرق البحر المتوسط، وسورية في الوقت عينه هي متنفس لبنان الجغرافي الذي يعطيه معناه المَدَوي، كما تتجاور سورية مع فلسطين بحيث تشكل عبر جنوبها الغربي الرئة الجغرافية والتاريخية لها. وهكذا أمكن لأي نظام في الجمهورية العربية السورية ــ بشرط امتلاك بعض الطموح وكثير من الخيال وإمساك لبنان وورقة فلسطين ــ أن يصبح نقطة التوازن لكل الصراعات الإقليمية في المنطقة، حتى دون التمتع بإمكانات اقتصادية ومالية خاصة أو كتلة سكانية وازنة. تقود هذه الحقيقة إلى نتيجة جيوــ سياسية فائقة الأهمية مفادها أن سورية لا تستطيع ممارسة دور إقليمي خاص ومحدود النطاق إلا وفق توازن إقليمي ودولي دقيق للقوى، وأن امكاناتها البشرية والاقتصادية لا تؤهلها سوى لدور «صانع الملوك»، وليس ممارسة النفوذ الإقليمي في كامل المنطقة. وبالرغم من ذلك كانت سورية ــ ولا تزال ــ الرافع الحصري للأدوار الإقليمية في المشرق العربي، وهي نتيجة يمكن التثبت من صوابيتها بتطبيقها تاريخياً على الأدوار الإقليمية لمصر منذ عصر الفاطميين والمماليك، وصولاً إلى محمد علي وعبد الناصر. وينطبق الامر نفسه على إيران منذ انتصار ثورتها وحتى اليوم، وعلى تركيا منذ تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة في تركيا قبل نحو عقد من الزمان. باختصار يقول درس الجغرافيا والتاريخ رقم واحد في الشرق الأوسط إنّه لا دور إقليمياً ممكن دون الهيمنة على، أو التحالف مع، سورية.
«الربيع العربي» محدد جديد للصراع التركي ــ الإيراني
أحدث «الربيع العربي» انقلاباً كاملاً في موازين القوى الإقليمية، بحيث لم يعد مقتصراً على إطاحة أشكال تسلطية وقمعية من الحكم في دول عربية عدة. ويعود السبب في انقلاب موازين القوى الإقليمية إلى مجموعة من الأسباب يتقدمها تشابة الأنماط السياسية ــ الأيديولوجية لبرلمانات ما بعد الربيع العربي، وبشكل لم يعد معه المحتوى العروبي في مقدم الأولويات وإنما المحتوى الأيديولوجي الإسلامي. ويرتب هذا التغير تحولات في بنية النظام الإقليمي والكيفية التي تنظر بها القوى السياسية المنتصرة في الانتخابات البرلمانية لبلادها ولمنطقتها الجغرافية وعلاقاتها بأقطابها، وبشكل يجعل من «النظام الإقليمي العربي» في صورته السابقة ضرباً من الماضي. خلق المحتوى الأيديولوجي الإسلامي الصاعد في سماء المنطقة فضاءً جديداً من التعاون مع الدول الإسلامية غير العربية في المنطقة، أي تركيا وإيران. ويزيد ذلك من الفرص المحتملة أمام كلا البلدين للعب أدوار إقليمية أكبر، خصوصاً ان إيران قد أصبحت بنفوذها الكبير في المشرق العربي، عبر التحالف مع سورية، لاعباً أساسياً في النظام الإقليمي العربي منذ عقد على الأقل. وينطبق الامر نفسه على تركيا، التي عادت بقوة إلى توازنات المنطقة في السنوات الخمس الأخيرة، على جناح سياسة «صفر مشاكل» وبتحسين علاقاتها مع دمشق توخياً لسحبها من تحالفها الإيراني، قبل أن تتدهور العلاقات بسبب الانتفاضة الشعبية السورية وحسابات أنقره الخاصة التي دفعتها إلى الاصطفاف الواضح مع خصوم النظام. مع اندلاع «الربيع العربي» أعلن كل من الخصمين انتصاره، فإيران اعتبرته «ربيعاً إسلامياً» تأثر بالثورة الإيرانية في العام ١٩٧٩، واستدلت على ذلك بسقوط خصومها في تونس ومصر. أما تركيا فأعلنت انتصارها بسبب فوز أصدقائها من الإسلاميين المعتدلين بالانتخابات البرلمانية التي أعقبت سقوط الأنظمة الدكتاتورية في دول «الربيع العربي». وبغض النظر عن صوابية الادعاءات في كلتا الحالتين، فقد خلق «الربيع العربي» منفعة مشتركة للطرفين الغريمين، لأن إعادة تعريف «المنطقة العربية» إلى «منطقة إسلامية» ستؤدي إلى فتح الباب أمام إعادة تعريف أوسع حيث يتحول «النظام الإقليمي العربي» إلى «نظام إقليمي إسلامي»، وهو ما يخدم مصالح قوى الجوار الإقليمي أي تركيا وإيران. سيخفي الطابع الأيديولوجي الإسلامي للمنطقة الأقلوية العرقية واللغوية لكل من تركيا وإيران في المنطقة، ويسهّل اندماجهما في مؤسسات إقليمية، ومن ثم لاحقاً صياغة أولويات الأمن في المنطقة على قياس مصالحهما.
