يُسيطر الجيش السوري الحرّ على أجزاء واسعة من الحدود السورية التركية. يقول المنطق إن السلاح يدخل دخول الهواء إلى الشمال السوري. ومثله يدخل الطعام والشراب والأدوية. هذا ما يفترضه المنطق لكنه للأسف غير صحيح. الاتهامات السورية الرسمية ومن معها في محور الممانعة لا تعدو كونها اتهامات. والادعاءات التركية بمساندة الثوار لا تعدو كونها تصريحات. هكذا يُترك المواطنون السوريون، الذين تحولوا إلى مقاتلين، وحيدين في معركة غير متكافئة مع نظامهم.
قد يرى كثيرون أن هذا الكلام تبسيطي، أو أنه يُكتب بهدف تلميع صورة الثورة السورية. هذا الكلام نتيجة مشاهدات ونقاشات مع الثوار على مدى أسبوعٍ داخل سورية، تهريباً عن طريق حلب. أسبوع دخلت خلاله مع احدى كتائب الجيش الحرّ إلى المدينة حيث تمركزت هذه الكتيبة في حي صلاح الدين ثم انتقل جزء منها إلى حي الكلاسة. وبعد العودة من سورية، التقيت بعدد من الزملاء العرب والأوروبيين الذين زاروا منطقة حلب، كذلك عدد من الدبلوماسيين الغربيين المعنيين بملف سورية لتترسّخ القناعات التي كونتها من داخلها وتتقاطع مع ما يملكون من معلومات.
الدخول إلى سورية عبر تركيا كان صعباً في الأشهر الماضية، وما لبثت أن زالت الصعوبة مع سيطرة المعارضة على معظم المعابر الحدوديّة. منذ الساعات الأولى يكتشف زائر الريف السوري شمالاً، حجم الأكاذيب التي يقولها بعض الإعلام حيال ما يجري في ريف حلب، مثلما يكتشف حجم الظلم والفقر.
انتقلتُ إلى قرية تدعى قبتان الجبل في ريف حلب. من هذه القرية يقود الشيخ توفيق ثواراً من ست عشرة بلدة. بعد لحظات اقتنعت بأن ما أشاهده هو نسخة حقيقيّة للمسلسل السوري «باب الحارة»: الترابط العائلي، البساطة والصدق والشجاعة، والتي لا تمنع وجود بعض الانتهازيين والجبناء. وصلت إلى قبتان الجبل في صباح أحد أيام شهر رمضان. دخلت المنزل المقصود، وقد تحول إلى ما يشبه الثكنة، والمقاتلون فيه لا يزالون نائمين. لم يطل الوقت حتى استيقظوا. وبدأت الروايات الصادمة. السؤال الأول الذي تبادر الى ذهني: كيف ولماذا انتفضتم؟
الجواب على الـ«لماذا» طويل. أما جواب على «كيف» فقصة لطيفة. يروي أحد الشباب العشرة الذين بدأوا التظاهرات في البلدة أن الدافع الأول كان الشعور بالخزي في جامعة حلب عند مشاهدة شباب حمص وحماه. بعد مداولات طويلة، قرروا التظاهر ليلاً. المعترض الأول كان الأهل. وهنا تبرز نقطة أساسية في الثورة السورية: الثوار هم أبناء الجيل الجديد، أمّا من هم في العقد الخامس وما فوق، فيتملّكهم شعور بأن هذا النظام لن يسقط. كلما تحادثهم يُجيبونك عن تجربة حماه في ثمانينيات القرن الماضي. منهم من كان عسكرياً، ومنهم من رأى بعينيه القمع في مدرسة المدفعية في حلب. واللافت أيضاً أن الشباب لم يكونوا يعرفون هذه القصص قبل الثورة. تعرفوا عليها لاحقاً، عندما كُسر حاجز الخوف، فتجرأ الأهل على الكلام. لم يكونوا يعرفون قدرة نظامهم على القمع. ربما كان هذا دافعا أساسيا الى الثورة.
