العدد ٣١ - ٢٠٢١

القاموس النقدي لمصطلحات النيوليبرالية (١)

خلال العقود الأخيرة دخلت عدّة عشرات من المفردات الجديدة إلى القاموس العربي واكتسبت مفرداتٌ أخرى معاني ودلالات جديدة. كان معظم تلك الكلمات جزءًا من التحوّل النيوليبرالي في الاقتصاد وجاءت تلبيةً للحاجة إلى نشر أيديولوجيته. النيوليبرالية مشروع أيديولوجي إلى جانب كونها مشروعًا في الاقتصاد السياسي.

ليست تقتصر هذه المفردات على القطاع المالي أو الاقتصاد، كالتعديل الهيكلي والخصخصة، بل تشمل مفردات في القانون والسياسة، كحكْم القانون والحوكمة والفساد، وفي الدراسات النسوية والشبابية، كالتمكين والقيادة والريادة في الأعمال وبناء القدرات، إضافةً إلى مصطلحات المجتمع المدني على أنواعها.

إنها المصطلحات الدالّة على آليات إنتاج وإعادة إنتاج الرأسمالية الكونية، في حقبة النيوليبرالية، بما هي نظامٌ اقتصادي واجتماعي وسياسي وقيَمي. ولعل أبرز ما في تلك الأيديولوجيا أنها تمرّ بالدرجة الأولى عبر مفردات ومصطلحات لغة جديدة تطلّب تأمينُ انتشارها الكوني الكثيرَ من الجهد الفكري والسياسي والجسدي والقدرَ الكبير من الموارد ومن توظيف رأس المال المالي والاجتماعي والرمزي. وقد تجنّدت لتأليفها دول وأكاديميات ومراكز أبحاث ومنظمات مجتمع مدني وأجهزة إعلام ووسائل الاتصال المجتمعية وصولاً إلى التكريس بواسطة الأمم المتحدة ومؤسساتها.

ولا يقتصر الأمر في هذه اللغة على نحت مفردات ومصطلحات جديدة. يترافق ذلك مع عمليتين أخريين محكومتين بتحوّل متطلبات رأس المال:

١. استبدال مفردات بأخرى قصد تغيير معانيها وما يترتّب عليها من نتائج عملية: نمو بدل تنمية؛ فصل عنصري بدل تمييز عنصري؛ ناشط بدل مناضل؛ مناصرة بدل تضامن، وتمكين النساء بدل تحرر المرأة، عندما عزل التحرر عن تحقيق المساواة وعن مشاركة النساء في التحرر الاجتماعي واقتصر على التحرّر من البطريركية والذكورية.
٢. تحوير تعريف ومعنى وطرائق استخدام مفردات ومصطلحات شائعة ومتداوَلة كـ«الفقر» و«العدالة الاجتماعية» و«الثقافة». وقد تحوّلت الأخيرةُ إلى نظرة شاملة إلى العالم والحياة وإلى العلاقة بين الشعوب والأمم.
لا بد من التأكيد أن التسمية فعل سياسي وثيق الصلة بتوازن القوى بين المسمّي والمسمّى. وعلى الرغم من رمزيتها فهي تكتسب آثارًا مادية بالغة الوطأة. إن تسمية القرى العربية في فلسطين المحتلة بالأسماء العبرية، مثلاً، تبديلٌ مادي في هوية المكان الجماعية وفي الحق في الإقامة والتملّك والسكن، والأهم أنها قد تستتبع حرمان أصحاب المسمّى السابق من كل هذه الحقوق.

وهكذا، تترتّب على هذه المفردات الرئيسة مؤسسات وسياسات ورأي عامّ بمستوياته المختلفة باتت جزءًا مكوّنًا من الفكر اليومي تؤثّر في الكيفية التي نرى فيها إلى أنفسنا وإلى علاقاتنا بالآخرين وبالمجتمع الأوسع حولنا مثلما تتحكم إلى حدٍّ كبير بسلوكنا الفردي والجماعي. وقد يوثّر التبنّي غير الواعي وغير النقدي لتلك المفردات ودلالاتها إلى عكس أسباب اللجوء إليها والنقيض ممّا توقّعه المنادون بها. فقد تبنّت انتفاضاتُ «الربيع العربي» سلّة من المطالب والإصلاحات تنضوي في الإطار العريض للأيديولوجيا النيوليبرالية وشعاراتها مع أنّ تطبيق سياسات النيوليبرالية كان سببًا رئيسًا في انطلاقة تلك الانتفاضات.

بناءً عليه، نسعى على صفحات هذه المجلة إلى تجميع عدد من مفردات لغة النيوليبرالية والتعريف بها ونتابع تطوّر معانيها واستخداماتها بوضعها في موقعها من الاقتصاد السياسي الأوسع ومتابعة تحوّلاتها وتحويراتها وما يترتب عليها من نتائج وآثار في السياسات العامة كما في الحياة الجمعية والفردية.

ونفتتح هذا «القاموس النقدي لمصطلحات النيوليبرالية» بنُبذٍ عن «المجتمع المدني» و«المناصرة» و«الشباب» و«الفقر».

مع انطلاق «الربيع العربي» تحول الشباب إلى شاغل تنموي وأمني مركزي في العالم العربي. فالمزيج من الطفرة الديموغرافية الشبابية وتهميش الشباب اقتصاديًّا وسياسيًّا أدى إلى الافتراض بأن الشباب يلعب دورًا متزايدًا في الاضطرابات الاجتماعية والسياسية على امتداد المنطقة. هكذا أعادت أحداث العام ٢٠١١ توجيه الأنظار إلى الدور المحوري للشباب في المجتمع على ما روّج الإعلام والعالم الأكاديمي.

قبل ذلك، تَشكل خطابٌ سياسي وأيديولوجي عريض ركّز على فكرة الأهمية المركزية لـ«الشباب العربي» في سياسات المنطقة والنقاشات حول التنمية، وأسهم بدوره في تكوين تلك الفكرة بالتأكيد. لبضعة عقود من الزمن خلَت، كان الشباب كفئة اجتماعية يَحظون باهتمام محدود في معظم بلدان المنطقة العربية. نادرةً كانت المنظمات غير الحكومية المتخصصة بالعمل مع الشباب، هذا إن وُجدت أصلاً، ولم تكن توجد سياسات حكومية وطنية ووزارات الشباب، ونادرًا ما عالج البحث الأكاديمي موضوع الشباب العربي، فقد احتلّت الأبحاث عن الطبقة والعائلة والإيمان مركز الصدارة.

بدأ كل شيء يتغيّر ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي وذلك لسببين اثنين.

الأول هو تزايد أهمية موضوع الشباب في الخطاب التنموي للنيوليبرالية وفي سياساتها والممارسات، ليس فقط على الصعيد العربي إنما على الصعيد العالمي أيضًا. ولعلّ هذا الانتقال يبرز بأوضح ما يبرز في قرار البنك الدولي أن يخصّص تقريره عن التنمية في العالم (٢٠٠٧) كليًّا لموضوع موقع الشباب في برامج التنمية الدولية.

أما السبب الثاني، فهو احتلال الشباب والتنمية معًا مركز الاهتمامات الأمنية إقليميًّا ودوليًّا. ومع أن الظاهرة دولية، إلا أنها ركّزت بنوع خاصّ على الشباب العربي والمسلم، بسبب مشاركة شبّان عرب في الهجوم على الولايات المتحدة في ١١ أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١ وتاليًا دورهم في نموّ «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش).

