ترجمة فيفيان عقيقي
يُجمِع الكثير من أبناء جيلنا على أنّ التغيير الأكثر جذريّة الذي طرأ على أسلوب حياتهم سُجِّل خلال فترة الانفتاح التي انتُهجت إبّان حكم [أنور ] السادات، حين اكتشف المصريون رغبات استهلاكية غير محدودة، فيما عايشوا إحباطًا ناتجًا من انعدام القدرة على تلبيتها. في الواقع، تلى انتقال السادات من التحالف مع الاتحاد السوفييتي إلى الغرب الرأسمالي في أوائل السبعينيات [من القرن العشرين]، انتهاج سياسة «الباب المفتوح»، التي تعني صراحةً المزيد من الخصخصة على حساب تدمير «القطاع العام» واحتكار الدولة للصناعات الكبرى.
اتبِعت تلك السياسة بتدخّل متزايد من البنك وصندوق النقد الدوليين في قرارات التخطيط الاقتصادي الداخلي في مصر. وتعرّض استبدال الواردات للهجوم، وهو الإنجاز الذي حققه نظام [جمال] عبد الناصر، بحيث سارت عملية الانتقال من عصر «رأسمالية الدولة» الناصرية إلى الاندماج الكامل في النظام الرأسمالي العالمي بالتوازي مع تشجيع المصريين على الاستهلاك باعتباره نمط حياة جديدًا، ما أدّى إلى تحوّل مذهل وسريع في عادات الاستهلاك والتسوق. فمن جهة، خلق نظام عبد الناصر عبر توجّهه الاشتراكي طبقات وسطى ذات سلوكيات استهلاكية أُشبِعت بتوسّع السوق والصناعات المحلية بالتوازي مع عزل البلاد عن الأسواق الدولية. ومن جهة أخرى، أدّت السنوات الطويلة من الترويج للأيديولوجية الناصرية إلى تشجيع إيديولوجية «شدّ الحزام» والتقشف بين تلك الطبقات الوسطى ذاتها. بالنسبة إلى العديد من المصريين، تجسّدت تحولات سياسة الانفتاح في التباهي بالانتقال من تدخين سجائر «كليوباترا» و«نفرتيتي» و«بلمونت المصرية» إلى تدخين علامات تجارية أخرى مثل «مارلبورو» و«كنت» الأميركية، التي تزيد أسعارها بنحو الضعف، إن لم يكن ثلاثة أضعاف، عن سعر السجائر المصريّة، ومن قيادة سيارات فيات ونصر المُنتجة محليًّا إلى قيادة الـ«بي أم دبليو» و«مرسيدس» الأفخم، ومن الملابس المصنوعة يدويًّا إلى الملابس المستوردة، وكذلك استبدلوا مشروبات «سيكو» و«راندا» و«سينالكو» سيّئة الصيت بمشروبات مستوردة.
«إيديال» وأخواتها
يمكن لجيل الستينيات أن يتذكّر نشأته في أسر امتلكت سلعًا استهلاكية مُعمّرة منتجة محليًّا. كانت شركة «إيديال» الوطنية تنتج مطابخ معدنية كاملة وأفرانًا وبرّادات وخزائن معدنية وأسرّة ومكاتب وحتى لعبًا للأطفال. ربما لم تكن هذه السلع الاستهلاكية المعمّرة جذابة من الناحية الجمالية، ولكن لا يمكن إلا الاعتراف بفاعليتها وعملانيتها. كذلك أنتجت شركة النصر تلفزيونات مصرية بجميع المقاسات، من ضمنها التلفزيونات المحمولة والصغيرة. في الواقع، شكّلت شركة الدلتا الصناعية، «إيديال»، رمز نجاح النظام، فقد نشرت مجلة المصور الأسبوعية مقالاً «دعائيًّا» في العام ١٩٦٦ فيه صورة عبد الناصر خلال زيارته المعرض الصناعي، وتباهت فيه بانتصار الشركة في غزو الأسواق الأفريقية في دكار بالسنغال ولاغوس بنيجيريا، فيما أشار العنوان الفرعي إلى أنّ الأسواق في جميع أنحاء العالم تتنافس على مكيّفات وبرّادات «إيديال».
