في كتاب «الأسلوب المتأخر» غير المكتمل والصادر بعد الوفاة (٢٠٠٦)، يختتم إدوارد سعيد المرحلة الأخيرة من إنتاجه الفكري وتطوره الثقافي. اختار أن يتحدث عن مؤلفين وعازفين ومؤلفين موسيقيين على صورته ومثاله إذا جاز التعبير. لتوضيح ما أعنيه، أودّ الاستشهاد بهذا النص لغاستون باشلار:
«يجب أن يعاد للعقل البشري وظيفة العدوانية المقلِقة... فإذا لم يخاطر المرء برجاحة عقله في أي تجربة يخوضها، فإن هذه التجربة لا تستحق أن تخاض. ثم إن المخاطرة بالعقل يجب أن تكون مطلقة. وإن خصيصتها المميزة هي أن تكون مطلقة. كل شيء أو لا شيء. [...] كل اكتشاف جديد يقود إلى منظومة [فكرية] جديدة، ويجب عليه أن يدمّر منظومة سابقة.
بعبارة أخرى، الوقاحة هي المنهج في ميدان الفكر. [...] يجب أن نمضي بأسرع ما يمكن في أقاليم الوقاحة الفكرية» (باشلار، ١٩٣٦: ١٨٦- ١٨٧).
في التأخر
لست أدري ما إذا كان إدوارد سعيد قد قرأ نص باشلار. لكن النص يقول الكثير عن سعيد وعن أسلوبه. ذلك أن إدوارد سعيد في أسلوبه المتأخر يجري تحديداً بأسرع ما يستطيع في أقاليم الوقاحة الفكرية. بل يجوز القول إن إدوارد سعيد مارس مثل هذا الوقاحة الفكرية طوال حياته.
إدوارد سعيد ناقد أدبي في المقام الأول. وفي أعماله الأولى، اعتمد منهجاً نقدياً يقرأ التغيّر الاجتماعي وعلاقات القوة (بما فيها الكولونيالية) في الأعمال الأدبية. لم يقتصر الأمر على الروايات، طاول الشِّعر، كما في كتاباته عن وليام بَطلر ييتس الإرلندي وعن محمود درويش (راجع نصّه عن درويش في مكان آخر من هذا العدد). إلا أن سعيد في «في الأسلوب المتأخر» يبدو أنه يعكس الآية. إنه يقرأ النصوص الأدبية بأن يضعها في سياقاتها الاجتماعية والتاريخية.
ولكن أين الوقاحة الفكرية هنا؟
إنها في طريقة النظر إلى النضج والتأخر والهرم. التأخر هنا يعني أن لا النضج نضج ولا الهرم هرم. فالتأخر «ليس تناغماً وحلاً، إنه عناد وصعوبة وتناقض بلا حلّ» (سعيد، ٢٠٠٦: ٧)، والكلمة المفتاح هنا هي التناقض. ونص سعيد الأخير نص مخرِّب. يسير عكس التيار. ذلك أن «التأخر هو فكرة البقاء على قيد الحياة فيما يتعدّى المقبول» (سعيد، ٢٠٠٦: ١٣). ويعود سعيد إلى ثيودور آدورنو ليتبنى تعريفاً للتأخر على أنها ضاجة بالاحتمالات: «إن التأخر يعني أن تنهي [حياتك أو إنتاجك] دون أمل واهِمٍ او استسلام مصطنَع» (سعيد، ٢٠٠٦: ٢٤). والأهم من ذلك، أن التأخر دافع عظيم للإبداع، لجمالية لا تضاهى. يكتب سعيد عن ريتشارد شتراوس في آخر أعماله فيقول: «إن تعب الشيخوخة في حضرة الموت الداهم والمشتهى ليس حزناً. إنه أعمق بكثير من الحزن. إن الامتياز العظيم الذي يتمتع به الفن هو أنه يثير مشاعر لا اسم لها تمزقّنا إرباً» (سعيد، ٢٠٠٦: ٤٤).
