أينما تنظرت في لبنان تجد مباني آخذة بالارتفاع، لكن عند إلقاء نظرة عن كثب ستلاحظ أن هناك المزيد من التطوير العقاري المسوّر ضمنها. من District//S في وسط بيروت إلى بيت مسك في المتن، يجري التسويق للمجمعات السكنية المسوّرة التي تتحصن ببوّابات وكاميرات ومواقع حراسة. يقول البعض إنها آفة اجتماعية مصممة لتعزيز انعدام المساواة الاجتماعية وجنون الارتياب، فيما هي تروق للبعض الآخر. مهما يكن رأيك فيها، إنها هنا لتبقى.
من المغتربين إلى المحَليين
تعود المجمعات السكنية المسوّرة إلى الواجهة مجددًا، وقد نشأت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وبعدها مباشرة. في العام ٢٠١١، أُطلِقت عدة مشاريع كبيرة في جميع أنحاء البلاد تقدّم مساحات عيش شبيهة بالكهوف المحاطة بمساحات خضراء، والتي توفر وسائل الراحة، وإحساسًا بالانتماء إلى جماعة كما هو في نموذج المجمعات المسيَّجة لكنها من دون جدران.
مع ذلك، إن مشتري العقارات هم اليوم على نحوٍ شبه حصري من اللبنانيين المقيمين ذوي الميزانيات المحدودة، الذين يبحثون عن شقق صغيرة خارج العاصمة حيث بقيت الأسعار راكدة لشهور ولكنها لا تزال مرتفعة جدًّا بالنسبة إلى كثيرين. في مناخ مماثل، تبقى شهية السوق الحالية غير واضحة بالنسبة للمخزون السكني الجديد الذي أُعلن عنه العام الماضي والذي يتعارض في بعض النواحي مع الطلب.
بعد ثلاث سنوات متتالية من النمو المتواصل بنحو ٢٠٪، بدأت أسعار العقارات تهدأ في العام ٢٠١٠، لا سيما في بيروت، قبل أن تستقر في العام ٢٠١١. مع تراجع تكلفة المتر المربع السكني، تغيّر الطلب أيضًا. بين العامين ٢٠٠٦ و٢٠١٠، كان اللبنانيون الذين حقّقوا ثروات في الخارج يبحثون بجلبة لامتلاك قطعة أرض في وطنهم، ويمتصّون مثل إسفنجة المخزونَ العقاري، قبل أن يجفّ هذا الطلب المستورد في الآونة الأخيرة. يقول مدير شركة «رامكو» للاستشارات العقارية كريم مكارم: «لم يعد الطلب اليوم على العقارات صادرًا عن اللبنانيين العاملين في الخارج».
خلال سنوات الطفرة العقارية، كان المغتربون اللبنانيون يحصلون على رواتب هائلة في الخارج، والمصارف متحمّسة جدًّا لإقراضهم. اليوم، أصبح المغتربون اللبنانيون أقل أمانًا في وظائفهم، وأكثر قلقًا وتأثرًا بالأزمة المالية العالمية، فيما البنوك أقل حماسة لإقراضهم بالمقارنة مع الفترة السابقة، لا لشيء سوى لارتفاع مخاطر فقدانهم وظائفهم. وهذا ما يتكرر في كل مكان.
جعل هذا الواقع من اللبنانيين المقيمين والعاملين في لبنان المحرّكَ الأساسي للسوق. منذ سنوات، اعترف خبراء العقارات بأن غالبية الطلب المحلّي تتركز خارج العاصمة، ما يدفع الراغبين بشراء منازل جديدة إلى البحث عنها خارج بيروت. من هنا، انتشرت المباني السكنية الجديدة لسنوات في جميع أنحاء الضواحي. لكن العام ٢٠١١ شهد إعادة إحياء المجتمع المكتفي ذاتيًّا في العديد من المشاريع التي توفّر راحة العيش في وسط العاصمة، بعيدًا- ولكن ليس بعيدًا جدًّا- من شوارع المدينة المزدحمة.
إلى شمال وجنوب وشرق بيروت، تقدِّم مشاريع مثل ووترفرونت سيتي (Waterfront City) وسمرلاند فيلدج (Summerland Village)، بشكل أساسي، كل ما يستخدمه المرء للوصول إلى مجتمع مسوّر إنما من دون سياج. تمثّل هذه المباني تطورًا في الاتجاه الذي بدأ خلال سنوات الحرب الأهلية ١٩٧٥-١٩٩٠.