بالفعل، وصلت برّادات «إيديال» إلى ألمانيا الشرقية. أثبتت الشركة نجاحها بحيث ضاعفت رأس مالها بنحو ٨٠ مرة بعد الثورة. تأسّست «إيديال» في العام ١٩٦٢ نتيجة اندماج شركة الدلتا التجارية مع شركة التعدين، علمًا أنّ الشركة السابقة تأسّست في العام ١٩٢٠ برأس مال ٢٠ ألف جنيه مصري، وبدأت بإنتاج أولى البرّادات في العام ١٩٥٤- ويرجّح أنها أولى البرّادات المنتَجة في الشرق الأوسط- وأتبِعت بإنتاج المكيّفات في العام ١٩٥٦. وكانت الشركة قد توسّعت لتشمل ثلاثة مصانع كبيرة برأس مال يصل إلى مليون وستمائة ألف جنيه مصري. باختصار، كانت النزعة الاستهلاكية فخر «القطاع العام» الذي أمّم المحلات الكبرى مثل «هانو» و«صيدناوي» و«شملا» و«تربيشي»، واستحوذ على العديد من الشركات السابقة ووسّعها.
العمارة على نمط باوهاوس هو الابتكار الألماني الذي وُلد من رحم الحاجة، وتبنّاه النظام الحاكم بحثًا عن حلول فعّالة لا سيّما لمشكلة سكن المحتاجين. شكّل هذا الأسلوب من العمارة حاجةً وظيفية وعملانية في دولة «نامية» مثل مصر. كان بإمكان السكن الشعبي أن يكون نسخة- إنما أسوأ بكثير- عن السكن الاجتماعي الألماني، لكن أسلوب مدرسة باوهاوس طُبّق على منتجات «إيديال».
***
قادت عائلات الطبقة الوسطى سيارات «فيات» المُجمّعة محليًّا. كانت سيارة «رمسيس» الصغيرة، وهي نسخة شبيهة لـ«توبولينو» الإيطالية، السيارة المصرية الأولى المنتَجة محليًّا، وعلى الرغم من عدم استمرار تصنيعها طويلاً، فقد شكّلت على الأقل محاولة جديرة بالاعتبار. أما سيارات «نصر» فقد كان يضطر الراغبون بشرائها إلى حجزها مسبقًا، لا سيما أنّ الحصول عليها من الحكومة يستغرق أكثر من عامٍ كامل.
***
اعتمد موظفو الدولة الزيّ الرسمي الذي يذكّر بالعديد من ملابس البلدان الاشتراكية. لا شك أنّ من هم أكبر منّي سنًّا يتذكّرون الشعار الحكومي الشهير «البدلة الشعبية أحسن من الجلابيّة». أليس هذا المثال هو الأفضل لعكس تصوّرات النظام عن التحديث؟ الابتعاد عن الثقافة الريفية؟
***
لعبت الفتيات بدمى «سابرينا» المنتَجة محليًّا. طبعًا لا يمكن لهذه الدمى السمينة وذات الجودة المتدنية والشعر الخفيف المُتحلل الذي يصعب تسريحه أن تنافس دمى «باربي» الشهيرة التي حُظِر استيرادها أو بيعها في السوق المحلية. مع ذلك، كان هناك فتاة في صفي تتباهى بـ«الباربي» الخاصة بها، فأثارت إعجابنا وحسدنا في آن.
***
نشأنا جميعًا على علامة تجارية أو اثنتين من مساحيق غسيل الملابس، وهما «رابسو» و«سافو». لم تكن لدينا غسالات ولا جلّايات نظرًا إلى توافر الكثير من الخدم. سادت هذه الحال على الأقل حتى أوائل السبعينيات. إلى ذلك الحين، كانت الغسالة تأتي مرة في الأسبوع، فتجلس في أرضية الحمّام أمام قِدر كبيرة لغسل ملابسنا.