 

الشباب شاغل تنموي وأمني

بحصيلة هذه التحوّلات، شهدت المنطقة العربية، ومناطق أخرى من العالم، انفجار سياساتٍ حكومية لتشجيع المبادرات الشبابية، وبلورة مشاريع تنمية متمحورة حول الشباب، ونشوء منظمات غير حكومية متوجّهة للشباب، وصدور وثائق مخصصة لسياسات موجّهة للشباب (في الاتحاد الأفريقي، ومنظمة العمل الدولية، ووكالة التنمية الأميركية، والبنك الدولي، ومنظمة «الأطفال والشباب»). ففي الأردن مثلاً، نما عدد المنظمات الحكومية العاملة بين الشباب من منظمة واحدة عام ١٩٩٠ إلى ١٥ في العام ١٩٩٨ وصولاً إلى ٨٣ منظمة عام ٢٠١٤.

لماذا تحوّل الشباب إلى شاغلٍ تنموي وأمني مركزي في العالم العربي؟

تلتقي معظم التحليلات — في «تقارير التنمية البشرية العربية» ووثائق «منظمة العمل الدولية» والأمم المتحدة— على تقديم تفسيرين واضحين لذلك. أولهما وجود تغيّر ديموغرافي سريع في عدد الشباب في المجتمعات العربية ونشوء ما يسمّى «الطفرة الشبابية». يلاحظ «تقرير التنمية البشرية العربية» للعام ٢٠١٦ أن الشباب بين عمر ١٥ و٢٩ يشكّلون ثلث سكان المنطقة العربية، أي نحو ١٠٥ ملايين نسمة، ويمضي ليؤكد أنه «لم يسبق أن شهدت المنطقة احتلال الشباب مثل هذه الحصة الكبيرة من عدد السكان».

أما العامل الثاني فهو تهميش الشباب وإضعاف دورهم وإقصاؤهم في القطاعين العام والخاص على نطاق واسع في المنطقة العربية. ويشكّل إقصاء الشباب على نطاق واسع إحدى أبرز العقبات أمام التنمية في تلك المنطقة. ولم يُعترف بعد بالشباب على أنهم فاعلون شرعيون في عملية التغيير ولا يجري تمكينهم لتحمّل تلك المسؤولية.

إن الشباب ضحايا إقصاء يمارس رسميًا عليهم من رجالٍ في متوسط العمر وكهول يسيطرون على المجتمع بقوة القيَم التقليدية وممارسات الدولة الاقتصادية عميقة الجذور. كذلك الأمر يواجه الشباب عقباتٍ عديدةً للحصول على الوظائف والزواج والسكن، فيما الفئات المتقدمة في العمر من السكان تتمتّع بامتيازات حصلت على معظمها في ظل برامجَ حكومية خلال فترات الطفرات النفطية (تقرير التنمية البشرية العربية، ص ٣٢، ١٧٠).

ولكن بالرغم من الجاذبية التي تتمتع بها سرديّة الاهتمام بالشباب وبتمكينهم، ثَمة حاجة للنظر إليها بحذر وبروح نقدية، ذلك أن نموذج الشباب في التنمية والأمن يدعو إلى القلق ويثير عددًا من المشكلات.

أولاً، إن النموذج الشبابي يدفع إلى المقدمة بالمطالبات المتعلقة بالنزاع واللامساواة بين الأجيال بما هما العامل المركزي للامساواة في المجتمعات العربية، في حين يدفع إلى الخلف قضايا أخرى مثل الطبقة الاجتماعية والعِرق والجندر والدين أو علاقات اللامساواة بين الشمال والجنوب عالميًّا. فيجري تركيز الاهتمام على إقصاء الشباب من قِبل «رجال في منتصف العمر أو كهول» وعلى عدم الإنصاف الذي تمارسه «فئات متقدمة بالعمر» تتمتع بامتيازات يُحرم منها الشباب.

ثانيًا، إن النموذج الشبابي وثيق الصلة بالهجوم العنيف على القطاع العام—على «الممارسات الاقتصادية المموّلة من الدولة» و«البرامج العامة» المموّلة من عائدات النفط— وما يقابله من ترويج للقطاع الخاص. والواقع أن النموذج الشبابي يثير مسألة وجود تَماثلٍ مزعوم بين صلب مصالح الشباب (الحصول على تعليم جيّد يسمح لهم بالحصول على وظائف جيّدة) ومصالح نخب القطاع الخاص (تأمين يدٍ عاملة عالية الإنتاجية يمكن الاتّكال عليها). والهجوم على القطاع العام لازمة متكرّرة على امتداد تحليلات بطالة الشباب. والادّعاء هنا أن تركيز معظم الدول العربية على نموذج التنمية التي يسيطر عليها القطاع العام يحوّل الحكومات إلى «معيلة من البداية إلى النهاية». ثم يأتي الزعم بأنّ سيطرة القطاع العام هي السبب في غياب المنشآت الاقتصادية القوية وثقافة الريادة في الأعمال، ذلك أن القطاع العام إما أنه قد هَمّش القطاع الخاص وتلاعَب به وإما أنه عَقَد معه تحالفات احتكارية نافية للمنافسة، في الوقت الذي يحجر فيه هذا القطاع العام تطورَ أنظمة تمويل عامّ فعالة. أما الحل الذي تقترحه معظم المؤسسات الدولية (الأمم المتحدة والبنك الدولي ومنظمة العمل الدولية والاتحاد الأوروبي) ومعها النخَب والحكومات العربية، لتمكين الشباب، فإن هو إلا لائحة التمنيات النيوليبرالية إياها التي تشمل تحرير سوق العمل وإلغاء القيود على حركة رؤوس الأموال وتحرير التجارة والخصخصة والأسواق التنافسية (تقرير التنمية البشرية العربية، ص ٣٠).

الشباب كسلعة

أخيرًا، على الرغم من ادّعاء احتضان الشباب وتمجيده، فإن النموذج الشبابي يروّج لتنميطات سلبية عن الشباب بما هو مشكلات بحدّ ذاته وحالات مرض ونقصان. ويدّعي الخطاب النيوليبرالي عن الشباب أن المزيج من الطفرة السكانية وإقصاء الشباب أدّيا إلى غلبة الاحتقان والشعور بالتغرّب والعجز والاتّكالية بين الشباب العربي، وأن تذمّرهم من موقعهم الاجتماعي والاقتصادي بات «خليطًا راديكاليًّا متفجّرًا» يهدّد المنطقة برمّتها. وبشكل أعمّ، فإن أحد آثار الترويج لإطار تحليلٍ شبابيّ للنظر في القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية في البلدان العربية هو تقديم التنمية الاجتماعية على أنها مرهونة بالنموّ الفردي للشباب العرب. وهكذا، تقع حلول هذه القضايا دائمًا على عاتق وزارات التعليم والشباب وليس على عاتق وزارات الاقتصاد والمال.