تتجاور كل من تركيا وإيران الغير عربيتين مع العالم العربي، وتحتفظ كلتاهما بتاريخ إمبراطوري من التمدد في جوارها العربي. تملك تركيا ــ مثلها في ذلك مثل إيران ــ كتلة سكانية ضخمة تتفوق على الكتلة البشرية العربية القاطنة تلك الشريحة الممتدة من العراق شرقاً وحتى الحدود المصرية غرباً. كما أن تقليب النظر في الخريطة العرقية واللغوية للشرق الأوسط يقود إلى اكتشاف عظيم الأهمية مفاده أن تركيا تمثل أقلية مزدوجة في الشرق الأوسط: عرقياً ولغوياً، وأن إيران تشكل أقلية مثلثة: طائفياً وعرقياً ولغوياً. ويلعب وجود الأكراد في كلا البلدين دوراً في إيجاد مشترك بينهما، إذ يتمركز الأكراد في مناطق جغرافية بعينها، في غرب إيران وجنوب شرق الأناضول في تركيا. وتزداد هواجس كل من تركيا وإيران من حقيقة أن الأكراد لهم امتداد قومي في مناطق الجوار الجغرافي خارج الحدود، وبالتالي عند أي ضعف للدولة يكون خطر التفكك حاضراً بشدة. وفي سياق الصراع على سورية يظهر أن اكراد سورية أصبحوا عنصراً هاماً من عناصر إدارة الصراع، بحيث يحاول النظام السوري تصريف فائض الحراك السوري إلى الشمال حيث الحدود مع تركيا، بهدف تغيير الديناميكيات وتحويل تركيا من موقع المبادراة إلى موقع الدفاع، بسبب امتدادهم القومي في الأناضول وعلى جانبي الحدود السورية ــ التركية. ولأن تركيا تفكر في خلق مناطق عازلة، سيتوجب عليها تزويد مقاتلي المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات للوصول إلى ذلك الهدف، ولكنها تعلم ان ذلك سيعني تسليح الأكراد في سورية وتركيا بالصواريخ ذاتها، ما سيسبب خسائر فادحة في صفوف الجيش التركي على الحدود مع سورية ومع العراق. وبخلاف هذه التشابهات الكثيرة فهناك مصلحة مؤكدة لتركيا وإيران، وهي مصلحة ثابتة تجعلهما يتخطيان أقلويتهما في الشرق الأوسط. وتتمثل هذه المصلحة في أن تنحية الغلالة العربية لإقليم الشرق الأوسط، يسهل لهما لعب أدوار قائدة فيه. بمعنى آخر، إذا تم تقسيم المنطقة وهوياتها على أساس غير قومي، وإنما إسلامي، يصبح الدور القيادي لكل منهما طبيعياً ومفهوماً في أحيان، بل وحتى مستحقاً في أحيان أخرى.
