بعد تسعة وعشرين عاماً على صدور كتاب «النبي» لجبران خليل جبران بالإنكليزية (1923)، نشر ميخائيل نعيمة كتابه «مرداد» (1952)، وكان قد سبقهما إلى تسلق شجرة النبوة أمين الريحاني في «كتاب خالد» (1911).
جاءت سلسلة النبوءات الأدبية الآتية من تجربة الهجرة إلى أميركا الشمالية، لتعالج ولو بشكل موارب، مسألة التشظي الاجتماعي في بلاد الشام، عبر الوصول إلى خلاصة نبوية تستوعب التعددية في الواقع الاجتماعي.
الأدب النبوي
أستطيع أن أفترض أنّ هذه الكتابة النبوية لم تكن فقط استمراراً لترسيمة «الملك- الشاعر- النبي» المأخوذة من التراث العربي الكلاسيكي، والتي أوصلها المتنبي إلى ذروتها، لكنها كانت أيضاً نوعاً من الجواب على سؤال لم تجرؤ الثقافة العربية في مرحلتي عصر النهضة والحداثة على طرحه، هو سؤال الحرب الأهلية اللبنانية 1840- 1860، التي كانت اللحظة التأسيسية للكيان اللبناني، والتي امتدت تردداتها إلى فتنة دمشق الطائفية عام 1860.
كان الجواب الثقافي والأدبي لهذا المزيج بين الاستعمار والحداثة من جهة، وبين التصدعات الطائفية من جهة ثانية موارباً؛ فهو في عرف مؤسسي حركة النهضة الأدبية الشوام، كان دعوة إلى الوطنية والوحدة وتبنياً للفكرة العربية. لكنه مع نبوءات الثلاثي اللبناني الأميركي اتخذ، ولو بشكل جزئي، شكل دعوة إلى ما يشبه الإيمان الديني- العقائدي الجديد، الذي يتجاوز الانقسامات ويجعلها تأتلف في اختلافاتها. وإذا كان الكتاب الوحيد الذي عرف نجاحاً كبيراً هو «نبي» جبران، فلأنه كان الأقرب إلى التراث النبوي، والأكثر التصاقاً بلغة الأناجيل التي ترجمها إلى العربية الشدياق واليازجي والبستاني.
والطريف أنّ هذه الموجة النبوية لم تقتصر على الأدب وحده، إذ امتدت إلى ظواهر دينية أو شبه دينية، كظاهرة الفلسطيني سليم العشي، داهش بك (1901- 1984)، التي خلخلت نظام بشارة الخوري، أول رئيس للبنان المستقل، بدينها الجديد، وظاهرة سليمان المرشد أو الرب (1907 – 1946)، الذي أُعدم في سورية في رئاسة شكري القوتلي وأسس ديناً جديداً داخل المذهب العلوي.
يمكن المحلل أن يعزو دعوة المدرحية التي نادى بها أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي، إلى محاولة توحيد علمانية ارتكزت على «الإسلام برسالتيه: المسيحية والمحمدية» إلى هذا النسق من النبوءات الناقصة، كذلك يمكن الافتراض أنّ نص مؤسس حزب البعث ميشال عفلق «في ذكرى الرسول العربي»، يمكن إدراجه في سياق مشابه.
أعود إلى النبوءة الأدبية للثلاثي الريحاني- جبران- نعيمة، لأتساءل عن معنى علاقة أنبياء النصف الأول من القرن العشرين الأدبيين بمقولة الالتزام الادبي التي راجت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته؟ أي كيف اتخذت مثالية النبوءات شكلها الجديد، الواقعي، من دون أن تتخلى عن ثوابتها الأساسية؟
أنهى محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس كتابهما «في الثقافة المصرية» (دار الفكر الجديد، القاهرة، 1955) بهذه العبارة المأخوذة عن الكاتب الروسي مكسيم غوركي: «يجب أن نُظهر على المسرح المعاصر بطلاً واقعياً بأوسع ما في هذه الكلمة من معنى، وعلينا ان نُظهر للناس الكائن المثالي الذي يترقبه العالم منذ الأزل».