والتركيز هنا هو على توسيع التعليم الرسمي وغير الرسمي من أجل توفير المعرفة والمهارات (التي يفترض أنها مفقودة وهي سبب تلك المشكلات) التي تمكّن الشباب من النجاح في المجتمع المدني وسوق العمل والمجال السياسي. ويقال إن ثمّة أقلية قليلة من الشباب «تتمتّع بالمهارات الكافية لتلبية طلبات أسواق العمل» في حين أن معظم الشباب العربي يشكو من «المهارات المحدودة» أو «غير الكافية» ومن «مؤهلات بشرية متدنّية». من هنا فالنداء محشوّ بمطالبات بمروحة أوسع من الإصلاحات التعليمية مثل «إعادة تنظيم البرامج الجامعية، وتأمين تعليم جامعي نوعيّ، وتوسيع برامج التدريب المهني» وتوسيع «خدمات التوجيه الوظيفي وملاءمة البرامج التعليمية مع طلبات سوق التوظيف، ودعم مهارات الريادة في الأعمال لدى الشباب». مما لا شك فيه أن هذه التدخّلات التعليمية قابلة لأن توفّرَ مروحة من المنافع لشبابٍ عرب أفراد على امتداد المنطقة، ولكن لمّا لم تكن المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ناتجة بالدرجة الأولى عن نقص في المهارات التعليمية لدى الشباب العربي، فإن هذه المشكلات لا يمكن حلها بواسطة التدخلات التعليمية وحدها. الأحرى أنها وسائط لإزاحة المشكلات عن كاهل نموذج الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية وإلقائها على عاتق الشباب.

بالإضافة إلى ذلك، إن نموّ النزعة الاستهلاكية الجامحة مع النيوليبرالية قد حوّل الشباب أنفسهم إلى سلعة. فدعاة التسويق في المجتمعات الاستهلاكية يروّجون لصوَرٍ وسرديّات عن الشباب من أجل بيع منتجاتهم ليس للشباب فقط وإنما للبالغين أيضًا. إن الرأسمالية، بتركيزها الدائم على التغيّر اللامتناهي والتجديد والابتكار واستبدال القديم وإهماله، تروّج لشبابٍ لامتناهٍ بما هو مثال للمجتمع الصناعي وبَعد الصناعي (Ewen, 1976). فمع حلول الرأسمالية المتأخّرة، بات الشباب سلعة مرغوبة وقابلة للتسويق. يمكن شراء الشباب أو هكذا تخبرنا الإعلانات. وفي مطلع القرن الواحد والعشرين، باتت القاعدة تقول إنّ الشباب يسوّق أيّ منتوج، من الثياب إلى السيارات، من الإلكترونيات إلى السفر، ومن الأحزاب السياسية إلى الحملات الانتخابية وبالتأكيد فالشباب قابل لتسويق الرأسمالية ذاتها بما هي نظامٌ اجتماعي واقتصادي وأيديولوجي متكامل. يكفي أن نرمي نظرة على الجراحة التجميلية لنرى كيف أن الشباب قابل للتسويق.

***

إن الشباب بما هو مبنى اجتماعي لم يكن مرّة مجرّد أثر جانبي من آثار التطوّر الرأسمالي، وإنما جزء عضوي منه، يُعرض بانتظام ووضوح وقصد ويتبلور على أيدي الشركات الرأسمالية وروّاد الأعمال الرأسماليين. ومنذ بداية الرأسمالية، وُجد تياران فكريان يتعلقان بالشباب كمبنى اجتماعي وبالتحكُّم بالشباب. الأول، أن الرأسمالية، حيثما نمتْ وتوسّعت، واجهت تحدّي تشغيل أيدٍ عاملة جديدة في مواقع الإنتاج، وتأمين مورد دائم من عمالة رخيصة وطيّعة وقابلة للتحكّم والصرف في ما بعد. ثانيًا، لقد تسبّبَ النموّ الرأسمالي منذ البداية بعمليات تصدّع اجتماعية وجغرافية أدّت إلى النمو المستمر لقطاعات واسعة من السكان العاطلين من العمل، ومن الشباب المتفلّتين من أي رقابة، في مواقع مدينية خصوصًا، ارتبطوا بهويات وأنماط حياة مناقضة لرأسمالية الشركات وبديلة عنها أو خارجة عن سيطرتها. ولقد تعرّضت تلك الفئة من الشباب للعدوان والتفكيك المنتظمَين مع انتشار الرأسمالية. هكذا تعرّضت حياة الشباب الفقراء والعمّال للقولبة وإعادة القولبة على نطاق واسع لتأمين انضوائهم وظيفيًّا داخل المجتمع الرأسمالي الصناعي أو بَعد الصناعي عن طريق بُنى وممارسات عاتية ومعقّدة في المدارس ومحاكم الأحداث والمنظمات الشبابية والاستشارة أو المعالجة النفسانية.

أما التيار الفكري الثالث فقد ظهر في طورٍ لاحق من تطوّر الرأسمالية مع نموّ مجتمع الاستهلاك في النصف الأول من القرن العشرين. فصار، منذ ذلك الحين، واحدًا من أعتى القوى التي تتحكم الآن بحياتنا ونظرتنا إلى الشباب عبر العالم وأعمقها نفوذًا.

 

ظهر مفهوم المجتمع المدني لأول مرة في نظريات العقد الاجتماعي. وكان المجتمع المدني يعني آنذاك المجتمع السياسي، أو الدولة، التي يجري التعاقد بين أفرادها في «حالة الطبيعة» للانتقال إلى «المجتمع المدني» بالرضوخ للدولة القاهرة (هوبز) أو بالقبول الطوعي بسلطة الدولة (روسو).

مع الرأسمالية، انقلب المفهوم. صار المجتمع المدني هو المجال المستقلّ عن الدولة الذي يضمّ الاقتصاد والعلاقات التجارية. المجتمع المدني عند هيغل هو المجتمع البرجوازي المكوّن من أفراد يرتبطون بعلاقات «عقلانية» أي بروابط المصلحة الفردية. إلا أنّ هيغل يلاحظ أنّ الأفراد الأحرار الساعين وراء مصالحهم الفردية الأنانية لا توجد «يدٌ سحرية» توزّع البحبوحة بعدالة بينهم، على عكس ما يبشّر به آدم سميث. رأى إلى المجتمع المدني على أنه مجال للاستقطاب والتفاوت في الملكية والدخل والثروة وما ينجم عنه من فقر، لذا فهو يدعو إلى دعم الدولة في وجه قوى السوق لتصحيح تلك الاختلالات.

استعار كارل ماركس مفهوم المجتمع المدني من هيغل في كتاباته المبكّرة وطبّق ثنائية دولة/مجتمع مدني في مفهومه عن الحرية والديموقراطية في معرض نقده لجون ستيوارت ميل. يرى ماركس أنّ الديموقراطية السياسية، بما فيها الحقوق والحريات الفردية، تحقّق المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين في الدولة، أي في المجال السياسي، لكنها تحافظ على اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع المدني. من هنا دعْوته إلى الديموقراطية الاجتماعية، وهي المعادِل لما سيعرَف لاحقًا بالاشتراكية فالشيوعية. وعكسًا، رأى ماركس أنّ اللامساواة في المجتمع المدني لا تلبث أن ترتدّ لتخريب المساواة السياسية والقانونية ذاتها. وكتب في أولى كتاباته الصحافيّة أنّ الخطر الأكبر الذي يتهدّد حرية الرأي والصحافة ليس الرقابة فقط بل التجارة أيضًا وخصوصًا.

بلوَر أنطونيو غرامشي مفهومه لثنائية الدولة/ المجتمع المدني بواسطة أطروحة تقول إنّ الطبقة الحاكمة تمارس سلطتها بطريقتين: الطواعية والقسر. تكسب الدولةُ طواعيةَ المواطنين من خلال الهيمنة (أو القيادة) التي تمارسها عن طريق مؤسسات المجتمع المدني وخصوصًا الدّين والعائلة والمدرسة والإعلام. وتغلب الهيمنة عندما تنجح الطبقة الحاكمة في أن تحوّل فكرها إلى الفكر السائد في المجتمع. إذذاك ترتبط الطبقات التابعة بأفكار وقيم وأنماط سلوك تغذّي المحافظة والقبول بالأمر الواقع. من جهة ثانية، تمارس الطبقة الحاكمة سلطتها من خلال القسر، أو السيطرة، عن طريق أجهزة الدولة القمعيّة من جيش وقوى أمن.

