عام ١٩٨٥ جلس أنطون رامي على شرفة منزله في الولايات المتحدة، يسرد حياة والدته. قال عن أيامها الأولى في أميركا: «من المحتمل أنها عملت قبل الزواج من والدي، لأن الجميع كانوا يعملون في المصانع». في معرض حديثه، كان أنطون يروي عن تجربة الطبقة العاملة من اللبنانيين الذين هاجروا إلى مدينة لورنس، في ولاية ماساشوستس، شمال شرقي الولايات المتحدة، في بداية القرن العشرين. غير أن رواية أنطون وتجارب المهاجرين اللبنانيين في المصانع الأميركية تتعدى حدود مدينة لورنس، فهي تُعبّر عن حياة ثلثي المهاجرين اللبنانيين الذين جاءوا إلى الولايات المتحدة الأميركية بين ١٨٨٠ ونهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، وكدحوا في المعامل والمصانع والمناجم الأميركية. إلا أننا لا نسمع عن هذه القصص والتجارب، وغالبًا ما نعتقد أن حياة كل المهاجرين اللبنانيين إلى الأميركيتين تنضوي في إطار قصة البائع المتجول، التي تقول بأن معظمهم (إن لم نقل كلهم) عملوا في التجارة فور وصولهم إلى الولايات المتحدة، إما كبائعي «الكشة» و«الجزدان»، أو كأصحاب محالّ ودكاكين تجارية، ومن ثم ارتقوا بسرعة إلى مصاف الطبقة الوسطى.
في مقابل هذا التغافل والتجاهل، يرمي هذا المشروع إلى البدء باستعادة بعض هذه القصص والتجارب، وتسليط الضوء على التاريخ الزاخر للطبقة العاملة بين المهاجرين اللبنانيين1، وما عانوه ليصبحوا مواطنين أميركيين قادرين على تأمين احتياجات أسرهم، خلال فترة عاصفة من الإضرابات والصراعات العمالية، والاقتصاد المتخبط، بالإضافة إلى التغير السريع في المشهد المدني والحضري للمدن الصناعية الأميركية. بمعنى آخر، تهدف الدراسة إلى إعادة التفكير في ما يُروى عن قصص الهجرة اللبنانية والتمعّن فيها مليًّا، حتى نتجاوز نظرة أحادية الجانب، ونرى من خلال هذه القصص أبعادًا أخرى أوسع وأكثر تعقيدًا لتجارب المهاجرين.
تبدأ الحكاية برحيل الآلاف عن منازلهم وأوطانهم على طول شرق البحر المتوسط، والإبحار عبر المحيط الأطلسي.
في الطريق إلى لورنس
يذكر جون حداد في مذكراته عن جدّته: «بكت مارثا طوال الطريق إلى بيروت من حيث ستبحر السفينة. واحتضنت والدتَها وقبّلتها للمرة الأخيرة، ولم ترها بعد ذلك».2
في الفترة بين ١٨٨٠ ونهاية ثلاثينيات القرن العشرين، غادر قرابة ٣٣٠ ألف مهاجر من بلاد الشام (لبنان وسورية والأردن وفلسطين المحتلة) إلى الأميركيتين. وتوجّه ما يقارب ١٢٠ ألفًا منهم إلى الولايات المتحدة الأميركية. قدِم ثلاثة آلاف من هؤلاء إلى مدينة لورنس، وهي مدينة صناعية تقع ضمن منطقة معامل النسيج في شمال شرقي الولايات المتحدة.3 نتيجة هذا التدفّق الكبير للمهاجرين، أصبحت لورنس ثاني أكبر تجمّع للجالية «السورية» بعد مدينة نيويورك، ومن أكبرها في العالم.4 يطرح حجم هذا التدفق سؤالاً حول سبب مغادرة هذا العدد الكبير من المهاجرين لقراهم ومدنهم في جبل لبنان ووادي البقاع ومدينة حماة وغيرها، من أجل العمل في مصانع النسيج في لورنس.
