العدد ٣٣ - ٢٠٢١

تحول مشهدية الموضة في مصر المعاصرة

يتتبع هذا المقال مختلف الاتجاهات الناشئة في صناعة الموضة في مصر والمُرتبطة بتغير أنماط الحياة في البلاد، ويركّز على بروز أنواع مختلفة من الموضة المحلية خصوصًا، وتعايشها معًا، لا سيما «الأزياء الإسلامية الراقية» (Muslim Chic) والأزياء الغربية «الراقية» المنتَجة محليًّا، فضلاً عما يُسمّى بـ«الأزياء الإثنية». برزت هذه الأنواع إلى جانب الموضة الغربية المستوردة التي تملك إرثًا عريقًا في مصر. تفسَّر هذه الاتجاهات الجديدة كجزء من العمليات التفاعلية للعولمة، ويجادَل بأن الزي الإثني والأزياء الإسلامية الراقية يروّجان لاستراتيجيات جديدة من «التمايز» والذوق الرفيع. إلى ذلك، أصبحت الملابس «التقليدية» رائجة بين الأثرياء والسياح بالتوازي مع السلع الإثنية أو المحلية المصنعة يدويًّا، نتيجة ارتباطها الوثيق بتشكيل الهوية وإنتاج ثقافة «الفولكلور». في حين تحولت الملابس الإسلامية من علامة مُتزمّتة لمقاومة التغريب وتعالي الطبقة العليا إلى شكل جديد من «البرجزة» مع ما تنطوي عليه من تطلعات نحو الاندماج الاجتماعي. إذًا، في حين أصبح الزي الإثني علامة عن المكانة الاجتماعية، تحولت الأزياء الإسلامية إلى وسيلة جديدة للارتقاء الاجتماعي.

تتغير الأشكال الاجتماعية والملابس والأحكام على المعايير الجمالية، باستمرار، من خلال الموضة. مع ذلك، لا تؤثر الموضة – أو أحدث صيحاتها– على الطبقات العليا فحسب، إذ بمجرد أن تبدأ الطبقات الدنيا في تقليد أسلوبها في اللباس، وبالتالي عبور خط التماس الذي رسمته، وتدمير وحدة تماسكها، تبتعد الطبقات العليا من هذا الأسلوب وتتبنّى آخر جديدًا يميّزها عن الفئات الشعبية. وتستمر هذه اللعبة (Simmel 1971[1904]: 229).

bid33_p.48-49.jpeg

الإسكندرية، مصر، الخمسينيات

الإسكندرية، مصر، الخمسينيات

 

جدلية التماثل والتقليد

يستكشف هذا المقال الاتجاهات الناشئة في صناعة الأزياء المصرية والمرتبطة بتغير أنماط الحياة في البلاد البداية مع تطبيق سياسة الباب المفتوح التي انتهجها الرئيس أنور السادات في السبعينيات [من القرن العشرين]، وشهدت البلاد على أثرها طفرة في الثقافة الاستهلاكية، فزادت التدفقات النقدية بالتوازي مع زيادة ملحوظة في الاستهلاك. أصبحت المنشورات الإرشادية عن التسوّق، المصممة بشكل احترافي، متاحة في السوق، وتتضمن معلومات عن الإلكترونيات والجمال والأزياء والمجوهرات والترفيه والكتب وتوابعها. وعلى الرغم من أن الانخراط في هذه الطفرة الاستهلاكية لم يكن متاحًا للجميع، إلا أنها باتت ظاهرة متفشّية بشكل متزايد. اليوم، يوجد في القاهرة وحدها نحو ٣٠ مركزًا للتسوق (مولات)، بُنيت خلال الأعوام الـ١٧ الماضية، وأصبحت مساحات للتفاعل الاجتماعي بين الشباب، والمُعاكسة، وإلقاء النظر على السلع المعروضة في الواجهات. سيركز هذا المقال على التعايش بين أنواع مختلفة من الأزياء المحلية الناشئة، لا سيما «الأزياء الإسلامية الراقية»، والأزياء الغربية «الراقية» المنتَجة محليًّا، وما يُسمّى بـ«الأزياء الإثنية»، وقد برزت جميعها بالتوازي مع الموضة الغربية المستوردة التي تملك إرثًا عريقًا في مصر. تفسر هذه الاتجاهات الجديدة كجزء لا يتجزأ من مسارات العولمة.

لا يزال عمل جورج سيمل عن الموضة الذي كُتِب منذ نحو قرن، أحد أكثر الأعمال إلهامًا في هذه المجال. رأى سيمل أن الموضة تنطوي على مفارقة لافتة تكمن في وجود توتر بين قطبين متعارضين هما التماثل والتقليد من جهة، والفرد والمجتمع من جهة ثانية. في الواقع، تؤدي الموضة كتقليد، أو بالأحرى كـ«تقليد ساحر»، دورًا في التكيف الاجتماعي، مع بثّ شعور بالتمايز والاختلاف. وفقًا لسيمل، تمتلك الأزياء المستوردة قيمة عالية لمجرد أنها مستوردة، وبالتالي تُعدّ سلعًا نادرة. لا تزال بعض جوانب ملاحظات سيمل تنطبق على مصر المعاصرة. لطالما اعتُبرت الملابس المستوردة من العلامات الدالة على المكانة الاجتماعية، لا سيما منذ بداية القرن العشرين، بسبب العدد الكبير من النساء الأجنبيات اللواتي «لعبن دورًا رئيسًا في نقل الموضة من خلال المجلات والتصاميم والمتاجر» (Micklewright in Russell 2004: 30). تشير المنشورات الإرشادية عن السفر، التي كُتبت خلال العقدين الأولين من القرن الماضي، إلى أن القاهرة تنافست في عالم الموضة، وبشكل مثير للإعجاب، مع العواصم الأوروبية. بعبارة أخرى، كان إظهار التمايز الاجتماعي للفرد من خلال ارتداء تصاميم «شانيل» و«ديور» و«كاردين»، والهوَس بشراء سلع من علامات تجارية معروفة وراقية، من العادات المهمّة لأجيال من النساء المصريات المنتميات إلى الطبقة العليا، ولا تزال هذه العادة سائدة حتى يومنا. يتمثّل أحد أهم جوانب هذا النوع من الاستهلاك البارز في التباهي بالسفر إلى باريس أو ميلانو أو روما سنويًّا، إن لم يكن مرّتين في السنة، لشراء أحدث صيحات الموضة.

