كان نجاح كتاب إدوارد سعيد مفاجئاً، ليس فقط لجهة المبيع الذي حقّقه (وهذا على المدى الطويل)، ولكن أيضاً كونه أسّس عقيدةً ومدرسة، استقرّت في محرابٍ جامعيّ امتلكت فيه، على الأقل ضمن العالم الأنغلوساكسوني، مواقع وسلطة وقدرة تأثيرية («الدراسات الشرق أوسطية»، «الدراسات الثقافية والما بعد كولونيالية»). والشبكات «السعيدية» تتبع معلّمها في تجنيد الوافدين إلى الجامعات من الشرق بتربيةٍ أكاديمية غربية. إلا أن هذه الشبكات تبقى أسيرة «الأكاديميّ» ولا تنسحب بتاتاً على الأوساط الأخرى (السياسية، الإنسانية، الإعلامية)، تحديداً لأن الاستشراقيين يدينون هذا التواطؤ ما بين العالم الجامعيّ والعالم السياسي، على الرغم من امتلاكهم خطاباً شديد التسيّس حول الهيمنة والكولونيالية. وبالطبع، فإن قدرتهم التأثيرية قويّة بين الطلّاب (تكفي مراجعة عناوين الأطروحات التي تحضّر وتقدّم في أقسام دراسات الشرق الأوسط)، وتنتشر بين عدد من «المثقفين العضويين» المتمركزين بين وسائل الإعلام والجامعات، الذين كثيراً ما تكون لهم أيضاً جذورٌ في البلاد المسلمة أو في الهجرة المسلمة إلى أوروبا. بمعنى ما، يمكننا مقارنة «السعيديين» بالـ«بورديويين»، ولو أن الأوائل يبدون مرونةً اكبر في تعريف مجموعتهم ولا يذهبون أبداً إلى أبعد من الممارسة المنهجية في التفكيك لتعريف طبيعتهم العلمية، بينما يدافع أتباع بورديو عن منهجية عمل شديدة التقنية. وتتعزز الهجمات التي تستهدفهم إلى حدٍّ بعيد، خاصةً في الولايات المتحدة الأميركية، مما يؤسس لعقلية الغيتو الجامعية المحاصرة المعرّضة لتهديدات الإمبريالية، والنزعة العرقية، والصهيونية، إلخ. والسعيديّون هم، بشكل خاص، هدفٌ لحملة إدانة وتشهير يقودها موقع «مراقبة الحرم الجامعي – Campus Watch» الذي يهاجم تحديداً قناعاتهم المؤيدة للفلسطينيين1. كلّ نقدٍ فكري يطال فكر إدوارد سعيد يجب أن يتنبّه إلى السياق السياسي والإشكالي جداً الذي يحيط بمسألة الاستشراق.
ولكن بعيداً عن المسألة الإشكالية، فإن نقاط الضعف والتقديرات التقريبية والتناقضات والأخطاء التي يتضمنها كتاب إدوارد سعيد قد تعرّضت للمراجعة والتحليل على أيدي أقرانه الجامعيين، ومن ضمنهم أولئك الذين يشاركونه مواقفه السياسية2. إن إعادة تأهيل استشراقٍ طيّب الصيت يحترم موضوعه، وهمّه إنتاج معرفة علمية، قد وجدت اليوم سكّتها: فالمستشرقون، كما مناهضو الاستشراق، هم أبناء زمانهم، يعالجون القضايا الراهنة، ليس متاحاً لهم الانسحاب من تاريخٍ يتشكّل. ولكن، إذا لم تنتقص نقاط الضعف هذه من حظوة الكتاب وكاتبه، فذلك لأن الرسالة التي ينقلها «الاستشراق» تنتمي أكثر إلى الصراع السياسي منها إلى النقاش الأكاديمي. بهذا المعنى، يكون سعيد أيضاً «مثقفاً عضوياً»، وفّر «الكلمات اللازمة» لجمهورٍ عريض لم يكن ينتظر سوى ذلك، تماماً كما فعل هانتنغتون في كتابه «صدام الحضارات» حيث أصاب بضربةٍ واحدة شهرةً عالمية. إن الرسالة السياسية التي حملها الكتاب هي ما منحته القوّة، وليس من الصدفة بشيء ربطه بشكلٍ فوري ومباشر بالقضية الفلسطينية، في حين أن إمكانية الدفاع عن هذه القضية متاحة جداً خارج أيّ إشارة إلى الاستشراق، فقُرئ كتاب سعيد كدفاعٍ عن القضية الفلسطينية وتظهيرٍ لها، مما يعطّل النقاش الفكريّ البحت حول صحّة طروحاته3.