طيب. بعد اتصالات سرية، حصلت على بعض القهوة لارتشفها في المطبخ بما أن الجميع كان صائماً، أو هكذا كان يبدو. ثم جاء رسول من قرية مجاورة يحاول معرفة حجم هجوم الجيش النظامي على القرية. فوجئت مثل المقاتلين: هجوم الجيش النظامي؟ يقول الرسول إن هذا ما يبثه تلفزيون «الدنيا». بالفعل، هذا ما قرأناه على شريط الأخبار على التلفزيون شبه الرسمي، الذي ذكر أن الجيش نفذ هجوماً واسعاً وقتل عشرات «الإرهابيين» وسمّى عدداً منهم. وكان صبحي وعمر ممن ذُكرت أسماؤهم. الشابان هما نجلا صاحب المنزل حيث نجلس. ضحك الجميع طويلاً. ثم روى الشباب كيف أن هناك وجبات يومية من هذه الروايات عبر قناة «الدنيا». وجبات قد تتجاوز أحياناً وجبات القصف اليومي لقرى الريف.
اما وجبات القصف فلا تعرف موعداً محدداً. هدفها الواضح التدمير لا أكثر، لأن أغلبها لا يصيب الأهداف المفترضة، بل منازل أخرى. هنا، يُشير عدد من الضباط المنشقين من سلاح المدفعيّة، إلى وجود عاملين يتحكمان بهذا الأمر: الأول انعدام خبرة مقاتلي الجيش النظامي نتيجة قلّة التدريب بل ندرته. والثاني انعدام الرغبة لدى عدد من الجنود في إصابة الأهداف، نتيجة تضامنهم مع الثوار. الأمر عينه ينطبق على قصف الطيران الحربي.
«الجيش الحر» سلاحاً وعديداً
أقل وصف يُمكن أن يُقال عن السلاح الموجود بين أيدي مقاتلي «الجيش الحر» في شمال سورية، هو الخردة. فهذا السلاح خليط من بقايا الحرب العراقيّة وما تسرّب منها إلى سورية، وما يغنمه الثوار من فرق الجيش النظامي المنتشرة في الريف. وهي فرق ضعيفة التجهيز بعكس الفرق الخاصّة. أمّا المصدر الثالث للسلاح، فهو الأسلحة التي سُربت عبر تركيا، وهي بغالبها أسلحة غربيّة لا يوجد ذخيرة لها في سورية.
الرواية التي كثيراً ما سمعها المتابع للشأن السوري عن تسليح المعارضة إن كان من مصادر مؤيدة للنظام أو بعض دول الخليج العربي، تسقط فور مشاهدة السلاح الموجود بين أيادي الكتائب المقاتلة. وعند استفسار مسؤولي هذه الكتائب، يتبيّن أن الذخيرة تدخل بشكل قليل من تركيا، وكذلك السلاح الذي يدخل بكمية قليلة أيضاً ومن أنواع خفيفة، وذلك بقرار أميركي واضح. هذا ما يؤكّده العديد من المسؤولين في الجيش السوري الحرّ، كما الدبلوماسيّون الأوروبيون الذين يُشيرون إلى أن بلادهم، وواشنطن تحديدا، تلقت دروساً قاسية عند التدخل في أفغانستان والعراق ومن ثم ليبيا؛ لذلك فهي ليست مستعدة للتدخل العسكري حالياً في سورية. كذلك تتخوّف هذه الدول من وصول السلاح إلى الإسلاميين القريبين من «تنظيم القاعدة».
مدافع الهاون مثلاً تُعَدُّ عملة صعبة، ولا يحصل عليها الثوار إلا من السوق الداخلية وبأسعار باهظة، أو من خلال الاستيلاء على بعض مقتنيات الجيش النظامي.
هذا في ما يخص السلاح؛ أما العتاد، فحاله أسوأ. يُمكن أن تشاهد في سورية مقاتلين ينتعلون «الشحّاطة»، كما أن ثيابهم لا تصلح أبداً لأن تكون عسكرية. وينطبق الأمر عينه على التدريب، إذ لا يعرف معظم المقاتلين المدى الفعّال للكلاشنكوف، وهذا من البديهيات بالنسبة للمقاتل. تخيّل مثلاً، مقاتلاً يُحاول إسقاط مروحية مقاتلة بالكلاشنكوف. والاعجب أنه مقتنع أن المروحية ستسقط.
