العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

الحرية أم إسقاط النظام؟

النسخة الورقية
ملف

في الثلث الأخير من ٢٠١١، طرح شعار إسقاط النظام في سورية لأول مرة في التداول الشعبي، وبدأ يسيطر على الساحة السياسية ويتحول إلى شعار الثورة المركزي. قبل ذلك، كان المتظاهرون يطالبون بالإصلاح وتلبية حاجات ذات طابع يقبل الانضواء في إطار النظام القائم، الذي رفض تلبيتها، لاعتقاد قادته أنّ الاستجابة لمطالب الشعب ستعتبر دليل ضعف وستشجع المواطنين على تصعيد مطالباتهم!

احتفى قطاع هائل من السوريين، وقد فاجأهم سلوك النظام وعنفه، بالشعار الجديد الذي بدأ الثوريون يميلون إلى رفعه، على عكس ما فعلوه عند بدء الثورة، رغم أنّه كان معروفاً ومتداولاً قبل انفجارها. فمن المعروف أن عددا كبيرا من أطفال درعا اعتُقلوا لأنهم كتبوا على جدار مدرستهم الشعار الغنائي الملحن: «الشعب يريد إسقاط النظام»، في حين أصدرت مديرية التربية في دوما قرارا بعدم صرف التلامذة من مدارسهم في وقت واحد، بعد أن أتتها تقارير تفيد بأن هؤلاء ينظّمون تظاهرات حاشدة تضم الآلاف منهم، وهم يجتازون شوارع المدينة إلى بيوتهم، هازجين ومصفقين وهاتفين: «الشعب يريد إسقاط النظام».

حمل شعار إسقاط النظام نكهة خاصة بالنسبة إلى السوريين، فقد عبّر من جهة عن حقيقة مشاعرهم الدفينة تجاه نظامهم، وجسد مطلبهم الحقيقي الذي دفع بهم إلى التظاهر، وبعث الأمل في نفوسهم بأن معركتهم دخلت مرحلة الخلاص من نظام لطالما حلموا بالخروج منه وتاقوا بجماع جوارحهم إلى التحرر من سطوته البغيضة. وكان في نهاية الأمر الشعار الذي رفعته الثورة العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا، والذي وحد الشعب وعزّز اقتناعه بقدرته على إنجاز معجزة التحرر من طغيان تحداهم طيلة أربعين عاما ونيّف، دون أن يتمنكوا من مواجهته أو ردعه. وها هم يفعلون ذلك في الشوارع المفتوحة، بصورة علنية وبكتل بشرية تضم أناسا من مختلف الطبقات والفئات. فكأنهم بهذا الشعار الموجز والمعبر يولدون من جديد، خارج رحم النظام وضده؛ ولادة تستند إليهم وحدهم، وتتم بقوتهم وحدها، وتؤكد أنهم سيكونون أسياد وطنهم بعد رحيل حكام جثموا على صدورهم وكتموا أنفاسهم وأذلوهم في كل لحظة من لحظات وجودهم، واحتقروهم. إذ لا مساومة أو مهادنة معهم، بعد أن خرج المواطن العادي من خوفه ونزل إلى الشوارع كي يسقطهم بأي ثمن، مثلما اسقط إخوتهم في تونس ومصر حكاما يشبهونهم.

رفض التدرّج والمراحل الوسيطة

من اجل اسقاط النظام، حدس الحس العام ببرنامج كان يتخلق تدريجيا، وقام على فكرة رئيسة وعامة هي: رفض قبول السقوط المتدرج للنظام وبالتالي رفض أية مراحل وسيطة تقود إليه، وأية أساليب يمكن أن تفتح أمامه باب التسويف والمماطلة كالحوار معه أو الاتصال به أو تصنيفه إلى مراتب وتوجهات. لإسقاط النظام، لا يجوز أن يكون هناك غير خيار واحد: هو أو الشعب. لذلك، لن تكون السياسة الأداة الرئيسة التي ستسقطه، ولن تتم الاستعانة بها إلا كأداة ثانوية وجانبية، وبقدر ما تعين الثورة على بلوغ هدفها: زوال النظام جملة وتفصيلا من سورية، وحلول نظام آخر محله يراد له أن يكون نظاما قائما على المواطنة واخواتها من مستلزمات الحرية وحكم القانون والديمقراطية. في هذا البرنامج، صار النظام كتلة واحدة لا تمايزات فيها، وصار الحوار معه «حوارا مع الدبابات» التي تقتل المواطنين. وصارت السياسة، كأداة بيد التنظيمات المعارضة، تقاس بقربها وبعدها من فكرة التدرج المرفوضة، فإن كانت بعيدة اعتبرت ثورية تلبي الحاجة الى إسقاط النظام وعدّت من متطلباتها، وإن كانت بعيدة عنها اعتبرت تلاعباً مرفوضاً بمصير الثورة واستحقت الإدانة بأقسى العبارات التخوينية.