***
يتذكّر الكثيرون أيضًا أهمية النمليّة، وهي خزانة تُستخدم لتخزين الطعام مثل الأرز والزيت والأدوات المنزلية الأخرى مثل الصابون والمنظفات. إنها عبارة عن قطعة نموذجية في منازل الطبقة الوسطى، تُغلَق بإحكام خوفًا من أن يسرق الخدم محتواها. استُبدلت النمليّة لاحقًا بثلّاجات كبيرة وأفران المايكروويف. في الواقع، قبل الثمانينيات، لم يكن شائعًا شراء كميات كبيرة من المواد الغذائية وتخزينها في ثلّاجات.
***
كنا نستخدم أطباق الميلامين البلاستيكية اليومية وأدوات المائدة المصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ (ستنليس ستيل)، بدلاً من أدوات المائدة الصينية والأواني الفضية التي يُحتفظ بها لاستخدامها في المناسبات المهمة فقط. ويتذكّر كلّ مراهق في فترة الستينيات إعلان التلفزيون المصري الذي يقول: أنا الميلامين الجامد والمتين.
أعادت شركة البلاستيك العامّة إنتاج الأطباق والصناديق البلاستيكية وغيرها من السلع المنزلية، ورفعت شعار الترويج للمنتجات الاقتصادية للمتزوجين حديثًا.
أعيد تدوير زجاجات الويسكي الفارغة لتعبئة المياه الباردة، واستُخدمت علب البسكويت لأغراض متعددة، وأعيد استخدام جميع أنواع الأغلفة للفّ الهدايا. وخلال الستينيات، كان يُنظر إلى من يمتلكون سلعًا فاخرة مستوردة ونادرة على أنهم من «النخبة». لم يفكّر أحد في شراء زجاجات المياه المعدنية لعدم توافرها في الأساس.
***
دأب قسم كبير من نساء الطبقة الوسطى على شراء مجلة «بوردا» الألمانية التي تتضمن ترسيمات مختلفة للخياطة. بصفتهن ربّات منازل اقتصاديات، امتلكت النساء المصريات ماكينات خياطة من علامة «سنجر»، وشاركن في دورات خياطة لمواكبة آخر صيحات الموضة في أوروبا. ولا يزال كثيرون يشعرون بالحنين إلى الخيّاطين وصانعي الأحذية الذين يأتون إلى المنازل لأخذ مقاس القدم. على الرغم من شعور الحرمان الاستهلاكي، إلا أنّ الطبقة الوسطى العليا عاشت بشكل جيّد وحصلت على خدمات اختفت مع بدء الإنتاج الكثيف، إن لم تخنّي الذاكرة، وانتشار ثقافة الاستهلاك الجديدة. أتذكّر خيّاط والدتي وصانع الأحذية، وخيّاطَ أبي الذين دأبوا على المجيء إلى منزلنا حتى أواخر الستينيات. أمضى هؤلاء ساعات في تجريب مقاسات الفساتين والأحذية، تخللتها نقاشات طويلة مع والديّ أثناء ارتشاف القهوة. اعتاد بائع الحليب إحضار اللبن الطازج كلّ يومين، والذي لم يكن يتطلب سوى غليه، فيما يجلب بقّال الحيّ العديد من الحاجيات إلى المنزل وتَدفع له الوالدة في نهاية الشهر. يبدو أنّ كلّ هذه الحِرَف والخدمات المنزلية اختفت اليوم باستثناء ظاهرة العاملين في المنازل.
***
حاليًّا، أصبحت خدمة التوصيل إلى المنازل من الامتيازات التي يتمتع بها المصريون. يمكن لسيدات الطبقة الوسطى الحديثة القيام بالأعمال المنزلية عبر هواتفهن، فيطلبن الطعام الطازج والخضروات واللحوم وغيرها من السلع من جميع محلات السوبرماركت، والوجبات الكاملة من المطاعم وسلاسل الوجبات السريعة، والأدوية من الصيدليات، والكعك من الفنادق، وكذلك يُعِدّ متعهدو المطاعم وجبات العشاء لهن. بعبارة أخرى، ووفق قول الكثير من المصريين: «لم يعد هناك حاجة إلى الخروج والتعارك مع الجماهير في الشارع».