تركيا وإيران في المدى الاقليمي
ظهرت الحدود السياسية الحالية لدول المشرق العربي (العراق، سورية، لبنان، الأردن) بالترافق مع انكفاء كل من الجمهورية التركية ــ وريثة السلطنة العثمانية ــ وإيران إلى داخل حدودهما السياسية. لم تستطع تركيا أو إيران لعب أدوار قائدة في المنطقة العربية بسبب الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي السابق، التي ألقت بظلالها على الشرق الأوسط وتحالفات دوله التي توزعت على المعسكرين الدوليين، بما في ذلك إيران وتركيا. ولا يفوت التذكير في هذا السياق أن مصر الناهضة أحبطت «حلف بغداد» ١٩٥٥ الذي كان سيُدخل تركيا وإيران إلى معادلات المنطقة العربية من جديد. دشنت حرب ١٩٦٧ توسع إسرائيل وكسرت الرقم العربي في معادلات المنطقة، ولكن دون قدرة أي من تركيا وإيران على النفاذ إليها. ويعود السبب في ذلك إلى أن الحرب الباردة منعت ترجمة الاختلال في موازين القوى إلى نظام إقليمي جديد، يعترف بأدوار جديدة لمصلحة أي من القوى غير العربية في الشرق الأوسط: إسرائيل وإيران وتركيا. ثم منع وجود القوات الأميركية في العراق خلال الفترة الممتدة من ٢٠٠٣-٢٠١١ من ظهور نظام إقليمي جديد بقيادة إيرانية وتركية، لأن أميركا لعبت بوجودها العسكري أدوارا إقليمية في منع إيران من تعبئة الفراغ، وضبط تركيا عن اجتياح كردستان العراق. وترافق اندلاع ثورات «الربيع العربي» في ٢٠١١ ضد حكام العرب المستبدين وانتصاره في تونس ومصر وليبيا، مع خروج أميركا من العراق، وهو ما يستدعي ــ موضوعياً ــ التدخل التركي والإيراني لتعبئة الفراغ القائم فعلاً في الشرق الأوسط.
يشير الوضع الراهن إلى صراع إرادات إيراني ــ تركي على سورية وعلى القيادة الإقليمية، إذ يملك كلا البلدين نظرياً أفضل الفرص للانخراط في النظام الإقليمي البازغ. تتجه جغرافيا إيران تاريخياً إلى التمدد نحو الغرب، أي العراق وبلاد الشام نزولاً إلى مصر في أقصى تمددها. فضلاً عن نفوذها في الخليج العربي، الذي كان منذ خمسة قرون على الأقل ساحة لتمدد نفوذها الإقليمي. وفي المقابل تميل جغرافيا تركيا وتاريخ نفوذها إلى التوسع في اتجاهين، الأول نحو الغرب، أي البلقان وأوروبا، والثاني نحو الجنوب أي سورية ومصر. ويبقى ملاحظاً هنا أن هذه الطموحات الإقليمية لكليهما لا تأتي من باب حب التوسع، وإنما ترجع إلى مجموعة من الأسباب. أولاً شحة الموارد في إيران وتركيا تاريخياً، وثانيا للتحكم بطرق التجارة والمواصلات، وثالثاً الدفاع عن الحدود من خارجها وليس من داخلها، ورابعاً المترتب على ثالثاً، لأن التوسع خارج الحدود يحقق هدفاً أساسياً لكليهما وهو إخفاء الطبيعة الفسيفسائية للكتلة البشرية في هذين البلدين المتصارعين.
البعد التاريخي للصراع التركي ــ الإيراني
تشكل العلاقات الإيرانية ــ التركية منذ قرون علامة أساسية على خرائط الشرق الأوسط وبحيث أنتج التجاور الجغرافي والتنافس التاريخي بين البلدين الكبيرين فضاءً وهامشاً للتنافس والتعاون في آنٍ معاً، ولذلك تتنافس أنقره مع طهران، مثلما تتعاونان، لكن ضمن شروط موضوعية وقواعد لعب محددة، وبحيث تمتزج أدوات التنافس مع محفزات التقارب لتنتج خليطاً فريداً من نوعه في العلاقات الدولية والإقليمية. وتكتسب العلاقات بين إيران وتركيا أهمية مضاعفة؛ بسبب أن إيران وتركيا ليستا دولتين عاديتين في الجوار الجغرافي للدول العربية، بل قوتان إقليميتان في الشرق الأوسط، يتجاوز حضورهما الإقليمي الحدود السياسية لكلتيهما. تأسيساً على ذلك تتجاوز العلاقات الإيرانية ــ التركية في أبعادها السياسية والإستراتيجية معاني أية علاقات ثنائية بين بلدين غير عربيين، إذ إن طبيعتها الخاصة تجعلها تؤثر مباشرة على واقع منطقة الشرق الأوسط، والدول العربية وسورية ضمنه. أصبحت سورية منذ اندلاع انتفاضتها الشعبية مسرحاً ممتازاً للصراع الإيراني ــ التركي، إذ إن تحالف نظامها الوثيق مع إيران ومجاورتها الجغرافية لتركيا، فضلاً عن انخراط البلدين الإقليميين الكبيرين في معسكري الصراع السوري المتقابلين، كل ذلك هيأ المشهد السوري ليصبح ساحة الصراع الإقليمي الرئيس بين تركيا وإيران على النفوذ والهيمنة في المنطقة.