وهكذا تمارس كل سلطة طبقية نسَبًا متفاوتة من الهيمنة أو من السيطرة، ويمكن قياس طبيعة أنظمة الحكم — المتراوحة من أقصى السلطوية بل الاستبداد إلى أرقى الديموقراطية — بناءً على منسوب الهيمنة أو السيطرة الذي تحتوي عليه. لذا يسمّي غرامشي مؤسسات المجتمع المدني «المتاريس الأمامية» للسلطة الطبقية بما هي ميدان الصراعات الفكرية والثقافية بين هيمنة وهيمنة مضادة أو هيمنة بديلة. ويسمّي أجهزة القمع من جيش وقوى أمن «المتاريس الخلفية» أي خطوط الدفاع الأخيرة عن سلطة الطبقة الحاكمة.

في النيوليبرالية

مع النيوليبرالية والترويج للديموقراطية، ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي، أدرجت ثنائية دولة/مجتمع مدني في سياق الصراع ضدّ الشمولية والسلطوية والمركزية. تولّت «المنظمات غير الحكومية» الترويج للديموقراطية بناءً على معادلة تقول إنّ إضعاف الدولة وسحبها من أدوار الخدمة الاجتماعية والتوزيع الاجتماعي واعتماد آليات السوق التنافسية يعادل انتعاش الحريات الفردية والقطاع الخاص. هكذا باتت الدولة والمجتمع المدني على طرفَي نقيض.

لم يكن الترويج للديموقراطية معزولاً عن دوره في خدمة التحولات الهيكلية الاقتصادية التي فرضتْها النيوليبرالية. فمن جهة، جرى التشديد على العلاقة التلازمية بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية على اعتبار أنّ اعتماد الأسواق الحرة التنافسية يؤدي إلى تفكيك الاستبداد السياسي وتفتّح التعددية وحرية الاختيار والحرّيات الفردية. ومن جهة ثانية، كانت الترجمة العمليّة لتفكيك دولة الاستبداد، أو الدعوة إلى تفكيكها، هي سحب الدولة من الاقتصاد لصالح السوق، وتقليص الميزانيات وتحجيم الجهاز الإداري، وخصخصة القطاع العامّ، وخصوصًا تصفية دور الدولة في الخدمة الاجتماعية والتوزيع الاجتماعي. وهنا تبدأ اللعبة: المؤسسات المالية الدولية تلغي أو تحجّم أدوار الدولة، فتتدخّل «منظمات المجتمع المدني» (م.م.م.) بحجة غياب الدولة، لتمارس تلك الأدوار دون أن تكون لها الإمكانات الفعلية للتعويض عن غياب الدولة.

المجتمع المدني والمجتمع الأهلي

خلال مسار تكوين المجتمع المدني في المنطقة العربية، أثير موضوع موقع العيَل والعشائر والقبائل والطوائف والجماعات الإثنية والطائفية من المجتمع المدني. برز اتجاه في أوساط م.م.م. للتمييز بين هويات حديثة وهويات قبل حديثة، أو تقليدية. أخرجت هذه الأخيرة من المجتمع المدني، وقد بات مقتصرًا على ما سمّي القطاع الحديث من المجتمع. بعبارة أخرى، أدّى الفصل بين مجتمع مدني/مجتمع أهلي إلى جعل الطبقات الوسطى، المدينيّة خصوصًا، المكوّن الأساسي للمجتمع المدني وقاعدته الاجتماعية ومناخه الفكري.

أدى ذلك إلى تجاهل دور التكوينات قبل الرأسمالية وقبل الحديثة في تكوين الرأسمالية وفي الحداثة: الشركات الرأسمالية العائلية، الإنتاج العائلي الصغير في الريف والحرَف، الإنتاج الزراعي العائلي الصغير والمتوسط، والتجارة الصغيرة والمتوسطة في المدينة والريف، إلخ.). كذلك الأمر، تجاهل هذا التمييز دور تلك التكوينات في توزيع العمل الاجتماعي كما في مقاومة مفاعيل الرأسمالية بأشكال مختلفة. وأخيرًا، مهّدت تلك القسمة لتحويل العلاقات بين هذه الجماعات، بما فيها الموقع المتفاوت من السلطة والثروة والموارد ورأس المالي الثقافي، إلى هويات جزئية، أي ما دون دولتيّة.

حياديّة سياسيًّا

على الرغم من العداء المعلن للدولة، وادّعاء الحياد السياسي، تقيم م.م.م. علاقة شديدة الالتباس والتناقض مع الدول؛ ومع السياسة.

تروّج لفكرة «التغيير» الدائمة ومضمرها سياسي انطلاقًا. ويتبيّن أكثر فأكثر أنّ «التغيير» المقصود يتطلّب لعب دور سياسي أكان من خلال «المناصرة» [أنظر المادة الخاصة به] أم لعبِ م.م.م. دور «جماعات الضغط» (اللوبي) أم التقدّم من السلطات للعب دور الاستشارة والخبرة. وكلها مهمّات تتعلق بالسلطة وبالدولة والسياسة.
تُسقط م.م.م. الأحزاب السياسية من المجتمع المدني. في المنطقة العربية، راجت الحجة أنّ الأحزاب السياسية «فشلت» في تحقيق أهدافها في التحرّر الوطني والديموقراطي والاجتماعي. وكثيرًا ما يترافق هذا مع رفض الأحزاب والعمل الحزبي على اعتبارها تفترض التراتبية والمبدأ الانتخابي والمحاسبة اللاحقة، إلخ.
استبعدت م.م.م. النقابات أيضًا من المجتمع المدني ولم يعُد الاعتبار لها إلا بعد ثورات العام ٢٠١١ وبروز دور للاتحاد الوطني التونسي للشغل في الثورة التونسية ولاحقًا دور «تجمع المهنيين السودانيين» في الثورة السودانية ٢٠١٩.
كثيرًا ما يترافق تطبيق الحياد السياسي مع تمجيد العمل القاعدي، والتنظيمات الأفقية، ومنوّعات من نظريات تغيير المجتمع بغفلة عن الدولة، ومن الفردانية الفوضوية الرافضة لأي سلطة ومن الشعارات التي راجت خلال الانتفاضات العربية: «أنا القائد» أو «نحن مليون قائد».
يصعب الحديث عن حيادٍ سياسي لعديد من م.م.م. المموّلة من هيئات حكومية مباشرة أو من كبريات المؤسسات الدولية المانحة التي تتلقّى مساعداتٍ مالية وازنة من الدولة في بلادها.
إن الموقف التطهّري من الدولة، وادّعاء الحياد السياسي، لم يمنع «تجمّع المهنيين السودانيين» من أن يلعب الدور الأبرز في قيادة الثورة السودانية في العام ٢٠١٩-٢٠٢٠، باسم المجتمع المدني وتحت شعار «حكومة مدنية»، وأن يتولّى التفاوض السياسي مع السلطة العسكرية والتوصل إلى تسوية قضت بمشاركته في الحكم والسلطة (ولو من موقع الشريك الضعيف).