أليس مستغرباً هذا الشعور بضرورة أن يكون البطل الواقعي كائناً مثالياً؟ والأغرب من ذلك هو تحويل علم الجمال في القاموس الستاليني الجدانوفي إلى بحث عن مثالية هي نقيض الجدلية؟
كذلك إن مقارنتي بين المقترب الرومانسي المثالي الذي حفل به الأدب الجبراني وبين كتاب النظرية الواقعية الاشتراكية في الأدب العربي لمؤلفيه العالم وأنيس يبدو غرائبياً هو الآخر، فما الذي يجمع بين مؤلف «الأجنحة المتكسرة» وبين النص الذي اعتبر أفضل مدخل نظري عربي للالتزام الماركسي في الأدب العربي؟
أخلاط وتحوّلات
هل نحن أمام تاريخ ثقافي متسق العناصر، أم أنّ الذي جعلنا نفترض وجود قرابة ما بين الداهشية والفكر القومي، بصفتهما محاولة لتلافي الإجابة عن الأسئلة الصعبة التي طرحها التشظي الأهلي وحروبه المعلنة والمستترة، يقدم إضاءة ما للعلاقة بين جبران وعبد العظيم أنيس، وبين ماركس والكائن المثالي المنتظر؟
قبل أن نحاول تحليل هذه المفارقة واكتشاف معانيها ودلالاتها، أود أن أعترف بأنّ مصطلح الالتزام لم يكن يوماً جزءاً من قاموسي الشخصي. أعتقد أنني كنت ولا أزال مواطناً ملتزماً شروط المواطنة، ومثقفاً يشعر بأنّ عليه واجب الدفاع عن قيم الحرية والعدالة. لكن لم يخطر في بالي يوماً، منذ أن بدأت بكتابة الرواية، في أواسط السبعينيات، أن على أدبي أن يخدم قضية، أو تياراً سياسياً. لذا شعرت بعدم الراحة والانزعاج عندما عدت إلى قراءة الأعمال النقدية التي نشرت في الخمسينيات والستينيات. غير أن هذه العودة سمحت لي من جهة ثانية بأن أُعيد النظر في ما اعتبرته بديهياً في تاريخ الأدب العربي الحديث.
النصوص التي عُدت إليها قدّمت لي درساً مشوّقاً في الكيفية التي نقرأ بها الماضي. فما بدا كأنه تناقضات أدبية كبرى، كالمعارك الأدبية بين مجلّتَي الخمسينيات الأساسيتين: «الآداب» و«شعر»، يمكن أن يُقرأ اليوم بصفته تلوينين للظاهرة نفسها. الطليعة الشعرية في «شعر»، التي تبنت خطاباً ليبرالياً، والطليعة القومية في «الآداب» التي تبنت خطاباً وجودياً، قامتا من موقعيهما المختلفين في بناء ترسيمة الانبعاث التي هيمنت على الخطاب الأدبي في تلك المرحلة. ومن اللافت في هذا السياق أنّ قصيدة بدر شاكر السياب «أنشودة المطر» التي اعتبرتها مجلة «شعر» نموذجاً للحداثة الشعرية، نُشرت أولاً في مجلة «الآداب» عام 1953.
كذلك إن النقاد الماركسيين بخلفياتهم المتعددة ومصادرهم المعرفية المتنوعة سرعان ما سيلتحقون بالترسيمة القومية. رئيف خوري في لبنان الذي صكّ تعبير «الأدب المسؤول»، والذي أثارت مناظرته في بيروت مع طه حسين «أدب الخاصة وأدب العامة» الكثير من الاهتمام، والذي كان رئيساً لتحرير المجلة الأدبية والنظرية للحزب الشيوعي: «الطريق»، سوف ينضم إلى خطاب الأدب القومي، بينما سيلتحق رفاقه من المثقفين الشيوعيين المصريين، بعد أعوام الاعتقال في سجون ناصر، بالجهاز الايديولوجي للنظام الذي سبق له أن قام بقمعهم.
قد يرى المرء في تحولات الشيوعيين المصريين إحدى علامات «خيانة المثقفين»، بحسب التعبير الذي استخدمه جوليان بندا، أو بالأحرى كعلامة لفوضى الحقل الثقافي - الأدبي الذي كان يحاول صوغ أجوبته داخل مناخات التغييرات المتسارعة التي عصفت بالمشرق العربي بعد حرب النكبة عام 1948.
كيف نفهم تحولات شاعر كالسياب انتقل من المعسكر الشيوعي إلى المعسكر القومي بالرشاقة نفسها التي انتقل فيها إلى المعسكر الليبرالي في مجلة «حوار»، من دون أن يغير ذلك من طبيعة شعره! أو كيف نقرأ تجربة أدونيس الذي بدأ حياته الأدبية في الحزب السوري القومي، ثم انتقل إلى تأسيس مجلة «شعر» مع يوسف الخال، الذي كان متعاطفاً مع طروحات شارل مالك الليبرالية، قبل أن يغازل «الندوة اللبنانية» التي كانت المنبر الثقافي للنظام الشهابي، ثم يترك «شعر» لينشر في «الآداب»، ويهدي قصيدته «ملوك الطوائف» إلى جمال عبد الناصر، قبل أن يبدأ مغامرته شبه اليسارية في «مواقف»، ويدخل في التباسات المواقف مع انطلاق الثورة السورية؟
سارتر والانبعاث القومي العربي
لا أعتقد أن تعبيري فوضى الحقل الأدبي وخيانة المثقفين اللذين استخدمتهما أعلاه يعبّران عن تعقيدات الواقع؛ إذ سيقرأ بعض المثقفين الماركسسيين المصريين أعمال رفاقهم كعلامة تعب و/أو سيتم وضعها في إطار السياسة السوفياتية التي كانت سياسة قوة عظمى، تستخدم الايديولوجيا بصفتها أداة في خدمة السياسات والتحالفات المتغيرة. لكن هذه المسألة تستحق بحثاً خاصاً بها.
