العدد ٣٠ - ٢٠٢١

النيوليبراليّة – الأيديولوجيّة في أساس مشاكلنا كلّها

تصوّروا لو أنّ الشعب في الاتّحاد السوفييتي لم يسمع بالشيوعيّة يومًا. بالنسبة للأكثريّة منّا، الأيديولوجيّة التي تسيطر على حياتنا، لا اسم لها. وإذا ما ذكرتَها في حديثك فستواجَه بقلّة الاكتراث. فحتى لو أنّ مستمعيك سمعوا بها من قبل، سيكون من الصعوبة عليهم بمكان تعريفها. النيوليبراليّة: هل تعلمون ما هي؟

أيديولوجيّة بلا اسم

أن يكون لا مسمّى للنيوليبراليّة، هو مظهرٌ من مظاهر سلطتها ومصدرٌ لهذه السُلطة في آن معًا. قد لعبت هذه الأيديولوجيّة دورًا أساسيًّا في مجموعة لافتة من الأزمات: الأزمة الماليّة العالميّة في 2007ــ 2008، نقل الثروات والسلطة إلى الخارج حصرًا للنفقات والضرائب الأمر الذي تُبيّن لنا «وثائقُ بَنَما» نموذجًا صغيرًا منه، الانهيار البطيء لقطاعَي الصحّة العامّة والتعليم، تصاعد ظاهرة فقر الأطفال، وباء الشعور بالوحدة، انهيار الأنظمة البيئيّة، وصعود دونالد ترامب. لكنّ ردّ فعلنا تجاه هذه الأزمات يأتي وكأنّها أزماتٌ تأتي تلقائيًّا، غير واعين على ما يبدو أنّه قد جرى تحفيزها أو مفاقمتها كلها عن طريق الفلسفة المتماسكة ذاتها، فلسفة تملك اسمًا، أو كانت تملك اسمًا. فأيّ سُلطة يمكن أن تكون أقوى من سلطة تلك التي تفعل فعلها من دون تسمية؟

لقد اخترقت النيوليبراليّة كل نواحي الحياة بحيث بتْنا بالكاد نعترف بها كأيديولوجيّة. يبدو أنّنا نتقبّل فرضيّة أنّ هذا الإيمان الطوباوي بالألفيّة يتحدّث عن قوة غير منحازة، وعن نوعٍ من القانون البيولوجي أشبهَ بنظريّة داروين في النشوء والارتقاء. لكنّ هذه الفلسفة نشأت بما هي محاولةٌ واعيةٌ لإعادة تشكيل الحياة البشريّة ونقل محور السلطة التي تتحكّم بها.

تجد النيوليبراليّة في المنافَسة السمةَ الأساسيّةَ في العلاقات البشريّة. وهي تعمد إلى إعادة تعريف المواطنين كمستهلِكين يمارسون خياراتِهم الديموقراطيّة من خلال البيع والشراء، على اعتبارها العملية التي تكافئ الجدارة وتعاقِب قلّةَ الإنتاجيّة. وتصرّ النيوليبراليّة على أنّ «السوق» يحقّق فوائد لا يمكن تحقيقها إطلاقًا عن طريق التخطيط.

تُعتبر محاولات الحدّ من التنافس تعدّيًا على الحرّية، أمّا الضرائب وتنظيمها فيُفتَرض جعلها في حدّها الأدنى، وتجبُ خصخصةُ الخدمات العامّة. ويصوَّر تنظيم العمّال والمفاوضات الجماعيّة من خلال النقابات على أنّها تشوّهات في نظام السوق تعيق تشكّل تراتبيّة طبيعيّة بين الرابحين والخاسرين. ويعاد تقديم اللامساواة على أنّها فضيلة: أي أنّها مكافأةٌ على المنفعة كما أنّها تولّد الثروةَ التي تتسرّب نزولًا لتُغني كل طبقات المجتمع. وإذا الجهودُ لخلق مجتمعٍ أكثرَ مساواة تأتي بنتائج عكسيّة وتقود إلى أضرارٍ أخلاقيّة، فالسوق يضمن أن ينال كلُّ ذي حقّ حقّه.