الدولة/ المجتمع الأهلي والديموقراطية

لا علاقة سببيّة بين انتعاش المجتمع المدني — وازدهار الحريات والديموقراطية — من جهة والنجاح الاقتصادي من جهة ثانية. معظم التجارب الاقتصادية التي اعتُبرت ناجحة في آسيا وأميركا اللاتينية، تحقّقت على قاعدة أنظمة دكتاتورية عسكرية قمعت الأحزاب المعارضة، وكسرت النقابات واتحادات المهنيّين والحركة العمالية ومنظمات المجتمع المدني. أولها دكتاتورية أوغستو بينوشيه العسكرية في تشيلي في أيلول/ سبتمبر ١٩٧١، أول اختبار الأفكار النيوليبرالية لـ«مدرسة شيكاغو»، وليس آخرها إنجازات الصين الشعبية في الانفتاح الاقتصادي في ظلّ نظام حكم الحزب الأوحد. والعكس صحيح، بنغلادش، التي تعجّ بآلاف مؤلّفة من م.م.م. ومنظمات الخدمة الاجتماعية ومجموعات المناصرة، لم تحرز تقدّمًا اقتصاديًّا يذكر بالنسبة للأكثرية العظمى من السكان حيث لا يزال معدل دخل الفرد فيها أقلّ من ٣٥٠ دولارًا.
ليست توجد أيضًا علاقة سببية بين انتعاش المجتمع المدني والديموقراطية. في فرنسا، أعرق الدول الديموقراطية الليبرالية، يلعب المجتمع المدني دورًا ثانويًّا جدًّا في الحياة العامة. واليابان دولة ديموقراطية مستقرّة لكن المجتمع المدني فيها ضعيف. والأمر نفسه يقال عن ألمانيا وإسبانيا. في معظم بلدان العالم، لا تزال الأحزاب السياسية والنقابات هي الفاعل الأساسي في العمليات الديموقراطية وتداول السلطة.
في المقابل، بلغت ذروة تدخل الدولة في الاقتصاد في ظل النيوليبرالية حيث أعيدت هيكلة اقتصاديات بأكملها بواسطة قرارات موجهة سياسيًّا وخاضعة لسلطات المال المحلية ولإملاءات المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووكالات التنمية). لم تكن المسألة إطلاقًا مسألة تدخّل الدولة أو عدم تدخل الدولة في الاقتصاد وفي التوزيع الاجتماعي إنما كانت ولا تزال: لصالح من تتدخّل الدولة؟

الدولة / المجتمع المدني ووحدة المجتمع

في البلدان حديثة الاستقلال، تشكل الدولة عنصرًا أساسيًّا في بناء المجتمع والحفاظ على تماسكه ووحدته. ويحمل إضعافُ الدولة خطرَ تفكيك الوحدة المجتمعية خصوصًا إذا فُرض بالعنف. وحالة العراق نموذجٌ مأساوي عن العلاقة بين إضعاف الدولة وتفكيك المجتمع. كان المضمر في عمليّتَي «تغيير النظام» و«إعادة بناء الأمة»، وهما المهمّتان الرئيستان في حملة «الترويج للديموقراطية» الأميركية في العراق، أنّ كسر الدولة المسمّاة «سلطوية» يحرّر المجتمع ويطلق التعددية وينمّي حريات الأفراد خصوصًا ويستعيد في الآن ذاته اقتصاد السوق التنافسي، وصولاً إلى خصخصة قطاع النفط. احتلّت الجيوش الحليفة العراق بقيادة الولايات المتحدة عام ٢٠٠٣، وقرّر الاحتلال تسريح الجيش العراقي وقوى الأمن ومعظم أجهزة الإدارة وتجريم حزب البعث. لم تكن النتيجة التأسيس للديموقراطية ولا بناء «مجتمع مدني»، بل أدى إلى تصدّع المجتمع نفسه وإطلاق وتسييس الولاءات المناطقية والإثنية والدينية والمذهبية، وتطبيقًا لشعار بناء «عراق غير بعثي وغير عربي». أقيم نظام فيدرالي بين منطقة حكم ذاتي كردية في ثلاث محافظات و١٥ محافظة «عربية»، وتأسس تقاسم مذهبي وقومي للرئاسات الثلاث والتمثيل البرلماني والحكومة والإدارة الحكومية، وسُلّمت السلطة الفعلية إلى تحالف شيعي- كردي بقيادة أحزاب مسلّحة. في ظل هذا التحالف نشأ نظام من الفساد المعمّم والمذهبية المكرّسة تم في ظلّه تفكك القوات المسلحة، ما أخلى المجال أمام استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل وثلث البلاد واستدعى بدوره إنشاء تنظيمٍ مليشياوي مذهبيّ هو «الحشد الشعبي»، تحوّل إلى القوة العسكرية الرئيسة في البلاد وزاد في تفكّك السلطة والقوات المسلحة والمجتمع.

 

المناصرة Advocacy تعني التبنّي العلني والدعم لدعوة معينة. وهي تفيد، بمعناها العامّ، التبشير بقضية أو سياسة والدعوة إليها والمرافعة عنها. عند تحوّلها إلى مفهوم من أجل التغيير الاجتماعي في ظلّ النيوليبرالية، تعمل المناصرة داخل بنية سياسية مفترضة سلفًا على قاعدة التمثيل البرلماني، مستلهمة النماذج المختلفة للممارسة السياسية التي نشأت في الولايات المتحدة الأميركية خصوصًا.

والمناصرة، في تعريف «المجلس الوطني الأميركي لمناصرة المنظمات غير الحكومية»، هي «أيّ كلام لصالح آخرين، أو يدعم قضيتهم، أو يؤيدهم أو يدافع أو يرافع عنهم. وهذا يتضمّن التعليم الرسمي، تنظيم العمل، والتقاضي أمام المحاكم، والمثول أمام الهيئات الإدارية، والنشاط في «جماعات الضغط»، وتسجيل قوائم الناخبين بمعزل عن أي انحياز حزبيّ، أو تدريب الناخبين بمعزل عن أي انحياز حزبي، والعديد غيرها». وهكذا يُنظر إلى المناصرة على أنها عمود أساسيّ من أعمدة الممارسة الديموقراطية طالما أنها، تعريفًا، شكل من أشكال النشاطية القائمة على اللغة والكلام والوساطة والحديث.

وهذا أمر إشكاليّ في أكثر من وجه. ليست المناصرة فعّالة بالمرّة في جميع بلدان العالم حيث تسود الأوليغارشيّات الاستبدادية والدكتاتوريات، أو حيث السياسات البرلمانية تمارَس فقط كواجهات. كذلك الأمر، تفترض المناصرة تمييزًا بين الذين يتكلمون، والمعنيين بالكلام، والذين يوجَّه إليهم الكلام. وهو تمييز غالبًا ما يجري التنظير له بمصطلحات أخلاقية أو تقنية أو علمية. ففي حين تتشكل السياسات الحزبية بناءً على التمثيل الجماعي والمصالح الجماعية، فالمناصرة مسار ليس معنيًّا بالسياسة وبالتمثيل السياسي خصوصًا. فمن خلال المناصرة يدعم ناشطو «منظمات المجتمع المدني» (م.م.م.) ومعهم الخبراء والتكنوقراط، قضايا فئات اجتماعية معيّنة لم تنتخبهم ولا اختارتهم ممثلين عنها أو متكلمين باسمها. وهكذا تسمح المناصرة بالتحايل على التحديات والمشكلات المتعلقة بالتمثيل السياسي والتنظيم السياسي. فهي تقدم نفسها كبديل قابل للتحقيق عن العمل السياسي والحزبي في ظل النيوليبرالية—أي كعقيدة اقتصادية، بل سياسية وفلسفية أيضًا، تناصر دور الأفراد، وتفترض أنّ السياسة أمر يتعلّق فقط بـ«التغيير»- ما يعني غالبًا الإصلاحات النيوليبرالية أو التغيير من ضمن البنى الموجودة- ولا يعني التشبيك بين نضالات مقاومة أو معارضة أو تغييرًا اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا تمارسها مؤسسات التعبئة الجمعية (كالنقابات العمالية والمهنية والأحزاب) التي تتحدّى آليات السوق وتناهض إجراءات سحب دور الدولة من الخدمة العامة والتوزيع الاجتماعي وخصخصة التعليم والصحة.