***
تواجدت سلسلة أحذية «باتا» المنتَجة محليًّا في كلّ مكان، وأتيحت للجميع إمكانية شراء العلامة التجارية الموحّدة للأحذية الرياضية البيضاء، كذلك تواجد متجران في وسط المدينة لبيع ملابس الأطفال. أتذكّر أنّ والدتي كانت تأخذنا إليه مرّتين سنويًا. وصُنِعت الملابس الداخلية الرجالية والنسائية من القطن المصري، تميّزت بها شركة «جيل» التي استمرت واكتسبت سمعة طيّبة وصُدّرت منتجاتها إلى أوروبا.
***
سيتحدث الكثير ممن عاشوا خلال الحقبة الناصرية عن قلّة الأموال المُتاحة، مع ذلك أُنفِق القليل ممّا هو مُتاح نظرًا إلى عدم وجود ما يكفي من السلع الكمالية لشرائها. ادخر الآباءُ المال لكلّ فرد في الأسرة في دفاتر توفير. كذلك روّجت شركة التأمين لأهمية وجود تأمين على الحياة، وأصبح إعلانها شهيرًا خلال الحقبة الناصرية: «شركة التأمين عاملة بوليصة لعمّ أمين». شكّل التأمين والادخار الثقافة السائدة التي نشأنا عليها.
قد يزعم الذين يشعرون بالحنين إلى تلك الحقبة أنّ الناس ارتضوا بما لديهم إلى حد ما، بحيث باتوا أقل استياءً من عدم تحقق توقعاتهم الاستهلاكية. في حين، ينتقد أعداء الناصرية تلك الحقبة بالمواجهة بين عبد الناصر والسادات بالمحاجّة بأن الوفرة والعرض هما أبرز إنجازات عهد السادات. لكن لو صح الأمر، فلماذا اندلعت إذن أعمال الشغب الشعبية في العام ١٩٧٧ عندما فرض صندوق النقد الدولي رفع الدعم عن السلع الأساسية مثل الخبز والزيت والصابون؟ في الواقع، لم تصبح الحياة ورديّة بالنسبة إلى الفقراء في السبعينيات، ولم تتطلّب الأمور سوى زيادة طفيفة في الأسعار حتى يُسكب الزيت على النار.
الطبقة المُترفة في الستينيات
هذا جانب واحد فقط من القصة. من الوهم وصْف عهد عبد الناصر بأنه مجرّد محاكاة متواضعة للدول «الاشتراكية» كما يرغب أعداؤه في تذكّره. على الرغم من ترويج الخطاب الرسمي لإيديولوجية الندرة، إلا أنّها لم تطبّق على الجميع. في الواقع، قد تكون النظرة إلى اقتصاد الندرة متحيّزة طبقيًّا بشكل خطير وخاطئ، إذ استمرّ التمييز الاجتماعي لكنه اتخذ مسارات مختلفة عن النظام الملكي السابق. يقول منتقدو الناصرية اللاذعون إنه تمّ الاستيلاء على الأثاث والتحَف الخاصة بالطبقة الراقية القديمة من خلال المصادرة، أو عبر المبيعات الخاصة، بحيث انتقلت ببساطة من أيادي تلك الطبقة المتهاوية إلى يد الطبقة الصاعدة حديثًا. تخصّص بعضُ الباشوات السابقين في هذه التجارة وبرعوا في شراء الروائع من الطبقة الراقية القديمة المتراجعة والتي تتزايد حاجاتها باضطراد. في حين يرى آخرون أنّ فترة عبد الناصر أدّت إلى توسّع الشهيّة الاستهلاكية لدى الطبقات الوسطى الصاعدة التي لا شك خلقت أسواقًا مختلفة. تعرض إعلانات الستينيات مكيّفات منتَجة محليًّا (كولدير)، وسجّادات التبريزي الشيرازي من إنتاج «الشركة العربية للسجاد والمنسوجات» في دمنهور، والمعاطف النسائية الجلدية الفاخرة. وأنتجت شركة كورونا شوكولا نادلر والكاكاو والبودنغ والحلاوة المصرية. كذلك برزت إعلانات في مجلة «المصوّر» لأسطوانات الفونوغراف، والثريّات الزجاجية، وسخّانات مياه «سيغال» المعدنية، والأفران، والبرّادات، والأواني. قد يجادل البعض ربما بأنّ وجود العديد من أنواع السجائر دلالة على وجود تنوّع كبير.