إننا نتشرّب النيوليبراليّة ونعيد إنتاج معتقداتها. يُقنِع الأغنياءُ أنفسهم بأنّهم حصّلوا ثرواتهم من خلال جدارتهم، متناسين المزايا التي يمكن أن تكون قد ساعدتهم في الحصول عليها كالتعليم والإرث والتفوّق الطبقي. أمّا الفقراء فيَلومون أنفسهم على فشلهم حتى وإن لم يكن باستطاعتهم فِعل ما من شأنه تغيير أوضاعهم.

لا تأبه للبطالة الهيكليّة: إن كنتَ بلا وظيفة فلأنك تفتقر لروح المغامرة. ولا تأبه بتكاليف السكن التي لا قدرة لك على تحمّلها: إذا وصلتَ باقتراضك إلى الحدّ الأقصى لبطاقتك الائتمانيّة فأنت غير كفوء ومُسرِف. ولا تأبه بأنّ أولادك لم يعد لهم ملعب في المدرسة، وإن أصبحوا زائدي الوزن، فهذا خطأ تُلام أنت عليه. في عالمٍ تحكمه المنافسة، الذين يتخلّفون عن الركْب هم الخاسرون بنظر المجتمع وبنظرهِم هم أنفسهم.

«أظهرت النيوليبراليّة أسوأ ما فينا»

من ضمن النتائج التي يسجّلها بول فرهايج في كتابه «ماذا عنّي أنا؟» (What About Me?) ترِد: أوبئة أذيّة الذات، الاضطرابات في الأكل، الاكتئاب، الشعور بالعزلة، رهبة الأداء، والرهاب الاجتماعي. ولا عَجَب أن تكون بريطانيا التي تطبّق الأيديولوجيّة النيوليبراليّة بصرامةٍ قصوى، هي عاصمة الشعور بالعزلة في أوروبا. أصبحنا كلنا نيوليبراليّين الآن.

صيغَ مصطلحُ «نيوليبراليّة» في اجتماعٍ عُقد في باريس عام 1938. بين المجتمِعين حضر شخصان تولّيا تعريف الأيديولوجيّة، لودفيك فون ميزس وفريدريش فون هايك. كلاهما منفي من النمسا، وجدا في الديموقراطيّة الاجتماعيّة المتمثلة بـ«العقد الجديد» الذي أطلقه فرانكلين روزفلت، وفي التطوّر التدريجي في بريطانيا نحو دولة الرعاية مظاهرَ لمبدأ الشموليّة التي تندرج في الطيف ذاته الذي يحوي النازيّة والشيوعيّة.

في كتابه «الطريق إلى العبوديّة» (١٩٤٤) يناظر فون هايك بأنّ التخطيط الحكومي، إذ يسحق الفرديّة، يقود حتمًا إلى السيطرة الشموليّة. شأنه شأن كتاب ميزس، «البيروقراطيّة»، حظي هذا الكتاب بقراءة واسعة، كما حظي بانتباه أصحاب الثراء الفاحش ممّن وجدوا في هذه الفلسفة فرصةً سانحةً لتحرير أنفسهم من تشريعات الدولة ومن الضرائب. فحين أسّس فون هايك في العام 1947 أوّل مؤسّسة لنشر العقيدة النيوليبراليّة – وهي «جمعية مونت بيليرين» (Mont Pelerin Society) – دعمها ماديًّا أصحابُ الملايين ومؤسساتُهم.

بمساعدتهم هذه، بدأ فون هايك بإنشاء «نوع من الأمميّة النيوليبراليّة»، بحسب تعبير دانيال ستيدمان جونز في كتابه «أسياد الكون» (Masters of the Universe)، وهي شبكة من الأكاديميّين ورجال الأعمال والصحافيين والناشطين تمتد إلى ما وراء الأطلسي. لقد موّل داعمو هذه الحركة الأغنياءُ سلسلةً من «بيوت الخبرة» (think tanks) التي عملت على صقل هذه الأيديولوجيّة وترويجها، وكان منها «معهد المشروع الأميركي لأبحاث السياسة العامّة» American Enterprise Institute، «مؤسسة التراث» The Heritage Foundation، «معهد كايتو» The Cato Foundation، «معهد الشؤون الاقتصاديّة» The Institute of Economic Affairs، «مركز دراســـــات السياسات» The Centre for Policy Studies، وأيضًا «معهد آدم سميـــــــث» The Adam Smith Institute. كما موّلوا كراسيَ جامعيّة وأقسامًا أكاديميّة، في جامعتَي شيكاغو وفيرجينيا خصوصًا.