بديل عن السياسة؟

إنّ القيم الأخلاقية التي تقوم عليهـــا نشاطات المناصرة — أي مفاهيـم محددة للخطأ والصواب، ومنظومة من قواعد السلوك المعترف بها على أنها كونية، توجّه أفعال الأفراد (خلافًا لتوجيه أفعال الجماعات)—يُفترض أنها تعود بأفضل المنافع على الأفراد الذين يخضعون لها. وهكذا، تحوّل المناصرةُ الأنظار بعيدًا عن الأبعاد السياسية للقضايا الاجتماعية وتركّز على أهمية الواجب الأخلاقي ومسؤولية الأفراد عن الفعل. إنها لا تضع موضع التساؤل البنى والعلاقات الاجتماعية التي تقوم عليها قضايا معينة، بل تسعى فقط إلى التخفيف من آثارها السلبية، دون أي مساس بالعلاقات الاجتماعية. من هذا المنظار، تشكّل المناصرة مقاربة تعالج القضايا والمشاغل الاجتماعية حسب شروط رأس المال. وهي ليست بعيدة الشبه عن «الأخلاقيات البروتستانتية» في الرأسمالية. تنطلق المناصرة من الأخلاقية المفترضة في الرأسمالية وتوفّر إطارًا للدعم المتبادل بينها وبين قوى السوق. وإذ تطرح المناصرة نفسها بديلاً من السياسة، يشكّل «الفائض الأخلاقي» فيها وسيلة لإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية بدلاً من أن تشكل تحديًا لأسسها ذاتها.

كثيرة هي المقاربات والوسائل المستخدمة في المناصرة التي تمارسها «منظمات المجتمع المدني» (م.م.م.) عبْر الكلام والتواصل. وغالبًا ما يكون التشديد فيها على دور وسائل الإعلام وعلى ما يسمّى «تأطير السرديات» الذي غالبًا ما يستعير مفرداته من علم التسويق والعلامات والوسوم التجارية ومن الإعلانات. ومثلها مثل سائر نشاطات «منظمات المجتمع المدني»، فالمناصرة حقل اختصاص متطور جدًّا تشتمل بُناها التنظيمية على مدراء شركات وهيئات استشارية وخبراء في المناصرة. إلى ذلك، فإنّ فرص التمويل كثيرًا ما تتحكم بصياغة أو آليات المناصرة التي هي حاليًّا منظمة في كتل محددة بدقة ومنفصلة ومتذرّرة، تتعلق بعناوين من مثل التغيير المناخي والجندر والجنسانية والمساعدة الإنسانية الموجهة لجماعات معينة (لاجئون أو نازحون، أو عمالة وافدة، إلخ.) والترويج للديموقراطية، وحملات مكافحة الفساد، إلخ. وثمّة منهجيات متنوعة تتضمّنها مقاربات المناصرة. الأوسع شعبية بينها هي «نظريات التغيير» التي تقوم على تعيين المخرجات المرغوبة ومن ثم تعيين نمط النشاط والتدخل الضروريين لتحقيقها. و«نظريات التغيير» تعالج المشكلات الاقتصادية والاجتماعية بما هي مشكلات القضية الواحدة المتفرّدة واللاسياسية، مفترضةً أن التصليحات التقنية المؤقتة قادرة على معالجة المشكلات البنيوية.

وقد تضمّ المناصرة فاعلين متعددّين وتعالج تلك المشكلات ذوات القضية الواحدة وفق مقاييس مختلفة، أو على أصعدة مختلفة: نشاط «جماعات الضغط»، صنع السياسات وعقد التحالفات، مثلاً، وتسعى إلى التعاطي معها على مستويات قانونية عريضة في نظام برلماني تمثيلي (راجع كتاب ساباتييه وجينكينز سميث، واسع النفوذ بعنوان «إطار لتحالف المناصرة»). وعلى العكس من ذلك، وبالضد من العمل بالتعاون مع لجان برلمانية أو موظفي إدارة، قد تتضمّن المناصرة ما يسمّى حملات «رفع الوعي» حول قضية معيّنة وسط جماعات معيّنة بهدف تغيير وجهات نظر والمواقف والممارسات السائدة فيها. وهذه المقاربة، التي يشار إليها غالبًا على أنها التزام قاعدي أو تَشاركي، تتوجه إلى النفسانية الاجتماعية للأفراد (مثل المشاعر والمعتقدات والمواقف) وتفترض معرفة كثيفة كشرط مسبق للتحويل، وهي مقاربة فردانية وعازلة للأفراد بعضهم عن بعض.

الناشط والمناضل

على العموم، تشدّد المناصرة باستمرار على فكرة الحقوق الشخصية والفردية والخصوصية في مواجهة من الحقوق الاقتصادية التي يستدعي تطبيقها عرقلةَ ديناميات السوق، وتتبنّى تعريفًا لحقوق الإنسان متوافقًا مع قوى السوق الحرة وتحجب مفهوم المساواة. إنّ مثل هذه المقاربات والأخلاقيات والقيم، تناقض تعريف النضالات السياسية تحديدًا بما هي التزام متواصل على مختلف الجبهات وبطرائق مختلفة.

أخيرًا، فالمناصرة هي النقيض من التضامن والتنظيم. في المناصرة، يدافع خبراء وناشطون في م.م.م.، ومعهم مستشارون محترفون وتكنوقراط، عن قضايا الآخرين (فئات مهمّشة، أقليات، «مَن لا صوت لهم» و«من لا قوة لهم»، إلخ. في حين أنّ التضامن هو العمل الجمعي المشترك بين جماعات وقوى تتساند في قضاياها ونضالاتها وتوجّه جهودها إلى هدف متكامل أو متشابه ضد خصم أو عدوّ مشترك (مثل احتلال عسكري، قوى الإمبريالية، الرأسمالية، إلخ.). داخل البلد المعني أو عبر البلدان والأقاليم والعالم.

وهنا أيضًا يترافق الترويج للنيوليبرالية مع القلب والإبدال في معاني الكلمات. حلّت في قاموسها مفردة «الناشط» — بما تُضمره من نشاط قد يغلب عليه الطابع الفردي والكلامي والسلمَوي والاحتجاجي — محلّ مفردة «مناضل» — المكافح بالقول والفعل من أجل قضية — التي باتت الصفة التي تُلصَق بالإرهابي.

 

عندما أساعد الفقراء يقال عنّي إني قدّيس. وعندما أسأل لماذا هم فقراء، يتهمونني بالشيوعية
— أوسكار روميرو —
أسقف سان سلفادور

حتى الثمانينيات، كانت مؤسّسات الأمم المتحدة الاقتصادية والتنموية تعلن إحصائيات سنوية عن توزيع الدخل في البلدان الأعضاء وتصنّف الفئات الاجتماعية بحسب النسبة المئوية لكل منها من الدخل الإجمالي العامّ. كانت تلك حقبة انتصارات حركات التحرر الوطني واستقلال المستعمرات واستراتيجيات التنمية وإعادة توزيع الدخل والثروة، ووجود دول الاشتراكية المتحقّقة على ثلث الكرة الأرضية. في تلك الإحصائيات، لم يكن يوجد فئة «فقراء» بل شريحة اجتماعية تضمّ أصحاب الحصة المتدنّية من الدخل الأهلي.