في تلك الفترة، تحفظتُ شخصيا على الشعار وطرحت أسئلة رمت إلى توضيح المقصود بإسقاط النظام كهدف وكآلية عملية. وقلت إنّ شعار الإسقاط يوحد بصورة مجانية وغير واقعية او مسؤولة صفوف المنتمين إلى قيادته والعاملين في خدمتها، مع ان هؤلاء ليسوا بالضرورة كأولئك، ويمكن أن ينفكوا عنها في حال وجدوا لهم مكانا في سورية القادمة. فلا بد من الحديث معهم، حتى إن كنا لا نعرف من هم وليست لنا بعد صلات بهم، ولا مفر من أن نقول لهم: لستم المقصودين بالحديث عن النظام، ونحن لا نقصدكم انتم بالذات عندما نطالب بإسقاطه، فلا تصدقوا ما يقوله أربابه لكم حول استهدافكم من قبل الثورة وضرورة أن تذبحوها دفاعا عن أنفسكم، ما دامت ستذبحكم متى انتصرت. انتم لستم النظام، وستكون الحرية لكم اسوة بغيركم، فلا تقفوا في دربها بل ساعدوا على بلوغها، لأنكم ستكونون أول من سيفيد منها. لا تتحدوا مع النظام، ولا تتبنوا سياساته لأنها ستدمركم في جملة من ستدمرهم من الشعب، وخير لكم أن يهزم لتصبحوا أحرارا من أن ينتصر لتبقوا عبيدا مسلحين يستخدمكم ضد شعبكم الذي تنتمون إليه. هذا الخطاب لم يلق آذاناً صاغية لدى الحراك، إما لعدم إدراك أهمية إضعاف وتفكيك ما بين قمة السلطة وقاعدتها من وحدة والإفادة مما فيها من تناقضات، أو لاستهانة العقل الفئوي الذي فرح بالشعار وروج له بالوحدة الوطنية، وسعيه إلى تفتيتها لصالح تحشد طائفي يعتقد أن المواجهة ستكون فيه بين أقلية فاسدة وشريرة وأغلبية خيّرة ومؤمنة، وأن الهزيمة ستكون قطعا ودون أي شك من نصيب الأقلية. ذلك رغم أنني حذرت كما حذر غيري مرات عديدة من نتائج تفكير على هذا القدر من السطحية والسذاجة، وذكرت بتجربة ١٩٧٨-١٩٨٢ الفاشلة، وبحماه ومعاركها الكارثية، وأدنت وغيري أي فعل او قول يدعو إلى تكرارها أو تحويلها الى نموذج يحتذيه الشعب!

بالطريقة التي رفع بها شعار اسقاط النظام، نشأت رؤية سياسية معارضة تخلو من التكتيك والمراحل، ترفض فكرة وجود تمايزات داخل النظام والسلطة، وتقول بإسقاط جميع رموزه وأركانه. مع أن إسقاط الرموز لا يعني بالضرورة إسقاط الأركان، وإسقاط الأركان لا يمكن أن يتم بالسرعة التي يمكن خلالها إسقاط الرموز. فضلا عن أن قول «المجلس الوطني» في مسودة برنامجه السياسي بحكومة وحدة وطنية تضمه إلى ركن النظام الركين: «مؤسسته العسكرية» يدحض تماما إمكانية إسقاط الرموز والأركان في وقت واحد. فالرموز قد تسقط بضربة واحدة، أما الأركان (ترى: كيف سيسقطها المجلس مع الرموز إن كان سيتحالف معها!) فيحتاج إسقاطها إلى عملية تغيير ستستمر لفترة غير قصيرة، ستكون لها صورة انتقال تدريجي وبطيء، مهما كان انتصار الثورة ساحقا وشاملا.