مع تطورها ازدادت النيوليبراليّة بأسًا، فرؤية فون هايك بضرورة تنظيم الحكومات للمنافسة منعًا للاحتكارات، أحلّ محلَّها أتباعُه الأميركيون، مثل ميلتون فريدمان، الاعتقادَ بأنه يمكن اعتبار سلطة الاحتكار مكافأة على الإنتاجيّة.

خلال هذا التحوّل حدث أمرٌ آخر: فقدت الحركة اسمَها. ففي عام 1951 كان فريدمان سعيدًا بالتعريف عن نفسه كنيوليبرالي، لكن بعد ذلك بقليل بدأ المصطلح يختفي. غير أنّ الأغرب من ذلك أنه حتى لمّا صارت الأيديولوجيّة أكثر نضوجًا، والحركة أكثر تماسكًا، لم يجرِ استبدال الاسم الضائع بأيّ بديلٍ معروف.

في بادئ الأمر، ظلّت النيوليبراليّة هامشيّة، على الرغم من التمويل السخي لها. لقد كان توافقُ ما بعد الحرب توافقًا عامًّا تقريبًا: طُبّقت تدابير جون ماينارد كينز الاقتصاديّة على نطاق واسع فكانت العمالة الكاملة والتخفيف من وطأة الفقر أهدافًا مشتركةً بين الولايات المتّحدة والقسم الأكبر من أوروبا الغربيّة، فوضعت معدلات عالية جدًّا للضرائب، كما سَعَت الحكومات إلى تحقيق نتائج اجتماعيّة دونما حرج، مطوِّرةً بالتالي خدماتٍ عامّةً جديدة وشبكات أمان اجتماعي.

انتشار على أنقاض الكينزيّة

لكن في السبعينيات، حين بدأت السياسات الاقتصاديّة الكينزيّة تتهاوى، وضربت الأزمةُ الاقتصاديّةُ جانبَي الأطلسي، بدأت الأفكار النيوليبراليّة بالانتشار بين معظم الناس. وكما صرّح فريدمان، «حين جاءت اللحظة التي وجب عليكَ فيها التغيير… كان هنالك بديلٌ حاضرٌ لتتلقّفه». بمساعدة صحافيين متعاطفين ومستشارين سياسيين، اعتُمدت عناصرُ من النيوليبراليّة، خصوصًا إجراءاتها المتعلّقة بالسياسة النقديّة، من قِبَل إدارة جيمي كارتر في الولايات المتحدة وحكومة جيم كالاهان في بريطانيا.

بعد تسلّم مارغريت ثاتشر ورونالد ريغن للسلطة، تم استكمال حزمة الإجراءات: تخفيضات ضريبيّة هائلة للأغنياء، سحق النقابات العمّالية، رفع القيود، الخصخصة، الاستعانة بالمصادر الخارجية وتنفيذ المهام خارجيًّا، وفرض المنافسة في الخدمات العامّة. فُرضت السياسات النيوليبراليّة في معظم أنحاء العالم من خلال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومعاهدة ماستريخت، ومنظمة التجارة العالميّة، وغالبًا من دون موافقة ديموقراطيّة. والأمر اللافت هو اعتماد هذه السياسات من أحزابٍ كانت تنتمي في الماضي إلى اليسار: كحزب العمّال البريطاني والحزب الديموقراطي الأميركي مثلاً. فكما يشير ستيدمان جونز: «يصعب التفكير في يوتوبيا حظيت بفرصة أن تتحقّق بالكامل مثلما حظيت النيوليبراليّة».

قد يبدو غريبًا أنّ عقيدةً تعِد بحق الاختيار وبالحرية احتاجت لترويجها إلى شعار «ليس هنالك من بديل». خلال زيارته إلى تشيلي في عهد بينوشيه أحد أوائل البلدان التي طبّقت البرنامج النيوليبرالي بشكل شامل صرّح فون هايك قائلاً «إنّ خياري الشخصي يميل أكثر نحو ديكتاتوريّةٍ ليبراليّةٍ منه نحو حكومةٍ ديموقراطيّة خالية من الليبراليّة». فالحرية التي تطرحها النيوليبراليّة، والتي تبدو جذابة ومخادعة في آن معًا حين تُطرح بشكل عام، يتبيّن أنها تعني الحرية لسمك القرش بالانقضاض على الأسماك الصغيرة.