تقول وقائع التاريخ إن الحدود الإيرانية ــ التركية مازالت قائمة بدون تعديل أو مشاكل حدودية منذ «معاهدة زهاب» التي وقعتها إيران والسلطنة العثمانية عام ١٦٣٩، أي قبل حوالي أربعة قرون. تتصارع مجموعة من عوامل التنافس مع محفزات التقارب بين تركيا وإيران، فإن التناقض في الأفكار المؤسسة لأدوار كل من النظامين السياسيين تبدو في مقدم عوامل التنافس التي تجعل الفجوة بين النظامين السياسيين عصية على التجسير، ويأتي بعد ذلك عامل التنافس التاريخي للبلدين على النفوذ في المنطقة، وليس آخراً المواقع المتناقضة في التحالفات الدولية. لذلك تتنافس تركيا موضوعياً مع المشروع الإيراني في المنطقة بالرغم من كل عناصر ومحفزات التعاون، ويبدو واضحاً أن هناك فروقاً ظاهرة في النموذج والأدوات بين المشروعين، إذ ترفع إيران راية «الممانعة» ضد الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الصهيوني وتتحالف مع أحزاب وحركات سياسية تناوئ واشنطن والنظم السياسية القائمة، في حين ترفع تركيا لواء «التحديث والانفتاح» على خلفية نجاحات اقتصادية وديمقراطية، وبالتحالف مع واشنطن. وتتأكد فرضية التنافس الغالبة على العلاقات بين إيران وتركيا باستعراض محطات أساسية في العلاقات الثنائية. إذ شهدت العلاقات الإيرانية ــ التركية فترات مد وجزر تعاقبت في اتصال لم ينقطع منذ مئات السنين، وكأن معطيات الجغرافيا قد أبت إلا أن تكون ناظماً لوتائر من الشد والجذب استمرت منذ ما يزيد على خمسمائة عام. ومثلما كانت الجغرافيا حاضرة في مسار تطور هذه العلاقات، فقد كان التاريخ شاهداً على الصراع بين المشروعين الصفوي الإيراني من جهة، والعثماني التركي من جهة أخرى، إذ مثل الشاه عباس الصفوي ذروة المشروع الأول والسلطان مراد الثالث قمة المشروع الثاني. ولتجذير التناقض بين المشروعين ولتثبيت هوية معادية للسلطنة العثمانية، فقد عمد السلطان إسماعيل الصفوي إلى إعلان تشيع إيران في بدايات القرن السادس عشر الميلادي، وهي السنية في أغلبها وقتذاك، وذلك لتدعيم قدراتها الصراعية مع تركيا بالروافد المذهبية. ولم يكتف الصفويون بتغيير المذهب فقط، بل ذهب خيالهم إلى أبعد من ذلك بكثير حتى وصل إلى رمزية العلم الإيراني وتصميمه المميز عبر تبني «الشمس» و«الأسد» رمزاً لإيران وعلمها. وكان اختيار الشاه الصفوي للشمس رمزاً للعلم الفارسي راجعاً إلى هدف سياسي عميق، مفاده تطعيم التصادم الإقليمي والمذهبي بالبعد الرمزي أيضاً، فالشمس الفارسية كانت نقيضاً رمزياً وبصرياً للقمر الذي زيّن علم السلطنة العثمانية.