كان يمكن إدوارد سعيد أن يعنون كتابة «نهايات» (راجع مقالة صبحي حديدي) لأنه يختتم حياة فكرية ثقافية نقدية افتتحها بكتاب بعنوان «بدايات». ولعل السبب في عدم اعتماده هذا العنوان هو أن التأخر ليس يعادل النهاية. «الأسلوب المتأخر» لا يُختَتم، ولا هو يَختتِم. هو آنٌ مستمرٌ ضاجٌّ بالتناقض والاحتمال. حقيقة الأمر أن جميع الكتّاب والروائيين والشعراء والمخرجين السينمائيين والمؤلفين الموسيقيين والعازفين المشهورين الذين اختار سعيد الكتابة عنهم قد اختيروا لأنهم مثله: «خارج المكان» بل خارج السرب وضد التيار. انهم يختتمون حيواتهم وهم «ضد زمانهم». يعيشون المرحلة المتأخرة من حياتهم وقد ازدادوا عناداً وشغباً وتمرّداً وتخريباً بدلاً من أن يكون دنو الأجل عندهم باعثاً على النضج والاعتدال أو على مهادنة الأمر الواقع أو الاستسلام له.
التأخر والزمن
مع أن «الأسلوب المتأخر» يتعلّق بالزمن، إلا أنه يتحاشى، بل يرفض «النزعة العواطفية والنوسطالجيا» (سعيد، ٢٠٠٦: ١٠٧). بيان ذلك في الموسيقى عبقرية بيتهوفن وقد انعزل في عزلة مكانية وصوتية مطلقة وخرج من زمانه في آخر أعماله. أما خلفية الأسلوب المتأخر عند مبدعين متفاوتين أمثال آماديوس موتزات من جهة، والروائي الإيطالي لامپيدوزا والمخرج السينمائي فيسكونتي، من جهة أخرى، فهي انهيار الأنظمة القديمة في أوروبا تحت ضربات الثورات الشعبية، القومية منها والاجتماعية. و«الفهد» رواية لامپيدوزا (١٩٥٨) التي حوّلها المخرج الشيوعي الإيطالي الكبير، ذي الأصل الأرستقراطي، إلى أحد روائع أفلام السينما الإيطالية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية (١٩٦٣) تصوّر تصويراً ملحمياً التفكك الاجتماعي لإيطاليا في القرن التاسع عشر. لا حنين للماضي هنا. يضيء سعيد ثالوث النهضة القومية وفشل الثورات الاجتماعية وحالة الفلاحين في إيطاليا القرن التاسع عشر، إذ يستعين بكتابات المفكر الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي عن المسألة الجنوبية. فيبدو الجنوب الإيطالي لغرامشي على شكل جموع عريضة من الفلاحين البؤساء والمضطهدين تفترسهم طبقة طفيلية من الوسطاء (قساوسة، معلّمين، جباة ضرائب) تعمل في خدمة قبضة صغيرة من كبار ملاك الأراضي (سعيد، ٢٠٠٦: ١٠١). وتنتهي الرواية، كما الفيلم، على وفاة بطلها، أمير سالينا، على خلفية التزاوج بين الأرستقراطية الإيطالية والبرجوازية الصاعدة، معبّراً عنه بعقد قران ابن أخي الأمير، تانكريدي، المغامر الوسيم والانتهازي، على آنجيليكا، ابنة التاجر الثري الحديث النعمة، على أمل بقاء الأرستقراطية الإيطالية على قيد الحياة ولو إلى حين (سعيد، ٢٠٠٦: ١١٢).
خلفية الأسلوب المتأخر عند مبدعين متفاوتـين أمثال آماديوس موتـزات من جهة، والروائي الإيطالي لامپيدوزا والمخرج السينمائي فيسـكونتي، من جهة أخرى، هي انهيار الأنظمة القديمة في أوروبا تحت ضربات الثورات الشعبيــة
أقصوصة «موت في البندقية» للألماني طوماس مان، تحوّلت إلى أوبرا (١٩٧٣) للموسيقي البريطاني إدوارد بريتن. وهي نتاج «الأسلوب المتأخر» لبريتن، بل هي آخر أعماله (وفاته ١٩٧٦). تروي الأوبرا قصة وفاة البطل، الفنان الألماني المستوحد ڤان آشنباخ، دون أن يستطيع التواصل مع، أو الوصول إلى، الفتى البولندي الذي افتتن به. المكان فندق في البندقية، المدينة الإيطالية المشتهاة، المتعددة الهويات، التي يضربها وباء آسيوي غامض ترفض الاعتراف بوجوده.