إنّ التحرّر من تدخّل النقابات العمّالية ومن التفاوض الجماعي يعني الحرية في ممارسة تخفيض الأجور. والتحرّر من القيود يعني الحرية في تلويث الأنهار، وتعريض العمّال للخطر، وفرض معدّلات فائدة جائرة، وتصميمَ هندسات ماليّة غرائبيّة. والتحرّر من الضريبة يعني التحرّر من توزيع الثروة الذي يرفع البؤس عن الناس.

بحسب ما وثّقته نِيومي كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة» (The Shock Doctrine)، دعا منظّرو النيوليبراليّة إلى توظيف الأزمات لفرض سياساتٍ غير شعبيّة فيما الناسُ مشتّتون، كما كان الحال في أعقاب انقلاب بينوشيه وحرب العراق وإعصار كاترينا الذي وصفه فريدمان بأنه «فرصة سانحة للإصلاح الجذري في النظام التعليمي في نيو أورلينز».

وحين يتعذّر فرض السياسات النيوليبراليّة محليًّا، تُفرَض دوليًّا عن طريق اتفاقيات تجارية تتضمّن «تسوية المنازعات ما بين المستثمِر والدولة»، بحيث يمكن تدخّل المحاكم الخارجية لتضغط باتجاه إلغاء الحماية الاجتماعية والبيئية المحلّية. وفي وقت تصوّت فيه البرلمانات من أجل الحدّ من مبيعات السجائر وحماية الموارد المائيّة من عمليات التعدين وكبْح الزيادات على فواتير الطاقة، أو منع شركات الأدوية من سرقة أموال الدولة، نجد الشركات تقاضي الدول وتنجح في أكثر الحالات. هكذا تتحوّل الديموقراطيّة إلى مسرحيّة.

المفارقة الأخرى التي تنطوي عليها النيوليبراليّة هي أنّ التنافس العالمي يعتمد على طريقة موحّدة عالميّة في قياس الكمّ وفي المقارنة. والنتيجة أنْ صار العمّال، وطالبو الوظائف وشتّى أنواع الخدمات العامّة، خاضعين لنظام تقييمٍ تافه، متلاعب وخانق، نظام مصمّم ليحدّد الفائزين ويعاقب الخاسرين. وعلى عكس ما افترض ميزيس، العقيدة التي قال إنها ستحرّرنا من الكابوس البيروقراطي للتخطيط المركزي قد كبّلتْنا به.

عمليّة احتيال لكسب المال

لم تكن النيوليبراليّة تُعتبر بمثابة عمليّةٍ احتياليّة لكسب الأموال، لكنّها سَرعان ما أصبحت كذلك. النموّ الاقتصادي في عصر النيوليبراليّة (بدأً من 1980 في بريطانيا والولايات المتحدة) هو أبطأ ممّا كان عليه في العقود التي سبقته على نحو ملحوظ، لكنّ هذا لا ينطبق على كبار الأثرياء. بعد 60 عامًا من تراجع التفاوت في توزيع الدخل والثروة، عاد للارتفاع بسرعة في هذا العصر بسبب سَحق النقابات العمّالية وخفض الضرائب وارتفاع الربحية والخصخصة ورفع القيود.

إنّ خصخصة الخدمات العامّة أو إخضاعها لآليات السوق، كقطاعات الماء والقطارات والصحة والتعليم والطرقات والسجون، قد مكّنت الشركات من إقامة أكشاكٍ قبالةَ ممتلكاتٍ حيويّةٍ تجني فيها رسومًا لقاء استعمال تلك الخدمات العامّة من قبل الدولة أو المواطنين. والريع هنا تعبيرٌ آخرُ عن دخْلٍ من غير جهد. فحين تَدفع ثمنًا مبالغًا فيه لقاءَ تذكرة سفر بالقطار، يكفي جزء فقط منه لتغطية ما يدفعه المشغِّلون ثمنًا للطاقة والأجور والمعدات المتحرّكة في السكك الحديد. أمّا الباقي فيعكس كونكَ قد وقعتَ تحت رحمتهم.