الاستشراق بمعناه «السعيدي»
ومن اللافت أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لدى السعيديّين كما بين خصومهم، يقدَّم دائماً على أنه العقدة المحورية في صراعات الشرق الأوسط، في صعود الإسلام السياسي وفي تطرّف المسلمين من شباب الجيل الثاني في الغرب. سنعود لاحقاً إلى أثر المرآة بين «المستشرقين» و«مناهضي الاستشراق»، أما هذه المبادرة إلى بناء الآخر كخصمٍ فتقود كلا المعسكرين إلى تفادي سؤال يصيب عمق المسألة: وماذا لو كان الطغيان المزعوم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس أكثر من وهمٍ بصريّ؟
في كل الأحوال، فإن السبب الأول لاستمرار «السعيدية» يكمن في أن الاستشراق الذي أدانه سعيد لم يختفِ. «صدام الحضارات» الأثير هو بحدّ ذاته تجسيدٌ له. يجب ألا ننسى أن صموئيل هانتنغتون استعار تلك التسمية من برنارد لويس الذي رأى فيه سعيد نموذجاً مثالياً عن المستشرق4. فمجموع مبارزاتهما الشخصية (خلال اللقاء السنوي لجمعية دراسات الشرق الأوسط في العام ١٩٨٨، كأحد الأمثلة الكثيرة)، ومجادلاتهما التي يستعيدها تلامذتهما المفضّلون (كمارتن كرايمر بالنسبة إلى لويس، مثلاً)، وبعد ١١ أيلول، تحويل الكليشيهات الثقافوية إلى مقترحات بمتناول صنّاع القرار، إنْ لمكافحة الإرهاب المُعرّف بصفته ذروة اشتداد أصوليةٍ دينية أو للتنديد بهجرة تم اختزالها باستيراد الشرق إلى الغرب، يبيّن أن الاستشراق كتركيب متخيّل عن مسلمٍ أبديّ ليس مفهوماً تم تجاوزه، ولا هو وهميّ.
اليوم، يحضر «استشراق» جديد بالمعنى «السعيديّ» للكلمة، يستهدف بشكلٍ أقل الشرق كحيّزٍ جغرافيّ إذ يركّز على الإسلام كنظام ديني وثقافي عصيّ. فاستُبدلت العقلية الشرقية بافتراض وجود برمجةٍ قرآنية تدير لاوعي كل مسلم، حتى ولو كان بعيداً تماماً عن ممارسة التعاليم الدينية: شباب الجيل الثاني في الضواحي ذكوريون لأنهم ينتمون إلى ثقافة مسلمة، جميع الإسلاميين يمتلكون حكماً «أجندة خفية» ويظهرون «ازدواجيةً في الخطاب» لعدم قدرتهم على التخلي عن المرجعية التي يشكّلها بالنسبة إليهم المجتمع في زمن النبي، الأصولية السياسية هي نتيجة الأصولية الدينية، وإذا كان الشباب الأصوليون مثل محمد مراح [مسؤول عن قتل ٣ جنود فرنسيين و٣ اطفال يهود في فرنسا في ٢٠١٢] لا يبدون، على عكس التوقعات، أيّ مظهرٍ من مظاهر التديّن، فذلك لأنهم يمارسون «التقيّة»، أي القيد العقلي الذي يجيزه الدين – باختصار، كلما قلّتْ درجةُ التديّن، تعزّز تفسيرها بالدين... ويفضي ذلك بتملّق تام إلى تفسير يقول بأن الهدف الأساسي للعمليات العسكرية الفرنسية في أفغانستان كما في مالي هو حماية النساء المسلمات من فرض ارتداء البرقع.