يتجلّى الجواب في شقّين٥: الأول أن اللبنانيين، شأنهم شأن الملايين ممن هاجروا إلى الولايات المتحدة من أوروبا والشرق الأوسط، كانوا يبحثون عن عمل لفترة قصيرة كي يعودوا إلى أوطانهم حاملين أموالاً وثروات تضمن لهم مركزًا اجتماعيًّا مرموقًا وحياةً أفضل. من جانب آخر، فإن لورنس، على غرار المدن الصناعية الأميركية الأخرى التي نمَت وتطوّرت بسرعة في تلك الحقبة، كانت بحاجة ماسّة إلى قوة عاملة، فوفّرت فرص عمل يسهل الحصول عليها. وقد علم سكان القرى والمدن على طول شرق المتوسط بوجود هذه الفرص من مصادر مختلفة. فعلى سبيل المثال، كانت المعامل والمدن الصناعية الأميركية، بالإضافة إلى شركات الخطوط البحرية، ترسل وكلاء توظيف ومندوبين إلى المدن الصغيرة والقرى جاذبين إليهم المهاجرين المتلهفين للسفر، قاطعين لهم الوعود بالثراء اليسير والحياة الجديدة في أميركا. وفي طريقهم إلى أميركا، كان المهاجرون يمرون بالمدن الساحلية مثل الإسكندرية في مصر، ومارسيليا و«لوهافر» في فرنسا، وليفربول في إنكلترا، ويصادفون في هذه المحطات إعلانات باللغة العربية (من بين لغات أخرى) تغريهم بالذهاب إلى المدن الصناعية المزدهرة والنامية في شمال شرقي الولايات المتحدة٦. لكن العامل الأكبر في توجّه المهاجرين اللبنانيين نحو مدينة لورنس هو ما كانوا يسمعونه من أخبار الذين سبقوهم من المهاجرين. فمثلاً، ذكرت فكتوريا خطار «كان لدينا خالٌ يعيش في لورنس وسألَنا في ما لو كنا نرغب بالقدوم، وهكذا حصل»٧. وكانت ماتيلدا [أبو] عرّاج، وهي مهاجرة أخرى، استقرّت مع أقرباء لها في مدينة وورسيستر، في ولاية ماساشوستس، قبل الانتقال إلى لورنس مع أفراد عائلة أخرى. كان والداها يعيشان في قرية مشغرة الجبلية [البقاعية] في لبنان، ولكثرة عدد أطفالهما لم يعد بإمكانهما تأمين المعيشة، لذا أرسلا ماتيلدا ذات الأحد عشر عامًا مع عمّتها كي تشقّ طريقها وتعيل نفسها، ولم ترَ ماتيلدا أيًّا من والديها بعد ذلك٨.
«سورية الصغرى»
العمل، السكن، الصحة
«ولدتُ في بيت على شارع «فالي» بمدينة لورنس تفشّت فيه الجرذان. قالت لي أمي إن أبي قتل سبعة جرذان في ليلة واحدة» (روز).
استقر المهاجرون اللبنانيون في مدينة لورنس منذ العام ١٨٩١ عندما أدرج يوسف البطل اسمه في الدليل التجاري المحلي بصفة بائع كشّة. وفي أواخر القرن التاسع عشر، كان يصل المئات من المهاجرين في كل عام للعمل في معامل النسيج. وخلال عقود، تباطأت موجات الهجرة وقلّت بشكل ملحوظ مع نشوب الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤، الأمر الذي جعل السفر من بلاد الشام وإليها أمرًا صعبًا، بل مستحيلاً بسبب الحصار الفرنسي والإنكليزي الخانق. في عشرينيات القرن الماضي، أدّى تدهور أوضاع معامل النسيج في لورنس، وصدور قوانين فدرالية أميركية مقيِّدة للهجرة إلى وقف موجة الهجرة اللبنانية الكبيرة إلى المدينة.
استقرت غالبية المهاجرين في قسمين من لورنس: الأول، على طول شارع «فالي ستريت» Valley Street، والثاني في منطقة «پلينز» The Plains. يعلّق ابن المهاجرين اللبنانيين أنطون رامي بقوله: «أشك بأنك كنت تجد عائلة لبنانية واحدة تعيش خارج مناطق «إلم» Elm، و«أوك» Oak،
و«تشستنت» Chestnut، و«ڤالي» Valley».