أولئك الذين يملكون ويشغّلون الخدمات المخصّخصة كليًّا أو جزئيًّا في المملكة المتحدة، يجنون ثروات مذهلة من خلال توظيف القليل من المال وجني الكثير. في روسيا والهند، القلّةُ القليلةُ المسيطِرة حصلت على ممتلكات الدولة عن طريق حرق الأسعار. وفي المكسيك مُنِح كارلوس سْليم السيطرةَ على كل خطوط الهاتف تقريبًا، الثابت منه والخليوي، وسرعان ما أصبح أغنى رجل في العالم.

يشير آندرو سايِر في كتابه «لماذا لا يمكننا تحمّل كلفة الأغنياء» إلى أنّ «الأمْولة» (financialisation) لها أثر مماثل. فهو يحاجج قائلاً «الفوائد شأنها شأن الريع… هي مدخولٌ غير مستحَقّ يتراكم من دون أيّ جهد». فيما يزداد الفقراء فقرًا والأغنياء غنًى، تزداد سيطرة الأغنياء على واحدة من الممتلكات أو الأصول الأساسيّة، ألا وهي المال. إنّ الفوائد هي في معظمها مدفوعات من الفقراء إلى الأغنياء. حين تُثقل أسعارُ العقارات وانسحاب الدولة من تمويل شراء العقارات، كاهلَ الفقراء، تستحوذ البنوك ومدراؤها التنفيذيون على الأموال (تفكّروا أيضًا بالتبدّل الذي طرأ نتيجةَ استبدال مِنح الطلاب بالقروض الطلابية).

يحاجج سايِر بأنّ العقود الأربعة الماضية تتميّز بانتقال الثروة ليس فقط من الفقراء إلى الأغنياء، بل ما بين صنوف الأغنياء أيضًا: من أولئك الذين يجنون مالهم بإنتاج سلَعٍ وخدمات جديدة، إلى أولئك الذين يجنونه من خلال السيطرة على الأصول وحَصْد الريوع أو الفوائد أو الأرباح على رأس المال. لقد تمّ استبدال الدخل المكتسَب بالجهد، بالدخل من غير جهد.

في كل مكان، نجد السياسات النيوليبراليّة محاصَرةً بإخفاقات السوق. هذا لا ينطبق فقط على المصارف الكبرى التي لا يجوز تركها تنهار كي لا ينهار الاقتصاد، بل ينطبق أيضًا على الشركات المكلّفة تقديم الخدمات العامّة. يشير توني جودت في كتابه «الوطن في حال بائس» (Ill Fares the Land) إلى أنّ فون هايك قد فاتَه أنّ الخدمات الوطنية الحيوية لا يمكن السماحُ بانهيارها، ما يعني أنّ المنافسة لن يُسمح لها بأخذ كامل مجراها. وهنا العمل التجاري هو الذي يجني الأرباحَ وتبقى المخاطر على عاتق الدولة.

وكلّما ازداد فشلها، ازدادت هذه الأيديولوجيّة تطرّفًا. تستغلّ الحكوماتُ أزماتِ النيوليبراليّة بما هي عذرٌ وفرصةٌ لخفض الضرائب وخصخصة ما تبقّى من الخدمات العامّة وإحداث فجوات في شبكة الأمان الاجتماعي ورفع القيود عن الشركات والعمل على إعادة تنظيم مواطنيها. هنا الدولةُ الكارهةُ لذاتها تعمل على غرس أنيابها في كلّ مؤسّسات القطاع العامّ.

أخطر الآثار سياسيّة

قد لا يكون التأثيرُ الأخطرُ للنيوليبراليّة هو الأزمة الاقتصاديّة التي تسبّبت بها، إنّما الأزمة السياسيّة. ففيما ينحسرُ نطاق فاعليّة الدولة، تنحسر معها قدرتنا على تغيير مسار حياتنا عن طريق التصويت في الانتخابات. وهنا، تؤكّد النظريّةُ النيوليبراليّة أنّ بإمكاننا ممارسة عمليّة الاختيار عن طريق الإنفاق في السوق. لكنّ لدى البعض ما يمكن إنفاقُه أكثرَ من الآخرين: في ديموقراطيّة المستهلك الكبير أو صاحب الأسهم الكبير، ليست القدرةُ على التصويت متساوية لدى الجميع. والنتيجة هي إضعاف الطبقتين، الفقيرة والوسطى. وبينما تعتمد أحزابُ اليمين وأحزاب اليسار السابق السياساتِ النيوليبراليّة، يتحوّل هذا الإضعاف إلى حرمان، وتصبح أعدادٌ كبرى من الشعب خارج السياسة.