في المقابل، نستطيع أن نرى في المقاربات التي قرأت أعمال ت. اس. اليوت وجان بول سارتر علامة عدم نضج واضحة. اليوت الذي اعتبره شعراء مجلة «شعر» أحد أهم مرجعياتهم الأدبية، سوف يُقرأ بصفته رائداً لاستخدام الأسطورة في الشعر. لا شك أن ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لكتاب «الغصن الذهبي» لجايمس فرايزر لعبت دوراً كبيراً في هذا المجال. غير أن الطرائق التي قرئت بها قصائد كـ«الأرض اليباب» و«الرجال الجوف»، تثير الحيرة فعلاً. إذ لن تُقرأ الأسطورة كمبنى شعري إلا بصفتها علامة انبعاث في قصائد الخال والسياب وأدونيس وآخرين، وبذا سوف تلتحم بالترسيمة القومية التي صاغها عصر النهضة.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن صوتَي أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا شذّا عن هذه القاعدة، الأول بنثره العصبي المأخوذ من القاموس السوريالي، والثاني بانتمائه إلى المدرسة الشعرية اللبنانية.
في المقابل، سوف يُقرأ «الالتزام» السارتري كمدخل إلى الانبعاث القومي على أيدي سهيل إدريس ورفاقه في حومة النضال القومي من أجل استقلال العرب ووحدتهم، ما سمح بإهمال المقولة السارترية في حرية الكاتب كجزء من حرية القارئ.
هكذا سيصير سارتر قومياً عربياً، من دون علمه، وسيملأ فجوة في الخطاب الأدبي القومي الذي كان يحتاج إلى أداة نظرية من أجل مواجهة المفهوم الماركسي للالتزام.
أما عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم، فإنهما، بعد مهاجمة اليوت ككاتب رجعي في كتابهما، وصوغهما لمسافة واضحة عن الوجودية، عبر نقدهما لكتاب عبد الرحمن بدوي «الأخلاق الوجودية»، سيستخدمان المصطلح السارتري حول البناء العضوي للنص.
يستطيع المرء أن يحاول فهم هذه القراءات الخاطئة أو التي قامت بنسخ الأصل وتحويره عبر الاستعانة بفرضية إدوارد سعيد حول هجرة النص، الذي يسمح لنا بأن نفهم كيف تملك النصوص مصائرها الخاصة عبر رحلتها في الترجمات المختلفة. لكن هذا الافتراض لن يساعدنا كثيراً، لأن النصوص التي نناقشها هنا اكتفت باستخدام النصوص المهاجرة ككلمات مفاتيح من أجل طرح أسئلتها وأجوبتها عن دور الإنتاج الأدبي الملتزم في عملية بناء الأمة بعيد الاستقلال والنكبة.
لقد برهنت النكبة على أن الاستقلال لم ينجز بعد، وأن المعركة مع القوى الكولونيالية لا تزال هي المسألة الأساسية، وبهذا المعنى فإن وعود النهضة يجب أن تستعاد وتتحقق.
لن أقوم هنا بتحليل النهضة، التي لم تكن تجسيداً لعصر ليبرالي لم يتحقق، بحسب ألبرت حوراني، كذلك لن أناقش النمذجة الثلاثية لمثقف عصر النهضة (الشيخ والليبرالي والتقني) كما بلورها عبدالله العروي في كتابه المهم «الإيديولوجية العربية المعاصرة»، لكنني سوف أؤكد الفكرة الأساسية التي هيمنت على الفكر النهضوي والتي ارتكزت على مقولة الانبعاث. اتخذ هذا الانبعاث أشكالاً متعددة: تجديد الفكر الإسلامي وفتحه على الاجتهاد والتأويل، تحديث الجيش، حرية الفكر، النضال من أجل الدستور والحكم الذاتي... غير أن الهدف الرئيسي والإنجاز الأكبر تمثّل في تحديث اللغة العربية وإحيائها.
النهضة بين ماضٍ ومستقبل
كانت النهضة محكومة بمنظورين: الأول يتوق إلى الماضي ويسعى إلى إحياء العصر العربي الذهبي من خلال لغة المتنبي، والثاني يبحث عن المستقبل عبر سعيه إلى تبني النموذج الثقافي الغربي. غير أن عين المستقبل لم تر سوى الماضي، هكذا فإن جبران خليل جبران، الذي عاش في الولايات المتحدة وزار فرنسا لم يتأثر بالطليعة الأدبية في أوروبا مطالع القرن العشرين، بل تأثر وقلّد وليم بلايك الشاعر والرسام الإنكليزي الذي عاش في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
الماضي الأول كان غامضاً ولا يستطيع أن يقدم نموذجاً سياسياً ملموساً. الوحدة العربية كانت افتراضاً حديثاً لم يسبق له أن وجد في الماضي، إلا خلال فترة قصيرة جداً خلال الدولتين الأموية والعباسية. غواية الماضي هيمنت على فكرة حديثة لأمة يجب أن تخلق وتبنى. وهذا سوف يقود إلى سوء تفاهمات عميقة، وسوف يدفع مفكراً علمانياً كميشال عفلق مؤسس حزب البعث، إلى أن يصنع من تراث الرسول العربي صورة قومية قامت بتجسيد عبقرية الأمة!