يضم شارع «ڤالي»، القريب من المعامل، اثنين من أصغر الأحياء اللبنانية. أما الحي الأكبر، والذي يعرف بـ«سورية الصغرى»، فيقع في منطقة «پلينز» التي تضم الأجزاء العليا من «أوك» و«إلم» و«تشستنت» المحصورة بين شارعي «هامپشاير» Hampshire و«لورنس» Lawrence. وإلى شمال غرب وسط المدينة، على بعد بضعة مبانٍ منها وأبعد قليلاً عن معظم المعامل الواقعة على طول نهر «مريماك» Merrimack، يتذكر إبراهيم بشارة «كان باستطاعتك أن تنظر على طول الشارع في القسم اللبناني من منطقة «پلينز» فلا ترى أحدًا مختلفًا عنك»٩. وكانت منطقة «پلينز» تحوي مهاجرين من مختلف أنحاء العالم يتجمعون حسب أعراقهم. ويذكر رامي أن «الإيطاليين كانوا يعيشون أسفل شارع لورنس، وهي الآن منطقة تقع أعلى شارع هامپشاير، وقد كانت كلها لبنانية. ثم تذهب إلى شارع تريمونت Tremont، حيث الأغلبية أيرلندية»١٠.
كان معظم اللبنانيين يعملون في المصانع، ويعيشون بمبان مكتظة في شقق صغيرة مستأجرة تحوي ثلاث عائلات أو أكثر، خالية من الهواء النظيف والصرف الصحي١١. وشكلت هذه المباني ٥٢٪ من نسبة المناطق السكنية في لورنس. وفي العام ١٩١٢، خلال ما يعرف بالعصر التقدمي الأميركي، سَنّت المدن الأميركية عدّةٌ قوانين ونظمًا للبناء والنظافة لمواجهة الظروف المعيشية والحياتية الصعبة التي عاشها سكان تلك المباني المكتظة بالمهاجرين. لكن ذلك لم يمنع الوضع في لورنس من التراجع. تحايَل أصحاب المباني والمقاولون على القوانين والمعايير وبنَوا أكبر عدد من المباني المخصصة للإيجار على مساحات محدودة. وأطلق استبيان حول الظروف المعيشية في لورنس عام ١٩١١ على هذه الظاهرة اسم «حمّى الاكتظاظ»، تعبيرًا عن الكثافة السكانية لهذه الأحياء والمناطق، التي سبّبت ارتفاعًا في حالات المرض والموت بين المهاجرين القاطنين في تلك المباني١٢. وبنى مالكو الأراضي والعقارات مساكن ومباني أكثر ارتفاعًا وقربًا من بعضها البعض بهدف زيادة أرباحهم (وكان من بينهم بعض المهاجرين اللبنانيين، منهم يوسف صليبا). نتيجة ذلك، تدهورت أحوال المباني والمساكن التي كانت تعاني أصلاً من رداءة الإنارة وسوء التهوئة. بالإضافة إلى ذلك، كانت غالبية المباني والمساكن مبنية من الخشب، ما جعلها عرضةً للحرائق القابلة لأن تنتشر بسرعة داخل تلك المجمّعات المكتظة بساكنيها.
بسبب سوء الظروف المعيشية، وظروف المعامل حيث يعمل أغلب المهاجرين، كانت الالتهابات الرئوية (النزلة الصدرية) والتدرّن الرئوي (السلّ) وغيرها من الأمراض التي تصيب الجهاز التنفسي مسؤولة عن ٧٠٪ من الوفيات بين عمال لورنس١٣. وبين ١٨٩٥ و١٩١٢ بلغ معدّل عمر المتوفّين من المهاجرين اللبنانيين ٢٥ عامًا. وهكذا كان للظروف المعيشية السيّئة، فضلًا عن الأمراض التي كان يتعرض لها العمال في المعامل، أثر سلبيٌّ على العائلات اللبنانية المهاجرة، ففي الفترة بين ١٩٠٠ و١٩١٢ بلغت نسبة الوفيات بين الأطفال دون سن الثانية ٤٤٪١٤. ولم يكن المهاجرون اللبنانيون بمنأى عن هذا الألم وتلك الخسارة، فقد توفي خلال هذه الفترة طفلان لمهاجرين لبنانيين نتيجة سوء ظروف السكن؛ وتوفيت ماري نصار ذات العامين بسبب الحرارة الشديدة في صيف ١٩٠١، وتوفي ميشال معلوف ذو الأربعة أعوام قبل حلول عيد الميلاد عام ١٩٠٢. وخلال الفترة بين ١٩١٠ وأواخر ١٩٢٠، فقدت أديل ملحم سبعة أطفال قبل أن تُرزق باثنين تمكنا من البقاء على قيد الحياة. وتذكر ابنتها جولييت بستاني «لقد فقدَتْ [أمي] طفلها الأول ومرضت مرضًا شديدًا… ثم توفي طفلان جرّاء الإصابة بالحصبة والدفتيريا (الخانوق)، وكان عمر الأول عامًا والثاني عامين ونصف العام. كما عانت من مشاكل وصعوبات في الولادات اللاحقة. سقطت في طريقها إلى العمل نتيجة عاصفة ثلجية فولد الجنين ميتًا».