خلال الستينيات، وضعت مجلة «المصور» إعلانات عن علامات تجارية مثل «كليوباترا» و«نفرتيتي» و«فلوريدا» (شركة النصر للدخان والسجائر)، «بلمونت» (الشركة الشرقية)، «القاهرة» و«٥٥٥» و«فلتر كينغز» و«باكستون» (منتجات من فيليب موريس) و«سميراميس» و«كرايفن آي». أما المحلات الكبرى التي تحوّلت إلى شركات عامة تديرها الحكومة مثل صيدناوي وتربيشي وهانو وعمر أفندي، فقد قدّمت الكثير من العروضات والتخفيضات على جميع أنواع السلع المنزلية.
صادر النظام الجديد «المُنتزه»، وهو منتجع للملك فاروق ساحر بحدائقه وحقوله الواسعة، وتحوّلت أطراف خليج سميراميس إلى مقرّ صيفي لعبد الناصر ووزرائه، أما الشواطئ الأخرى فقد أصبحت منتجعات خاصة تضمّ كبائن صيفية فاخرة وباهظة الثمن للطبقة الأرستقراطية المتهاوية. وفي حين غزا برجوازيّو الدولة الحديثة شواطئ كليوباترا وعايدة في منتجع المُنتزه، استطاعت هذه الطبقة أن تتحمّل أيضًا تكاليف الحصول على شقق أخرى في الإسكندرية ومساكن على طريق الأهرامات.
تألّفت «نخبة النخبة» الصاعدة في أواخر الستينيات من تحالف بين الطبقة الراقية القديمة والبيروقراطيين وأبناء الثورة وتشاركوا معهم بما أمّن استمراريتهم. أقام «المُنتزه» حفلات صباحية ومسائية على الشاطئ، وعرضت فرقتا «لي بتي شا – القطط الصغيرة» و«بلاك كوتس – المعاطف السوداء» أغاني لفرانك سيناترا وشارل أزنافور وكلود فرانسوا والبيتلز وسواها. أيضًا، أقيمت «الأمسيات الراقصة» في «فندق فلسطين»، وهو مبنى آخر مثير بُني وفقًا لمدرسة «باوهاوس» للعمارة وأصبح رمزًا للتحديث. بين الحين والآخر، ظهر «فندق فلسطين» في أفلام غنائية بما هو المكان المفضّل للطبقة المُترفة. لقد عرضت تلك الأفلام ممثلات مثيرات يُعتبرن بمعايير اليوم جريئات جدًّا بإطلالتهن بالبيكيني. وكان ذوق الإسكندرية الكوزموبوليتي لا يزال مستمرًّا في مطاعمها خلال عقد الستينيات. أتذكّر جيّدًا أنّ ثقافة المطاعم كانت منتشرة في الإسكندرية بشكل خاص.
أمّا «نادي الجزيرة»، الذي خُصّص سابقًا للضباط البريطانيين حصرًا، فقد جرى تمصيره بفضل الثورة، فتحوّل نتيجة التأميم إلى ساحة عرض مثالية للتباهي وارتداء أفخم الأزياء وقيادة أفخر السيارات واقتناء الكلاب ولعب الغولف. خلال حقبة الستينيات، لبست النساء والفتيات التنانير القصيرة والبيكيني، ومشينَ بحرّية في سراويل قصيرة وقمصان بلا أكمام، واستمتعت الطبقة الوسطى بارتياد فنادق «هيلتون» و«شيبارد»، واستمرّ بعض حانات وسط المدينة بالازدهار. جلبت الطبقة الوسطى الصاعدة، والمؤلّفة من الضباط وكبار المسؤولين الحكوميين، الكريستال والزجاجَ الفاخر من البلدان الاشتراكية. لم تَسدّ الإيديولوجية الاشتراكية شهيّةَ الاستحواذ على سلع ثمينة، حتى بين أبناء الثورة، مثل السجاد والأثاث الغربي، ولوحات المناظر الطبيعية الغربية وأدوات المائدة الفضيّة.