دوائر الثورة وحلقاتها

بسياسة تقود إلى هدفها الأعلى بصورة مباشرة، وتتعين بعلاقتها معه وحده ولا شيء سواه، تستغني عن التكتيك والمرحلية وتؤمن إيمانا صادقا وخاطئا بإمكانية الذهاب في خط مستقيم إلى زمن جديد يخلو من نظام كريه يكمن جوهر المرحلية الثورية في إسقاطه مرة واحدة، فلا متسع في النضال والتخطيط لأية مرحلية أخرى مثل القول الذي أكده في حينه عديدون (منهم صاحب هذه المقالة) حول وجود دوائر وحلقات ستمر الثورة فيها بصورة حتمية، يتوقف اضعاف وتفكيك النظام كمرحلة أولى من سقوطه على تخطي كل واحدة منها بنجاح، وإلا فإنه لن يضعف او يسقط. وقد تسقط المعارضة والثورة في حال قفزت عنها او تجاهلتها أو فشلت في إيجاد حلول صحيحة لها، أهمها دائرة أو حلقة طائفية يتوقف الكثير على نزع ورقتها الفائقة الخطورة من يد النظام، الذي سيستعملها قطعا في أكثر من مكان ومنذ مراحل الانتفاضة الأولى، ودائرة عسكرية تتصل بدور جيش السلطة وضرورة العمل على تحييده او تجميده أو جعل استخدامه ضد الشعب مقيدا ومحدودا وصعبا، وثالثة تتعلق بوحدة المجتمعين المدني والأهلي، التي سيعمل النظام على تفكيكها بقمع الأول وسحقه والتفرغ بعد ذلك للضغط بالعنف المتواصل والمتصاعد على الثاني، لاجباره على أن يتسلح ويتمذهب ويتطيف ويتحول من حامل للحرية ومطالب بالمواطنة إلى مجموعات مسلحة ترى الآخر بأعين فئوية تنكر حقه في الشراكة الوطنية، ورابعة تتصل بوحدة التنسيقيات بما هي تعبير عن الحراك الشعبي. فلا بد من أن تتولى قيادته بصورة مباشرة وفاعلة، على أن تضع المعارضة الحزبية نفسها تحت تصرفها وتمدها بما تحتاج إليه من خبرة، عوض أن تركب على ظهرها وتزعم أنها قائدتها. وخامسة تتعلق بوحدة تنظيمات المعارضة الحزبية ذاتها على أرضية وحدة الحراك وتنسيقياته الميدانية. وسادسة بالسلاح واستخدامه كطور حتمي ستمر الثورة فيه، سيكون له مواضعات ومراحل وأدوار وتعبيرات خاصة، ستنجم عنه علاقة معقدة بين سلمية الحراك التي يجب المحافظة عليها، وبين طرق استخدامه، التي يجب أن تخدم هدف الحرية وتلتزم بالعمل في الإطار السياسي والوطني والعسكري، الذي يسهل بلوغه، الخ.

كان من الجلي ان المجتمع الاهلي يجنح اكثر فاكثر نحو رفض اية سياسة غير تلك التي يعتقد انها ستسقط النظام، وينفر بصورة متزايدة من السياسيين التقليديين والحزبيين الذين يشتبه في كونهم قريبين من السلطة أو لم يقطعوا معها بعد، لانهم لا ينبذون مبدأ الحوار، الذي يمثل في نظره حبل نجاة النظام وخشبة خلاصه، ويضيّعون وقت شعب ذاهب بسرعة وتصميم إلى هدفه، فلا يحق لأحد حرف أنظاره عنه لأي سبب مهما كان وجيها.

عندما تحفظتُ على شعار اسقاط النظام، لاعتقادي أن الهدف يتحقق في نهاية المطاف ولا يجوز أن يكون أوليا ومباشرا، كي لا يبلبل ويلغي أي جهد أو فاعلية منظمة وعقلانية ضرورية لبلوغه، ولا يلغي قبل كل شيء السياسة وهوامشها وخياراتها وحدودها العليا والدنيا في خضم معركة سياسية بامتياز، هي فضلا عن ذلك أكبر وأعقد واصعب معركة سياسية يخوضها شعب سورية على مر تاريخه، وإن بدا لأول وهلة أنها أخذت تبعد الحراك المجتمعي عن السياسة والأحزاب والقوى السياسية الديمقراطية، وتتخذ منحىً عنيفاً تفرضه سياسات النظام وطريقته في التصدي للشعب ومطالبه، وأدوار بعض التيارات الإسلامية والدول المؤيدة والممولة لها. اقول عندما تحفظتُ على ذلك، كنت أرى أن بلوغ الهدف يتوقف على حل المشكلات العديدة، السابق ذكرها، التي ستواجه الثورة وهي في طريقها إليه، وأن الامتناع عن التصدي لهذه المشكلات بالأجوبة الملائمة يلغي الهدف ويسد دروبه، مع أن السير عليها هو ما يسمونه الثورة.