ينحدر معظم الثوار السوريين في الريف من بيئة اجتماعية فقيرة. هم مهشمون زادت من تهميشهم الاجراءات الاقتصادية التي اتبعها الرئيس بشار الأسد بعد وصوله إلى السلطة عام ٢٠٠٠. بالاضافة الى ذلك، يتحدّث الطلاب الجامعيون بينهم عن التمييز الذي تعرضوا له خلال دراستهم الجامعية في جامعة حلب. يشيرون إلى نظرة أبناء أغنياء حلب الدونية إليهم بغضب واضح. والكثير من أبناء هذه المناطق عمل في لبنان، في العقدين الأخيرين. من الاسباب ايضا أن الكثير من الارياف اخذت تعتمد بشكلٍ رئيسي على مقالع الصخور، بعد تراجع الزراعة والصناعة بشكلٍ كبير، إلى جانب تراجع القدرة الشرائية للموظفين من ذوي الرتب الصغيرة في الإدارات الرسمية. وجاءات منظومة الفساد والرشوة تأتي لتزيد من مأسوية هذا الواقع.
«القاعدة» وأبناؤها
من الأمور المثيرة للاهتمام والجدل عن الثورة السورية هي مشاركة المقاتلين الأجانب فيها، وتحديداً أولئك الذين ينتمون للفكر السلفي الجهادي.
يتحدّث إسلاميون سلفيّون كانوا قريبين من «تنظيم القاعدة» يوماً ما، ولا يزالون على تواصل مع ناشطين في هذا التنظيم، عن سهولة الدخول إلى سورية. فمن لبنان، أُطلق سراح عدد من الإسلاميين من جنسيات غير لبنانية. تذاكر ترحيل هؤلاء، حجزها الأمن العام اللبناني إلى تركيا، ليدخل منها الإسلاميون إلى سورية.
ويُظهر تقاطع المعلومات من مصادر سلفية جهادية ومن ناشطين سوريين أنّ دخول الإسلاميين إلى سورية بات أسهل من دخولهم إلى أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. فعشرات المقاتلين من طرابلس، شمال لبنان، الذين كانوا حتى أسابيع قليلة يعيشون في حضن حركة «طالبان» في أفغانستان، انتقلوا إلى الشمال السوري. حتى أنّ النظام السوري أطلق سراح عدد من الموقوفين لديه بتهم العمل مع تنظيم «القاعدة». والقصد الواضح ان النظام يُريد تشويه صورة الثورة عبر اتهامها بأنها أرض خصبة لنمو «القاعدة»، وأنه القادر على تخليص العالم منها. وهناك اطراف خارجية ترغب في التخلص من العناصر المتشددة لديها، كما إدخال سورية في دوامة عنف شبيهة بدوامة العنف في العراق. وهذه حال بعض الدول العربية، التي أرسلت السلفيين الجهاديين من سجونها إلى سورية، وتؤمّن التمويل لهم، وهذا ما يؤكّده عدد من الدبلوماسيين الغربيين إضافةً إلى بعض السلفيين.
لكن العلاقة بين هؤلاء المقاتلين والثوار السوريين ليست في أفضل حالاتها، تحديداً مع تنظيم «جبهة النصرة في بلاد الشام»، وهو التنظيم الأقوى والأكثر تمويلاً وتنظيماً. فقد وقعت عدة اشتباكات بالفعل بين الطرفين في عدد من البلدات. على الأرض، يُلاحظ أن الثوار السوريين يُسكِنون المقاتلين الأجانب عرباً أو غير عرب في أطراف القرى لمنعهم من الاختلاط بالأهالي، بسبب عدم القدرة على التجانس. ولا يتم إبلاغهم بالمعارك الا قبل حصولها. وفي بداية مرحلة دخول المقاتلين الأجانب، لجأ المقاتلون السوريون إليهم للحصول على التدريب، لكنهم لم يستطيعوا التأقلم معهم. ومنذ زمن ليس ببعيد، أقام عدد من المقاتلين الاجانب مخيماً تدريبياً في ريف حلب لأكثر من مئتي مقاتل سوري، لم يصمد منهم أحد بعد اليوم الرابع، إذ فرّ الجميع بسبب التشدد الديني للمشرفين على المخيّم.