صحيح أنّ «فيات» باتت السيارة الاقتصادية الوطنية خلال الستينيات في القاهرة، لكن الطبقة الراقية القديمة استمرّت في قيادة سيارات «بنتلي» و«سيتروين» و«جاكوار»، فضلاً عن استخدام بضع سيارات «مرسيدس». ارتادت السيدات المصريات بيروت للتسوّق بشكل متكرّر حيث حظين بتخفيضات خاصة. طبعًا، خضع السفر لقيود أكثر مما هو عليه اليوم، لكن العديد من أعضاء الطبقة القديمة عرفوا كيف يحتفظون بحسابات في سويسرا، ما مكّنهم من السفر سنويًّا إلى الخارج. إلى ذلك، قد يدهش البعض من التنوّع الكبير لعلامات الساعات التي بيعت في أواخر الستينيات، إذ عرضت مجلة «المصور» في العام ١٩٧٠ العلامات التجارية الآتية: «فولكين سويسرا» و«كامي ووتش» و«سويسرا فلكا» و«سويسرا كورتيبرت» و«نيفادا كولوراما» و«دايفرز ووتشز» و«إيلاستو فيكسو» و«جوبيتر».
اشتكت النساء من عدم قدرتهن على اقتناء مستحضرات تجميل مثل «ريفلون» (تمّت مقاطعتها بسبب تجارتها مع إسرائيل) أو «ديور»، ولكن برز مشروع محلّي الصنع مشترك بين «ماكس فاكتور» و«إليزابيث أردن». في العام ١٩٧٠، بعد وفاة عبد الناصر، وضعت مجلة «المصور» إعلانات للعديد من السجائر الغربية مثل «مارلبورو» و«بنسون» و«هيدجز» و«كرايفن آي».
لطالما اشتكت الطبقة الراقية المتهاوية من أنّ البلاد «مُغلقة» وأن نظامها مناهض للغرب بشكل واضح. لكن إذا عاينّا برامج التلفزيون المصري ندرك أنّه تمّ عرض الكثير من الأفلام الأميركية خلال الستينيات. حظي العديد من المسلسلات الأميركية بشعبية كبيرة مثل «بونانزا»، «ذا فيوجيتيف»، «بيري مايسون»، أو «لوست إن سبايس». وبقيت هوليوود المثال بالنسبة إلى العديد من أبناء جيلنا. احتفت جماهير شابّة بأفلام إلفيس بريسلي في دور السينما ورقصت بحماسة شديدة أثناء العرض وفق أحد معارفي القدامى. إلى أي مدى، إذًا، كان النظام الاشتراكي مدركًا لكونه يحمل موقفًا معاديًا للنزعة الاستهلاكية الغربية؟ وإلى أي مدى كانت الحياة صعبة أو الحزام مشدودًا على سكان المدن من الطبقتين الوسطى والعليا؟
البطاقة التموينيّة والخدم المنزلي
في العام ١٩٦٦ نشرت مجلة «المصور» مقابلة مع وزير التموين بعنوان: «لماذا شطبت نفقة الخادمات من البطاقة التموينيّة الجديدة»؟ كُتِبت المقابلة بهدف إعلام المواطنين عن نيّة الحكومة إلغاء البطاقات التموينيّة القديمة باعتبارها تؤدي إلى الجشع والاستغلال فقط. وُزّعت البطاقات الجديدة مع معلومات دقيقة عن عدد أفراد الأسرة التي تستخدمها. أمّا الحجّة التي أدّت إلى شطب الخدم فتمثّلت بكون البطاقات الجديدة تضمّ خمسة ملايين أسرة يتكوّن كلّ منها من خمسة أفراد. لذلك، لو أضافت الحكومة إلى كلّ أسرة خادمة واحدة، لارتفع عدد المستفيدين من الدعم الحكومي بنحو مليون شخص إضافي. مع ذلك، كُشِف عن حالات كثيرة تمكّنت فيها بعض العائلات من تسجيل العديد من الخدم «الوهميين» للحصول على مزيد من السلع. يستعرض المقال أيضًا تاريخ بطاقة التموين الأولى في مصر التي أطلقتها حكومة العام ١٩٤٥. اتُّخذ القرار بعد الحرب العالمية الثانية عندما عانت البلاد من نقص في السكّر والزيت والكاز، فأصدرت الحكومة بطاقات تموينيّة لأربعة ملايين مواطن.
