العدد ٣٢ - ٢٠٢١

«أم ميمي» لبلال فضل

تربية الطالب المغترب في عالَم القاهرة السفلي

- ١ - 

احترف بلال فضل مهنًا متعددة كلها ترتبط بالكتابة بشكل أو بآخر. صحافي ومحرر، سيناريست لأفلام تحقق أعلى الإيرادات، كاتب مقالات، لاعب ومناور سياسي أحيانًا، مذيع تلفزيوني. وبين كل ما سبق مغامرات ومشاغبات وتقلبات ومراجعات لا تتوقف.

في مغامرته الجديدة، يطأ بلال أرض الرواية للمرة الأولى، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة. لأن روايته الصادرة عن «دار المدى» بعنوان «أم ميمي» هي بداية سلسلة روائية من الصعب أن يتنصّل منها الآن، وقد وعد القارئ في آخر سطر من رواية أم ميمي قائلاً: «كان ذلك آخر عهدي بشعراوي الزناوي ومن معه وحوله، وبداية رحلتي نحو حارة سميكة التي سأنبئك بأخبارها إن عشنا وكان لنا عمر».

في النهاية، رواية «أم ميمي» سردٌ للوقائع الغريبة لطالب مغترب يصل إلى القاهرة وتدفعه ظروفه الاقتصادية إلى السكن في غرفة في بيت مع «أم ميمي» القوّادة المتقاعدة وابنها ميمي الأشقر الميكانيكي الغائب في غيمة من المخدرات واللاوعي. وبما أن الرواية تنتهي في نهاية العام الدراسي الأول بهروب الراوي من شقة «أم ميمي»، فنحن ننهي الرواية على وعد بجزء ثانٍ، غالبًا سيبدأ في العام الدراسي الثاني.

- ٢ - 

يتوقع القارئ وجود بلال في أي كتابةٍ يقرؤها له، ومن كثرة ما قرأ المرء لبلال- وهو كاتب غزير الإنتاج- يظن أنه أحاط بكل الوجوه، لكن في رواية «أم ميمي» نقابل وجهًا آخر لم يكشفه قبل ذلك، بل اختزنه لسنوات طويلة حتى يصل إلى التركيبة المناسبة لإخراجه. بلال الصبي، المراهق القادم من الإسكندرية، ليقتحم عالم الصحافة والسينما في العاصمة وتسحقه القاهرة وتعيد تشكيله بقيم جديدة غير قيم العائلة.

يفتح بلال خزينة ذكرياته كطالب في كلية الإعلام، ويقدم لنا قصة تتقاطع مع سيرته الذاتية، حيث الراوي يتحدى إرادة والده ويصرّ على هجران الإسكندرية والتدلي إلى القاهرة ليدرس الإعلام مطاردًا حلمه في الشهرة والنجومية والعمل في السينما.

التيمة الأساسية للرواية، هي رحلة شاب لطلب العلم في القاهرة، واحدة من أكثر التيمات الأدبية والفنية شهرة، قدمت بأكثر من طريقة، لكن بلال اختار السكن والمنزل كمدخل لذلك العالم، لتتقاطع الرواية مع رائعة عبد الحكيم قاسم «قدر الغرف المقبضة» و«موال البيات والنوم» لخيري شلبي. لكن في رواية بلال يخلص الشقاء من الميلودراما بالسخرية، ويحوّل الروائي إلى عين ترصد وتشاهد وتجبره الظروف أحيانًا على التورّط والمشاركة، فلا نجد مهربًا من الجلوس بجواره على كنبة «أم ميمي» في انتظار فرج لا يأتي.

- ٣ - 

رحلة بطل بلال هي كذلك رحلة ملايين المصريين الذين أتوا إلى القاهرة للدراسة، وخاضوا غمار رحلة البهدلة وقلة القيمة في البحث عن سكن آدمي مناسب للطلبة. شخصيًّا سكنت لفترة على بعد أمتار من المنطقة حيث البالوعة التي تدور فيها أحداث رواية بلال، في ظروف ربما تكون أفضل من ظروف بطل رواية بلال، لكن يظل التلوث، والانحطاط والفقر، ورداءة الطعام سمة أساسية لحياة المرء في تلك البقعة وفي تلك الفترة من حياته.

يشعر المرء بحنين أثناء قراءة رواية بلال لشبابه الخاص، ولا يشترط أن تكون مغتربًا عشتَ في القاهرة، فالرواية تلتقط هذا التحول في حياة أي شاب، التحول المصاحب لتجربة الخروج من المنزل والصدام الأول مع الشر وانحطاط العالم، حين يدرك المرء أن الشر «جزء أصيل وطبيعي من لعبة الحياة إن أراد أن ينضج ويتطور ذهنيًّا وروحيًّا». كما يقول أحمد الفخراني في مقالة عن الرواية.

يستغل بلال هذا التقاطع ليطور من سمته الأسلوبية في المقالات الصحافية حيث يعتمد على كسر الإيهام بينه وبين القارئ، ليختفي ذلك الحد الفاصل في الرواية، ويشركك معه في الأحداث، بل ويخاطب حتى ظنونك وشكوكك. تقريبًا بمتوسط كل خمس فقرات في الرواية نصادف جملاً من نوعية «أعلم أنني لم أحدثك بعد عن كذا..»، «أو لربما تظن أني كنت كذا»، أو جملتي المفضلة «لا أريد أن أضيّع وقتك في سرد تفاصيل كذا» وكأنني كقارئ جئت هنا لسبب غير التفاصيل.