أما الماضي الثاني، فكان أوروبا بتفوقها العسكري والسياسي، لذا فإن سؤال شكيب أرسلان في كتابه: «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم» (1939)، سوف يبقى سؤالاً أساسياً في الثقافة العربية.
علينا أن نعترف بأن سؤال العلاقة بالغرب سوف يحتل موقعاً مركزياً في الفكر والأدب العربيين من سلسلة روايات الطلاب الذين يذهبون إلى الغرب للدراسة، والتي قامت بتأنيث الغرب: توفيق الحكيم: «عصفور من الشرق»، سهيل إدريس: «الحي اللاتيني» الطيب الصالح: «موسم الهجرة إلى الشمال»، إلى كتاب هشام شرابي: «المثقفون العرب والغرب»، إلى آخر ما لا آخر له...
لكنني أعتقد أنّ كتاب رئيف خوري: «أثر الثورة الفرنسية على الفكر العربي الحديث»، كان محاولة للذهاب إلى أبعد من هذه الثنائية عبر رؤية التراث الإنساني ملكاً للبشرية وليس ملكاً لثقافة معينة. مقترب رئيف خوري هذا يجب أن يُقرأ في إطار ازدهار الايديولوجية الماركسية في أوساط المثقفين العرب في الخمسينيات والستينيات. ومناظرته مع طه حسين في بيروت عام 1955 لا تشير فقط إلى تفوق الفكر الليبرالي كما عبّر عنه عميد الأدب العربي، ولا إلى المسافة الضيقة بين ليبرالية حسين وماركسية خصومه الجدد التي كان من الممكن ردمها أو تجاوزها، بل تشير أساساً إلى مأساة عزلة الفكر الليبرالي كما عبّر عنه طه حسين التي تعود أساساً إلى المناخ السياسي الذي ساد بعد ثورة العسكريين المصريين بقيادة جمال عبدالناصر.
سوف يترك ضمور الفكر الليبرالي أثراً مباشراً على الحياة العربية بعد هزيمة حزيران 1967. هذه الهزيمة سوف تقود إلى كسوف المشروع القومي، وصعود تيار الإسلام السياسي بصفته البديل الوحيد المتوافر.
فكرة الانقلاب
يرى الكثير من الدارسين في حرب النكبة عام 1948 قاطرة التغيير الرئيسية في المشرق العربي؛ إذ بعيد النكبة مباشرة، بدأ مسلسل الانقلابات العسكرية التي ستعصف بالحياة السياسية وتحدث انقلابات شاملة في الواقعين السياسي والاجتماعي. ومع ضباط القاهرة وأساتذة التعليم الثانوي في دمشق سوف يولد خطاب قومي جديد، قائم على فكرة الانقلاب التي سبق لقسطنطين زريق أن بلورها في كتابه عن «معنى النكبة». جاء ناصر إلى السلطة كي يملأ الفراغ الذي خلفته هزيمة 1948 بخطاب قومي تحديثي من أجل أن تصير مصر شبيهة بإنكلترة، كما قال في كتيبه «فلسفة الثورة». الجيش سيصير طليعة المجتمع، وستحلّ الأحزاب السياسية وتمنع. وسوف يواجه الشيوعيون والإخوان المسلمون القمع والسجون، وسوف يتحول القائد رمزاً للأمة.
الجدير بالملاحظة أن ضباط القاهرة الشبان بدأوا عملهم السياسي تحت تأثير الإسلاميين، لكنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم ينحازون إلى اليسار بعد فشل تمويل السد العالي، وخصوصاً بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وحاجتهم إلى السلاح من دول المعسكر السوفياتي.
ومن سخرية التاريخ أن يكون السلاح التشيكي الذي كان مصدر التفوق العسكري الإسرائيلي في حرب النكبة عام 1948 هو مصدر السلاح الذي سيسمح للمصريين بتحديث ترسانتهم العسكرية.
لقد تصدت النخبة المصرية الجديدة الحاكمة، عبر تزعمها للحركة القومية، ليس لحكم مصر وحدها، بل لقيادة العالم العربي، بحيث أدخلت المشرق في منطقة جديدة باتت معها الحدود الجغرافية التي فرضها التقاسم الاستعماري بعد أفول الدولة العثمانية معرضة للتخلخل، عبر الوحدة المصرية السورية والتسوية اللبنانية بعد حرب 1958 الأهلية، والتدخل العسكري المصري في اليمن...
هنا برزت الأسئلة الكبرى: ما معنى الوحدة العربية؟ ما هي الاشتراكية؟ وما هي طبيعة الصراع العربي - الإسرائيلي وآفاقه؟
هذه الأسئلة لم تكن سياسية فقط، بل كانت فكرية وثقافية أيضاً، وسوف تبقى من دون إجابات وافية، ما عدا بعض الإنجازات العملية كالإصلاح الزراعي وبناء السد العالي والوحدة مع سورية التي لم تعمّر أكثر
من ثلاث سنوات.