انقلب الأمر في الحقبة النيوليبرالية المنتصرة في تسعينيات القرن الماضي التي اعتمدت «الفقر» كمشكلة قائمة بذاتها المطلوبُ التصدي لها محليًّا وعالميًّا. تعهدتْ «قمة الغذاء» في روما (١٩٩٦) بالقضاء على الجوع على اعتباره السبب الأبرز للفقر. حينها، قِيس الجوع بالحدّ الأدنى من السعرات الحرارية الضروري لغذاء الإنسان. أخفقت برامج القضاء على الجوع بعدما تزايدت معدلاته بنسب مرتفعة (٧٨٨ مليونًا عام ١٩٩٦ إلى ١،٠٢٣ مليار عام ٢٠٠٩ ، بمعدل ٣٠٪). قرّرت قمّة «الألفية» (٢٠٠٠) اعتماد مقياس آخر للفقر هو الإنفاق في السوق: ٤ دولارات يوميًّا و١،٢٥ دولار يوميًّا للفقر المدقع.

هكذا تجرّد الفقر من أسبابه: العمل أو البطالة، المهنة، الدخل، الملكية، التعليم، فرص الحياة – ومن علائقه، علاقة الفقراء بسائر فئات المجتمع. بات الفقر أقرب إلى مرض أو وباء. وليس غريبًا أنّ الأهداف الاقتصادية لـ«الألفية» تضمّنت هدف «وأد» الفقر المدقع مع حلول العام ٢٠١٥. انتهى العام ٢٠١٥ ولم يتحقق من الهدف إلا إنجازاتٌ هزيلة فتقررَ ترحيل المهمّة إلى العام ٢٠٣٠.

في أوجّ الحقبة النيوليبرالية، زمن الترويج للآليات العجائبية الفاعلة في السوق، تكفّلت نظريةُ «التسرّب» بمعالجة الفقر: نفِّذوا «التعديلات الهيكلية» وأعيدوا الاعتبار لآليات السوق التنافسية، خفِّضوا الضرائب على الأغنياء — سوف يُثري كبار الأثرياء و«يتسرّب» الازدهار منهم نزولاً إلى الطبقات الوسطى والفقيرة. ما حصل هو «تسرّب» عكسي من تحت لفوق. تفاقم التفاوتُ بين فقراء وأغنياء، داخل الأقطار وعلى الصعيد العالمي، بمعدّلات لا سابق لها في التاريخ. فتبيّن أن الفوارق الاجتماعية في القرن الواحد والعشرين لم تتحسن عما كانت عليه في القرن التاسع عشر. (Picketty, ٢٠١٤)

التلاعب بخط الفقر

بقدر التقصير في وعود وأد الفقر، كان تزايد التلاعب بالإحصاءات والبيانات. تتمنّع هيئات الإحصاء الوطنية قصدًا عن نشر الإحصائيات عن المداخيل والثروات العالية في بلدانها. والذريعة، حسبما ما تدّعي، «عدم التشجيع على الشعبوية والحسد»! (Picketty, 2014)

لا يتردّد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في التلاعب بخط الفقر: «إنهم يحرّكونه صعودًا ونزولاً ويعيدون تعريفه المرة تلو الأخرى»، تقول آرونداتي روي («الرأسمالية: قصة شبح»:٢٠١٤). تقررَ رفع «الخط» أو «السقف» للبلدان الغنية (١٧ دولارًا/ يوميًّا بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية). في المقابل، تقررَ خفض سقف الطبقة الوسطى إلى أدنى حدّ ممكن لزيادة عدد الذين «تَحرروا» من الفقر. فمَن ينفق أكثر من ٤ دولارات في اليوم فقد دخَل الطبقة الوسطى آمنًا. بناءً عليه، أعلن عن انتقال مئات الملايين من فقراء العالم إلى صفوف الطبقة العتيدة، في الصين والهند خصوصًا. ومع أنّ تلك الإنجازات لم تكن ذات علاقة مباشرة ببرامج وأد الفقر، فإن الإعلان عن انتقال ٣٠٠ مليون هندي إلى مصاف الطبقة الوسطى، مثلاً، لا يصاحبه الاعتراف بأنّ ٨٠ مليون هندي قد سقطوا إلى مصاف الفقراء المدقعين في الفترة نفسها (Roy, 2014).

شكّلت الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد الأميركي عام ٢٠٠٨ وتردّداتها الدولية منعطفًا في طريقة تقديم الفقر ومعالجته بعدما تبيّنت ضخامة الفروق ومعدّلات اللامساواة في مستويات المعيشة والثروة وفرص العلم والعمل والصحة والارتقاء الاجتماعي والحظوظ في الحياة التي نجمت عن التطبيقات النيوليبرالية على المستويات المحلية والعالمية.

الجغرافيا والثقافة

في سياق الجهود لإخفاء العلاقات داخل التراتب الاجتماعي وصِلة الفقر بالثراء، برزت عدة نظريات لتفسير اللامساواة المستشرية على الصعيد العالمي، نستبقي منها اثنتين.

النظرية الجغرافية: وتُنسب إلى برانكو ميلانوفتش، كبير موظفي البنك الدولي سابقًا، والخبير في اللامساواة الاقتصادية. يعيّن ميلانوفتش ثلاث مراحل أو عوالم للّامساواة: المرحلة الأولى هي عندما كانت اللامساواة في معظمها داخل البلدان الصناعية في القرن التاسع عشر؛ المرحلة الثانية، عندما كانت اللامساواة قائمة بين الأمم الغنية وسائر العالم في مرحلة الاستعمار؛ والمرحلة الثالثة، مرحلة «التلاقي»، التي يعتبرها المرحلةَ الوحيدة الباقية بعد إنجاز التحرر الوطني والاستقلال وانهيار المعسكر الاشتراكي. تشهد تلك المرحلة تقلّص معدلات اللامساواة بين البلدان الغنية وسائر بلدان العالم. والغريب في الأمر أن دليل ميلانوفتش الوحيد على ذلك هو ما يعتبره التقارب في معدلات اللامساواة بين الصين وعددٍ من البلدان الغربية. ويكتفي الاقتصادي الدولي بتلخيص آسيا بالصين، ويستكمل نظريته «الأممية» بأن يتوقّع أن تنضمّ أفريقيا إلى هذا «التلاقي»، من دون أن يبيّن الأسباب، مع أنه لا يخفي أنه ليس متفائلاً بانضمامٍ قريب لأميركا اللاتينية.

في مقابل نظرية «التلاقي» بين العوالم، هذه الوقائع: يقدّم العالمُ الغنيّ للعالم الفقير ١٣٠ مليار دولار سنويًّا على شكل مساعدات من أجل «تنميته». لكن العالَم الغنيّ يتلقّى سنويًّا من العالم الفقير ٢ ترليون دولار عبْر ثلاث طرق: عائدات الشركات العابرة للجنسيات (٩٠٠ مليار)؛ خدمة ديون البلدان الفقيرة ( ٦٠٠ مليار)؛ ويخسر العالم الفقير ٥٠٠ مليار دولار سنويًّا للعالم الغنيّ بسبب علاقات التبادل التجاري غير المتكافئة بينهما.

