العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

قصفوا بيتنا في هذا اليوم...

٢٧ تموز/يوليو ١٩٨٢

كنت أجلس أمام نافذة عريضة في مكتب أبي، في الطابق الأول من المبنى الذي فيه بيتنا أيضًا، أحاول التدرب على الطباعة:

كمنتا شسيبل
كمنتا شسيبل
تا تا بل بل
تت بب تت بب

إلى أن سمعت صراخ أحد أصدقاء أبي من الغرفة المجاورة: «طيران... طيران» قفزت نحوهم قبل أن أسمع دوي الانفجار، وقبل انهمار الزجاج خلفي مغطيًا المقعد الذي كنت أجلس عليه منذ ثوان. هذه هي القذيفة الأولى. أبي وأختي هنا بخير، أسارع لصعود الدرج إلى بيتنا بحثًا عن أمي لأجدها في طريقها إلينا. أين غسان؟ كان في الشارع، يلعب مع رفاقه. أبي هرع ليبحث عنه.

ثم قذيفة ثانية. أبي وأخي ما زالا في الشارع. غبار كثيف يلفّني بعتمة كاملة. أسمع صراخ أختي والذعر في صوتها: «بابا... غسان... بابا وغسان برّا...».

القذيفة الأولى سقطت بين المباني المقابلة، وقتلت عاملة أجنبية كانت على الشرفة المطلة على المنْور وربما شخصًا آخر. الثانية، دمرت المبنى المقابل لبيتنا وأصابت أبي وأخي وقتلت آخرين لا أذكر عددهم. أبي وأخي كانا يصعدان الدرج للاختباء حين هاجمتهما الشظايا. احتضن أبي رأس أخي ليحميه، فأصيبت أصابعه وخصره وبعض من رأس أخي.

كنت في التاسعة يومها، لكني لا أذكر أني خائفة، عدا عن شعوري أن تلك اللحظة التهمتني تمامًا... بغبارها، وعتمها ودويٍّ لشدّته يشبه الصمت. أذكر تساؤلي إن كان قائد الطائرة الذي ألقى القنبلة في تلك اللحظة، يدرك أن في هذه المباني أطفالًا مثلي، ومثل أختي التي تقف بجانبي وتكبرني بسنتين، وأخي الذي يصغرني بسنتين. وإن كان قائد الطائرة يدرك ذلك، كيف تسنى له أن يلقي تلك القنبلة؟

بعد ذلك القصف، أذكر التفاصيل. أمي تنظف وتضمّد جراح أخي. تطلب مني إحضار المقصّ فلا أراه تحت الغبار. أبي يرفض الإسعاف بداية لأن جرحه طفيف وهناك من هم أكثر حاجة، فيعيش مع نتائج التهاب جرحه وصعوبة الحركة في بعض أصابعه لباقي حياته. بيتنا في الطابق الثالث أصبح بلا شبابيك أو أبواب. حوض السمك تدمر، وفقدنا كل سمك الزينة الذي كان يربيه أبي لسنوات. ذلك اليوم لم أصعد من الطابق الأول للثالث لأرى دمار البيت. بقيت في الطابق الأول وانتظرت أن تُحضر أمي لعبتي من البيت وطبخة الملوخية التي كنت أتوق لها في أيام الجوع. اخترت ربما بحكمة التسع سنوات من عمري حينها ألا أرى بيتي مدمرًا، وانتظرت حتى تنظيف البيت في اليوم الثاني. قال أهلي حينها إن باب البراد من قسوة الضربة كان على الشرفة وإن السجاد بما عليه رُمي في النفايات. لكن مكتبة أهلي صمدت، كما وطنجرة الملوخية والعربة الزجاجية مع زجاجات الكحول عليها. تلك الليلة نمنا عند مارة استضافونا. بعدها نمنا ليلةً أو بضع ليالٍ في مكتب أبي، إلى أن غادرنا بيروت.

*****

بيروت – حزيران/يونيو وتموز/يوليو ١٩٨٢

ذاك النهار في تموز/يوليو عام ١٩٨٢ – والأسابيع الطوال من الحصار الإسرائيلي لبيروت قبله وبعده – مازال محوريًا في حياتي ومؤسسًا لوعيي العام، سياسيًا وأخلاقيًا. أذكر تفاصيله وتواريخه، تموجات الضوء في أيامه ولياليه وروائحه، كما القلق في معدتي وفي وجوه الكبار من حولي.