ناقش بيار بورديو الموضة من منظور «علم اجتماع الإنتاج الفكري»، ونظر إلى القوى المُتنافسة ضمن هيكلية «حقل إنتاج» الأزياء الفرنسية الراقية. بالنسبة إلى بورديو، الفاعلون المهيمنون هم الذين يملكون القوة لتشكيل ما يُسمى سلعًا نادرة ومحدودة الإصدار من العلامات التجارية المشهورة والراقية (1980: 197-198). حلّل استراتيجياتهم المتعلقة بالاقتناء والتدمير على حد سواء، والتي يستجيب لها الوافدون الجدد. يذكّرنا بورديو بأن جدلية التعالي الطبقي والتمايز الاجتماعي على المحك، في حين أنهما مولِّدا التحولات في مجالَي الإنتاج والاستهلاك. يُعتبر تحليل بورديو قابلاً للتطبيق في مصر، لا سيما مع وكلائها المتنافسين الصاعدين الذين يطمحون إلى الترويج لاتجاهات مختلفة ومضادة لتيار الموضة السائد.

bid33_p.53.jpeg

شوارع القاهرة ثلاثينيات القرن الماضي.

شوارع القاهرة ثلاثينيات القرن الماضي

 

تنوع الأزياء

اللافت في مشهد الموضة الحالي في مصر هو التنوع غير الاعتيادي في الأزياء، التي تتعايش بأنواعها المختلفة في الشوارع نفسها وخصوصًا بين الشباب. قد يفسر البعض الأمر على أنه انعدام في التجانس بين الأذواق، وقد يراها آخرون حالة «يُباح فيها أي شيء». تبدو بعض النساء مواكبات للموضة ومثيرات بالألوان الزاهية وسراويل الجينز الضيّقة والتنانير الضيقة أو القصيرة وأحمر الشفاه والمكياج. في حين، تشبَّه أخريات بالراهبات لارتدائهن ملابس سوداء طويلة وعدم وضعهن المكياج، بينما ترتدي أخريات النقاب. في هذا السياق، انطوت الملابس الإسلامية على طبقات متعددة من المعاني، بحيث يكون ارتداؤها بدرجات وبنوايا وتأثيرات مختلفة. تغطي بعض النساء رؤوسهن فيما يرتدين الجينز الضيّق، وتصرّ أخريات على ارتداء فساتين طويلة وواسعة. ترتدي بعض النساء ملابس عصرية مثل السراويل الملوّنة والسترات أو التنانير تحت الركبة ومع ذلك يغطين رؤوسهن، في حين ترتدي نساء أخريات الجينز أو أحدث صيحات الموضة الغربية المستوردة ويخرجن سافرات.

تكشف نظرة سريعة على الأزياء، التي يفضّلها طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة، عن أساليب مثيرة في اللباس. في الواقع، لا يُعد ارتداء التنانير القصيرة والقمصان الشفافة والسراويل الضيّقة مشهدًا غير اعتيادي في الجامعة، وكذلك الأمر بالنسبة لارتداء بعض الطالبات ملابس تكشف عن بطونهن. هناك أيضًا من يرتدي ملابس وفق الأسلوب السلس المعروف عالميًّا ويمكن الحصول عليه من خلال السراويل الفضفاضة والأحذية الرياضية وقبّعات البايسبول المعكوسة. في حين يرتدي بعض الطلاب الميسورين علامات راقية مثل «غوتشي» و«فرساتشي» كتأكيد على تمايزهم. في الوقت نفسه، سُجّلت زيادة في عدد الطالبات اللواتي يدافعن عن ارتداء الحجاب بالكامل، علمًا أن رؤية طالبات يرتدين عباءات سوداء لم يعد مشهدًا غير عادي كما كان الحال في السابق، وقد أثار هذا اللباس جدالات محتدمة بين الطلاب، واعتبر البعض أن حظر ارتداء الحجاب «ينتهك حقوق الإنسان».

أيضًا، تُبيّن واجهات المتاجر في وسط المدينة انعدام الانسجام في الأذواق وأساليب اللبس. فغالبًا ما يصادف المرء سلسلة محلات ملابس المحجبات بجوار محلات تبيع ملابس داخلية مثيرة معروضة بجرأة. ولا تزال الصحافة المصرية منقسمة حول كيفية تفسير التناقض الصارخ بين «جنون الأزياء الجديدة» والمُنقّبة المغطاة بالأسود. إلى ذلك، ينتقد كثيرون أزياء الشباب. على سبيل المثال، نشر ملحق الأهرام التعليمي (يصدر مع صحيفة الأهرام الرسمية) [في ٢٠٠٤] مقالاً يزعم أن البلاد تواجه كارثة كبيرة لأن الشباب يتبعون صيحات في الموضة غالية ومثيرة للاشمئزاز ومُخزية. وحذّر المقال من فقدان الشباب قدرتهم على التفكير بعقلانية ومنطق، والانحراف نتيجة اتباع الموضة الغربية المستوردة. يتعامل الخطاب الرسمي والنبرة الأخلاقية مع الشباب المصريين كأنهم أطفال، ويقللان من شأنهم بسبب ما يُعتبر عادات جنسية منحلّة وأخلاق سائبة في الأماكن العامة. نتيجة ذلك، يطالب البعض بتدخل الدولة لاستعادة النظام والحفاظ على الأخلاق العامة.