يلاحظ كريس هدجيز أنّ «الحركات الفاشيّة لا تبني أرضيّتَها الشعبيّة على الناشطين سياسيًّا، إنّما على غير الناشطين، أولئك «الخاسرون» الذين يشعرون، وهم غالبًا محقّون في ذلك، بأنّه لا صوت لهم أو دور في المنظومة السياسيّة». فحين لا يتبقّى للنقاش السياسي أيّ معنى بالنسبة إلى الشعب، يتجاوب مع الشعارات والرموز والإثارة. فبالنسبة إلى المعجبين بترامب مثلاً، الحقائقُ والبراهينُ تبدو غير ذات أهميّة.

بحسب تفسير توني جودت، حين تُختزل شبكة التفاعل الكثيفة بين الدولة والشعب إلى مجرّد سلْطة وطاعة، تصبح القوّةُ الوحيدة التي تربطنا في ما بيننا هي سلطة الدولة. التوتاليتاريّة التي كان يخشاها فون هايك، مهيّأة أكثر للنشوء حين تُختزل الحكوماتُ، التي خسرتْ سلطتَها المعنويّة المتأتّية من تقديمها الخدمات العامّة، إلى مجرّد «تملّقٍ للناس وتهديدٍ لهم وإجبارهم على طاعتها في نهاية الأمر».

شأنُها شأن الشيوعيّة، النيوليبراليّة هي الإله الذي سقط. لكنّ العقيدة المائتة لا تزال تمشي وإن مترنّحة، وواحد من الأسباب هو كونُها من دون مسمّى، أو بالأحرى أنّها كتلة من اللامسمّيات.

العقيدةُ الخفيّة التي تقول بـ«اليد الخفيّة»، يروّجها مؤيّدون هم أنفسُهم خفيّون. ببطءٍ شديد، بدأنا نكتشف أسماء بعضهم. نجد أنّ «معهد الشؤون الاقتصاديّة» Institute of Economic Affairs، الذي دافع بقوة في وسائل الإعلام ضدّ زيادة القيود على صناعة التبغ، ممولٌ بالسر من «شركة التبغ البريطانيّة الأميركيّة» منذ العام 1963. ونكتشف أنّ تشارلز وديفيد كوش، وهما اثنان من أغنى أغنياء العالم، أسّسا المعهدَ الذي أنشأ حركةَ «حزب الشاي»The Tea Party . ونجد أنّ تشارلز كوش صرّح خلال تأسيس أحد مراكزه الفكريّة قائلاً: «تفاديًا للنقد غير المرغوب به، لا يجوز الإعلان عن كيفية إدارة المنظّمة والسيطرة عليها على نطاق واسع».

عادةً ما تخفي الكلماتُ التي تستعملها النيوليبراليّة أكثرَ ممّا توضحه. فيبدو «السوق» وكأنّه نظام طبيعي يمكنه أن يؤثّر في حياتنا جميعًا بالتساوي، شأنه شأن نظام الجاذبيّة أو الضغط الجوّي. لكنّه في الواقع نظامٌ مشحونٌ بعلاقات السلطة. ما «يريده السوق» هو أقرب إلى: ما تريده الشركات وأسيادُها. أمّا «الاستثمار»، فهو يعني أمرين مختلفين تمامًا حسب قول سايِر. الأول هو تمويل الأنشطة المنتِجة والمفيدة اجتماعيًّا، والآخر هو شراء الأصول الموجودة من أجل استغلالها للحصول على ريوعٍ أو فوائدَ أو أرباحٍ من الأسهم أو من عوائد رأس المال. وهكذا فإنّ استعمالَ الكلمة ذاتِها للدلالة على أنشطة مختلفة «يموّه مصادرَ الثروة» ويدفعنا للخلط بين إنتاج الثروة والاستحواذ عليها.