عمل النساء والأطفال
«أتذكر الرائحة التي كانت تحملها معها [إلى المنزل]، كانت رائحة زيت ورطوبة ونتانة. كانت هذه رائحتها فقط عندما تعود من العمل» (جولييت بستاني)١٥.
لم تختلف ظروف المعامل وأحوالها عن تلك التي في المباني والمساكن. كان العمل في معامل النسيج في لورنس في بدايات القرن العشرين شاقًّا وخطيرًا. ولطالما أعرب العمال عن تذمّرهم، واشتكوا من ساعات العمل الكثيرة، ومن خطورة الآلات وسوء التهوئة: «لم يكن بمقدورك أن تسهو ولو لحظة. كان التركيز ضروريًّا لأن بعض الماكينات خطرة ومن الممكن أن تفقد ذراعك بسببها»١٦. وإضافة إلى خطورة إصابات العمل، «فقد أسهم الغبار والجفاف والحرارة والرطوبة وضعف الإنارة وسوء التهوئة وانبعاث أول أوكسيد الكربون» في المعامل بزيادة معدّل الوفيات وإصابة العمال بالأمراض التنفسية١٧. وأدّت عوامل أخرى إلى سرعة انتشار هذه الأمراض. فمثلاً كان العامل خليل عيد يخبر أطفاله بأنه كان يعلّق زوّادة غدائه «من سقف المعمل حتى لا تصل إليها الجرذان»١٨. وتذكر جولييت بستاني أن والدتها قالت لها مرة: «جولييت، احصلي على التعليم فأنا لا أريد لك أن تذهبي إلى المعامل أبدًا». وأثناء سيرها في شوارع لورنس، تتذكر جولييت «الصخب والضجيج الصادرين عن المعامل» وتقول: «كنت أفكر، يا إلهي، إن والدتي تعمل هناك، فلم أكن أستطيع سماع صوتي وأنا على الجانب ذاته من الطريق»، وتضيف «إلى هذا يضاف العمل على الآلات لثماني ساعات متواصلة»١٩.
لم يكن غريبًا في ذلك الوقت على النساء اللبنانيات، أمثال أديل ملحم وغيرها، أن يشتغلن كعاملات في المصانع. في الواقع، فاق عددُ النساء عددَ الرجال في معامل لورنس في بداية القرن العشرين٢٠. فقد دفعت تكاليفُ المعيشة الباهظة، واستقطاعات الرواتب، كافة أفراد العائلة إلى العمل لتأمين لقمة العيش. على سبيل المثال، في العام ١٩١٠، كان ٥٠٪ من النساء اللبنانيات فوق سن الرابعة عشرة يعملن في مصانع النسيج. وحتى في الفترات التي شهدت أزمات سياسية واقتصادية، مثل الكساد الكبير في عام ١٩٢٩ والحرب العالمية الثانية، استمرّت النساء والأولاد بالذهاب إلى العمل. وبالنسبة لكثير منهن، كان يعني انتهاء دوام العمل في المصانع بداية واجبات ومهامّ أخرى في المنزل. تقول جولييت بستاني إنها عندما لم تكن والدتها في المصنع، كانت تعمل في متجر والدها صباحًا وتعود إلى المنزل حوالي الساعة العاشرة مساء، لتقوم بالأعمال المنزلية بين العاشرة ومنتصف الليل، ثم تخلد للنوم لتستيقظ عند الخامسة، وتضيف «كان على والدتي أن تستيقظ في الخامسة، لأنه إضافةً إلى مزيد من الأعمال المنزلية التي تنتظرها، كان عليها أن تعدّ الطعام، لقد كان الطعام ذاته كل يوم، فهي لن تكون موجودة في المساء لإعداد العشاء... لكنه كان حاضرًا على الموقد دائمًا»٢١.