وفي النهاية جاءت هزيمة الخامس من حزيران 1967 لتخلخل كل شيء وتجعل من انهيار المبنى بأسره مسألة وقت، ومع الهزيمة سوف ترتفع أسئلة النقد والنقد الذاتي.
قدمت التجربة القومية، على المستوى الثقافي، نموذج الالتزام الأدبي، الذي كان كما لاحظنا سابقاً مزيجاً من الالتزام السارتري والمفهوم السوفياتي للواقعية الاشتراكية. مقتربان متناقضان سوف يمتزجان ويقومان بإحياء الترسيمة الكلاسيكية العربية: الشاعر - النبي - الملك، في محصلة تمزج السلطة بمعارضتها والمثالية بالواقعية والصعلكة بالانتماء إلى متن جديد.
لم تأت هذه الترسيمة من لا مكان، كذلك فإنها ليست المرجعية الوحيدة الممكنة، غير أنها كانت خياراً قامت به النهضة باعتباره الأكثر قرباً من مشروعها السياسي - الايديولوجي. فالفكرة الرئيسية التي كانت خلف مشروع المملكة الفيصلية في بلاد الشام هي أن التخلي عن الدولة العثمانية سوف يجري تعويضه عبر الدخول في إمبراطورية عربية تم إحياؤها. هذه السذاجة التي تأسست حول حلم المجد العربي سوف تواجه بحقائق الواقع الكولونيالي الذي نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبالمشروع الصهيوني الذي كان جزءاً عضوياً من هذه الحقائق الجديدة. غير أن هذه الحقائق المحبطة لم تستطع أن تغيّر شيئاً في وعود النهضة، هذه الوعود نفسها سوف يجري تجديدها بعد النكبة عبر حركة قومية جديدة يقودها الضباط في مصر.
كانت هذه الترسيمة خياراً تاريخياً؛ فالنموذج هو اللغة الذهبية والشعر، لذا جرى غضّ النظر عن جميع الإنجازات الثقافية التي قدمها ما يطلق عليه اسم عصر الانحطاط، من «ألف ليلة وليلة» إلى النتاج الفلسفي، لأنها لا تلائم صورة الذات المنتفخة بفكرة إحياء ماضٍ مجيد صنعته الخرافة.
الحداثة المصرية التي شكلت مع طه حسين محاولة قطع مع هذه الرؤية لم تستطع خلخلة النموذج المسيطر. في روايته «ليالي شهرزاد»، سيقوم توفيق الحكيم بنقل مركز ثقل الحكاية من راويتها الأنثى إلى تراجيديا الملك المذكّر، كما أن نجيب محفوظ سوف يكرّر في روايته «ليالي ألف ليلة وليلة» هذا الانزياح، وستتشكل الرواية حول الصراع على السلطة، وبذا تتهمش الشخصية الأنثوية ويتلاشى سحر راوية الحكايات.
ما قادني في بداية هذا المقال إلى «نبي» جبران، لم يكن إعجابي بهذا الكتاب؛ فأنا أعتقد أنه كتاب ساذج ولا يمكن مقارنته بنتاج جبراني آخر كقصة «خليل الكافر» التي تتفوق عليه في بنيتها التجديدة وجرأتها الاجتماعية.
لعب جبران دوراً أساسياً في تجديد اللغة، عبر تعريضها لأوجاع الرومانسية وفتحها على التعبير الشعري المليء بالرموز، وهذا ما نجد بعض آثاره في «النبي»، المليء بالأمثال والحكم المأخوذة من هنا وهناك. والحقيقة أنني لا أعتقد أن «النبي» يصلح لأن يكون مدخلاً إلى بحث عن الالتزام وما بعده، لكن ما دفعني إلى هذا الخيار هو عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم في كتابهما الذي يشكل بيان الواقعية الاشتراكية في الأدب العربي، حيث يبرز بشكل مفارق «الكائن المثالي» كبطل واقعي!
لم يعش الالتزام كمفهوم وممارسة طويلاً. فهزيمة الخامس من حزيران لم تعن فقط نهاية المرحلة القومية في المشرق، بل نهاية المفاهيم التي أحاطت بها، وفي مقدمتها مفهوم الالتزام بغموضه والتباساته وتوليفه ما بين المتناقضات. مفاهيم المرحلة القومية سوف تشكل أساس الانتقال من أنظمة القمع الشعبوية إلى القمع العاري الذي سيأخذ العالم العربي إلى المزيد من الهزائم والكوارث.