يمكننا الذهاب أبعد من ذلك حتى: إذ بينما يحكي الاستشراق «الكلاسيكي» عن خصوصية الشرق وعالمية الغرب (وهي فكرة كامنة في كافة النقاشات التي تدور حول «هل يتلاءم الإسلام مع العلمانية، أو حقوق الإنسان، أو حقوق المرأة، أو الديمقراطية، إلخ»، أو حول التناقضات بين «شرعة حقوق الإنسان العالمية» وبين الشرعية)، فإن الميل الثقافوي الجديد، بإصراره على الهوية الغربية، الأوروبية، أو ببساطة الوطنية، يبدو وكأنه يتخلّى عن عالمية عصر الأنوار، وصولاً حتى إدانة ساديةٍ انتحارية تتبدّى في رغبة الغرب بالعالمية (من هانتنغتون إلى بروكنر). هنا أيضاً يمكن رصد أثر المرآة.
مناهضة الاستشراق والثقافوية
المسألة التي نطرحها على أنفسنا تدور حول معرفة ما إذا كانت مناهضة الاستشراق «السعيديّة» هي فعلياً النظام المفهومي الأفضل اعتماده في محاربة ما أجد من الأَولى تسميته بالثقافوية السائدة راهناً. والسؤال ليس نظرياً بحتاً، لأن «السعيديّة» تشغل جزءاً ذا شأن في الدراسات الإسلامية، ويمكنني أن أذهب إلى أبعد في اعتبار أنها تتشارك مساحة هذه الدراسات مع عدوّها الحميم، الاستشراق. هذا الاستقطاب الذي يسود النقاش الجامعي يتسبّب في إنتاج محافظةٍ فكرية، وفي استفحال العزلة الجامعية داخل جزر مراكز الدراسات، والمعاهد، والكليات، وخلايا التفكير، التي تتكاثر لأنها تفرض إجراءات تجنيد تحفّز الاستنساخ، وإعادة إنتاج الذات، لا بمعنى الطبقة الاجتماعية وإنما على مستوى الانتماء إلى فرَضيات نظرية ومواقف معلنة (مقالات الرأي الشهيرة أو الآراء الحرّة في الصحف)، تزدان بالموضوعية والنقاء الجامعي، اللذين يصبحان أكثر فأكثر تعويذيين ومختزلين في اللقب الوظيفي لحامل القلم، وهي ألقابٌ يمنحها للفرد أقرانه وزملاؤه، بطبيعة الحال.
فرض الخندقة
السعيديّون، حتى ولو أنهم غير مسيطرين، يساهمون في هيكلة حقل دراسات الشرق الأوسط والإسلام، أولاً عبر فرض وجود خندقين: المستشرقون، أكانوا صريحين، مشفّرين، جدداً أو معكوسين، والمتحدّثون باسم المقموعين – أي هم بذاتهم. بذلك، هم يجبرون كل منتسِب على نكران «استشراقه» الخاص، وإدانة استشراق الآخر، كبطاقة دخول شرعية إلى نادي المتخصصين في – في ماذا، على كل حال؟ لأن السعيديّين، في العمق، يدينون أساس بنيّة المادة التي تعرّف بحقلهم، أي الشرق والإسلام. وبما أن الموضوعين هما من بُنى الاستشراق، يجب إذاً إما حلّ الحقل، وبالتالي المؤسسات التي يعتاش منها مناهضو الاستشراق (مراكز دراسات الشرق الأوسط)، أو تقديم تعريفٍ عن شرقٍ «حقيقي»، وإيجاد اسم آخر له طبعاً، لا بل تقديم تعريف لإسلامٍ «حقيقي» أيضاً، فضلاً عن التخلّص من هذا التعبير الشمولي عبر تذويبه في ممارسات المؤمنين الواقعية.