المعرفة بما هي عملية بناء
من الأوبرا إلى العزف، مع عازف البيانو الأميركي اللامع غلين غولد، «العازف المثقف»، على حد تعبير سعيد، الذي يشكل عزفه النقيض من العزف الموسيقي الاستهلاكي، ليس يؤدي القطعة الموسيقية تأدية، يحلل النص الموسيقي تحليلاً. ويذكّر أسلوب غلين غولد المعاصر سعيد بالفيلسوف والمؤرخ الإيطالي جيانباتيستا فيكو (وفاته ١٧٤٤) في مفهومه عن «الابتكار». والابتكار هنا هو «العثور على تِيمة وتطويرها على نحو طِباقي بحيث يمكن إحياء كل ما تنطوي عليه من إمكانات ضامرة والتعبير عنها وتطويرها». وأبرز إسهام لفيكو في حقل المعرفة هو أنه ناقد لديكارت ومعادلته عن التفكير والوجود. يطرح فيكو في «العِلم الجديد» (١٧٢٥) الفكرة القائلة إن إثبات حقيقة ما لا بد أن يكون بواسطة الإبداع والابتكار، لا من خلال مجرد المعاينة. الحقيقي هو ما يُصنَع تصنيعاً. هكذا تنفتح العملية المعرفية على الاحتمال والظرفي والاكتشافي. أي على البناء المعرفي، أي «القدرة على النظر إلى التاريخ البشري على أنه من صنع القدرة المتفتحة لعقل الإنسان العامل» (سعيد، ٢٠٠٦: ١٢٨). اكتشف إدوارد سعيد فيكو باكراً في مرحلة «بدايات». لكنه يعود إليه في مرحلته المتأخرة هذه، بما هو ملهِم نزعته الإنسانية العقلانية الديمقراطية التي توّج بها حياته الفكرية.
ويسهل العبور من الابتكار إلى الانتهاك والتدمير. والطاقة المعنية هنا هي الجنس «يعيث خراباً» في الدنيا مع اقتحام ديونيسيوس، الإله الآسيوي، لمدينة طيبة الإغريقية في مسرحية يوريپيديس «الكاهنات العربيدات». والمسرحي الإغريقي لا همّ له غير تدمير الأساطير. يؤنسن الآلهة لمزيد من القدرة على تدميرهم (سعيد، ٢٠٠٦: ١٣٨- ١٤٠).
قسطنطين كاڤافي، هو شاعر المدن بامتياز، وإن تكن مدينته الإسكندرية مقتلعة من بيئتها المصرية إلى عالم هيلينستيّ إغريقي. لدى الشاعر المخضرم بين القرنين التاسع عشر والعشرين، يكتشف سعيد ميزة أخرى من ميزات الأسلوب المتأخر، إنها «قوة التعبير عن الخيبة والمتعة دون سعي لحل التناقضات بينهما»
(سعيد، ٢٠٠٦: ١٤٨). على أن للتأخر عند كاڤافي معنى مختلفاً عن سائر «المتأخرين»، وإن يكن ينطوي على انقلابات مدهشة في الأساطير هنا أيضاً. يعيد الشاعر قراءة ملحمة «الأوذيسة» فيقلبها رأساً على عقب بحيث لا تعود رحلة العودة لأوذيسيوس إلى زوجته بينلوپي في إيثاكا هي الهدف بقدر ما العودة هي الدافع إلى الرحلة أصلاً. «مَنحَتكَ إيثاكا رحلة رائعة/ لولاها لما اعتزمت الرحيل/لم يعد لها أن تقدّم لك شيئاً الآن». هكذا، على عكس التفسير والاستخدامات والاستلهامات المغزولة حول رمزية إيثاكا، تخسر إيثاكا صفة الهدف أو التطلع، تصير حقيقة متحققة أي مجردة من أي وعد. فالغد، عند كاڤافي، لا يأتي، وإن أتى فعلى شكل عودة إلى ما قد حصل. إلا أن ذروة هذا الانقلاب تقع في رائعة كاڤافي الشهيرة «في انتظار البرابرة» حيث انتظار كارثة وشيكة يتبدد عند اكتشاف «أنه لم يعد هناك برابرة». فيقود الاكتشاف إلى عبارة أسى فاجعة «كانوا، هؤلاء القوم، نوعاً من حلّ».