أسوار الحرب وأسوار ما بعدها
مع تورّط البلاد في صراع عنيف وتفكك أواصرها خلال الثمانينيات، لم تستطع الحكومة المركزية الضعيفة توفير الأمن أو الكهرباء أو المياه أو صيانة البنية التحتيــــــــــــــــــــــــة. وفقًا لمقال نُشر في العام ٢٠٠٢ عن المجمعات المسوّرة في لبنان لجورج غلاسزي وعبد الله الخيال [راجعه في مكان آخر من هذا الملف] استمر الطلب على العيش داخل أسوار بعد الحرب.
كتب غلاسزي والخيال أنه خلال «الطفرة العقارية أوائل التسعينيات، أُطلِق أكثر من ١٥ مشروع مجمع سكني مسوّر جديد». وجدت هذه المشاريع صدًى جيّدًا وبيعت في البداية، لكن بحلول العام ٢٠٠٢ كان هناك «بضعة مليارات من الدولارات الأميركية المُجمدة في مبانٍ فارغة»، إذ جفّ الطلب على العقارات، فيما تمنّع المطوّرون العقاريون عن بيع الوحدات السكنية بدلاً من خفض أسعارها، وهو ما يمكنهم تحمّله نظرًا لوجود مشاريع كثيرة مموّلة ذاتيًّا وليس بقروض.
مع تسارع وتيرة إعادة إعمار بيروت—لا سيما وسط المدينة- عاد الاهتمام إلى العاصمة وبدأت الأسعار بالارتفاع سريعًا. مع ذلك، بقيت المساكن المسوّرة جذابة للمغتربين القادمين من مجمعات الضواحي المحصّنة في الولايات المتحدة، والذين عاشوا سنوات في مجمّعات سكنية مغلقة في الخليج.
في العام ٢٠٠٩، أطلقت شركة «إعمار لبنان» وشركاء آخرون، بيت مسك (Beit Misk)، وهو أكبر تجمع سكني مسوّر حتى الآن في البلاد. يمتد المشروع على مساحة ٦٥٥.٠٠٠ كيلومتر مربّع في جبال قضاء المتن على بعد ٢٢ كيلومترًا من بيروت. يمزج بين شقق سكنية ومساحات للبيع بالتجزئة والكثير من المساحات الخضراء والحدائق ومسارات المشي وركوب الدراجات الهوائية، بالإضافة إلى الطرق المعبّدة، والكهرباء والمياه المؤمّنة على مدار الساعة، وهما خدمتان أساسيتان لا تزال الحكومة تكافح لتوفيرهما.
بمعزل عن مساحة «بيت مسك» الهائلة والجدران التي تطوّقها بغية عزلها عن المجمعات المجاورة، يقدم كل من «Waterfront City» و«One» و«Summerland Village» للمقيمين فيها الخدمات والامتيازات نفسها. يسلّط هذا التطوير العقاري الجديد الضوء على نقاط رئيسية عند الترويج لبيع هذه الوحدات، وهي تأمين خدمات المسكن الأساسية وتوافر المساحات الخضراء في بيئة صديقة للأسرة.
يقول بِشر صقال، المهندس في «مجموعة صقّال» في لبنان، إن هذه الحجج تلقى صدىً لدى المشترين من ذوي الدخل المتوسط، الذين لا يستطيعون شراء منزل في بيروت، ولكنهم يسعون وراء الراحة التي توفرها المدينة. ويضيف: «نظرًا إلى أن التطوير العقاري الجديد يتركز في الضواحي، يمكن للمطوّرين العثور على مساحات شاسعة من الأراضي غير متوفرة في وسط المدينة». وتُعد تكلفة الأرض من العوامل الرئيسية التي ترفع أسعار العقارات في بيروت، بينما هي أرخص في الضواحي، الأمر الذي يجعل تكلفة الشقق أدنى مما هي عليه في المدينة. مع ذلك، هناك مشكلة محتملة تواجه المشاريع الجديدة التي توفّر شققًا كاملة التجهيزات، وأُعلِن عنها العام الماضي، وهي رغبة السوق في شراء شقق صغيرة.
يقول مدير سوجيتيم (Sogetim) للسمسرة العقارية، مروان پ. حمادة، إن «عصر الطلب على الشقق الكبيرة انتهى»، وإن السوق تريد مساكن بمساحة تتراوح بين ٧٠ و١٥٠ مترًا مربعًا، أي أصغر بكثير من الشقق التي أُعلِن عنها مؤخرًا خارج بيروت.