اللافت أن أدباء الالتزام لم يعتبروا الدفاع عن حرية التعبير قضيتهم الأولى، على الرغم من أن اليساريين عاشوا، في ظل الديكتاتورية، أكثر أيامهم صعوبة وقمعاً. التسوية مع القوميين بناءً على إرشادات السوفيات، سوف تفضي بهم إلى خسارة تفوقهم الأخلاقي، وعندما بدأت أصواتهم ترتفع من جديد ابتداءً من عام 1966 وفي مرحلة ما بعد الهزيمة، سوف يكون الوقت قد تأخر من أجل أن يلعبوا دوراً سياسياً مؤثراً، وسيدخل إبداعهم وتجديدهم الأدبي المشهد الأدبي بصفته جزءاً من مفهوم جديد يمكن أن نطلق عليه اسم ثقافة ما بعد الالتزام.
ثلاث لحظات
سوف أقدم تحليلاً أولياً لثلاث لحظات يمكن أن تشكل بداية ما بعد الالتزام، علماً بأن الفصل الذي أقترحه بين هذه اللحظات هو مجرد خط نظري، كذلك فإن الدور الذي لعبته دراسات النقد الجديد: عبدالفتاح كيليطو ومحمد لطفي اليوسفي ورجاء بن سلامة... يجب أن يُقرأ كجزء أساسي في تغيير معطيات الحقل الأدبي، وصولاً إلى مقاربات أدبية جديدة.
اللحظة الأولى هي لحظة الحساسية الجديدة بحسب إدوار الخراط. تجسد هذه الحساسية الخيبة الكبرى من الخطاب القومي. نستطيع أن نفترض أن هذه الحساسية بدأت برواية صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة»
(1966)، و/أو مع مجلة «جاليري ٦٨». لقد بدأت
خيبة الأمل من لحظة تداعي السحر الذي ارتسم من حول النظام العسكري الشعبوي في مصر بعد هزيمة حزيران 1967. لقد حطمت هذه الهزيمة مفهوم الالتزام من دون أي معركة أدبية تستحق الذكر. ولأن جيل الستينيات كان في مجمله آتياً من تجربة اليسار، فإن هذا ما أعطاه الشرعية والحرية لتجاوز مفهوم الالتزام، وقد رافق ذلك، في بعض الأحيان، مباركة آباء اليسار ودعمهم. ولعل أبلغ نموذج لهذه المباركة هو كتاب محمود أمين العالم: «ثلاثية الرفض والهزيمة، دراسة في أدب صنع الله إبراهيم».
مع هذه الموجة الجديدة دخل الأدب مرحلة تجريبية سوف تشكل بداية كتابة جديدة، حيث سيصير الالتزام مزيجاً من الموقف النقدي ومقترباً لاكتشاف أساليب وأشكال كتابية جديدة.
اللحظة الثانية هي لحظة شعرية. اللافت في حركة الالتزام العربية أنها رفضت اقتراح سارتر بإبقاء الشعر خارج الالتزام والتعامل معه بصفته فناً عصياً على هذا النوع من التصنيف. على العكس من ذلك، فالشعر كان في مركز النقاش في مصر والمشرق. حتى يوسف الخال فإنه سوف يجد في الناقد المصري غالي شكري مدافعاً عن طريقته الشعرية الخاصة في الالتزام.
بعدما نشر الروائي الفلسطيني غسان كنفاني كتابيه: «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة» (1966) و«الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال» (1968) سوف تحتل أصوات الشعراء الفلسطينيين الشباب - محمود درويش وسميح القاسم - المشهد الشعري في العالم العربي. هذه الأصوات التي عبرت سياج السجن الإسرائيلي وأتت لتنقل عذابات الأقلية الفلسطينية التي بقيت خلف الخط الآخر، سوف تُقرأ بصفتها جواباً مباشراً على الهزيمة الحزيرانية.
كانت بدايات الشعر الفلسطيني الجديد مزيجاً من الرومنطيقية والواقعية، وستبني تجارب قباني والسياب والبياتي وناظم حكمت قاموس هذا الشعر وإيقاعاته الموسيقية. لكن درويش سرعان ما سوف يدخل في مرحلته التجريبية في مناخ سبعينيات بيروت، وستتصادى قصائده مع الرواية الفلسطينية في سعيها إلى اكتناه تعقيدات الشرط الفلسطيني، حيث تشكل روايات كنفاني وحبيبي علامات كبرى في تأسيس صوت ثقافة ملتزمة تذهب في التزامها إلى الحرية التي تجعل منها بداية لما بعد الالتزام: كنفاني في مشروعه لتقديم إعادة نظر جذرية في النكبة، وقدرته على فتح النقاش حول عذابات الآخر/العدو في روايته القصيرة: «عائد إلى حيفا» (1969) وحبيبي في ثورته الأسلوبية التي اعتمدت أساليب القص الكلاسيكية التي افتتحها الغيطاني، محولة اليومي إلى خرافة والخرافة إلى جزء من الحياة اليومية.
محمود درويش سوف يتابع بحثه عن آخره في لعبة مثنى مدهشة اقتربت من فلسطين بصفتها استعارة للألم الإنساني، محرراً شعره من الخطابية والمباشرة، جاعلاً من الكلمات وجهاً آخر لزهر اللوز أو موسيقى تحمل المعاني كنشيد للروح الإنساني.
