ولدت فكرة هذه المجلة من إحساس متزايد بضرورة المساهمة بواسطة الفكر والفعل في بلورة المشروع اليساري في العالم العربي وإعادة تأسيس قواه وتياراته. لكن ما دفعها الى حلبة المغامرة الصحفية هو انطلاقة الثورات الشعبية العربية بما توحيه وما تستلزمه من بدايات.
تفترض «بدايات» انه لا يزال يوجد مكان للمجلات الدورية على الرغم من طغيان وسائط «الاتصال المجتمعي». ولعل المكان المناسب يقع في ما يتجاوز الوجبات الفكرية السريعة التي تقدمها صفحات «الرأي والفكر» في اليوميات ولا يصل الى مجلات الدراسات الاكاديمية المحكّمة. ويملي هذا الموقع إعادة الاعتبار لمجهود فكري وثقافي ليس محكوما بالزائل والمتسرّع وانما بالقلق والجهد اللازمين لإنتاج المعارف ولسدّ نواقص في الفكر والثقافة.
يقول هذا العدد التجريبي البعض مما نريده ونطمح اليه.
القسم الاكبر من مواده مخصص للثورات الشعبية العربية آثرنا فيه الاحاطة قدر الإمكان باوجهها ومكوناتها المختلفة: الشباب، المرأة، الجسد، اللغة، الاقتصاد السياسي، البرامج السياسية والنتاج الفكري والفني. الى هذا، اعطينا الكلمة للناشطين الشباب ليدلوا بشهاداتهم من قلب الميادين والساحات والشوارع. وسوف تبقى هذه المجلة مشرّعة الصفحات للشباب لنشر نتاجهم على تعدد انواعه.
زعزعت الثورات المنظومات الفكرية المتعولمة والمحلية عن المنطقة فوجبت مراجعتها نقديا بقدر ما وجبت الاجابة على الاسئلة والتحديات الجديدة التي طرحتها وتطرحها على الفكر النقدي والممارسة التغييرية.
نبّهت الانتفاضات الشعبية الى العلاقة الحميمة بين اقتصاديات النيوليبرالية وبين مشكلات البطالة والفقر والغلاء والفساد، عدا كشفها التلازم بين هذه الاقتصاديات والانظمة الاستبدادية. نطمح الى حفز البحث والكتابة في الاقتصاد السياسي عن موقع المنطقة في منظومة العولمة الرأسمالية ودورها فيها خلال ربع القرن الاخير. ونشجع على متابعة قطاع الطاقة العربي والاشكال المميزة للاستحواذ على عائداته واعادة تدويرها لسد ازمات النظام المالي العالمي وما ينجم عن ذلك من ترييع للاقتصاديات واستفحال للعادات الاستهلاكية ولمنوعات الفساد والهدر وأخيرا ليس آخرا اخراج النفط والغاز من دائرة التنمية والمعارك الوطنية.
في وقت تسيطر فيه هموم الترميز والتمثّل وتحليل «الخطابات» على العلوم الاجتماعية، يهمنا اعادة الاعتبار لدراسة العلاقات الاجتماعية في تحولاتها وفي ما تنطوي عليه من تمييز وتراتب وفوارق.