بعد ثورة ١٩٥٢ سُمِعت شكاوى كثيرة عن صعوبة الحصول على هذه البطاقات. في العام ١٩٥٧، أعيد فتح الباب أمام المواطنين للحصول على بطاقات جديدة، أمّا النظام الذي ثُبِّت حتى الستينيات فقد استمرّ لمدة ٢٠ عامًا. بالنسبة إلى أسرة مكوّنة من خمسة أفراد، كانت الحكومة تدفع إعانة بقيمة ٦.٥ جنيهات مصرية سنويًّا. عندما اتخذت الحكومة إجراءً رقابيًّا في العام ١٩٦٤، تبيّن إصدار نحو ٣ ملايين و٦٧٠ ألفًا و٦٥٠ بطاقة، من ضمنها ١٩٧ ألف بطاقة بأسماء وهميّة من أصل مليون و٣٧٨ ألفًا و٧٢٤ بطاقة لأسماء غير موجودة، ما يعني وفق المقابلة المذكورة أنّ الدولة كانت تدفع مليوني جنيه لمواطنين غير موجودين، وأنّ هذا النظام كان يدعم السوق السوداء بامتياز.
من الواضح أنّ قضية خدم المنازل كانت ساخنة في الستينيات، لأنّهم هم من وقف في الطوابير لجلب الطعام إلى الأسرة. أذكر أيضًا الكثير من حالات الاتّجار بالدجاج والصابون والزيت خلال تلك الفترة، إذ عمد بعضُ الخدم إلى بيعها في السوق السوداء.
اليوم، أصبحت مراكز التسوّق والسوبرماركت والمتاجر الضخمة التي أنشئت حديثًا في مصر رمزًا لهذا التحوّل، ويمكن العثور على العديد منها في مدن الدلتا وكذلك في الريف. على حدّ علمي، يوجد في القاهرة وحدها نحو ٢٢ مركزًا تجاريًّا (مولات).
مع ذلك، يمتلك كثيرون ذاكرة حيّة عن مدى صعوبة شراء تلك المنتجات الأساسية في الماضي. شكّلت المحنة أحدَ الأسباب التي دفعت المصريين إلى تطوير فنّ ممزوج بحسّ الدعابة لتخطّي الطوابير الطويلة. في حين بقي التدافع بمثابة ردّ فعل غريزي، أو بالأحرى إحدى سمات الذكاء القومي. على الرغم من أنّ الصور المنشورة في صحف الستينيات تبيّن طوابير الانتظار الطويلة وأشخاصًا يتشاجرون على السلع الأساسية، لم تعانِ القلّة السعيدة من أي مشكلة في المقابل، من وجودها على موائدها. ولا اختفى الويسكي والأجبان الفاخرة واللحوم والأطباق المتقنة وغيرها من وجبات الطعام الجاهز.
لا تزال «ذاكرة الندرة» حيّة في الوعي الجماعي، وهي تحضُر بمجرد اضطرار المصريين إلى الوقوف في طوابير، التي لا يمكنني ادعاء اختفائها اليوم. يخشى كثيرون، وهم محقّون في ذلك، من الطوابير التي تفاقمت مع الركود الاقتصادي الحالي. أكثر من ذلك، هناك قلق من انقطاع صنف الخبز الأساسي بعد تعويم الجنيه. فهل يسمح ذلك بتعميم مشروعيّة البطاقة التموينيّة؟ وماذا يعني ذلك عندما تظهر الطوابير الطويلة للحصول على الطعام المُقنّن بالتوازي مع انتشار محال السوبرماركت مثل «كارفور» و«ميترو» التي تعرض معظم الأطعمة الشهيّة المستوردة. اليوم، وعلى الرغم من توافر المنتجات الأساسية بكثرة في أي سوبرماركت في الزمالك أو المعادي، لا يزال طيف الجوع والفقر يطارد الغالبية الصامتة. للأسف، الندرة والهدر هما وجهان لعملة واحدة عندما يتعلّق الأمر بالمنطق الاستهلاكي. ولكن إلى متى يمكن أن يستمر ذلك الحال؟
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.