من ناحية أخرى، يُعتبر اللباس الذي يغطّي المرأة بالكامل مكروهًا إلى حد ما في الدوائر الرسمية باعتباره رمزًا للتطرف ولارتباطه غالبًا بالتهديد بالعنف والإرهاب. يبدو أن الصحافة الرسمية والدوائر الحكومية تحاول الترويج لصورة المرأة المحجبة «المحترمة» المنتمية إلى الطبقة الوسطى (ترتدي ثوبًا طويلاً يغطّي تفاصيل جسدها لكن من دون تغطية وجهها). على سبيل المثال، كل موظفات الدولة تقريبًا، باستثناء القبطيات، اعتمدن الحجاب كجزء من قواعد اللباس الرسمي.

الجلابية والزي الوطني المصري

بما أن الموضة تنطوي على عناصر التقليد والتمايز والتباعد، فهي تُعتبر جانبًا مهمًّا في تكوين الهوية. عند مقارنة مصر مع ثقافات العالم الثالث الأخرى، يبرز السؤال عن سبب فشل المصريين في الحفاظ على الزي الوطني أو حتى ابتكار زي وطني جديد. تفاخر النساء الهنديات من خلال الساري، وكذلك تفعل الماليزيات بباجو كورونغ، والإندونيسيات بالسارونغ. في الواقع، أنتجت الاختلافات العرقية الغنية في إندونيسيا مجموعة متنوعة من الملابس «الأصليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة» والجذابة والجميلة، التي تُرتدى في حفلات الزفاف والمناسبات الوطنية والأعياد. تُعد سنغافورة أيضًا مثالاً رائعًا، إذ تمتلئ شوارعها بأزياء ماليزية وهندية وصينية وعصرية غربية. تبنّت هذه البلدان الملابس الأصلية كعلامات وطنية وإعلانًا عن «الحق في الاختلاف» في عالم تجتاحه العولمة.

أصيبت سلوى مصباحي، المصممة المغربية المعاصرة المقيمة في القاهرة، بالذهول لفترة طويلة بسبب عدم اهتمام المصريين بالحفاظ على الزي التقليدي. بعد دراسة التصميم في الدار البيضاء، اهتمّت مصباحي لسنوات بابتكار نمط جديد من القفطان المغربي الأنيق، على اعتبار أن النساء المغربيات ما زلن يفتخرن بـ«القفطان المغربي» الذي يرتدينه كعباءة فوق ملابسهن. كذلك تصمم المصباحي فساتين الحفلات والأعراس وفقًا للطراز المغربي التقليدي. على ما يبدو، تتردد العديد من النساء المغربيات الميسورات في ارتداء «ثوب السهرة» الغربي الذي تفضّله المرأة المصرية.

تكشف الدراسات التاريخية أن تبنّي النخب غير الغربية للزي الغربي خلال القرن التاسع عشر، استلزم تشبيكًا تفاعليًّا أوسع في أماكن مثل الهند بالمقارنة مع مصر. يصف عمل إيمّا تارلو (1996) عن اللباس والهوية في الهند الغموض المعقد في المواقف الاستعمارية البريطانية تجاه النخب الهندية المثقفة، التي حاولوا جعلها «متحضرة» من جهة، واعتبروها تهديدًا من جهة أخرى. انعكست هذه المواقف في المحاولات البريطانية لثني الهنود عن تبني الزي الغربي بالكامل. تناقش تارلو الازدواجية الهندية تجاه الملابس الأوروبية، التي كان يُنظر إليها على أنها أي شيء قد يراوح بين التحضر والاغتراب والتلويث، وتبنّتها نخبة الرجال الهنود وتكيفت معها كليًا أو جزئيًّا.

أثار المهاتما غاندي قضية اللباس وجعلها رمزًا وطنيًّا مهمًّا في الهند عبر رفضه العلني للملابس الأوروبية، وتفضيله قطعة قماش بسيطة ملفوفة حول الوركين، وذلك بهدف فضح الاستغلال الاستعماري وتمتين التضامن مع الفقراء. من خلال الترويج للغزْل والنسيج اليدويين، وارتداء الملابس البسيطة المصنوعة في المنزل، ابتكر لباسًا وطنيًّا أصبح رمزًا قويًّا وأداةً للتحرّر الوطني. بقيت الملابس المغزولة يدويًّا من الرموز القومية المهمة حتى بعد الاستقلال، بعد أن اعتمدها جواهر لآل نهرو، رئيس الوزراء الأول في الهند، وباتت حاضرة في السياسة من حينها. بالمقارنة، يتبين أن الحركة القومية المصرية التي أطلقها الضابط الشاب جمال عبد الناصر لم تعطِ أي اهتمام جدّي للّباس كرمز وطني.

لم يلعب رفض الملابس الغربية دورًا حقيقيًّا في مصر. أُلغِي الطربوش باعتباره رمزًا للحكم العثماني والنظام الإقطاعي، فيما بقيت الملابس الغربية رائجة طوال الوقت. كان المستهلك العصري الذي جُسّد في إعلانات شركة الملابس المصرية في العشرينيات عبارة عن «رسم لرجل يرتدي بزة أوروبية، وأحذية كلاسيكية، وربطات عنق فاخرة، وطربوشًا، ويحمل عصًا و/ أو سيجارة أحيانًا» (Russell 2004: 62). مع ذلك، برزت بعض الانتقادات لمخاطر تبنّي الموضة الغربية ومستحضرات التجميل في الأدبيات القومية والعلمية والشعبية والنسوية في مطلع القرن. لكن لم تكن هذه المعارضة ضد أنماط الاستهلاك الناشئة عمومًا، بل دعت إلى الاختيار الحذِر بحيث «يتبنى الشرقيون ما يتوافق مع أخلاقهم ومميّزاتهم فقط» (Russell 2004: 39).

لا يشعر الرجال الهنود بالخجل من دخول وزارة ما في الهند مرتدين الكورتا، في حين يتعرّض الرجل المصري الذي يرتدي الجلابية الفلاحية للتمييز على الفور من موظفي الدولة، وهو ما يعود ربما إلى طبيعة التحديث الناصري الذي كان موجّهًا نحو تعزيز وتوسيع ثقافة موظفي الطبقة الوسطى والأفندية المعادية لثقافة الفلاحين.