كثيرا ما مورس نقد الاستشراق في بلادنا بمعزل عن نقد الاستغراب. ان نقد التمثلات والصور السائدة في المنطقة عن «الغرب» ليس ترفا اكاديميا، انه ممارسة لمهمة مزدوجة: انتاج معارف عن الذات من جهة ومعرفة اكثر دقة وعلمية بـ«الآخر». معرفة تسمح بالتعاطي والسجال معه على قاعدة المصالح والحقوق والطموحات العربية، ما يعزز القدرة على التحرر من التبعية والاستغلال. في الانتظار، ننشر قراءة خصّنا بها نوام تشومسكي لمشكلات الهيمنة الاميركية، في ضوء الازمة المالية العالمية. ونرفقها بدراسة عن «حركة البدون أرض» البرازيلية، اكبر الحركات الاجتماعية في العالم الثالث. والنشر هنا إشارة الى شاغلين. الاول هو التواصل الثقافي ضمن بلدان «الجنوب»، نفتتحه هنا بالتعريف بنتاج إدواردو غاليانو، احد المع كتّاب اميركا اللاتينية. والثاني هو الاطلاع على تجارب شعوب «الجنوب» في مضمار الاشكال التنظيمية الشعبية والوسائل النضالية بعدما اثارت الانتفاضات الشعبية اكثر من علامة استفهام بصدد حدود الصفة التمثيلية للجمعيات الاهلية والنقابات المهنية والأحزاب السياسية، بقدر ما اثارت الحاجة الى اشكال مبتكرة من التنظيم والتمثيل على مستوى القواعد ومن اساليب الدعوة والنشاط.
لم تنته الاديولوجيات في عصرنا المتعولم، وابرز الادلة على ذلك هيمنة لاهوت السوق والكهنوت المسيّس عليه. ولا انتهى دور النظرية في إنتاج المعارف ــ بما هي مبتدى لا منتهى ــ وفي إرشاد الممارسة الثورية. ننشر في هذا العدد مراجعة نقدية بعنوان «أقنعة الماركسي غير الماركسي» وتعريفا بالمؤرخ الماركسي البريطاني إريك هوبزباوم اضافة الى موضوعات في تصفية الحساب مع التجربة السوفييتية. نتمنى ان تستثير هذه المواد، وسواها، ما تستحقه من نقاش.
اخترنا لمراجعات الكتب ما يتصل بالثورات الشعبية. صدف انها صادرة بالانكليزية. لا عجب لأن العالم يضخ مؤلفات وكتابات وفيرة عن المنطقة، من انتاج عرب الاغتراب او غير العرب، يحتوي العديد منها على مواد معرفية خام وعلى معارف ثمينة. سوف نجهد في متابعة مثل هذه المنتجات وتقديمها والتعريف بها.
أثارت اكتشافات ويكيليكس الاهتمام بالوثائق الحكومية ــ بما فيها الاميركية ــ كمراجع ثمينة للتأريخ الحديث والمعاصر ومصدر للتعرّف الى السياسات قيد الصنع. ننشر هنا عددا من وثائق الخارجية الاميركية ومجلس الامن القومي الاميركي تتعلق بالتدخل العسكري السوري في لبنان في ربيع وخريف ١٩٧٦. وسوف تعنى صفحات «ذاكرة» بكل ما يتعلق بالتأريخ والذاكرة من مذكرات وشهادات ويوميات ووثائق وتسجيلات التاريخ الشفوي وسواها.
في الثقافة، اخترنا التركيز على ثقافة العين لأن هذا القطاع من الذائقة الفنية لا يزال ضعيف النمو في الحياة الثقافية العربية. وننوي ان نضيف في الاعداد القادمة قسمين ثقافيين يستحقان عناية خاصة. القسم الاول هو الثقافة الشعبية بوجهيها، الثقافة المنتجة مباشرة من الشعب، والثقافة الموجّهة الى الجمهور الشعبي الواسع. والقسم الثاني هو أدب الرسائل.
غابت كوكبة من الاصدقاء قبل صدور «بدايات». نفتقد مساهمتهم ونعوّض عنها بنشر نصوص ورسوم غير معروفة لسمير قصير وجوزيف سماحة ومارون بغدادي ومحيي الدين اللباد تزيّنها قصيدة محمود درويش «على هذه الارض ما يستحق الحياة» بخط يده. ولن نكفّ عن استحضارهم.
الحكم في نهاية الامر للقراء. والاحرى ان الحكم دوما للقراء. لأننا نطمح الى علاقة تفاعل وتضامن مستمرة معهم، نتكل عليهم في تغذية «بدايات» بالكتابة والمؤازرة والنقاش والنقد بقدر ما نعتمد عليهم كمصدر يسهم في تأمين استقلالنا المالي.
«بدايات»
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.