اتخذت العلاقات بين البلدين أشكالاً دراماتيكية حين قامت الحروب المتعاقبة بين الدولتين في القرون اللاحقة، وأبرمت المعاهدات لتثبيت حدود البلدين واعتراف كل منهما بالآخر حامياً لأحد المذاهب الإسلامية (السلطنة العثمانية للسنة وإيران للشيعة)، وهو الأمر الذي تم تثبيته في معاهدات كثيرة بين البلدين. ومن وقت هذه المعاهدات وحتى اليوم أصبح هناك بعد عقائديّ للصراع على النفوذ في المنطقة بين الدولة الإيرانية الشيعية والدولة العثمانية السنية، ثم عاد البعد العقائدي ليطل برأسه من جديد منذ احتلال العراق عام ٢٠٠٣، ثم تكرس مع اندلاع الانتفاضة الشعبية في سورية. يبدو الصراع على النفوذ بالشرق الأوسط والرغبة في التمدد الإقليمي قدراً مستمراً للعلاقات الإيرانية ــ التركية، على الرغم من بعض الفترات التاريخية التي شهدت العلاقات فيها تقارباً بين البلدين، ولكن دون أن يرقى هذا التقارب أبداً إلى مستوى التحالف الثنائي بين البلدين الجارين. ومثال ذلك التقارب العلاقات الدافئة التي ربطت بين شاه إيران الأسبق رضا شاه ومؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال اتاتورك في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، إذ مثلت الجمهورية التركية وقتها «النموذج العصري» أمام إيران الراغبة في التحديث تحت حكم رضا شاه. وبوتائر مختلفة استمرت العلاقات دافئة من وقت الشاه السابق محمد رضا وحتى قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وإن ميزها انضواء البلدين تحت مظلة التحالفات الأميركية ومواجهة الاتحاد السوفياتي السابق. دخلت العلاقات الإيرانية ــ التركية مفترقاً حاسماً بعد احتلال العراق عام ٢٠٠٣، إذ ساهم هذا الاحتلال في تبدل موازين القوى الإقليمية لصالح إيران وبشكل جعل المصالح التركية عرضة للخطر من جراء طفور الطموحات القومية الكردية ومخاطر امتدادها إلى جنوب شرق الأناضول وغالبيته السكانية الكردية. كما أدى احتلال العراق إلى إعادة توزيع لموازين القوى الإقليمية عموماً وبين إيران وتركيا خصوصاً، إذ إن انهيار النظام العراقي السابق وهيمنة حلفاء إيران من الأحزاب السياسية الشيعية على الحكومة والبرلمان العراقيين، وكذلك طفور دور الأكراد في شمال العراق والسلطة المركزية ببغداد، أدت كلها إلى تزايد النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين بالترافق مع نشوء تهديدات جديدة للأمن القومي التركي. عندها حاولت تركيا مشاركة إيران في النفوذ على سورية، بالتوازي مع تحسن العلاقات التركية ــ الإيرانية على كافة المستويات في ظل حكومة حزب «العدالة والتنمية» التركي. حسنت تركيا علاقاتها مع سورية بوسائل شتى، وكان واضحاً أن العلاقات مع تركيا كانت أكثر من هامة للنظام السوري ليصبح نقطة الارتكاز والتوازن لكل القوى غير العربية في المنطقة. تحالفت سورية مع إيران وامتلكت أفضل العلاقات مع تركيا، وفتحت باب المفاوضات مع إسرائيل في وقت واحد. بالمقابل فقد كان واضحاً ان إيران تتمدد في سورية ومؤسساتها وجوارها الإقليمي باطّراد تحت عباءة التحالف مع النظام، الذي تراجعت أدواره في مناطق نفوذه التقليدية تحت ذات العباءة. وعندما اكتشفت تركيا أن سحب النظام بعيداً عن إيران وتحالفاتها ليس أمراً ممكناً، كان «الربيع العربي» قد وصل إلى سورية، فحسمت الحكومة التركية أمرها وخاصمت النظام بسرعة حتى أصبحت في وقت قصير في مقدم خصومه والمنادين بسقوطه.
مستقبل الصراع التركي ــ الإيراني على سورية
يأتي التحالف الإيراني ــ السوري على رأس أولويات مشروع إيران الإقليمي، فعن طريقه تمكنت طهران في العقد الأخير من ربط سلسلة جغرافية متصلة من النفوذ الإقليمي تبدأ من غرب إيران مروراً بالعراق وصولاً إلى سورية، التي تنظم سلسلة هذا النفوذ وصولاً إلى منتهاه الجغرافي في جنوب لبنان. وهذه الإطلالة الأخيرة باتت احدى الأوراق الممتازة بيد إيران لفرض حضورها الإقليمي سواء بحدود تماس مباشر مع إسرائيل، أو بضغط معنوي كبير على الدول العربية الرئيسية، خصوصاً في ظل تعثر عملية التسوية السياسية للصراع العربي ــ الإسرائيلي. ولأن إيران ترتبط تاريخياً وعقائدياً مع جبل عامل في لبنان، تمثل سورية أيضاً حلقة الوصل التي تربط لبنان المهم استراتيجياً وإعلامياً لإيران بسلسلة نفوذها الإقليمي. ويستمد هذا التحالف خصوصيته أيضاً من كونه الرافعة الأساسية لنفوذ إيران الإقليمي، بالتوازي مع مفارقة تراجع الدور السوري في جواره الإقليمي إلى أدنى مستوياته في ظل هذا التحالف. لا تحتفظ سورية المتحالفة مع إيران للمفارقة بنفوذ جدي في العراق، كما أن حضورها في لبنان يتراجع لعوامل كثيرة وتحل محلها إيران المتحالفة معها والتي تملك فيه، على العكس من سورية، جذراً طائفياً راجحاً. لكل هذه الأسباب لا تبدو إيران في وارد التسليم بخسارة النظام السوري، نظراً للعوامل السابقة.