على الرغم من أن الخطاب الرسمي كان يمدح الفلاحين، إلا أن ثقافة الفلاحين لم تكن نموذجًا للنظام الجديد. لا تزال صور عبد الناصر ووزرائه وعائلاتهم مقرونة بالملابس الغربية الحديثة. يُبين أرشيف صور جمال عبد الناصر في صحيفة الأهرام الأسبوعية الكثير عن عائلته وأسلوب حياته؛ نراه في ملابس عسكرية وغربية، ومع ربطة عنق في المناسبات الرسمية، أما بناته فيظهرن في الصور الملتقطة في فيلا العائلة بفساتين قصيرة بلا أكمام وتصفيفات شعر عصرية مُماثلة لتصفيفات شعور النساء الأوروبيات.

نادرًا ما ارتدت النساء الجلابيات في الاحتفالات الرسمية خلال الخمسينيات والستينيات، ونادرًا ما شوهدت امرأة تغطّي رأسها خلالها. بالمثل، تكشف الأفلام المصورة في تلك الحقبة عن ممثلات يرتدين الملابس مكشوفة الصدر، ولباس البحر البيكيني (من قطعتين)، والتنانير القصيرة. انطوى التحديث على تبنّي أسلوب لباس غربي. أما الطبقات العاملة فقد صوّرتهم وسائل الإعلام كرجال ونساء «سعداء»، يرتدون زيًّا موحّدًا للعمل شبيهًا بما يرتديه العمال في البلدان الاشتراكية، والذي يُعتبر منافيًا للأخلاق وفقًا لمعايير الزي الإسلامي المعاصرة.

قبل خمسين عامًا كان التعرف إلى الطبقة الاجتماعية من ملابس الشخص في مصر، أسوةً بأي مكان آخر في العالم، أسهل بكثير مما هو عليه اليوم. كان يمكن التعرف إلى المصريين غير المتعلمين من الجلابية التي يرتديها الرجال والنساء، ومن عدم انتعالهم الأحذية (Amin 2004: 72). عندما كنت طفلة، قيل لي إنه لم يكن يُسمح لأي شخص حافي القدمين بالدخول إلى وسط المدينة قبل الثورة، ما أدى إلى إقصاء الفلاحين.
كذلك ميزت أنماط الحجاب نساء الطبقة الدنيا. ولا يزال الحجاب والجلابية، إلى حد ما، يشيران إلى الطبقات الفلاحية والريفية. لكن لم يعد هؤلاء الأشخاص يمشون حفاةً في أيامنا هذه. اليوم، يميل أطفال العائلات الفلاحية، الذين تلقّوا بعض التعليم، إلى ارتداء القمصان مع السراويل أو الجينز إذا كانوا ذكورًا، أو اعتماد النمط الحضري للزي الإسلامي بما فيه الحجاب حتى عند وجودهن في القرية، علمًا أن معظم الفتيات المتعلمات، إن لم يكن جميعهن، يرتدين الملابس الإسلامية عند ذهابهن إلى المدينة. أيضًا طرأ تغيير على أسلوب الجلابية الفلاحية، بحيث اختفت الجلابية المخملية السوداء الطويلة المخصصة للنساء، وحلّ القماش الصناعي الأسود الرخيص مكانها. كذلك تغيّر تصميم الجلابية الرجالية، خصوصًا شكل الياقة، إذ أُدخِل إليها أسلوب ياقة القميص الغربية وباتت تُعرف بالجلابية الإفرنجي، وأيضًا أُدخِل أسلوب الجلابية السعودية وحلّ مكان قَصة الياقة المستديرة، خلال الأعوام الـ١٥ الماضية، بسبب الهجرة الجماعية للعمال الريفيين إلى السعودية.

أزياء إسلامية وغربية وإثنية

المثير للاهتمام في تطور الموضة المصرية، اليوم، هو التعايش بين الأزياء الراقية الإسلامية والغربية والإثنية. أستعير مصطلح «الأزياء الإسلامية الراقية» من المتخصّصين الذين درسوا الحركة الإسلامية المتنامية في تركيا، ولاحظوا ظهور أساليب إسلامية في اللباس جديدة ومتطوّرة. تستخدم جيني وايت (1999) هذا المصطلح للإشارة إلى أن الحركة الإسلامية شهدت في السنوات الأخيرة تغيرًا هائلاً نتيجة النجاحات السياسية والاقتصادية. في الواقع، أصبح النجاح وفقًا لوايت مرتبطًا بالإسلام. ساهم ظهور الموضة الإسلامية وأسلوب الحياة المُترف في تحديد «المُحافظة الحضرية الجديدة» (1999: 80). ظهرت اتجاهات مماثلة في مصر. بدأ التحول نحو الملابس الإسلامية في عهد السادات، الذي شجع الأعداد المتزايدة من طلاب الجامعات على ارتدائها في أوائل السبعينيات. رُوج لهذه الملابس كحلّ عملي للفقر، ووجد العديد من الطلاب من أصول ريفية أنها وسيلة مريحة للهروب من الاختلافات الطبقية الحادّة داخل الحرم الجامعي. مع ذلك، كان هدف السادات الرئيسي مواجهة القوى الشيوعية والعلمانية عبر استخدام أجهزة الدولة لتعزيز الاتجاه الإسلامي المُعادي لكل من الناصريين والشيوعيين. في غضون ذلك، انقضت أكثر من ثلاثة عقود وتغيرت رمزية الملابس الإسلامية كثيرًا. تطورت من كونها حادّة الشكل ومتماثلة مع الحركة السرّية المناهضة للنظام والمؤيدة لإيران، وارتبطت بـ«السَعْوَدة» وأسلوب اللباس البترو-إسلامي الأكثر تطورًا، وهو ما يعود إلى الهجرة المصرية الضخمة نحو دول الخليج والتحويلات المالية التي أرسلت إلى الوطن.