تجاوز الهويات
لم يعد يوجد ثنائيات، لم يبقَ غير تناقضات لا تجد سبيلاً للحل. وغياب الحل قد يعني القلق والاضطراب، لكنه قد يوحي أيضاً، وخصوصاً، بوفرة الإمكانات والاحتمالات، أو حتى تعدد الحلول المتضاربة، لا انسداد الأبواب.
في كتابه «في الأسلوب المتأخر»، انتقل إدوارد سعيد على نحو حاسم من ثنائيات «المكان» (شرق/غرب؛ معرفة/سلطة في «الاستشراق» وشمال/جنوب، في «الثقافة والإمبريالية») إلى «الزمن» ومفاعيله. واضح أنّ النقلة تمت بمساعدة عدد جديد من المفكرين والفلاسفة أمّنوا له الانتقال من سارتر إلى فوكو، ومن فوكو إلى فيكو، ومن هذا الأخير إلى غرامشي ورايموند وليامز ولوكاش وغيرهم.
في «الأسلوب المتأخر»، يستكمل سعيد تصفية حساباته مع الهويات والإشكاليات الانتمائية والثقافوية، في تعليقه على كتابات جان جُنيه، الذي يصفه بأنه «مذيب الهويات » (سعيد: ٢٠٠٦، ص ٨٢).
هنا نلقى تعريفاً للهويات وموقفاً منها يختلف جذرياً عنه في «الاستشراق»: «الهوية هي ما نفرضه على أنفسنا خلال حيواتنا بما نحن كائنات اجتماعية وتاريخية وسياسية بل وروحانية. إن منطق الثقافة ومنطق العائلات يضاعف من قوة الهوية... إن الهوية هي العملية التي بواسطتها تفرض الثقافةُ الأقوى، والمجتمع الأكثر تطوراً، نفسيهما بالعنف على الذين، يجري استصدار الأمر باعتبارهم شعباً دونياً، وفق العملية الانتمائية ذاتها. إن الإمبريالية إن هي إلا عملية تصدير الهويات» (سعيد، ٢٠٠٦: ٨٥).
هذا الاستشهاد مقتطف من الفصل عن الكاتب والمسرحي والصعلوك الفرنسي جان جنيه. الهويات مفروضة. ولعل جنيه خير مثال على الهويات المفروضة، وهو ضحية هوية فرضت عليه، وعلقت به، بسبب لصوصيته وعزلته ومثليته. والسبب في إقحام الإمبريالية في مسألة الهويات ليس يقتصر على كون إدوارد سعيد يتناول كتابات جنيه عن الثورتين الجزائرية والفلسطينية. أراد سعيد أن يعلن، مع جنيه ومن خلاله، القطيعة مع إشكاليات الهوية والانتماء عموماً. ومع أن الأمر في الثورتين الأخيرتين يتعلّق بالدرجة الأولى بفرض الهوية، أو ربما لأنه كذلك، فإن جنيه، مثله مثل كاڤافي وسائر المخرّبين في «أساليبهم المتأخرة»، يقلب الأمور رأساً على عقب: يكتب عن ثورات التحرر الوطني ويتصورها ويعيشها، بالضد من منطق الهويات وبالضد من النزعات الانتمائية. الفدائي «سعيد» هو اسم بطل مسرحيته عن الثورة الجزائرية بعنوان «الأسترة». وعقدة المسرحية هي عندما يقدم «سعيد» على الوشاية برفاقه الفدائيين عن قصد، بفعل إرادي ودون إكراه. لماذا؟ لكي ينقض فكرة الهوية وينسفها من الاساس؟ أم ليثبت أن الخيانة هي أرقى تعبير عن الحب؟
من يدري؟
يصف إدوار سعيد جان جنيه بأنه «مُذِيب للهويات».
ويصف جان جنيه الثورات بقوله: «إن محاولة التفكير في الثورة أشبه بأن تستيقظ وتحاول العثور على المنطق في حلم حلمته» (سعيد، ٢٠٠٦: ٨٨).
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.