الحرب الأهلية واللايقين
اللحظة الثالثة هي الحرب الأهلية في لبنان. لقد سبق لي أن قدّمت فرضية أن الرواية اللبنانية ولدت في الحرب الأهلية، وأن هذه الرواية سوف تحتل موقعها في الموجة التجريبية العربية التي تصنع ثقافة ما بعد الالتزام.
المسألة الأساسية التي ستكشفها الحرب الأهلية هي أزمة الثقافة والسياسة في العالم العربي. ولا أعتقد أننا في حاجة إلى التذكير بأن هذه الحرب شكلت مرآة المشرق العربي، وأن هذه المرآة أظهرت المشكلات العميقة التي أجّلتها ثقافة النهضة. الحرب المستمرة بشكل ظاهر أو مستتر، شرّعت كل الأبواب، وطرحت جميع الأسئلة. فجأة انهارت الأجوبة وصار على الكتابة أن تبحث في اللايقين بدلاً من أن نصف فقط أو نبلور موقفاً، صارت الكتابة رحلة واكتشافاً وبحثاً عن الذات والآخر وسؤالاً للمعنى عن معنى حاضرنا، وسط هذا التاريخ الأعمى الذي يحاصرنا بالمآسي.
هذا البحث يفترض بالكاتب أن يمتلك عيناً قادرة على قراءة الحاضر وكأنه ماضٍ، ما يعطي النص القدرة على النقد والتماهي والتدمير وإعادة البناء وتضميد الجراح.
هذه اللحظات الثلاث مهدت الطريق أمام مشهد أدبي جديد، حيث لا مراجع خارجية، وحيث على الكاتب/الكاتبة أن يعيد اختراع لغته في إطار رحلته إلى الذات والآخر.
في هذا السياق سوف يموت الأدب النبوي أو يتلاشى. وبدلاً من الشاعر- الملك سوف يأتي البطل الهامشي والمتصعلك، وبدل المقترب النبوي الذي يبشر بالقيامة والانبعاث، سوف يأتي صوت محمود درويش معلناً نزول الشاعر عن صليب النبوة:
«ومثلما سار المسيح على البحيرة/ سرت في رؤياي/ لكني نزلت عن الصليب/ لأنني أخشى العلو/ ولا أبشر بالقيامة».
عاش نبي جبران الذي هو امتداد لنبي المتنبي زمناً طويلاً، لأنه حمل رؤية الانبعاث التي بشّرت بها الحركة القومية، وتبناها اليسار عبر بطله المثالي الذي سيتكشف عن كونه وحشاً، مثلما أنبأنا غالب هلسا في روايته «السؤال». وسوف تتخذ عملية الهبوط إلى الهامش مسارات متعددة ومشوقة، وخصوصاً في رواية الحرب الأهلية اللبنانية، حيث ستمتلئ الصفحات بـ«الوجوه البيضاء» الباحثة عن بياض الموت وسط عوالم «الحروب الصغيرة» التي أوصلت أبطالها وضحاياها إلى «خارج الحياة»، بحسب السينمائي مارون بغدادي.
نستطيع أن نقرأ هذه اللحظات كمرحلة انتقالية نحو مقترب حداثوي جديد. مقترب ينشأ على أنقاض الخطاب الماركسي القومي. حيث على المشرق العربي أن يواجه الديكتاتورية والفقر والاحتلال من دون طليعة تقوده انطلاقاً من إيمانها بالحتمية التاريخية.
سركون بولص الذاهب إلى «مدينة أين» وعباس بيضون الآتي من «المدافن الزجاجية» يلخصان في تجربتيهما الشعرية الصوت الجديد الذي يكتب بكلمات فقدت معانيها السابقة وصارت آنية للشعر الذي عليه أن يعيد عجنها بالمعاني المضطربة وغير النهائية.
العراق يتشظى بعد أن أنجز الاحتلال الأميركي تدمير البلاد التي سلمتها الديكتاتورية للخراب، فلسطين تحت الاحتلال والتمييز العنصري والقمع، الاستبداد يدمر سورية، ولبنان على حافة التلاشي.
ما معنى الالتزام وما بعده في هذا الإطار؟
هل علينا أن نبحث عن الثقافة بصفتها جزءاً من عملية نضالية جديدة قامت بتدمير جدار الخوف خلال الثورات العربية المستمرة بوتائر مختلفة منذ 2011، بحيث يصير النتاج الأدبي والثقافي وسيلة للبقاء على قيد الحياة في لحظات الفوضى والحروب والأحلام والكوابيس؟
وما معنى أن تكون الثقافة وسيلة بقاء؟
حاولت في قراءتي للحداثة العربية أن أكتشف كيف استطاع الخطاب القومي أن يوحد وجودية خليل حاوي بماركسية عبد الوهاب البياتي، لكن هذا التوحيد كان مؤقتاً، «ألعازر» حاوي رفض أن يحيا من جديد، وفضل أن يبقى في القبر، وأبطال «أباريق مهشمة» اكتشفوا فضائل التصوف!