إذا كانت صناعة الأزياء مزدهرة في مصر الآن، فهي كذلك في مجال الملابس الإسلامية والملابس الغربية الحديثة المنتَجة محليًّا. ينشر الدليل الأساسي للتسوّق ٢٠٠٤ (العدد ٢) إعلانات لنحو ١٣٣ متجر أزياء، بعضها لعلامات تجارية عالمية. يضم «المعادي غراند مول» الكثير من المتاجر الفاخرة المتخصصة في الملابس الإسلامية، والتي تحمل أسماء غربية مثل سوزانا وبور إيل. لجعل الملابس الإسلامية جذابة للشابات، يكون الإعلان عنها بعبارات مثل العباية الشبابية، والعباية- الجينز، والحجاب الهيبّي. تتناسب الألوان الجذابة للفساتين الطويلة والسراويل مع الحجاب الذي قد يكون باللون الأحمر أو الأزرق أو البنفسجي الفاتح. أيضًا يصبح ارتداء الحجاب أكثر مواكبة للموضة عند الإعلان عنه كوشاح. توجد سلاسل عدّة من ملابس المحجبات في مختلف المراكز والمحلات التجارية. في الصيف، تزدحم مراكز التسوق في القاهرة بزوّار من الخليج، الذين يُعَدّون الزبائن الرئيسيين للعباءات والجلابيات «الراقية»، والتي قد يصل ثمنها إلى ١٥٠٠ أو ٢٠٠٠ جنيه مصري.

وشهد العقد الماضي أيضًا ازدهار مجموعة كبيرة ومتنوعة من شركات الأزياء المحلية التي تبيع ملابس عصرية بأسلوب غربي. أصبح بعضها ناجحًا للغاية وتمكّن من تصدير الملابس إلى أوروبا. على سبيل المثال، نجحت «سفاري» في الترويج لملابس العطلات والسفر المصنوعة من الأقمشة المحلية. في حين، روّج عدد من الشركات الأخرى لفكرة الأزياء المحلية الراقية، مثل «كونكريت» و«ميكس» و«ماتش» و«موباكو» و«ساهارا» و«وايلد» و«٦٩» و«دايلي دريس» و«ماري لويس». علمًا أن بعض هذه العلامات يمتلك فروعًا في مراكز التسوّق والفنادق العالمية والبوتيكات. بعض هذه الشركات ليس أكثر من ورش عمل صغيرة، وبعضها الآخر عبارة عن مؤسسات، وبينهما هناك شركات نجحت في جعل الكتّان والقطن المصريين أكثر عصرية، واستخدمت أيضًا الأقمشة الصناعية. تنتج هذه الشركات سلعًا عصرية ذات تنافسية عالية، مشغولة بإتقان وحرفية، وبأسعار معقولة نسبيًّا بالمقارنة مع الملابس المستوردة. وهو ما يمنح الأجيال الشابة مجموعة واسعة من خيارات الموضة. من هذا المنظور، يمكن ملاحظة تعددية الأذواق المُتاحة في الموضة المصرية، على الرغم من أن الملابس ليست رخيصة. نتيجة هذه التطورات، أصبحت الفوارق الطبقية من خلال اللباس أقل حدة مما كانت عليه قبل نحو ٢٠ عامًا.

وشهد العقد الماضي أيضًا زيادة في عروض الأزياء، وبعضها بطابع دولي. على سبيل المثال، دخل المصمّمون اللبنانيون على المشهد. ففي معرض أقيم في فندق «شيراتون الجيزة» في القاهرة في ربيع ٢٠٠٤ كان جميع المصممين لبنانيين والعارضات مصريات. كان لافتًا حضور العديد من العائلات التي تغطّي نساؤها رؤوسهن ويرتدين ملابس إسلامية. يمكن للجمهور أن يرى تفاصيل دقيقة لأجسام العارضات المُكبّرة على شاشة كبيرة. تضمنت التصاميم فساتين طويلة راقية وباهظة الثمن تكشف عن أجزاء حساسة من الجسم، وملابس شفافة وتنانير قصيرة للغاية مع ياقة رقبة منخفضة تكشف الكثير من الصدر. بدت العارضات المصريات متوتّرات بداية، على الرغم من أن العرض لا يختلف كثيرًا عن عروض الأزياء في أوروبا. نظر الشباب ضمن الجمهور إليهن بافتتان متوقّع. وكذلك فعلت المحجبات اللواتي أبدين إعجابهن بهن والتقط بعضهن الصور بحماسة كبيرة.

إلى جانب التصاميم الغربية والإسلامية الشعبية التنافسية، شهدت مصر أيضًا ظهور «الأزياء الإثنية الراقية». في ربيع ٢٠٠٤، نظّم «معهد غوته» في القاهرة عرض أزياء تحت إشراف المصممة الألمانية سوزان كويمبل. كتبت مجلة «دير شبيغل» الألمانية تقريرًا عن العرض بعنوان «الفتيات المحجبات يصممن أزياء مكشوفة للغاية». وشدد المقال على أن أولئك الطالبات المحجبات من الطبقة الوسطى في كليّة التصميم بجامعة حلوان، هن في الواقع من أكثر الطلاب موهبة وإبداعًا في تصميم الأزياء. ومن المفارقات أنهن يُصممن ملابس مثيرة، ويفتخرن في الوقت نفسه بارتداء الحجاب. سوزان كويمبل هي أيضًا «مصممة إثنية» تعمل على مشروع مموّل من مركز الهجرة الدولية والتنمية. أصبحت مهتمة بالتقاليد المحلية لبدو جنوب سيناء وأقامت مشروعًا مع طلابها. سافرت إلى الصحراء الشرقية لتتعلم التطريز والتصاميم من البدو. وخلصت النتيجة إلى إنتاج ملابس حديثة وعصرية مستوحاة من الأزياء «الإثنية». لسخرية القدر، كان حلم هذه «المصممة الأجنبية» مساعدة المصريين في العثور على «هوية» من خلال الملابس التقليدية المحلية.