من اسقاط النظام الى اسقاط الرئيس

هل طرح الحراك شعارا صحيحا عالجه بطريقة خاطئة؟ أعتقد أن الشعار طرح بطريقة خاطئة، وأنه عولج بطريقة زادته خطأ. وأعتقد أن هذا واضح من مآله كشعار ساد وماد ثم تراجع حتى تحول الى رؤية جعلته مساويا لـ«إسقاط الرئيس»، الذي يعتقد رافعوه أنه يعني إسقاط النظام، أو المدخل إلى اسقاطه. مع أن هذا قد لا يجري بالضرورة، لأن النظام سيسقط بالتغيير المتدرج، بينما يمكن أن يسقط الرئيس بضربة واحدة، فضلا عن أنه يمكن أن توجد تعبيرات سياسية متنوعة للنظام، ومن المستبعد أن يسقط تماما إن وصلت قوة أصولية أو مذهبية إلى السلطة، وأفادت من بعض مكوناته، او استخدمتها في بناء نظام استبدادي آخر، وإن أتى في نمط مغاير لنمطه الراهن.

والآن، وبغض النظر عما ذكرته قبل قليل حول الهدف الذي لا يجوز أن ينقلب إلى شعار مباشر، تكتيكي وآني، لحراك لا يزال في بدايته، ولا يمكن أن يطرح كشعار قابل للتحقيق إلا بعد تحول جدي في موازين القوى لصالح الثورة والشعب، على أن ينتزع أو يعطل اوراق النظام ويحل معضلات تمثل محطات مهمة في الطريق إلى الانتصار، فإن طرحه أدى إلى إضعاف وسحب هدف الانتفاضة الحقيقي الحرية، وتجاهل ما يتفرع عنها ويرتبط بها من ركائز وحوامل لا تقوم بدونها. ركائز كالمواطنة، الحصانة الوحيدة ضد تطييف ومذهبة وقَعَا فيما بعد وبدّلا نمط وطابع الحراك ونضال جزء واسع من حملته، والدولة الديمقراطية، حاضنة حرية الفرد في مجتمع حر بدوره هي تعبيره السياسي باعتبارها دولة جميع مواطنيها الأحرار، التي مهمتها حماية حريتهم وتنميتها في إطار من العدالة الاجتماعية والمساواة القانونية.

طالب الشارع بإسقاط النظام باعتباره مساويا للحرية، واليوم يتبين أن هذه شيء والحرية شيء آخر. إذ يمكن أن يسقط النظام دون أن تأتي الحرية، بينما العكس غير صحيح، فلا يمكن أن تكون حرية دون إسقاط النظام. هناك اليوم احتمال لأن يسقط النظام دون أن تصل إلى السلطة قوى تريد الحرية أو تساندها بينما يستحيل وصول هذه القوى إلى السلطة دون انتصار الحرية، الذي لن يتحقق بغير اجتثاث الاستبداد من جذوره وتهديم جميع ركائزه.

الحرية وإسقاط النظام، لا اسقاط النظام دون حرية

هل تم وعي هذه النقطة الفائقة الأهمية؟ هل تم وعي الاختلاف بين طريقين تقود إحداهما إلى الحرية واسقاط النظام وتقود الأخرى إلى إسقاطه دون أن تأتي يالحرية؟ وهل تم التوقف جديا عند مسألة مركزية هي اتساع الأولى للسياسة استراتيجيةً وتكتيكاً، ولقواها التي قد تكون مغايرة لقوى الحراك أو مختلفة في نظراتها وتطلعاتها عنها، لكنها تثريه بما تتيحه من تواصل وتفاعل وتكامل بين قوى الشأن العام، وتسمح به من هوامش مناورة واسعة ومتنوعة هي من مستلزمات الانتصار في معركة شديدة التعقيد؟ معركة يخوضها شعب قليل الخبرة سياسيا ويفتقر إلى قيادة موحدة، ضد نظام خبير وخبيث وخسيس، يلعب بأوراق متنوعة بطرق غالبا ما تبدو غير منسجمة بل ومتناقضة.