المجمعات بين الضواحي وبيروت
من بين المجمعات السكنية الثلاثة المكتفية ذاتيًّا التي أُطلقت في ضواحي بيروت العام الماضي، يتبين أن «Summerland Village» هي الوحيدة التي تبني وحدات سكنية بمساحة لا تتجاوز ٢٠٠ متر مربع. مع ذلك، تتراوح مساحة الوحدات السكنية الـ٧٢ في المشاريع المذكورة بين ١٠٦ و٦٩٥ مترًا مربعًا. إلى ذلك، يقدّم مشروع «One»، وهو من بنات أفكار المطور العقاري المحلي سيفن إنفست (Seven Invest) ومصمّم الأزياء زهير مراد، نحو ٣٠ فيلا تتراوح مساحتها بين ٥٥٠ و٦٥٠ مترًا مربعًا موزّعة على مساحة تزيد عن ٣٦.٥٠٠ متر مربع من غابات الصنوبر وتبعد نحو ٧ كيلومترات من بيروت.
تُعتبر «Waterfront City» أكثر المشاريع طموحًا التي أُعلن عنها مؤخرًا، وسوف تُنجز على مراحل. تشمل المرحلة الأولى ٧ مبانٍ متعدّدة الطبقات، يقول المطورون إنهم باعوا ٦٠٪ منها في الشهر الأول. في النهاية، سوف يضيف المشروع نحو ٥ آلاف وحدة سكنية إلى السوق تغطي مساحة إجمالية تقدّر بنحو ١.٩ مليون متر مربع.
لا تتمثل المشكلة الوحيدة التي تواجه هذه المجمعات السكنية الجديدة في تقديمها مساحة أكبر مما تطلبه السوق حاليًّا. يقول مكارم من «رامكو» للاستشارات العقارية إن المشترين يتطلعون بحذر إلى الإسكان المجهّز بكل الخدمات الأساسية، ويضيف «إنهم يُعبِّرون لنا، كوننا وكالة عقارية، عن أحد أسباب قلقهم الكبرى، وهو تكلفة هذه الخدمات، التكلفة الحقيقية، باعتبارها تكلفة إضافية. عندما توفّر مساحات خضراء كبيرة، يجب الحفاظ عليها وريّها. وهذه التكاليف قد تكون مرتفعة للغاية».
في حين استحوذت الضواحي على مُخيّلة المطورين بمساحاتها الواسعة التي قد تنفع لمساحات خضراء، لم يتم التخلي عن بيروت بالكامل. في العام ٢٠١١، أعلنت شركة «Estates Property Development and Investment» عن ٢٢ مبنى، «مدينة داخل مدينة»، تغطي ١٣.٠٠٠ متر مربع في وسط المدينة بالقرب من ساحة الشهداء وصيفي فيلدج (Saifi Village)، وأطلق على المشروع اسم District//S. يقول نمير قرطاس من «Estates»: «سيصبح حيًّا قائمًا بذاته، لكنه سيبقى مفتوحًا على باقي المدينة». ويضيف أن المشروع باع بالفعل ما يزيد على ٥٠٪ من المساكن التي يتضمّنها، علمًا أنه يشمل شققًا سكنية ووحدات بيع بالتجزئة تستحوذ على ٣٥٪ من مجمل مساحة الأرض المفتوحة المكوّنة من فناء حديقة وشوارع للمشاة. تتراوح أسعار الشقق في District//S بين ٧ آلاف و٨ آلاف دولار للمتر المربع.
مع ذلك، يشير قرطاس إلى إعادة تصميم أحد مباني المشروع السكنية ليضمّ ١٨ استوديو بدلاً من ٥ شقق كبيرة، كما كان مقرّرًا في الأساس، استجابةً لطلب السوق. ببساطة، لا يستطيع المشترون اليوم تحمّل ثمن بضع مئات من الأمتار المربعة.
وكما أشار مكارم في حديثه عن السوق الحالية: «اليوم، الميزانية هي الكلمة الأهم التي تحكم قطاع الصناعة العقارية في لبنان. الأمر كلّه يتعلق بالميزانية. سابقًا اعتدنا القول إن الأمر كله يتعلق بالموقع، لكن اليوم الأمر كله يتعلق بالميزانية. تبحث العائلات اللبنانية العادية عن عقارات تتراوح قيمتها بين ١٠٠ ألف و٦٠٠ ألف دولار. وهي تشكّل الجزء الأكبر من السوق الحالي».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.