مهما يكن، انتشرت نظرية التفسير الجغرافي للفقر من وحي نظريات ميلانوفتش بحيث شكّلت الجغرافيا بديلاً عن الطبقات. فيمكن النظر إلى مدينة طرابلس اللبنانية، مثلاً، على أنها أفقر بلدان البحر الأبيض المتوسط، مع أن تعيين الفقر فيها يتم داخل المدينة حيث يبلغ الفقراء (٨٠٪ من السكان) قياسًا إلى غير الفقراء (٢٠٪ ) لا بالمقارنة مع سائر المناطق اللبنانية أو مع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. (أديب نعمة، الإسكوا، ٢٠١٤).

النظريـة الثقافية: وتسير هذه على هَدي تيّار «الثقافوية»، أو سياسات الهويّة، أبرز نظريات العصر النيوليبرالي. هنا الفقر هوية وللفقراء هوية و«ثقافة»، أي مجموعة قيم ومشاعر وطرق في التفكير وجبلة نفسانية ونظرة إلى الحياة، يفترض أنها جوهرية أو ملازِمة للشخصية الجمعية، تميّز الفقراء عن غير الفقراء وتلعب دورًا كبيرًا في فقرهم واستدامته.

أفراد/ طبقة/ أفراد

في سياق المحاولات ذاتها، أعيد الاعتبار إلى الطبقة الوسطى بعد تبنّي الدول الغنية شعارَ إنقاذ الطبقة العتيدة وحمايتها. أصدرت منظمة الإسكوا تقريرًا عن «الطبقة الوسطى العربية» (بالمفرد وبالجملة! في عالم عربي من ٣٥٠ مليون إنسان) عرّفتها بمقياسين:

مقياس اجتماعي، يضمّ الواقعين بين «الفقراء والمعرّضين للفقر» من جهة و«الميسورين»، من جهة أخرى. والأسرة الميسورة، وفق هذا التعريف، هي التي تستطيع الإنفاق على الكماليات، أي وفق المقياس ذاته المعتمد للفقر: الاستهلاك في السوق!
مقياس مهني، حيث تضمّ الطبقة الوسطى «موظفي القطاع الرسمي من ذوي الياقات البيضاء الذين يحملون شهادة ثانوية على الأقلّ». بهذا التصنيف المقتصر على موظفي الدولة، اختفى قسم كبير من سكان المجتمعات العربية والجسم الأكبر من أبناء الطبقات المتوسطة فيها: الحرَفيون والمزارعون المتوسطون وأبناء المهن الحرّة من محامين ومهندسين وأطبّاء وصيادلة وكوادر وموظفي القطاع الخاص، والصناعيين والتجار ومقدّمي الخدمات المتوسطين، إلخ. (منظمة الإسكوا، «واقع الطبقة الوسطى العربية، قياسها ودورها في التغيير» ٢٠١٤)
وهكذا، يعترف هذا التصنيف المستجدّ بطبقة لإلغاء الاعتراف بسائر الطبقات، أو بالتركيب الطبقي للمجتمع في هذا التصنيف الغريب: «فقراء»، أي أفراد يقاس وضعهم بناءً على قدرتهم الاستهلاكية؛ «الطبقة الوسطى»، أي جماعة يقاس وضعهم بناءً على المهنة والقدرة الاستهلاكية؛ و«ميسورون»، أي أفراد يقاس وضعهم بناءً على المدخول مع وضع سقوف لتلك المداخيل لا تتجاوزها البيانات (لا يتجاوز سقف الدخل في عدد من الحالات ١٢٠ ألف دولار سنويًّا).

عودة اللامساواة

ابتداءً من العام ٢٠١٤، بدأت منظمة «أوكسفام إنترناشيونال» بنشر تقرير سنوي عن اللامساواة على الصعيد العالمي. فتبيّن أنّ أصحاب المليارات بلغوا عددًا غير مسبوق وأنّ ثرواتهم تنمو بمعدّلات قياسية. تزيد ثروات بضع مئات من أصحاب المليارات عمّا يملكه ٤،٦ مليارات من البشر، يشكّلون ٦٠ بالمائة من سكان العالم. في المقابل، يزداد فقراء العالم فقرًا، ولا يزال بينهم ٣٧٥ مليونًا من المدقعين. وقد اتهمت «أوكسفام» الحكومات عبر العالم بتشجيع هذه الظاهرة عن طريق خفض الضرائب على الشركات والأثرياء الأفراد وتقليص الإنفاق على التعليم والصحة. وهذه تعابير ملطّفة تتّهم الحكومات بتطبيق السياسات النيوليبرالية.

وقد أبانت أبحاثٌ مستقلة وجادّة أن منطقة الشرق الأوسط هي صاحبة أعلى المعدلات عالميةً في اللامساواة، حيث يستحوذ ١٠ بالمائة من السكان على ٥٥ بالمائة من الدخل، (Picketty, 2014). أما في لبنان فإن ١٪ من السكان، لا يزيد عددهم عن ٣٧٠ ألف نسمة، يستحوذون على ٣٧٪ من الدخل الأهلي في حين أن ٥٠٪ من السكان، أي مليونًا ونصف المليون نسمة، يتقاسمون ٥٠٪ من الدخل (Assouad, 2015).

الإحسان الحكومي

بعد نظرية «التسرّب» وبرامج «شبكات الأمان» لالتقاط ضحايا آليات السوق التنافسية، والحدب على «الفئات المهمّشة والمعرّضة»، إذا نحن ننتقل فجأةً من «الوأد» إلى «تقليص الفقر المدقع إلى النصف» ثم إلى «مكافحة» الفقر و«استهداف» الفقر أو «معالجة الفقر»، وتأمين «الحماية الاجتماعية» للفئات المعرّضة والمهمّشة. وإذا هذه جميعًا، في التصوّر كما في التطبيق، ترمي في أفضل الأحوال إلى نمط من الإحسان يساعد الفقراء على أن يحافظوا على مستوى الفقر الذي هم عليه. هكذا، اكتسبت الدولة وظيفة جديدة. فالدولة الممنوعة من امتلاك قطاع عامّ ومحرّم عليها «التدخّل في الاقتصاد» والتخطيط الاقتصادي وتنفي مشاريع التنمية أو توفير الخدمات العامة أو ممارسة التوزيع الاجتماعي، هذه الدولة باتت مولجة بتوزيع الإحسان على الفقراء بما فيه الأعطيات المالية على غرار الجمعيات الخيرية الدينية أو الأهلية ومنظمات المجتمع الأهلي. على أن يتمّ التوزيع من ميزانيّتها وبواسطة قروض من الدول الغنية والبنك الدولي!

هذا هو الإحسان الأبوى بدلًا من إحقاق الحقوق في عصر حقوق الإنسان!

مهما يكن، بعد عقود من معركتها ضدّ الفقر توصّلت منظمة «أوكسفام» إلى هذه الخلاصة: «لا أملَ بكسب المعركة ضد الفقر دون معالجة اللامساواة» (تقرير «أوكسفام إنترناشيونال» عن توزيع الثروة عالميًّا، ٢٠١٤). من حيث البداهة، يمكننا أن نتوقع أنّ علاج اللامساواة هو بالمساواة. لكن المفردة محرّمة دوليًّا في اللغة النيوليبرالية، وفي لغاتٍ وتيارات فكرية أخرى. فأعيد الاعتبار لمفهوم «العدالة الاجتماعية». لكن هذه لن تُعرض إلا بعد أن تتعرّض لجملةٍ من التعديلات الهيكلية في المعنى والدلالة والاستخدامات.

 

العدد ٣١ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.