ذلك الصيف، كما السنة التي قبلها، انتهى العام الدراسي فجأة في شهر حزيران/يونيو. بدأ القصف، فنزلنا إلى ملجأ المدرسة وانتظرنا أهالينا. لم نجْرِ امتحانات آخر العام، لم نودع أصدقاءنا، فقط غادرنا على عجل، ولم نعد إلا بعد أن تدمرت مدينتنا بعد أربعة أشهر. في البداية كانت الحرب بعيدة نسبيًا. المدينة ساكنة تراقب تقدمًا إسرائيليًا في الجنوب. شارع بيتنا تحوّل إلى ملعب حين زرع الفدائيون حاجزًا في آخره وأوقفوا حركة السيارات عليه.

ثم الحصار. أيام تمر بطيئة أمضيتها برفقة غسان كنفاني وحنا مينا بعد أن انتهيت من مغامرات لوزة وتختخ وأصدقائهم.1 أسمع عما يحدث في مدينتي من أحاديث البالغين حولي، عمّن تدمرت بيوتهم، وعن أنواع جديدة من القنابل. يشرح أحدهم عن القنبلة الفراغية، عمن ماتوا في ملجأ بناية لأنها تداعت إلى الداخل عند قصفها وأخذت معها زجاج البيوت المجاورة. أسمع عن قنابل يصورها الجيش الإسرائيلي لغايات «بحثية» توثق تقنيات القتل لا الموت الذي سبّبته.

مع الملل هناك الجوع. مع الحصار حول المدينة، سريعًا تفرغ رفوف غرفة المونة في بيتنا. غداء اليوم سردين، والعشاء أيضًا. فول معلّب على الفطور والغداء. صندوق كبير من بسكوت الزبدة بالسكر اشتراه أبي من بائع جوال نأكل منه عند الجوع. لا خضار أو فواكه طازجة في بيروت المحاصرة. أبي يزرع القمح النابت الذي يقول إنه مغذّ جدًا في سبعة خطوط في قوارير. نأكل خطًا كل يوم، ونزرع خطًا جديدًا للأسبوع المقبل. أمي تضع قوارير زجاج مليئة بالماء على حافة الشباك لمدة ١٥ يومًا لتعقّمها الشمس كما تقترح زاوية في جريدة السفير.

إلى أن تدركنا القذائف، ويصاب أخي وأبي ويدمر بيتنا.

*****

عين سعادة وبحمدون – آب/أغسطس ١٩٨٢

بعد قصف بيتنا، لا أدري كم من الأيام مرّت قبل أن توصلنا أمي إلى الجبل. أذكر أننا نعبر مشيًا على الأقدام خطوط التماس على المتحف، وأمي تشدّني لتمنعني من تباطؤي وإمعان النظر فيما ارتمى على المعابر. نمر على بيت أصدقاء في برج حمود، حيث تعرض علينا «أم بشارة» سندويشات مرتديلا. جبنة أو لبنة وخيار تقول أمي، «أكيد مش معلّبات» – التي أكلناها دون غيرها لأكثر من شهر. ثم نكمل طريقنا إلى قرية عين سعادة. هناك تتركنا أمي مع أصدقاء أولادهم بعمرنا وتعود للبقاء في بيروت، ربما حملت رعب بعض الفلسطينيين من أن يمنعوا من العودة لبيوتهم إن غادروها. ربما لم تتمكن من أن تكون شاهدة من خارج المدينة على دمار مدينة احتضنتها.

حيث نقيم في عين سعادة مربّيات صناعة منزلية لذيذة لكن لا مياه جارية في المنزل الجبلي العتيق، ننزل إلى العين لنعبئ غالونات وقوارير وننظف وجوهنا وأسناننا صباحًا. لا نلعب مع أولاد الجيران كي لا تفضح لهجتنا أصلنا في القرية التي أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية، فاقضي وقتي في قراءة ما أجده في البيت، قصص عاطفية مصورة2 لا تتناسب مع عمري، أبطالها شقر مع شعر ناعم يتناوبون على الشجار وتبادل القبل.

في الليل يمكننا الإطلال على عتمة بيروت تضيئها القذائف مثل الألعاب النارية. هناك أمي وأبي. أذكر تلك اللحظات مع بعض الخدر العاطفي.

ثم يقرر مستضيفونا المغادرة إلى شبعا ولا يمكننا مرافقتهم لأنها تحت الاحتلال ونحن لا نمتلك التصاريح اللازمة. ننتظر هدوء القصف كي يغادر أهلي بيروت.