ومن أجل توفير دخل إضافي للعائلة، كان العديد من العائلات اللبنانية المهاجرة في بداية القرن العشرين ترسل أولادها إلى العمل حال بلوغهم سن الرابعة عشرة (وهو الحد الأدنى القانوني لسن العمل). ففي عام ١٩٠٤، اضطرّت ماتيلدا ذات الثلاثة عشر عامًا (التي أرسلها أبواها للعيش مع عمّتها في لورنس) إلى العمل في المصانع. تقول ماتيلدا: «ذهبتُ إلى الخوري وأخبرته أني بحاجة ماسّة إلى وظيفة، وهو ساعدني في الحصول على عمل»، وتضيف «كان عليّ أن أعمل مقابل قوتي. لم يكن باستطاعة أحد من أقربائي مساعدتي»٢٢. وكان ذلك في الفترة نفسها حين كان المسؤولون الحكوميون يحاولون الحدّ من ظاهرة عمالة الأولاد عبر مطالبة أرباب العمل بتقديم وثائق تثبت أن العمال بعمر يسمح لهم بالعمل. وبالرغم من هذه الإجراءات، كان من السهل تزوير تلك الوثائق. لم تكن عمليات التدقيق وسجلات الدولة آنذاك كما هي عليه اليوم. في بداية القرن العشرين كانت السجلات والقيود لا تزال ابتدائية وبسيطة، وأغلب الوثائق والبيانات التي يقدّمها المهاجرون اللبنانيون مكتوبة باللغة العربية وتتم ترجمتها (بأخطاء أحيانًا) من قِبل أصدقاء مستعدّين لتزوير الشهادات. وكما هي حال عائلات أخرى، أرسلت عائلة أديل ملحم ابنتها للعمل في المصنع بدل الذهاب إلى المدرسة، قالوا: «لندخلها إلى المعامل ونقول إن عمرها اثنان وعشرون». حينها قابل مدير المصنع أديل فقال لها: «أنا أعلم أنك تكذبين، لكني سأقبلك على أي حال»٢٣. وبسبب هذا النهج في التزوير وتكبير أعمار الأولاد من أجل إدخالهم إلى المعامل، حُرم العديد منهم فرص تعليم جيّدة وواعدة، إذا ما قارنّاهم بفرص الأجيال اللاحقة من المهاجرين. إن دخول المهاجرين الأوائل المصانع بسن مبكّرة دفعهم إلى حثّ أولادهم على المضي بطريق آخر يأخذهم بعيدًا عن المعامل والمصانع ويضعهم بمصاف الطبقة المتوسطة.
مثّل انخراط نسبة عالية من الأولاد في المعامل أزمةً كبيرة ومشكلةً اجتماعية خطيرة، ما حدا بصحف الجالية اللبنانية إلى تسليط الضوء على الظاهرة. على سبيل المثال، ذكرت صحيفة «الهدى»، وهي من أوائل الصحف العربية الصادرة في الولايات المتحدة الأميركية: «إن أهم ما وجدنا في مدينة لورنس ونريد انتقاده هو استعاضة الأكثرين عن العلم بعمل الصغار». وتكمل الصحيفة: «لا نودّ أن نذكر كيف يدخل هؤلاء الصغار المعامل ومن يُدخلهم فيها أو يشهد بأعمارهم مأجورًا ومزوّرًا... إنما نريد أن نبيّن للآباء وللشعب مضارّ عمل الصغار ولا سيما من كانوا بأعمار أولاد لورنس السوريين، ومنهم من لم يتجاوز الثامنة من العمر». وبيّنت الصحيفة بالتفصيل الأمراض والعلل الجسدية (وأغلبها أمراض تصيب الجهاز التنفسي) التي أثّرت على نموّ الأطفال وحالت دون أن يصبحوا «لا رجالاً أشداء ولا نساء قويّات». بالإضافة إلى بحث العلل والأمراض الناتجة من العمل في المصانع، صوّر لنا الكاتب ومحرّر الصحيفة نعوم مكرزل، وهو ناشط إصلاحي من الطبقة الوسطى، المعامل على أنها مكانٌ غير أخلاقي مليء بالمؤثّرات السلبية والسيئة التي تعمل على إفساد شباب المجتمع، فعلى حدّ قوله: «إذا كان الكبار في المعامل يُجرَّبون فكيف بالصغار؟»٢٤.