- ٤ - 

رواية «أم ميمي» تمازج بين ضفيرتين، الأولى هي الحوار بين الراوي والقارئ والذي لا ينقطع من بداية الرواية حتى نهايتها، ومنه نعلم أن الراوي يتذكر مغامرات من شبابه وعِبَرًا وطرائف وغرائب يرويها لنا من موقع المتلصص، ويصارحنا في ذلك المستوى بما يدور في ذهنه وبدواخله، بل ويتدخل أيضًا في ما يدور في ذهننا.

المستوى الثاني هو أحداث الرواية ذاتها وكيف انتهى مصير الراوي ليشارك السكن أم ميمي وابنها، وفيه نتعرف إلى الحارة والجيران وزوجها، لنجد أنفسنا داخل شبكة دعارة صغيرة غارقة في الفقر، وأقصى أحلامهم أن يأتي ثري خليجي يتزوج البنت وينتشلها من الوحل، وينقذ الأسرة من عملها في الدعارة والتعريص، وهو ما يتحقق في نهاية الرواية بالفعل. فبعد عدد من المآسي على طول الرواية، يقدم لنا بلال نهاية سعيدة بظهور الزوج الخليجي وعقده القران على جارة الراوي، وتغيير حياة سكان البيت.

يضفر بلال هذين المستويين من السرد، بمهارة. وحينما يمر الراوي بمواقف بشعة ومفزعة كإجباره على تغسيل جسد أم ميمي المترهّل والمشوه، نرى أنفسنا مع البطل في ذلك المشهد الكابوسي، لكن الحوار الداخلي بينه وبين القارئ يكسر البعد التراجيدي وأجواء الصعبانيات، لتشعر بنفسك كقارئ بحالة انفعالية متناقضة، بين الضحك حد الشخير، والحزن الشديد، والتقزز حد التقيؤ.

- ٥ -

كسر الإيهام ومخاطبة القارئ أثناء السرد تقليدٌ روائي قديم يعود إلى الأعمال القصصية لعبد الله النديم والتجارب الأولية للرواية العربية في بدايات القرن العشرين، وهو تناصّ يتجلى في أجزاء متعددة من رواية بلال، وينعكس على مستويات اللغة في الرواية.

يقدم بلال في روايته لغة هي كوكتيل متعدد الجذور والانتماءات، فهناك الاستعارات والكلمات المفرطة في بنيتها الكلاسيكية، والتي أجبرتني على فتح المعجم أو البحث عن أصلها ومعناها، وأحيانًا تحمل في ثناياها وشائج مع أعمال شعرية وجمل موغلة في القدم، كأن يصادفك تعبير مثل «رمتني عن قوس محنة». ثم تتكعبل في تعبيرات عامية مصرية خالصة من نوع «هري وفرافيت» أو «زمزقة» حتى نصل إلى الألفاظ المنبوذة من الأدب الرفيع والممنوعة من الطباعة على ورق من مشتملات السباب والشتيمة وسب الدين، وهي لغة بقية أبطال الرواية القادمين من مهنة التعريص والبلطجة.

يُنتج هذا الخليط اللغوي لغةً حيوية، تشبه لغة بلال فضل التي يعرفها قراؤه، لكنها أكثر حرية وانطلاقًا. تشعر كأنك تقرأ بلال فضل للمرة الأولى وقد تحرر من قيود العمل الصحافي والتزامات الشخصية الإعلامية، وضريبة الحياة في مصر، حيث كتابة بعض الكلمات والجمل قد تؤدي بك إلى السجن، لكنه أيضًا يُنتج نصًّا ليس مناسبًا للقارئ ذي الحياء القشرة الذي يمكن خدشه، فالكلمات عارية في رواية بلال والتعبيرات محمّلة بالعنف اللفظي وبطين وقاذورات عالمه الروائي.

في السابق، كان بلال يستخدم التورية و(***) حين يلمّح للفظ يعلمه الجميع لكنه يدرك أن الرقابة الصحافية لن توافق عليه. الحالة الأشهر عنوان كتابه «ما فعله العيان في الميت» وهو إلماح وتلميح للمثل المصري الشهير «عيّان بينيك في ميت». وفي رواية «أم ميمي» يترك بلال التلميح والترميز، لنرى العالم سلسلة من النيك العنيف يغتصب فيه الأقوى الأضعف، ولا طريق للنجاة سوى بالتعريص، مثل جار الراوي الذي يفتح بابه أسبوعيًّا لزيارة الضابط الذي يأتي لينيك بناته بينما الأب يعرّص، حتى يحافظ على عمله ووظيفته وعلى بيته مفتوحًا.

أما الراوي، المتعلم المثقف ذو الأحلام المثالية باقتحام عالم الفن والسينما والشهرة والأجواء، فيسبح وسط هذا الخراء محاذرًا أن تتسخ أرنبة أنفه، حتى لا يتلوث شموخه العلمي، يدير رأسه حتى لا يرى الاستغلال والظلم، بل وحين تلجأ إليه الفتاة لينقذها وينتشلها من براثن والدها المعرّص الذي يجبرها على العمل في الدعارة، يتوهم وجود مؤامرة تحاك ضده، وعند الاختبار يتخلى عنها ويتركها في الوحل. يتركهم جميعًا في البالوعة بعدما انتهى العام الدراسي ليعود إلى حضن أمه في الإسكندرية. هذا هو الدرس الأهم الذي نتعلمه جميعًا كشباب، مع اصطدامنا بواقع الحياة وشرّها، أن الهروب فضيلة والكذب منجاة.

العدد ٣٢ - ٢٠٢١
تربية الطالب المغترب في عالَم القاهرة السفلي

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.