إلا أنهم لا يفعلون شيئاً من أجل ذلك، أو لا يفعلون الشيء الكثير. فنقد الاستشراق يبدو غايةً بحدّ ذاته، وليس خطوةً تمهّد لمقاربة الواقع. أصبح الاستشراق كلمةً أدائية تُستخدم أولاً لتحديد موقع الذات في خندق «الخير». المستشرق هو دائماً الآخر. ولقد حصل لي أن استخدمت شخصياً هذا التعبير لنزع الأهلية عمّا اعتبرته مقاربةً للإسلام تُبدّي جوهره على وجوده. مع رفضي لهذه المقاربة التي تسود النظرة الملقاة على الأصولية المسلمة، انتسبتُ باكراً جداً إلى إدانة النظرة الاستشراقية للشرق الأوسط. ومع ذلك، كنت بدوري هدفاً لنقدٍ سعيديّ النمط أنزله بي زميلاي وصديقاي، آلان روسيّون وفرانسوا بورغا: في الواقع، ومن خلال اعتباري الإسلام السياسي فئةً محدّدة ضمن معارضة الاستبداد في الشرق الأوسط، كنت أساهم في جعل الإسلام العامل الرئيسي في الحراك السياسي في الشرق الأوسط، ليجعلني ذلك واحداً من «المستشرقين الجدد».
إلا أن واحداً من هؤلاء الزملاء تحديداً، فرانسوا بورغا، سيجد نفسه بدوره متهماً من قبل جيلبير أشقر بأنه «مستشرق تماماً كأوليفييه روا». وسيوصف بأنه «مستشرق معكوس»، لأنه أقرّ بأن «اللسان المسلم» الذي يعتمده اللاعبون السياسيون ما هو إلا أسلوب كلام، ما يعني أنه يساهم مثلي تماماً في جعل الإسلام ثابتاً في العمل السياسي. لا مفر من أن يكون الواحد منا مُستشرق شخصٍ ما5. لكن مطاردة الخطيئة الأصلية لها وظيفة تقييمية أكثر منها بحثية استكشافية، تصنّف (وتستثني) أكثر مما تتيح إمكانيات الفهم. وهي في الأساس تحافظ على مفهوم الشرق الذي يعيد تعريفه اليوم مناهضو الاستشراق شخصياً كعالمٍ مسلم. فالسعيديّون ينتقدون التصنيفات المعتمدة في دراسة العالم الإسلامي، لكنهم لا يضعون قيد المساءلة وجود عالمٍ شبيه، بما يجعلهم، بدورهم، مستشرقين، ولكنهم يبقون محميين من تهمة القراءة التي تبدّي الجوهر، بواسطة إسمانية تحترم هوية اللاعبين: إسلام ومسلمون، تعبيران ليس مناسباً المزيد من التحديد في تعريفهما.
الشبكات «السعيدية» تتبع معلّمها في تجنيد الوافدين إلى الجامعـات من الشرق بتربيةٍ أكاديمية غربية. إلا أنها تبقى أسيرة «الأكاديميّ» ولا تنســحب بتاتاً على الأوساط الأخرى تحديداً لأن المستشرقين يدينون هذا التواطؤ ما بين العالم الجامعيّ والعالم السياسي، على الرغم من امتلاكهم خطاباً شديد التسيّس حول الهيمنة والكولونياليـة.
اي شرق يدرسه مناهضو الاستشراق؟
كان لكتاب إدوارد سعيد إذاً أثرٌ بارز في مجال البحث التي تشكّله دراسات الشرق الأوسط، لأن السعيديّين يحتلون بكثافة نسبياً هذا الركن الجغرافي في الجامعات الأميركية. رقعتهم في تقطيع المناطق الثقافية في الجامعة، هي بطبيعة الحال الشرق. ولكن، إذا كان الشرق هو خيال الغرب، فأي شرقٍ هو ذاك الذي يدرسه مناهضو الاستشراق؟ فهو ليس بأي شكل من الأشكال مجرد رقعة جغرافية (يجب بكل الأحوال تبرير حدودها الأرضية، وخصوصاً تماهيها مع مساحات أو مساحات ضمنية هي أساساً مسلمة). هو الإسلام، الذي يشكّل رقعة العمل الحقيقية للسعيديّين. والدليل على ذلك متوفّر لدى سعيد شخصياً، في عنوان كتابه الآخر والأكثر شهرة: «تغطية الإسلام». ودليلٌ إضافي يقدّمه المتمّمون لعمل سعيد، في سحب المقاربة «السعيديّة» للإسلام على أوروبا، كشتات من الشرق الأوسط، في منطقٍ يستعيده «مواطنو الجمهورية الأصليون» في فرنسا، وخطاب التعدّدية الثقافية بشكل عام: بهذا المنطق، تجري دراسة مسائل الحجاب والبُرقع بأدوات سياسة الهيمنة الخاصة بالحكومات، التي تستعيد التقنيات الكولونيالية تجاه مواطنيها، مستندةً في ذلك إلى المفكرين – المتخصصين البارزين – لجنة ستازي مثلاً، مثلما حلّلها طلال أسد6.