بين الحاجة والتمرّد على العنصرية
إن عمل النساء والأطفال في المعامل لتوفير دخل إضافي للعائلة لم يغيّر بل أمعن في النظرة السلبية لدى المهاجرين الرجال تجاه المعامل والعمل فيها. لقد كان يرى الرجال في عمل المعامل تصغيرًا لشأنهم وتقليلاً من رجولتهم- إن صح التعبير. ويعود هذا إلى اعتقاد وفكرة حملها المهاجرون معهم من وطنهم لبنان. كان ٩٠٪ من العاملين في الكارخانات (معامل حلّ الحرير) من النساء اللواتي كان ينظر إليهنّ المجتمعُ المحلي على أنهن ذوات سمعة سيئة. وعلى الجانب الآخر، لم تكن الأفكار المحيطة بعمل المصانع في أميركا تختلف كثيرًا. يكشف لنا المؤرّخان المتخصصان في الشؤون العمّالية جيمس باريت وديفيد روديجر أنه في أوائل القرن العشرين كانت تغلب على العمل في المعامل «سمتَا العنصرية والازدراء»، حيث تُستخدم لغة عنصرية مهينة تزدري وتحطّ من قدر العمال، ومن ذوي البشرة السمراء خصوصًا والمجموعات العرقية الأخرى من المهاجرين، مثل سكان دول حوض المتوسط وأوروبا الشرقية٢٥. كانت المعامل في لورنس خاضعة لهذه الهرمية العنصرية والتمييزية بين الأعراق والأجناس. من بين هؤلاء المهاجرين أصحاب «البشرة السمراء» كان والد سالي، عقل شأنه شأن العديد من اللبنانيين «يعمل في خطّ الإنتاج وقد عانى من عمله في الدرجات السفلى» لهرمية المعمل. ويتمثل شكل آخر من أشكال العنصرية في حصول المهاجرين الناطقين باللغة الإنكليزية، من بلدان بريطانيا وكندا مثلاً، على وظائف آمنة ذات دخل مرتفع، في حين يحصل المهاجرون الجدد الوافدون من أوروبا الشرقية وحوض المتوسط على وظائف متدنية الدخل٢٦. «لم يكن [والد سالي] يرى نفسه عاملاً في معمل على الإطلاق»؛ وبالرغم من عمله هناك طوال حياته، إلا أنه سعى دائمًا إلى أن يفصل هويّته عن الأفكار والثقافة السائدة تجاه عمال المصانع»٢٧.
وتخبرنا جولييت بستاني عن والدها: «لم يعجبه العمل في المعامل على الإطلاق. لم يكن لديه الصبر ليعمل تحت إمرة أي شخص. وكان العديد من الرجال اللبنانيين على هذه الشاكلة»٢٨. إضافةً إلى أنهم لم يرغبوا في العمل ضمن بيئة تنتقص وتحط من شأنهم وتمارس التمييز العنصري عليهم. كان والد جولييت يدير دكان بقالة يلبّي احتياجات الجالية اللبنانية في منطقة «پلينز»، في حين تعمل زوجته يوميًّا في المصنع لتأمين دخل إضافي للعائلة. أما جورج بشارة فقد ترك العمل في المعامل بعد إضراب عام ١٩١٢، وحصل على وظيفة عامل تنظيف في أحد المطاعم المحلية. وبعد أربع سنوات من المعاناة والعمل ليوفر دخلاً إضافيًّا لزوجته وابنته، قرر ترك لورنس والبحث عن عمل آخر، لكنه ما لبث أن عاد عاجزًا ومرهقًا ليعمل كبائع ثلج. وعندما رأى جورج أن عائلته أخذت تكبر، عاد مجبرًا للعمل في معمل «آركاديا» Arcadia، وحصل أيضًا على عمل إضافي في معمل «پاسيفيك» Pacific. وتذكر ابنته روزالين أنها سمعته مرة يقول «سوف أعمل في وظيفتين. لا أريد إحسانًا من أحد». وعندما فتح أحد أقربائهم مخبزًا، انضم جورج إليه وترك العمل في المصانع نهائيًّا٢٩.
وبرغم معاناة الرجال اللبنانيين في إيجاد فرص عمل خارج إطار المعامل والمصانع، خصوصًا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، إلا أنهم سرعان ما كانوا يتراجعون عن أفكارهم تجاه العمل في المصانع بسبب ما يوفّره من فرص عمل ورواتب ثابتة٣٠. وعلّق روبرت حاتم على ذلك بقوله «كان الوالد يعمل في مصنع النسيج لأن كل الآباء كانوا يضطرون للعمل فيها (في مصانع النسيج) بسبب حالة الاقتصاد»٣١. وفي النهاية، وجد العديد من المهاجرين حرجًا في التعريف بأنفسهم كعمال مصانع، ومواجهة الثقافات السائدة (الأميركية واللبنانية) التي ربطت العمل في المعامل بالمرأة وبالعِرق غير الأبيض. وعانى الرجال اللبنانيون خاصة توترًا وصراعًا بين خيارين، فإما توفير الدعم والدخل لأسرهم من خلال العمل في المصانع، وإما إيجاد عملٍ آخر أكثر توافقًا مع تطلعاتهم الاجتماعية والشخصية.