من هناك إلى سوق الغرب (التي أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية أيضًا) حيث نقضي الصيف عادةً في بيت واسع تحيط به أشجار الصنوبر، فيمنعنا عنه شجع صاحبه الذي يستولي على أثاثنا في المنزل ويمنعنا عن استخدامه مستقويًا علينا كفلسطينيين: كما تقول أمي بالحاجز الإسرائيلي في أول الشارع، وحاجز الكتائب في آخره. فنعود إلى بيت أصدقاء آخرين في كيفون. هناك، في الغرفة حيث ننام تتشكل وحوش في الزجاج المحجّر تسرق مني النوم. يشترى لنا أبي أحجية بازل بألفي قطعة نتجمع حولها فتهدئنا. هناك نشاهد على التلفاز «انتخاب» بشير الجميل بحماية إسرائيلية رئيسًا للبنان.

*****

بيروت من جديد – أيلول/سبتمبر ١٩٨٢

نعود إلى بيروت لنشهد مغادرة الفدائيين. سيارات عسكرية بداخلها شباب بثياب عسكرية وشعر مجعّد يلوّحون تلويحة الوداع. في بيتنا البلاستيك يغطي الشبابيك. مشهد تعوّدنا عليه في سنين الحرب وما بعدها. أذكر أبي يصلح فجوة قطرها متران أحدثها القصف في إحدى غرف المنزل، وأذكر حديثه بفخر عن الطريقة التي استطاع بها إنهاء الجدار على الطابق الثالث دون الاستعانة بسقالة خارجية.

بعدها تتالى أحداث دامغة في ذاكرتي، بتفاصيل مشهدية وحسّية:

يوم أجد أمي متسمّرة أمام التلفاز. «قتلوا بشير الجميل» تقول. أسمع الخبر فأجيب بأن المذيعة تقول عكس ذلك، فتؤكد لي أنه لو كان حيًا لكانوا بثّوا صورًا تثبت ذلك. أتذكر تلك اللحظة عند اغتيال رفيق الحريري بعدها بأكثر من عشرين عامًا، فأوكد لزملائي في العمل مقتله قبل بث الخبر.

يوم دخول الجيش الإسرائيلي بيروت. أقف مع عائلتي على الدرجات أمام مكتب أبي – هناك حيث أصيب أبي وأخي قبل أقلّ من شهرين بشظايا قذيفة إسرائيلية – لنشاهد الدبابات تعبر كورنيش الروشة فتهزّ ألفتي مع هذا الرصيف الممتد بجانب البحر وملعبي في طفولتي. أمي تبكي وتتشاجر مع جارنا الذي يقترح تعليق الأعلام البيضاء. دقائق تزرع غصّة في حلقي ما زالت ترافقني. أيام فيداهم الجنود بيوتًا حولنا. الجيران يرمون خوفًا كتبًا قد تدينهم من الشرفات، فيوظّفنا أبي وأطفال الحي، ويعطينا ربع ليرة عن كل كتاب نجمعه، فالكتب لا ترمى من الشرفات. على مدخل المبنى يوقفنا الجنود الإسرائيليون أنا وأمي، يسألون عن أحد الجيران وعن وجهتنا، «لشراء البندورة» تقول أمي، قبل أن تهرع إلى سيارة جار آخر طالبة منه تنبيه ذاك الجار المطلوب أن الجنود الإسرائيليين يبحثون عنه.

أيام صبرا وشاتيلا. المقتلة على مقربة منّا. لا نسمع أنها حدثت، بل أنها تحدث الآن، بداية مع بعض عدم التصديق، المجزرة ما تزال مستمرة، ونحن نمضي نهارات (غير) عادية في مدينة مدمرة. أختي تخاف أن يصل الإسرائيلي إلينا، هنا في بيتنا في الروشة فنحن أيضًا فلسطينيون وإن كانت الجرائد التي تحمل صور القتلى تُمنع عنا نحن الأطفال وتُقيم فوق الثلاجة كي لا نراها. حتى الدكنجي «معلم سليم» يخبئها ليحمي الأطفال المارين، وربما البالغين أيضًا، من قسوة الصور. ابنة الكهربجي في حيّنا كانت في مستشفى عكا تتلقى العلاج. تركتها أمها أقل من ساعة لتحضر الثياب وتقضي ليلتها بجانبها ولم تتمكن من العودة والآن المستشفى خالٍ إلا من القتلى. يداوم الأب على رحلات يومية يبحث عنها بين الجثث فلا يجدها. ربما هربتها الممرضات، ربما ما زالت حية في مكان ما. تتحدث أمي عن وجع من لا يعرف مصير الأحبة الأشد قسوة من القتل، ربما سيبقى يبحث عنها في وجوه كل الفتيات في عمرها لعقود. بقي في حينا لسنوات، وكلما رأيته وما زالت حتى يومي هذا أتساءل عما حدث له ولعائلته. جروح مفتوحة تستمر مع اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين في شرقنا المتوسط حتى الآن.