ولكن، يُصنّف المسلمون الأوروبيون ضمن دراسات الشرق الأوسط، لأنهم مصنّفون أساساً كشرقيين، فلماذا إذاً لا يسعنا اعتبار أن ممارسة الدين الإسلامي بين الجيلين الثاني والثالث من المسلمين في الغرب لا تقلّ شرقيةً عن غربية الممارسة الكاثوليكية في الصين؟ باختصار، إن مناهضة الاستشراق لا تضع قيد المساءلة غرض هذا الاستشراق: منطقة ثقافية تتميّز بممارسة الدين الإسلامي. بشكل لافت، تمنع مناهضة الاستشراق نفسها عن أيّ مقاربة عرضية تدرس الإسلام كدين بين سواه (قلّة من السعيديين تهتم بالمسيحية، باستثناء طلال أسد). فمناهضة الاستشراق لا تخرج من تصنيف «شرق»، وهي تعترض على كيفية استخدامه وليس على ملاءمته. تدّعي قول «الحقيقي» عنه، إلا أنها تكتفي بتفكيك الخطابات التي تعيق «الحقيقي» عن الظهور، كأنما يمكن للمرء أن ينسحب من كل نظامٍ تمثيليّ. الأصالة التي لا يمكن للمرء إبرازها، تتوفّر في ممارسة المقموعين، التي تنحصر قيمتها في كونها اعتراضاً على الهيمنة، ولكنها تكتسب شرعيتها من وضعية الإعتراض هذه. مرةً أخرى، يُرجَع كل شيء إلى العامل السياسي، ضمن ثنائية هيمنة / اعتراض.
السعيديون والرمز الديني
في الواقع يعارض السعيديّون عموماً العلمانية المفروضة ويدافعون عن الحق في إبراز الإسلام المرئي (بشكل خاص عبر الحجاب) كمقاومة للهيمنة الغربية. وإذا كان الاستيعاب نوعاً من الإمبريالية (يجب أن تعتنقوا قيمنا)، فإن المقاومة تتخذ أشكالاً ثقافوية، يُعبّر عنها بواسطة مفاهيم الهوية، والقيم، والثقافة، التي يجب دوماً الدفاع عنها وصونها لأنها قبل أي شيء آخر اعتراضٌ على الهيمنة، من دون أن تحمل بالضرورة مضموناً خاصاً بها.
نقد الاستشراق يبدو غايةً بحدّ ذاتـه، وليس خطوةً تمهّد لمقاربة الواقع. أصـبح الاستشراق كلمةً أدائية تُســتخدم أولاً لتحديد موقعالذات في خنــدق «الخير». المستشرق هو دائمـاً الآخر.
السعيديّون هم، في آن واحد، علمانيون ومدافعون عن حق الفرد بإبراز الرموز الدينية، ليس لأنهم ليبراليون، وإنما لأن إبراز الرمز الديني هو فعل مقاومة: هذا ما يسميه فرانسوا بورغا «اللسان المسلم». المضطهَد يدافع عن هوية، تجد لها تعبيراً في الرموز الدينية، لأن الهيمنة المعاصرة تأتي بوجهٍ علمانيّ استبدل بَهْرجة رداء الكهنة القديم. من هنا يأتي التناقض في علاقة السعيديّين بالإسلام والإسلام السياسي: لا يلتزمون به، ولكن ينظرون إليه كهوية لا يمكن تجنّبها، كمجموعة من الدلالات الثقافية، بلا مضمون فعليّ ولكنها متلازمة مع الهوية المقموعة. وهكذا، تصبح ثقافوية المهيمن الملعونة مقبولة عندما تكون مصطلحاً يعتمده المقموع. يبقى أنّ اختزال الدينيّ في الثقافيّ يتجاهل، تحديداً، ما يتيح الخروج من مأزق الثقافوية: لأن المطلب الديني ليس (أو ليس فقط) مطالبةً بهوية، وإنما يمنح نفسه أيضاً معنى التأكيد على الدينيّ «الصافي»، الذي يذهب أبعد من الثقافة والهوية. تلك هي رسالة «السلفية» التي ترتكز على القاعدة الصرفة، كما أنها رسالة نقيضها، أي البحث الروحي الفردي الذي يمكن أن يذهب إلى اعتناق المسيحية، ما لا يمكن للسعيديّ أن يفهمه إلا بما هو الطور الأعلى من العزلة، اي الاستلاب. لقد أصبح السعيديون بدورهم ثقافويين.