عمومًا، انتشرت بين الأثرياء الأزياء «الإثنية» والموضة المصرية. في مركزَي «هيلتون» للتسوّق في القاهرة (لا سيما متجر «دُكان» في هيلتون رمسيس مول) وفي فندق «ماريوت»، يمكن شراء ملابس إثنية مثل الجلابيات، والسترات الحريرية المطرزة برسوم وأشكال شرقية، والكليم، والحرَف البدوية، والأوشحة، والمجوهرات الفضية المأخوذة من تصاميم أفريقية (شعب الطوارق) ويمنية وهندية. إن وجود هذه الملابس في الفنادق الدولية لم يأتِ صدفة. في الواقع، يسير إحياء الملابس الإثنية بالتوازي مع ازدهار السياحة في مصر ودور الدولة في الترويج للسياحة. في هذا السياق، يمكن أيضًا ذكر ملابس «نقادة»، المستوحاة من المنسوجات المصرية التقليدية، والمصممة بـ«نسخة جديدة» عن ثقافة الفلاحين والبدو. يُصنّع القماش في نقادة، إحدى قرى صعيد مصر، ثم تُضفى لمسة عصرية على الملابس. وتعمل نقادة بنجاح لافت، ربما لأنها تستهدف مجتمع المغتربين.

في هذه الأثناء، سافر المصممون بكثافة إلى الهند وجنوب شرق آسيا والصين ودمجوا التصميمات الهندية والباتيك مع القماش المصري لخلق أسلوب إثني جديد. تشهد هذه المشاريع على تطوير معايير جمالية هجينة ومعولمة جديدة، وعلى الدور الذي لعبه المصريون في هذه العملية. أُنشِئت «نقادة» من مصمّمة لبنانية ورجل سويسري عاشا لسنوات عدة في قرية تونس بالفيوم، حيث أنتجت زوجة الرجل السويسري الفخّار الرائع بالاستناد إلى الأشكال والتصاميم الفرعونية والإسلامية، وأنشآ مدرسة في تونس لتعليم الصغار مهنة صناعة الفخّار. في غضون ذلك، بدأ العديد من الطلاب في بيع منتجاتهم الخاصة من منازلهم. يجذب المشروع العديد من السياح الأجانب، ومؤخّرًا بنى أحد الروائيين فندقًا في القرية لتحفيز المزيد من السياحة.

إحياء الجلابية والبحث عن هوية وطنية

إن الافتقار إلى زي وطني محدد والتراجع التاريخي للملابس التقليدية، دفع بعض الشخصيات الثقافية البارزة إلى محاولة إحياء وتعزيز أسلوب حياة ومعايير جمالية أقرب إلى الطابع المصري. تُعد شهيرة محرز إحدى تلك النساء، وهي متخصّصة في الفن الإسلامي والهندسة المعمارية وتلميذة المهندس الراحل حسن فتحي. تشتهر محرز بترويج فكرة ارتداء الجلابيات بين الأثرياء، وبجعلها راقية وأنيقة وعصرية بالنسبة إلى مذيعات ومذيعي التلفزيون. تبنّت محرز الجلابية كجزء من بحث عن هوية، يلخص بسؤال طرحته: «لماذا عليّ أن أرتدي فساتين لا تمت إلى ثقافتي بصلة؟». بالإضافة إلى تعميمها اللباس المصري، محرز مؤسِّسة وصاحبة معرض لترويج الحرف التقليدية المصرية.

حتى محرز بذاتها نتاجٌ هجين لتربية الطبقة العليا الفرنسية المقيمة في القاهرة. كانت تتحدث الفرنسية أفضل من العربية خلال طفولتها، ولم تتعلّم القراءة والكتابة بالعربية إلا في أواخر سن الـ١٨، إذ كان شقيقها يقرأ لها عناوين البرامج التلفزيونية من الصحيفة، الأمر الذي كان له تأثير كبير عليها لأنها لم تشعر يومًا بأنها مصرية ولا حتى فرنسية. تقول: «بالنسبة إلى الفرنسيين كنت مصرية، وبالنسبة إلى المصريين كنت فرنسية». من الواضح أن هذا الشعور بعدم ارتياحها بجلدها، كان الدافع وراء بحثها عن هوية. عندما أخبرت فتحي عن «تعاستها» بسبب عدم قدرتها على التحدث باللغة العربية بشكل صحيح، أخذها إلى مسجد السلطان حسن وعزف لها على الكمان ليُظهر كيف أن الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية تتماشى بشكل جميل مع العمارة الإسلامية. قال لها إنه «لقاء العمالقة في ثقافتين: الغربيون لديهم عبقرية الموسيقى، ونحن لدينا عبقرية الهندسة المعمارية».

تزامن لقاء محرز بفتحي مع اهتمامها بالملابس الذي تطور نتيجة أسفارها السابقة إلى الريف المصري. نظرًا لانتمائها إلى عائلة إقطاعية قديمة تمتلك أراضي في مدينة كفر الزيات، وتحديدًا في قرية إبيار، أدى ذلك إلى ارتيادها وعائلتها المناطق الريفية خلال طفولتها. هكذا توفَّر للأسرة اطلاع واسع على الثقافة المصرية، وزار أبناؤها صعيد مصر، والمعابد الفرعونية والمساجد، واصطُحب أطفال العائلة إلى المتاحف في أحيان كثيرة، وكان لديهم امتياز رؤية مجموعة علي باشا إبراهيم. وتتذكر محرز أن شقيقها اشترى لها ثوبًا بدويًّا عندما ذهب إلى إحدى الواحات الصحراوية.