عدت للمدرسة بعد ذلك الصيف. عام دراسي لا أذكر الكثير من بدايته، لكن أذكر قناعاتي وبعض رفيقات لي أن هناك أشلاء من بقايا المجزرة، تحديدًا رجل وقدم، ما تزال معلقة على عمود الكهرباء بجانب المدرسة. سراب صنعه خوفنا، وتوافقنا بداية على ألا نخبر أحدًا لكن أخذنا على عاتقنا حماية إخوتنا الأصغر كي لا يروه، فجهدت كل يوم لضمان أن يجلس أخي في الجهة من حافلة المدرسة التي لا يرى فيها العمود، واذ لم أفلح، جهدت لإلهائه عند مرورنا بجانبه. اختفت تلك الرجل المعلقة عندما أخبرنا المعلمة عنها ورافقتنا للتحقق من وجودها، ورويدًا ربما اختفى ذعرنا، لكن لم تختفِ ذاكرته.

*****

هذه بعض من ذاكرتي كطفلة في عمر التاسعة، كتبت بعضها حينها في روزنامة بنّية صغيرة، أشاركها اليوم بدون الرجوع للأرشيف أو لأهلي للتأكد من صحتها، مع علمي أن الأربعين عامًا التي مرّت عليها حتمًا قد حرّفتها. أكتب لتشارك بعض مما تبقى معي من انطباعات طفلة عن أحداث جسام تمرّ بها بلادها وتفاعلها مع تلك الأحداث، فربما تتيح لنا فهم ما يمر به أطفالنا اليوم الذين يعيشون الحروب والعنف والانهيار. أكتب لأفهم بعضًا من طبيعة الحروب التي درستها أكاديميًا، لكن عايشتها معظم حياتي. ما معنى أن تكون هذه اللحظة بالذات لحظة مؤسسة في وعيي؟

على الرغم من قناعتي أن مسؤولية البالغين حماية الأطفال خلال الحروب، ما يلفتني حين أستعيد تلك الذكريات هو أني لا أذكر أني خائفة ولا ألوم أهلي على قرارهم البقاء في بيروت. بل أذكر إعجابي بأبي وأمي وقدراتهما التي رأيتها خارقة للعادة يومها. كأنهما كانا يخفيان مهارات وحكمة لم يتسنَ لي اكتشافها إلا حين اضطرا لاستعمالها: أبي يستطيع بناء حائط، واصطياد قوتنا من البحر القريب، أمي تعرف تضميد الجراح وسريعة البديهة مع الجندي الإسرائيلي وجريئة في اجتياز المعابر. ربما إحساسي بالأمان مصدره انطباعي أنهما قادران على التعاطي مع هذه التحديات الجديدة، ولذا ربما حين خفت، خفت وأنا في أمان في الجبل من خطر فقدانهما. ربما كنت أصغر من أن أفهم الخطر الذي نواجه. لكني حتى خلال معايشة تجارب حروب إسرائيلية عديدة على لبنان بعدها وانخراطي فيها إن في العمل الإغاثي أو الحقوقي، لم يكن الخوف هو الشعور الذي لازمني، بل مشاعر كالأسى على من فقدوا أحبتهم ومنازلهم، الحزن على الدمار في مساحات أحببتها، والشعور بالقهر والغضب لاضطرارنا إلى عيش تلك التجارب مرارًا. ومع مروحة المشاعر تلك هناك الشعور بأننا في وجه أي هجوم إسرائيلي، بدون أي شك سنواجه.