قبل قرن، كان الذين ورثوا ثرواتهم يستهينون بحديثي الثراء، فسعى رجالُ الأعمال إلى نَيل الاعتراف الاجتماعي عن طريق انتحال شخصيّة من يعيش من ريوعه. لقد انقلبت هذه العلاقة في أيّامنا هذه: فالوارثون والذين يعيشون من الريع يعتمدون تقديمَ أنفسهم كرجال أعمال: تراهم يدّعون أنهم اكتسبوا مدخولَهم بالعمل علمًا أنهم لم يعملوا على اكتسابه. وإنّ هذه المجهولات والتشوّشات لا تلبث أن تتواشجَ مع تجهيل الاسم والمكان في الرأسماليّة الحديثة: نموذج الامتياز franchise الذي يحرص على ألّا يعلم العمّالُ لحساب مَن يكدّون، الشركات المسجلة وراء البحار، عن طريق شبكةٍ من أنظمةٍ سريّة وهي من التعقيد بحيث يستعصي حتى على أجهزة الشرطة اكتشافُ مالكيها والمنتفعين بها، الترتيبات الضريبيّة التي تضلّل الحكومات، والمنتجات الماليّة التي لا يفهمها أحد.

تجري حماية اللاتسمية في النيوليبراليّة بصرامة شديدة. فالمتأثرون بفون هايك وميزس وفريدمان يميلون إلى رفض المصطلح على أساس أنّه لا يستعمَل حاليًّا إلا من قبيل التعيير، وهم بهذا محقّون بعض الشيء. لكنهم بالمقابل لا يقدّمون لنا أيَّ بديل. فالبعض يصف نفسه بالليبرالي الكلاسيكي، أو بالليبرتاري أي المؤيّد لمبادئ الحرية، إلا أنّ هذه الأوصافَ مضلِّلة وتنطوي على طمسٍ للذات بشكل فاضحٍ لكونها تَعتبر أنه ليس هنالك من جديد في كتب «الطريق إلى العبوديّة»، و«البيروقراطيّة»، أو«الرأسماليّة والحرية» وهو المؤلَّف الكلاسيكي لفريدمان.

رغم هذا كلّه هنالك ما يدعو للإعجاب بالمشروع النيوليبرالي، أقلّه في مراحله الأولى. كان عبارةً عن فلسفة مميّزة ومبتكِرة أطلقتها شبكةٌ متماسكة من المفكّرين والناشطين وفق خطّة عملٍ واضحة، تميّزَ عملها بالصبر والإصرار، فغدا «الطريق إلى العبوديّة» هو الطريق إلى السلطة.

فشل اليسار

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ انتصار النيوليبراليّة يعكس فشل اليسار. حين أدّى الاقتصاد القائم على نظريّة «حرية التجارة» أو «الحرية الاقتصادية» إلى كارثة عام 1929، ابتكر كينز نظريّة اقتصاديّة شاملة لتحلّ محلّها. وحين وصلت «إدارةُ الطلب» الكينزيّة إلى حائطٍ مسدود في سبعينيّات القرن الماضي، كان البديل جاهزًا. لكنْ حين انهارت النيوليبراليّة في العام 2008 لم يكن هنالك أيّ شيء… لهذا لا يزال الميّتُ الحيّ يمشي. فخلال 80 سنة، لم يستحدث اليسار أو الوسط أيَّ إطارٍ عامّ جديد في الفكر الاقتصادي.

إنّ كل استحضار للّورد كينز إنّما هو إقرارٌ بالفشل. وطرح حلول كينزيّة في القرن الحادي والعشرين يعني إهمالَ ثلاث مشاكل بادية للعيان. من الصعب تعبئة الناس حول أفكار باتت قديمة، العيوب التي ظهرت في نظريّة كينز في السبعينيّات لا تزال قائمة، والمشكل الثالث والأهمّ أنه ليس لهذه الحلول ما تقدّمُه في ما يخصّ معضلتنا الأخطر، وهي الأزمة البيئيّة. تعمل الكينزيّة من خلال تحفيز الطلب الاستهلاكي لتعزيز النمو الاقتصادي. على أنّ الطلب الاستهلاكي والنمو الاقتصادي يديران عجَلة التدمير البيئي. يعلّمنا تاريخ الكينزيّة والنيوليبراليّة أنّ الحلّ لا يكون في مجابهة نظامٍ منهار. يجب طرح البديل المتماسك. والمهمّة المركزيّة بالنسبة لحزب العمّال البريطاني والحزب الديموقراطي الأميركي، واليسار عامّة، هي تطوير «برنامج أبولو» اقتصادي كمحاولة واعية لتصميم نظام جديد يتماشى مع متطلّبات القرن الحادي والعشرين.

العدد ٣٠ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.