وهل تم وعي الاختلاف بين هدف الحرية في مداه واتساعه وطابعه وبين شعار إسقاط النظام، الذي زادته قلة الخبرة السياسية ضيقا حين مسخته إلى خيار بين أمرين لا بديل لهما هما: السلاح أو السلمية، تأييد التدخل الخارجي أو معارضته، معارضة الداخل أو معارضة الخارج، إسقاط النظام أو الحوار معه، الخ. مع ما ارتبط بذلك من تخوين وإقصاء طاولا قوى حقيقية موجودة على الأرض أو لديها خبرات نضالية يمكن الإفادة منها. حدث هذا في لحظة كانت الثورة فيها بأمسّ الحاجة إلى دمقرطة نظراتها وممارساتها، وإلى الأخذ بجميع أشكال النضال والتعاون مع سائر قوى العمل العام المعارض، وتأسيس أنماط من التكامل بين أشكال الصراع القائمة والمحتملة، تفتح عيونها على مفهوم شائع لكنه غاب عنها، هو أن في السياسة حدوداً عليا ودنيا، وأن الأولى ليست بالضرورة أفضل من الثانية، وأن وجودها لا يلغي الحاجة إليها، وانها ليست مرحلة دنيا منها يجب تخطيها والاستغناء عنها في أول فرصة او مناسبة، بتوهم أن تخطيها والاستغناء عنها يقلب الحراك إلى ثورة ويعزز طابعه كحراك ثوري.

أبطلت سياسات إسقاط النظام مبدأ الحدود السياسية الدنيا، عندما قيّدت أيدي العاملين في الحقل السياسي وسفّهت قبول هذه الحدود ورفضتها واعتبرتها ضربا من الخيانة والتفريط بالحقوق، وطالبت بسياسات الحدود العليا باعتبارها حال السياسة الطبيعية، التي تتفق والمبدئية والصلابة الثورية، متجاهلة أن هذه تتألف من سياسات دنيا تراكمت فأحدثت نقلة نحو طور أعلى يتطلب بدوره وينشئ سياسات حدود دنيا جديدة. إذ لا تناقض بين هذين النمطين من الحدود ولا سياسة بالاستغناء عن اي منهما، بينما تكمن البراعة في معرفة اللحظة المناسبة لاستخدامهما، والعلاقة الصحيحة بينهما، وكيف تغني الأولى الثانية وتترجم الثانية الأولى دون أن تصاب موازينهما بالخلل والاضطراب، الخ. فَهِم رافعو ومؤيدو شعار إسقاط النظام أن العمل الثوري يجب أن ينبذ الحدود الدنيا ويقتصر على العليا، ولم يدركوا أن هذا يمكن أن يتسبب في هزيمة الحراك، ما دام الاكتفاء بالحدود العليا يعني تجاهل الواقع والقفز من فوقه، ونبذ مفهوم التوسط الجوهري جدا في الشأن العام، الذي كان فيلسوف كهيجل يعتبره مساويا لمفهوم السياسة، ويرى أن اية سياسة تخلو منه لن تكون في واقع الحال سياسة، بل مجرد ــ وهذا من عندي أنا ــ أضغاث رغبات مدمرة، لن تغير شيئا في الواقع.

هل استنتج من ذلك أن طريق إسقاط النظام لم تكن بالامس وقد لا تكون اليوم هي عين طريق الحرية؟ إنهما اليوم طريقان مختلفتان تتقاطعان هنا أو هناك، في هذه النقطة أو تلك، لأنهما ليستا شيئا واحدا. هذا هو الاستنتاج الذي يفرض نفسه علينا، إن كنا نريد للثورة أن تنتصر بما هي ثورة حرية وديمقراطية، وأن ننطلق في تقويمنا للواقع من حقيقة ربما باغتت الكثيرين، لكنها كانت ثانوية في ممكنات الثورة، وهي أن اسقاط النظام قد لا يكون كافيا لجلب الحرية الى بلادنا، رغم ضرورته القصوى لوقف قتل وإبادة الشعب وكبح مأساة سورية.

كيف نحوّل اسقاط الرئيس إلى تغيير يطاول مجمل النظام الاستبدادي ويهدمه حجراً حجراً وركناً ركناً، لصالح نظام حرية وديمقراطية بديل هو الهدف الأعلى الذي يجب ان يتعين به مستقبلا كل شيء؟ بقول آخر: كيف نجعل إسقاط النظام جزءا من معركتنا في سبيل الحرية، ينضوي فيها وينطلق منها يأخذ إليها، فهي مبتدؤه ومآله، فليس ولا يجوز أن يكون منفصلا او مستقلا عنها، على غرار ما وقع خلال نيف وعام؟ هذا هو السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه علينا اليوم، ويضمر سؤالين لا يزال الجواب عليهما غامضا ومختلفا عليه: كيف نسقط الرئيس ونجعل سقوطه مدخلنا الى استبدال نظام الاستبداد بنظام حرية وديمقراطية؟ وكيف نجعل السقوط والتغيير يتمان تحت حيثية الحرية، في ظل موازين قوى تتمظهر اليوم على الأرض، وتهدد فرص قيامها في سورية ما بعد الأسد؟

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.