العلاقات الاجتماعية، الترفيه، النزاعات
«يخرج الناس من عملهم منهكين ومتعبين. والمكان الوحيد الذي يتيح للرجال فرصة الاختلاط وإقامة علاقات اجتماعية هو المقاهي القديمة الموجودة في أعلى منطقة «پلينز». هناك كانوا يلعبون النرد أو «الطاولة» كما كانت تُعرف في تلك الأيام» (أنطون رامي)٣٢.
عاش سكّان لورنس وعملوا وأقاموا علاقات اجتماعية ضمن أحيائهم فقط. وساعد تجاوُر اللبنانيين في السكن، والقصص والتجارب المشتركة بينهم كمهاجرين على عقد روابط اجتماعية حميمة ووثيقة تمنحهم دعمًا إضافيًّا في مواجهة أعباء الحياة والعمل. تصف روزالين حبيب الحياة آنذاك بالقول: «لم يكن أي منا يمتلك شقّته الخاصة أو بيته الخاص، فلم يكن بمقدور الناس تحمّل تكاليف الحياة الباهظة». وتضيف: «كان كل شخصين يتقاسمان سريرًا واحدًا»٣٣. ويروي روبرت حاتم تفاصيل يوميّاته: «كنا ننام في غرفة واحدة لأن أقرباءنا كانوا يعيشون معنا»٣٤. وكانت العائلات في تلك الأحياء تطبخ وتأكل معًا، وتتشارك ليس فقط المصاريف، والأوقات الممتعة والصعبة أيضًا. وتتذكر جولييت بستاني طفولتها في منطقة «پلينز» كأسعد الأوقات: «كان لديّ العديد من الأصدقاء، وكنا نعيش جميعنا معًا جنبًا إلى جنب»٣٥.
عن تلك الأيام يقول أنطون رامي: «لم يكن لدى المهاجرين اللبنانيين الأوائل الوقت لإقامة علاقات وعقد روابط اجتماعية». ويصف الناس في المقاهي: «يدخل الرجل ويطلب فنجانًا من القهوة أو عصير الليموناضة البارد، ثم يلعب الرجال النرد أو ما يُعرف بالطاولة في تلك الأيام. وإذا ما حلّ فصل الصيف يجلس الجميع في الخارج»٣٦. هكذا كانت الروابط التي يقوم عليها المجتمع تتحكّم بوتيرة الحياة الاجتماعية وطبيعتها، فمثلاً، «كانت الزيارات هي وسيلة التسلية بعد أيام العمل الطويلة في المصانع، أو في أيام الآحاد. تتم أغلب الزيارات في المساء، و«يصطحب الناس معهم أولادهم وأقرباءهم وأبناء عمومتهم أو أخوالهم وأصدقائهم والخوارنة [القساوسة]. ولم يكن هناك من يقوم بمهمّة مجالسة الأطفال، لكن في حال وجود أولاد أكبر سنًّا في العائلة تقع هذه المهمة على عاتقهم»٣٧.
لم تكن الزيارات العائلية هي السبيل الوحيد لإقامة علاقات وعقد روابط اجتماعية، قدّمت الكنيسة مجالاً آخر للحياة الاجتماعية بين المهاجرين. وكان معظم المهاجرين اللبنانيين ينتمون إلى إحدى الطوائف المسيحية الثلاث في المدينة: إما كنيسة سانت جوزيف للروم الملكيين الكاثوليك (مار يوسف)، أو كنيسة سانت أنتوني المارونية (مار أنطونيوس)، أو كنيسة سانت جورج الأرثوذكسية (مار جرجس). في حين انتمت نسبة قليلة منهم إلى الطائفة البروتستانتية، وكان هؤلاء يحضرون في الكنائس المشيخية المحلية. ومع أننا لا نملك بيانات عن المسلمين والدروز بين المهاجرين، فلا شكّ أنهم كانوا يعدّون من أبناء الجالية، حتى لو لم تكن لديهم مراكز دينية. ويصف سليمان خياط دور الكنيسة في المجتمع مستذكرًا عائلته: «لعبت الكنيسة دورًا مهمًّا في حياتهم الاجتماعية... داخل الأحياء والمجتمعات»، ويضيف «إني أتذكر زيارات المونسنيور أبو زيد لبيتنا بانتظام، كان يزور المنزل ويحتسي فنجانًا من القهوة التركية»٣٨.