عند سؤال المقاتلين السوريين الذين قابلت عن انتمائهم الفكري، يقولون إنّهم سلفيون. لكن لا يبدو أنهم يعرفون الكثير عن السلفية. لا بل إنهم أقرب إلى الصوفية، أو لنقل الإسلام المحافظ والسمح. لكنهم يُكررون اتهامات النظام لهم، لأنهم يصرون على أن أي اتهام من النظام يُعد إشادة بهم. حتى أن عدداً من المقاتلين لم يكن يصوم في شهر رمضان الأخير. ولم يكن معظمهم يصلي أو يصوم قبل الثورة. قصصهم كثيرة عن الكحول وغيرها، لكن لا شك في ان الثورة وهاجس الموت قرباهم أكثر من الدين.
الوضع الإنساني
لا يُمكن وصف كيف يعيش المواطنون السوريون في الريف. مقومات الحياة باتت غير متوافرة، في ما يتعلق بالطعام كما الطبابة. ويأتي الدمار العشوائي الذي يقوم به الجيش النظامي، تحديداً عبر القصف الجوي، ليزيد من فداحة المأساة. في أحيانٍ كثيرة، ينقطع الخبز، كما أن عدداً كبيراً من الحاجيات الغذائية غير متوفّر. يُضاف إلى ذلك كلّه قطع النظام لتغطية شبكات الهاتف الخلوي وشبكات المياه، لتنتج حالة لا يقوى على التأقلم معها إلا المقتنع تماماً بصوابية خياراته. دفع هذا الأمر المسؤولين عن الجيش السوري الحرّ، إلى تشكيل أطر للإدارة المدنية. فقد بدأت في المرحلة الأخيرة عملية تنظيم الشرطة وعمليات الإغاثة وتوزيع المشتقات النفطية والمواد الغذائية على من بقي من مدنيين في القرى. يقول المقاتلون السوريّون إن لا خيار أمامهم سوى الانتصار. هزيمتهم تعني الموت والذل. كذلك تعني التسوية، لذلك تجدهم يندفعون صوب المعركة بقلب قوي.
عند دخولهم إلى حلب في تموز الماضي، تنافس الثوار في ما بينهم على من يفوز بشرف دخول المدينة. نزلوا إلى أحياء خبروها (صلاح الدين، السكري والكلاسة وغيرها) كونها أحياء فقر عاش فيها عدد كبير منهم بعدما فقدوا إمكانات البقاء في الريف في العقد الأخير مع تطبيق سياسات الليبرالية التي سددت ضربات قوية لقطاعي الزراعة والصناعة. نزل الثوار إلى هذه الأحياء، ظناً منهم أن السيطرة على حلب ستفتح الطريق صوب الشام. استقبلهم الاهالي استقبال الفاتحين، وتراجعت القوات النظامية أمامهم بسرعة. لكن دخول القوات الخاصة إلى المعركة غيّر المعادلة.
ومنطقة حلب وريفها من أكثر المناطق السورية تنوّعاً، عرقياً ودينياً. الوجود الكردي هو أبرز تحدّ واجهه الثوار. لكنهم استطاعوا الوصول إلى تسوية مع الفرع السوري لحزب العمّال الكردستاني لتحييد المناطق الكردية عن المعارك. وهو تحييد يُعتبر إيجابياً، إذ يحق للجيش النظامي الحرّ المرور في هذه المناطق. لكن اللافت أن نظرة كثير من السوريين العرب إلى الكرد نظرة دونية. فكثيرا ما يتبنى هؤلاء موقف نظامهم التمييزي تجاههم.
من جهة اخرى، تُحاول قيادات الجيش السوري الحرّ عقد تفاهمات وتسويات ولو مرحلية مع ممثلين عن جميع المجموعات الدينية (المسيحيين والشيعة تحديداً) للحيلولة دون حصول اشتباكات تأخذ منحى طائفياً. إذ يُدرك مسؤولو الجيش السوري الحرّ أن النظام يُريد دفع الصراع إلى صراعٍ مذهبي.
مهما يكن، لعلها إذاً ثورة تشبه ما كتبه الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط:
«مذ كانت رائحة الخبز شهية كالورد، كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين، وأنا أسرّح شعري كل صباح، وألبس أجمل ثيابي وأهرع كالعاشق في موعده الأول... لانتظارها! لإنتظار الثورة التي يبست رجلاي من انتظارها».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.