تفكيك بلا إنتاج معرفي
إن مشكلة كتاب «الاستشراق» تكمن في أنه يحدّ نفسه في محض لعبة التفكيك للخطابات المعنية بالشرق، لكنه لا يفضي إلى أي مقاربة متماسكة لهذا الشرق الأوسط، فاستحال نظام تمثيلٍ. لو حدّد إدوارد سعيد لنفسه هدفاً قوامه التخلّص من استراتيجية السلطة الجاثمة خلف بناء الشرق، سيتأرجح بين تعريفين لماهية السلطة7.
التعريف الأول ماركسيّ: السلطة هي أولاً القوة الاستعمارية، والمستشرق ليس أكثر من عميل لهذه السلطة. التعريف الثاني، وهو كثيف الحضور لدي سعيد، يُنسب إلى فوكو وغرامشي: تُمارَس الهيمنة عبر إرساء جهازٍ معرفي وتمثيلي في باطن المهيمَن عليهم، فيتبنّونه. إذ يرتبط العمل التحرّري بعملٍ تفكيكيّ، وحده المثقف يقدر فعلياً على تولّيه (ونجد هنا بورديو)، فتكون البداية هي تهشيم هذا الجهاز التمثيلي. ولا تكون الثورة إلا وهمية ما دامت لا تتحكم بالنظام التمثيلي. لنقل عرضاً إن هذه المقاربة تلقي الضوء أيضاً على نصوص فوكو الشهيرة التي تناول فيها ثورة إيران الإسلامية. وهي نصوصٌ حُكم عليها أنها تليق بنصير حزبي [للخمينية] ساذج، في حين إنها تترجم حدساً صائباً حول استقلالية العنصر الدينيّ. والغريب انه نُسبت إلى فوكو نظرة ماركسية إلى الثورة: ينهار نظام، وييستبدل بآخر يضمن حلول الغد المشرق. إلا أني سعيتُ لإثبات أن فوكو لم يؤمن يوماً بالثورة الإسلامية، لكنه انبهر بالثورة الدينية، كتعبيرٍ عن الثورة الكاملة والنقيّة، الثورة الميتافيزيقية، تلك التي يمكنها أن «تفني» مفهوم السلطة بحدّ ذاته، بفوريّةٍ لا يمكن أن تدوم8. ففي العمق، لا يجد سعيد ولا فوكو ولا بورديو أن الثورة ممكنة لأن الفاعل على الأرض مأخوذ بحتمية الخطاب الملقى حوله، ولا يسعه أن يحكي إلا في فواصل هذا الخطاب أو خلال الإشراقات الوجيزة في الثورة الصرفة9.
والنتيجة ان النشاط الأساسي لمناهضي الاستشراق هو تفكيك الخطاب. ويشكل المثال المناسب عن ذلك كتاب فريديريك فولبي «الإسلام السياسي تحت المراقبة» (منشورات جامعة كولومبيا وهرست، ٢٠١٠)، وهو كتابٌ ذكيّ وموثّق جيداً ولكنه يقوم على برهنة أن كل ما كتب عن الإسلام السياسي هو نتاج الاستشراق الجديد، من دون أدنى مساءلة لحقيقة الموضوع، أو لما إذا كان الموضوع تمثيلاً محضاً للقوى الاجتماعية، والدينية، والسياسية (وليس التمثيلات التي يمنحها إياها المستشرِق) الفاعلة راهناً في العالم الإسلامي.