تملك تركيا على الناحية المقابلة مدخلاً جغرافياً إلى المنطقة العربية يتمثل في العراق وسورية، ويتمثل جوهر المشروع التركي تحت قيادة حزب العدالة والتنمية في تقديم نموذج التداول السلمي للسلطة السياسية فضلاً عن التنمية الاقتصادية في بيئة إقليمية تفتقر إلى مثل هذا النموذج. ويسعى حزب العدالة والتنمية التركي إلى قيادة دول المنطقة في ظل مشروع شرق أوسط أميركي كبير بصفته أبرز الوكلاء، لتقديم نموذج مجتمعي حديث يوفق بين الحداثة المستقرة في خانة المصالح الأميركية والموروثات الثقافية والدينية لشعوب المنطقة. ولتحقيق هذه الأهداف، تندفع تركيا في الأزمة السورية، بحيث تأمل أن يكرس سقوط النظام السوري توازناً جديداً للقوى، يشبه في تداعياته سقوط النظام العراقي وطفور الدور الإقليمي الإيراني في أعقابه.
يتوقع أن يستمر الصراع بين تركيا وإيران على سورية سائراً في مباراة صفرية، بحيث يخرج أحد الطرفين رابحاً بكل النقاط والآخر خالي الوفاض. ويزيد من صدقية هذه الفرضية أن عوامل كثيرة تمنع الطرفين من القبول بتسوية سياسية تعطي كلاًّ منهما بعضاً مما يريد، ومنها العوامل التالية:
١- الأهمية الفائقة لسورية في سلم أولويات الطرفين،
٢- الطبيعة الصراعية للعلاقات التي تجمع بين البلدين منذ خمسة قرون،
٣- جهوزية الظرف الموضوعي في المنطقة لاستدعاء الصراع بين الطرفين.
عند تقليب النظر في الأبعاد الصراعية للعلاقات التركية-الإيرانية في القرون الخمسة الأخيرة، أمكن الخروج بمبادئ أو سيرورات تاريخية للصراع بينهما على المنطقة. يبدو ملاحظاً أن هذا الصراع بين تركيا وإيران ينتعش تاريخياً عند:
أ- ضعف وجود القوى العظمى في الشرق الأوسط (خبرة تاريخية ممتدة مع قوى استعمارية كبرى تبدأ بالبرتغال في القرن السادس عشر، ولا تنتهي عند الولايات المتحدة الأميركية مروراً بفرنسا وإنكلترا وروسيا القيصرية)،
أو ب- تفوق تكنولوجي تركي في مواجهة جارتها الجنوبية سورية (التفوق التسليحي البارود والمدافع التي سهلت مهمة السلطان سليم الأول في مواجهة سلاطين المماليك في سورية ومصر)،
أو ج- تفوق أيديولوجي إيراني في مواجهة العراق، وأمثلته تستعصي على الحصر وممتد إلى فترات زمنية أبعد بسبب الجيرة الجغرافية الطويلة وتداخل العلاقات الاجتماعية بين إيران والعراق تاريخياً،
أو د- تفاقم مشاكل المنطقة واستدعاء الخارج.
يقود تقليب النظر في هذه الاشتراطات ومقايستها على الواقع الراهن إلى أن الاشتراطات الأربعة الرئيسية لاشتعال الصراع بين كل من تركيا وإيران على المنطقة متحققة بشدة في المرحلة الراهنة. وبدورها تلعب مركزية الجغرافيا السورية في المشرق العربي دورها الكبير في إشعال الصراع الإقليمي، لأن السيطرة على سورية ــ كما تدلنا أحكام الجغرافيا ودروس التاريخ ــ هي أحد الشروط الرئيسة لتولي موقع القيادة الإقليمية. وإذ لا يكرر التاريخ نفسه بذات الأدوات، إلا أن الصراع بين تركيا وإيران يبدو ــ منذ خمسة قرون وحتى الآن ــ سيرورة تاريخية، يغذيها ويستدعيها ذاك الفراغ العربي العرمرم الضارب أطنابه في المنطقة!
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.