هكذا مات البطل، لا كي يفسح في المجال أمام تحول اللابطل بطلاً، بل ليترك المكان فارغاً، ويضع الثقافة العربية أمام مأزقين:
المأزق الأول هو دور الإسلام السياسي في صوغ الحياة الثقافية العربية. هل غادرنا الترسيمة القديمة: الشاعر - النبي - الملك كي نسقط هاوية خطاب يؤدلج الدين، كي يجعل منه حجاباً يصنع الصمت؟
موت الالتزام
يمكن أن نلاحظ بحذر، أن الإسلام السياسي لم يهتم يوماً بدخول الحقل الثقافي الأدبي في العالم العربي. وباستثناء الأعمال النقدية المبكرة لسيد قطب (علماً أن نقده الأدبي صدر قبل تحوله إلى شخصية أساسية في حركة الإخوان المسلمين)، فلا شيء سوى مذكرات السجون والفتاوى ضد الكتاب: سلمان رشدي، نجيب محفوظ... هذا العجز عن دخول المشهد الثقافي يحمل دلالة مهمة. فأنا أعتقد أنه لا يمكن الهيمنة على المجتمعات بصورة كاملة من دون السيطرة على نتاجها الروحي. حتى السينما الإيرانية سوف تجد نفسها على هامش النظام الإسلامي قبل أن يكبر التناقض بينها وبينه.
هذا المؤشر، الذي أعتبره إيجابياً ويدعو إلى التفاؤل، قد يتحول إلى عنصر بالغ السلبية في حال نجاح نوع معين من الفقه الإسلامي في السيطرة على المجتمعات العربية، وبذا سوف يأخذها إلى مرحلة من التحلل قد لا تكون قصيرة.
المأزق الثاني هو ما يمكن أن نطلق عليه اسم الاندماج في السوق المعولم للنتاج الفني والثقافي. هذه الظاهرة، التي هي جزء من عالم ما بعد الحداثة قد تقود إلى ثقافية انسحابية تُشاهد ولا تشهد، تصف ولا تنخرط، تقبل متطلبات السوق الاستهلاكية من دون أي مناقشة نقدية جذرية. وقد تصل في بعض صياغاتها المتطرفة إلى عبادة الشكل ونسيان المعنى أو تهميشه، وتكون من دون أن تدري ربما، الوجه الآخر للتحلل الذي يقدمه المشروع الايديولوجي الإسلاموي.
فقه بلا ثقافة في مقابل ثقافة بلا رؤية!
لكننا في زمن التغيير، الانتفاضات الشعبية العربية تواجه حائطين: الأول هو حائط وحشية الاستبداد الذي حاول خنق صرخة الحرية والكرامة عبر تدمير البلاد والدفع في اتجاه الحرب الأهلية. والحائط الثاني هو حائط الإسلام السياسي الذي تعامل مع الثورات والديموقراطية كممر إلى فرض نوع جديد من الديكتاتورية.
في مصر واجهت الثورة الحائط الثاني، وهي اليوم على شفير مواجهة الأول. بينما تواجه سورية الحائطين معاً، وحشية النظام الاستبدادي والميليشيات المؤيدة له من جهة، والتدخل الإقليمي الذي أسهم في فرض أشكال متنوعة من الأصولية على المعارضة المقاتلة، ما قاد إلى مزج الطائفي بالأصولي. لقد تم تحويل سورية إلى صراع قوى إقليمي بين أصوليتين: الأصولية الإيرانية والأصولية الخليجية. أصوليتان تفرغان الكلمات من مضامينها وتسعيان إلى وأد نضال السوريات والسوريين من أجل الحرية.
نعم، لقد مات الالتزام واندثر أنبياؤه مع انهيار المشروع القومي المتعسكر، لكن ما بعد الالتزام، كما أراه، لا يقود إلى السلبية؛ إذ لا تستطيع الثقافة، مهما غالت في حياديتها، أن تكون لامبالية. فحين تكون المأساة عامة وشاملة وصارخة، كما هي اليوم، فإن الكلمات والنصوص واللوحات والتجهيزات والأفلام... لا تستطيع أن لا تتلون بها. الهرب من المأساة إلى السوق العالمية للثقافة ما بعد الحداثية، ليس سوى وهم يقود إلى لا مكان.
ما أعنيه بما بعد الالتزام هو عملية مزدوجة تقوم بتهديم الأساطير والايديولوجيات المسيطرة في الوقت الذي تبني فيه قيم الحرية والتحرير والعدالة الاجتماعية.
وهذا يمكن القيام به عبر الانخراط في نضال من أجل العلمنة، والمساواة، وحرية المرأة، وحق التعليم، وحقوق الأقليات، والعدالة الاجتماعية. هنا في قلب نضال حر كهذا، تستطيع الثقافة أن تذهب عميقاً في اكتشافها للتجربة الإنسانية، وفي قدرتها على أن تصنع من التجربة المعيشة مداخل متعددة إلى حرية القارئ التي هي الشرط الضروري لحرية الكاتب.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.