تطوّر ولعُ محرز بالزي الفلاحي من تجارب الطفولة المبكرة. في وقت لاحق بدأت في جمع الملابس من القرى. شيئًا فشيئًا، عثرت على خياطين قرويين يعرفون تصاميم الجلابيّة القديمة، لكنهم توقفوا عن صنعها بسبب تبدل الأذواق وقلة الطلب عليها. قدّمها فتحي إلى حرفيين في جميع أنحاء مصر، وسافرا معًا في أواخر الستينيات بحثًا عن نسّاجين محليين وحرفيين من مواقع مختلفة، وشراء الأزياء، و«اكتشفا» حرَفيّي كرداسة قبل أن تصبح منطقة سياحية. في أسواق كفر الزيات وأنشاص، عثرت محرز على سيدات من قرى مختلفة يرتدين ملابس محلية متمايزة. حاولت بعد ذلك تتبّع الخياطين للاستفسار عما اعتادوا على صنعه في الماضي. ترفض محرز فكرة أنها تعيد اختراع التقاليد بحجّة أن «المرء يعيد اكتشاف ما تبقى من التقاليد لعدم وجود ما يُسمّى بإحياء التقاليد. يمكن المحافظة على الخبرة والمهارة العملية، ولكن لا يمكن المحافظة على الملابس، لأن هناك بنية تحتية كاملة وتقنيات نسج اندثرت».

بدأت محرز أيضًا بجمع الملابس البدوية، وهي تمتلك اليوم مجموعة قيّمة مؤلفة من نحو ٤٥٠ فستانًا من الأرياف والصحارى والواحات. تُعرض هذه الجلابيات وتوابعها مثل المجوهرات وبُسط الكليم، من وقت إلى آخر في المراكز الثقافية الغربية، والسفارات الأجنبية في القاهرة، وأماكن أخرى في مصر. اكتسبت محرز شهرة عالمية، ونظّمت عروض أزياء عدة للأزياء التقليدية المصرية في أماكن مثل كاروسيل دو لوفر في فرنسا، كاستيللو دي سارتيرانا في مقاطعة بافيا بإسبانيا، والولايات المتحدة الأميركية. فضلاً عن ذلك، أصبحت مديرة برنامج العريش للتطريز وشريكة مؤسّسة للبوتيكات المتخصصة في الجلابيات خلال الثمانينيات. يعود الفضل إلى محرز في تسليط الضوء على التنوع المناطقي الكبير في أساليب الجلابية، لا سيما العباءات المُخصّرة في صعيد مصر، والعباءات الطويلة في الدلتا. تبنّتها الطبقات الثرية أيضًا كأحد أشكال «اللباس التقليدي». جعلت محرز الجلابيات المُطرزة باهظة الثمن من صيحات الموضة، فانعقدت «حفلات الجلابية» في المنتجعات السكنية مثل العجمي وفي المنازل الخاصة. زبائنها من الأثرياء بلا شك، ويمكنهم دفع ٢٠٠٠ إلى ٣٠٠٠ جنيه مصري مقابل لباس واحد. مع ذلك، وعلى الرغم من هذه التطورات، لم يرتدِ أي موظف حكومي الجلابية في العمل. تقول محرز إن معظم المصريين لا يزالون مفتونين بالزي الغربي. لديها بعض الزبائن المصريين «المستنيرين»، إلا أن كثيرين يفضّلون شراء الملابس التي تصممها محرز كهدايا لأصدقائهم الغربيين وهم واثقون من أنهم سيقدّرون قيمتها. بخلاف ذلك، أفضل المتسوقين لديها هم الزبائن العرب من الأردن ولبنان والكويت والبحرين. تسافر العائلات الخليجية الملكية إلى مصر مرّتين في السنة وتشتري كميات هائلة من الملابس، كونها ترتدي الجلابيات في المنزل وفي الأماكن العامة. قد تشتري ١٥ أو ٢٠ أو ٣٠ زيًّا.

يمكن إجراء مقارنة بين افتتان النخبة المصرية بالجلابية والدعم الهندي للأزياء الإثنية الراقية، التي طوّرتها أيضًا النخب المحلية الميسورة. وفقًا لتارلو، على الرغم من أن الأزياء الإثنية الراقية في الهند تحاكي الأذواق الشعبية والموضة الشعبية وتعتمد عليها، إلا أنها تعمل أيضًا كوسيلة تتيح للنخب المثقفة بأن تميّز نفسها عن الطبقات الشعبية الهندية وعن الغرب (Tarlo 1996: 325). برزت ظاهرة مماثلة في سنغافورة في أوائل التسعينيات عندما تم إحياء الشيونغسام، الزي النسائي الصيني بعد إجراء تعديلات عليه، فأصبح مستخدَمًا كعلامة هوياتية في المناسبات العامة الرسمية ومرتبطًا بدوائر السلطة (Huat 2003: 79). ويبرز هذا الجانب الطبقي، سواء في الهند أو سنغافورة أو مصر، عند محاولة النخب إعادة تجديد نفسها من خلال تقدير اللباس الريفي والفلكلوري الذي يساهم في تكوين أسلوب عالمي للنخب له متغيّراته المحلية الخاصة. نلقى هنا نوعًا من التجانس في الأذواق، مع بعض الاختلافات المحلية، وتشكّل جميعها جزءًا من عملية العولمة.

في الخلاصة، تتطابق عند محرز إعادة اكتشاف «التقاليد» مع «الأصالة» في الأذواق وأنماط الحياة. مع ذلك، ليست صدفة أن تتطور أعمال محرز وغيرها من المشاريع المماثلة التي حاولت إعادة ابتكار المجوهرات والأثاث والفنون الأصلية، في أواخر السبعينيات، أي في ذروة انفتاح مصر على الأسواق العالمية تطبيقًا لسياسة «الانفتاح». معظم هؤلاء الروّاد هم من خلفيات هجينة مثقفة وغربية، ولديهم مسارات شخصية تُظهر اندماجهم التفاعلي الطويل مع الغرب. هنا يثور السؤال عما إذا كانت «إعادة تدوير» الأصالة واكتشاف الجمال «المحلي» يتمّان في الواقع من زاوية نظر غربية. لا شك في أن موقف الرواد ينمّ عن مثالية غير اعتيادية تجاه التقاليد المحلية. كذلك ليست صدفة أن يُحتفى بالأذواق التي يدافعون عنها وأن تُكيّف في صناعة السياحة. بعبارة أخرى، إن الحد الفاصل بين «الأزياء الإثنية» الراقية والرخيصة ضعيف.