الواقع أن الحقيقة لا تهمّ السعيديّين، الذين أسرتهم التعويذة. انهم ينتظرون ثورةً غير محتملة، لكنهم لا يؤمنون أبداً بالثورات. ما يفسّر مفاجأتهم امام الاحداث، الربيع العربي مثلاً. فبعضهم يفرح، وبعضهم يتوجّس، فالحدث يضع قيد المساءلة عدداً من افتراضاتهم الخاصة (مركزية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، رفض القيم الغربية والمقصود بها الديمقراطية والليبرالية)، ولكننا لا نجد لديهم أي تحليلٍ جدّي لما يجري. بالتأكيد، هم ينتظرون أن يتوفّر عددٌ وافٍ من النصوص حول الربيع العربي، أو الخريف، أو الفصول الأربعة، حتى يتمكنوا من الاستسلام لهوايتهم المفضّلة: تفكيك الخطابات.
ولكن ما محاه الربيع العربي هو فعلياً هذا الافتراض الرئيسي في الاستشراق: الاستثناء الإسلامي. بالتأكيد، تلك ليست نهاية التاريخ، ولكنها نهاية الشرق الذي تم بناؤه كموضوعٍ كلّي. يجب أن يفرح السعيديّون، هم الذين أظهروا أن الموضوع كان شبحاً، طيفاً. ومع ذلك، تبدو عليهم آثار حنينٍ، كأنّ قطّاع طرقٍ ظهروا فجأةً في مكتبة تضمّ مجموع هذه الخطابات حول الخطابات. فالسعيديّون هم بالفعل أهل الكتاب.
- 1. يمكن هنا أن نذكر كتاب
M. Kramer,
Ivory Towers on Sand: the failure of Middle Eastern Studies in America, Washington Institute for Near Eastern Policy, 2001,
الذي يحوي جرعة داعمة لمناهضة «تسعيد» دراسات الشرق الأوسط
في أميركا. - 2. F.Pouillon et
J-C Vatin (eds.),
Après l'Orientalisme. L'orient créé par l'orient, Paris, Karthala, 2011. ويمكن أيضاً مراجعة كتاب N.Marzouki, L'Islam, une religion americaine?, Paris, Ed. Du Seuil, 2013. - 3. يروي روجر أوين عن تجربته في تقديم أفكار الكتاب أمام جمعية إسرائيل للدراسات الشرقية في العام ١٩٧٩، حيث اعتبر المستمعون الأطروحة بشكلٍ فوريّ دفاع عن القضية الفلسطينية: «Edward Said and the Two Critiques of Orientalism»,
Middle East Institute, Sept. 2009 - 4. B. Lewis,
«The Roots of Muslim Rage»,
The Atlantic,
Sept. 1990 - 5. حول هذا النقاش، يمكن مراجعة عدد مجلة Esprit الذي حمل عنوان «A la recherche du monde musulman»، الصادر في آب – أيلول ٢٠٠١، ومقالة ج. أشقر «L'Orientalisme à rebours: de certaines tendances de l'orientalisme français
après 1979»,
Mouvements,
عدد ٥٤،
حزيران/يونيو – آب/أغسطس ٢٠٠٨ - 6. سعيد بنفسه، العلماني والإنساني، يبدو ملتبساً حيال الإسلام، ولكن مؤيديه المحيطين بطلال أسد ينظرون إلى العلمانية التي يتعصّب لها الغرب كشكل آخر من الهيمنة، ومع ذلك، هم لا يطرحون الأسئلة حول طبيعة الإسلام السياسي لدى «الأخوان المسلمين».
- 7. راجع أطروحة
N. Marzouki, L'Islam introuvable: la construction de l'objet islam par les sciences sociales et l'expertise publique en France et aux Etats – Unis
(depuis la fin du 19ème siècle),
Institut d'études politiques de Paris, Déc. 2008، p. 28 - 8. O. Roy,
«L'énigme du soulèvement. Michel Foucault
et l'Iran»
Vacarmes, n.29, automne 2004 - 9. «باختصار، بسبب الاستشراق، لم يكن الشرق يوماً ولن يكون موضوع تفكير أو عمل حرّ»، إ. و. سعيد، «الاستشراق»
Edward W. Said, L'Orientalisme, Paris, Ed. Du Seuil, 1980. p.15
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.