الانطباع الذي يبقى معي من اجتياح ١٩٨٢ هو أننا كنا معًا نحاول تخطي تحدٍّ ما. مثل من يحاولون الوصول إلى بيتهم خلال العاصفة، نجري سريعًا كي لا نبتلّ، أو نحتمي تحت شجرة، قد نبرد قد نجوع، لكننا ندرك أنها قريبًا ستزول وسننام دافئين في منازلنا وفي ثياب ناشفة. أدرك أن في «عاصفة» الاجتياح الإسرائيلي الكثير منا لم يصل، لكن حين عشنا الاجتياح لم نعشه كتجربة مفروضة علينا، بل تشابك انخرطنا فيه، وهذا ما أحسسته وأنا في بداية عقدي الرابع خلال حرب عام ٢٠٠٦. قرأت لاحقًا ما يشبه ذلك في مذكرات جين سعيد مقدسي، إذ تُشبِه مغادرة بيروت خلال الاجتياح، بأن تكون على الهامش وأن تحرم من شرب كأس التاريخ المرّة، بل أن يسكب سكبًا عليك.3 اختار أهلي إذًا عام ١٩٨٢ شرب كأس التاريخ المرّة تلك، فذقتها معهم، ولا ألومهم. بل ربما اخترنا ألا نكون «مفعولًا به»، رغم سقوط القذائف علينا من الجوّ، ورغم عدم تكافؤ القوة، بل كنا فاعلين نحاول الحفاظ لا فقط على حياتنا، بل أيضًا هويتنا وإنسانيتنا.

ربما مردّ ذلك إلى أن الأكثر مرارة مما يبقى معي من الاجتياح هو غصة كزدرة الجندي الإسرائيلي على الكورنيش. هذا الشارع والكورنيش والبحر لي. هذه مساحتي، بدءًا من الدرب الصغير الممتد إلى البحر الذي أراه من شرفة المنزل كل يوم، وحتى امتداد دالية الروشة والتي عليها قضيت الكثير من أيام طفولتي. أذكر أني فكرت حينها أنه لا يحق لذلك الجندي الذي أنزل أطنانًا من القذائف على مدينتي أن يتجوّل في شوارعها. جانب كبير من وعيي السياسي تشكل حينها، لا من موقف أهلي والمحيطين بي فقط، بل من محاولاتي فهم هذه التجربة خلال معايشتها. من تساؤلي إنْ كان قائد الطائرة الذي ألقى القنبلة على المباني قربنا يدرك أن في هذه المباني أطفالًا مثلي، وتفاجئي أنه يمكن للآلة العسكرية الإسرائيلية أن تجرّب الأسلحة على مدنيين، بل أن تصوّر تلك التجارب بدون اعتبار لأثرها الإنساني. أذكر أني حكمت أخلاقيًا على تلك الآلة حينها، تلك التي تسهّل قتل ألاف المدنيين في صبرا وشاتيلا تمثّل الشر ولم أرد لذلك الشر أن يسرق مدينتي. هذه الغصة لا أحملها حقدًا كما توقع فواز طرابلسي لأبناء جيلي،4 بل وعيًا سياسيًا وأخلاقيًا.

ربما من هذا الوعي تشكلت مشيئة سياسية لي كطفلة، تفاعلت مع ما تمرّ به البلاد. أذكر أيضًا أني حين قرأت قصة «كان يومذاك طفلًا» لغسان كنفاني،5 فهمت تمامًا لماذا يختار طفل، بمواجهة أوامر الجندي الإسرائيلي أن يجري بأقصى سرعة قبل أن يتوقف ويضع كفيّه في جيبه ويمشي ببطء متحديًا تلك الأوامر.

  • 1. أبطال سلسلة المغامرون الخمسة، سلسلة مغامرات بوليسية للأطفال والمراهقين من تأليف الكاتب المصري محمود سالم.
  • 2. انتشرت في تلك الفترة المجلات المصورة والتي تحتوي في الغالب على قصص عاطفية، ومنها مجلات سمر وريما – انظر مقال محمد الحجيري (٢٠١٣) في المدن عن انتشار تلك المجلات في لبنان في السبعينيات والثمانينات ‪https://www.almodon.com/media/2013/3/23/الإنترنت-تقتل-ريما-ودليلة‬
  • 3. المقدسي، جين سعيد، شتات بيروت - مذكرات حرب ١٩٧٥-١٩٩٠، الساقي للنشر والتوزيع، ٢٠٠٩.
  • 4. طرابلسي، فواز، عن أمل لا شفاء منه (يوميات حصار بيروت ١٩٨٢)، رياض الريس للكتب والنشر، ٢٠٠٤.
  • 5. كنفاني، غسان، «كان يومذاك طفلًا» في القميص المسروق، ١٩٥٨.
العدد ٣٦ - ٢٠٢٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.