خاتمة

بالاقتباس من جدليّة بورديو عن الفاعلين المتنافسين داخل حقل ما، يُمكن النظر إلى «الملابس الإثنية» و«الأزياء الإسلامية الراقية» كعوامل تغيير جديدة. الاتجاهان حديثان بالمقارنة مع «الخياطة الراقية» المستوردة من الغرب، والتي تملك إرثًا قديمًا وراسخًا في مصر. يروّج الاتجاهان - المرتبطان بشكل معقد بتشكيل الهوية - لاستراتيجيات جديدة «للتمايز» والذوق الرفيع. مع ذلك، تكمن ميزة الملابس الإثنية والأزياء الإسلامية الراقية بأنها، أي تلك الملابس، وضعت معايير جديدة في السوق «للأذواق المستوحاة محليًّا». بعبارة أخرى، هناك «علامات راقية» محلية في طور التكوين تعطي قيمة اجتماعية لفكرة «المحلي». الملابس وغيرها من السلع «البلدية» مثل الشيشة، وبساط الكليم، والخيم، والوسائد، ومنتجات حي الخيامية، والسجاد، والسلع النحاسية (الموائد المستديرة)، والعطور التقليدية، والأقمشة أصبحت من صيحات الموضة بالنسبة إلى الأثرياء، وأيضًا من المعالم «البارزة» التي تُعرض في الفنادق الدولية وتباع في المطارات كـ«هدايا تذكارية». مع السياحة، أصبحت السلع الشعبية مرتبطة بالثقافة المخملية، فيما هي تسوَّق على أنها ثقافة جماهيرية. مجددًا أصبح رسم الحنّاء على الجسم نقطة جذب سياحي شهيرة، تشبه إلى حد كبير تقنيات التدليك المستوردة من جنوب شرق آسيا والموجودة في العديد من الفنادق العالمية والمنتجعات السياحية على البحر الأحمر. تباع المنتجات الإثنية الأخرى، مثل الأثاث الهندي، والأقمشة واللوحات والأثاث الإندونيسي «الروطان» (الخيزران)، والأثاث التايلاندي عن طريق مستوردين مصريين. يمكن العثور على هذه الأغراض في مراكز التسوق والمحلات المتخصصة، الأمر الذي يشير إلى أن إعادة إحياء الأذواق المصرية جزءٌ لا يتجزأ من إعادة تقييم عالمية واسعة لتسليع القطع الأثرية التقليدية من جميع أنحاء العالم.

إلى أي مدى تساهم تغييرات نمط الحياة هذه في تشكيل الهويات؟ من خلال تبنّي أساليب إسلامية في الملابس والأثاث، يحاول العديد من المصريين إعادة ابتكار هوية يشعرون أنها اغتُصبت بسبب التحديث في الستينيات. يحب البعض مقارنة وضعهم بأوضاع شعوب شبه القارة الهندية. يجادلون بأنه على الرغم من استعمار كلٍ من مصر والهند من البريطانيين، فقد تمكّن الهنود من الحفاظ على تقاليد متمايزة في لباسهم، ومطبخهم الشهي، وأشكال التعبير الفني الأصلية، في حين فشل المصريون في ذلك. على الرغم من أن أسلوب اللباس الإثني قد يعتبر نتيجة مباشرة للتفاعل العالمي واستجابة للطلب السياحي الدولي، إلا أنه نجح في الترويج للحرف اليدوية المحلية وتعزيزها، والمساعدة في تشكيل الأذواق المتغيرة بين الطبقات الوسطى والعليا المصرية.

يخدم أسلوب اللباس الإثني النخب الثرية تحديدًا، ولكن يمكن رؤية أوجه التشابه بين الأشكال الناشئة من الأزياء الإسلامية الراقية والإثنية، خصوصًا أن كليهما يستخدم الموضة كعلامات للمكانة الاجتماعية ووسيلة للارتقاء الاجتماعي. أكثر ما يلفت الانتباه هو التحوّل الذي شهدتْه الملابس الإسلامية عند ظهورها في الجامعات المصرية في منتصف السبعينيات، من كونها علامة حاسمة لمقاومة التغريب وتعالي الطبقة العليا إلى أحد أشكال «البرجزة» مع ما تنطوي عليه من تطلّعات للاندماج الاجتماعي. إن المشهد اليومي في شوارع القاهرة هو مشهد محجبات، مدخّنات الشيشة، جذابات، مغريات، مثيرات ومتحررات- على ما في الأمر من تناقض.

 

مراجع

Amin, Galal. 2004. Whatever Else Happened to the Egyptians. Cairo: AUC Press.
Bourdieu, Pierre. 1980. Questions de Sociologie. Paris: Les Editions de Minuit.
El-Guindi, Fadwa. 1981. “Veiling Infitah with Muslim Ethic: Egypt’s Contemporary Islamic Movement.” Social Problems 8: 465–85.
El-Guindi, Fadwa. 1999. Veil. Modesty,
Privacy and Resistance. Oxford: Berg.
Herrera, Linda and Annelies Moors. 2003. “Banning the Face-veil: The
Boundaries of Liberal Education”.
ISIM Newsletter 13: 16–17.
Huat, Chua Beng. 2003. Life Is Not Complete without Shopping, Consumption Culture in Singapore. Singapore: National University
of Singapore.
Russell, Mona L. 2004. Creating the New Egyptian Woman: Consumerism, Education
and National Identity 1863–1922. Palgrave.
Macmillan. Simmel, George. 1971[1904].
“On Individuality and Social Forms”.
In Selected Writings. Chicago, IL: University
of Chicago Press.
Tarlo, Emma. 1996. Clothing Matters, Dress
and Identity in India. Chicago, IL: University
of Chicago Press.
White, Jenny B. 1999. “Islamic Chic”.
In Caglar Keyder (ed.) Istanbul, between
the Global and the Local. Boulder, CO: Rowman and Littlefield Publishers.

العدد ٣٣ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.