وبعد مرور عشر سنوات على استقرار الجالية اللبنانية في لورنس، أنشأ بعض أفرادها نوادي اجتماعية وجمعيات خيرية. وفي كثير من الأحيان تفرّعت هذه من أخويات دينية وأخذت تنفق رسوم العضوية على تقديم المساعدة والرعاية الاجتماعية للمهاجرين في أوقات الشدّة، كالمرض أو البطالة أو عند فقدان أحد أفراد العائلة. على سبيل المثال، تأسست عام ١٩٠٧ «الجمعية السورية الخيرية المتحدة» من أعضاء كنيسة القديس يوسف، وكان مركزها في شارع «أوك». وخصّصت الجمعية مكانًا لعقد الاجتماعات واللقاءات بين اللبنانيين، وبنَت مقبرة لتكون «مدفنًا لائقًا لكل من ينطق بالعربية من أبناء الجالية»٣٩، بالقرب من «أندوفر» Andover، وكانت تعتبر أول مقبرة «سورية» في الولايات المتحدة الأميركية. وتأسست لاحقًا نوادٍ أخرى مثل «الجمعية السورية الوطنية» عام ١٩١٢، و«نادي شباب دير القمر».
وبرغم الروابط والعلاقات الاجتماعية، لم تجرِ الأمور دائمًا داخل الجالية بانسجام وتوافق، فقد انتشرت داخل الأسر وخارجها الانشقاقات نتيجة التوتّر وتحدّيات الحياة الجديدة، وكذلك الخصومات والعداوات التي انتقلت مع المهاجرين من الوطن. على سبيل المثال، انقسمت الأبرشية في كنيسة مار أنطونيوس في العام ١٩١٢ بين مؤيّد ومعارض لخوري الرعية جبرائيل البستاني. في بداية شهر أيلول/سبتمبر عام ١٩١٢، وأرسل أعضاء مجلس الجمعية المارونية لكنيسة القديس أنطونيوس في لورنس رسالة إلى بطريرك الكنيسة المارونية في جبل لبنان، الياس الحويّك، يطلبون منه إرسال خوري جديد يحلّ محل البستاني، متهمينه بأنه «مهتمّ فقط بجمع الأموال» وبأنه يجهل أمور الدين فقد «عمّد طفلاً مارونيًّا وكان عرّابه من الطائفة البروتستانتية وعرّابته من الأرثوذكس»٤٠. وبعد مرور أسبوعين، وقّع أكثر من أربعين عضوًا رسالةً يستنكرون فيها ما قامت به «المجموعة» المعارضة للبستاني، وطلبوا من البطريرك عدم الاستجابة لمطلبهم فهم «لا يعبّرون عن المجتمع ولا يمثلونه»٤١. إلى ذلك، كانت الصحف المحلية تروي قصصًا عن تلك الخصومات بين أفراد الجالية، والتي يتخلّلها أحيانًا العنف. ذكرت جريدة «الوفاء»، وهي جريدة عربية محلية، (أبريل/ نيسان، ١٩٠٧) أن عبدو أبي حطاب (من دمشق) وسعيد رزق (من مشغرة) تبادلا اللكمات على متن «الترام» «بسبب أحقاد وعداوة قديمة»، وسيقا إلى القاضي، وفُرضت عليهما الغرامات٤٢.
- 1. نتحدث عن مهاجرين لبنانيين لأن معظم الأوائل (١٨٨٠- ١٩٣٠) جاؤوا من جبل لبنان وسهل البقاع الواقعين حاليًّا في الجمهورية اللبنانية. إلا أن المهاجرين كانوا يعرّفون عن أنفسهم على أنهم «سوريون» للتدليل على أنهم يتحدّرون من «بلاد الشام» في السلطنة العثمانية.
- 2. John Haddad, 1988, Migration of my Family to the United States of America, student paper, The Lawrence History Center, Lawrence, MA.
- 3. United States Federal Census 1900, 1910, 1920, 1930.
- 4. Donald Cole, Immigrant City: Lawrence, Massachusetts, 1845-1921 (Chapel Hill: University of North Carolina Press, 1963), 12.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.