لو أنك اقترحتَ في العام ١٩٤٥ أو ١٩٥٠ أيًّا من الأفكار والسياسات التي تشكّل اليوم عدة شغل النيولييربالية القياسية، لطُردتَ من المسرح ترافقكَ الضحكات الساخرة أو أرسلتَ إلى مستشفى للمجانين. في ذلك الوقت كان الجميع كينزيًّا، على الأقل في البلدان الغربية، أو اشتراكيًّا ديموقراطيًّا أو مسيحيًّا ديموقراطيًّا اجتماعيًّا أو منتميًا إلى منوع أو آخر من منوّعات الماركسية. إن فكرة السماح للسوق بأن يتخذ القرارات الاجتماعية والسياسية الكبرى، والفكرة القائلة بأنه يجب أن تتخلّى الدولة طوعًا عن دورها في الاقتصاد، وأنه ينبغي إطلاق الحرية الكاملة لكبريات الشركات، وأنه يجب قمع النقابات وتقليص الحماية الاجتماعية للمواطنين بدلاً من زيادتها — كانت مثل هذا الأفكار أجنبية عن روح العصر. وحتى لو وافق أحدهم على تلك الأفكار، فقد يتردد، أو تتردد، في اتخاذ مثل ذلك الموقف علنًا وكان سيصعب عليه كثيرًا العثور على جمهور.
ومهما يكن ذلك مستبعد التصديق في أيامنا هذه، خصوصًا لدى الجمهور الشاب، كانت النظرة إلى «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» أنهما مؤسستان تقدميّتان. كانا يسميان «توأمَي كينز» وُلدا من جون ماينارد كينز وهاري دكستر وايت، والأخير أبرز مستشاري فرانكلين روزفلت. وعندما نشأت المؤسستان في أعقاب «بريتون وودز» عام ١٩٤٤، كانت مهمتهما المساعدة على الحيلولة دون نشوب نزاعات مقبلة بتقديم القروض لإعادة الإعمار والتنمية ومن أجل حلّ المشكلات المؤقتة التي تطرأ على ميزان المدفوعات. لم يكن لهما التحكّم في القرارات الاقتصادية للحكومات الفردية ولا كانت مهمّتهما تتضمّن الإذن بالتدخل في السياسة الوطنية.
من دولة الرعاية إلى النيوليبرالية
انطلقت «دولة الرعاية» و«العقد الجديد» في الأمم الغربية في الثلاثينيات من القرن الماضي، إلا أن الحرب أوقفت انتشارها، فكان أول بند على جدول الأعمال بعد الحرب هو إعادة الاعتبار لها. أما البنود الأخرى الكبرى على جدول الأعمال فكانت تحريك التجارة العالمية – وقد تحقق ذلك من خلال «مشروع مارشال» الذي حوّل أوروبا مجددًا إلى الشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة الأميركية، صاحبة أقوى اقتصاد في العالم. وفي ذلك الوقت، هبّت رياح النضال ضد الاستعمار، ونالت شعوبٌ الحرية أكان على شكل تنازل كما في الهند، أم من خلال الكفاح المسلّح كما في كينيا وفيتنام وسائر الأمم.
على العموم، كان العالم قد شرَع في تنفيذ جدول أعمال تقدّمي جدًّا. نشر الباحث الكبير كارل پولانيي رائعته «التحوّل الكبير» في العام ١٩٤٤، وهو نقدٌ عنيفٌ لمجتمع القرن التاسع عشر الصناعي المسيّر بواسطة السوق. منذ خمسين عامًا، تنبّأ پولانيي بهذا القول الاستشرافي والحديث: «إنّ السماح لآلية السوق بأن تكون المسيّر الأوحد لمصير البشر وبيئتهم الطبيعية… سوف يؤدي إلى تدمير المجتمع» (ص ٧٣). وعلى الرغم من ذلك، كان پولانيي مقتنعًا بأنّ مثل هذا التدمير لن يحدث في عالم ما بعد الحرب لأننا «نشهد داخل الأمم تطوّرًا بطُل فيه تحكّم النظام الاقتصادي في المجتمع وتأمّنت أسبقية المجتمع على ذاك النظام»، على ما قال (ص ٢٥١).
مع الأسف، إن تفاؤل پولانيي لم يكن في محلّه – فكلّ فكرة النيوليبرالية تقوم على تمكين آلية السوق من أن تتحكّم بمصير البشر. يجب على الاقتصاد أن يُملي قوانينه على المجتمع، وليس العكس. وتمامًا كما استشرف پولانيي، فهذه العقيدة تقودنا مباشرةً نحو «تدمير المجتمع».
فما الذي جرى؟ كيف وصلنا إلى تلك الحالة بعد نصف قرن من نهاية الحرب العالمية الثانية؟ والجواب الموجز هو «بسبب جملة من الأزمات المالية الحديثة في آسيا». لكن هذا يتفادى السؤال – فالسؤال المطروح هو «لماذا نشأت النيوليبرالية من معزلها الأقلوي جدًّا لتصير العقيدة الطاغية في عالم اليوم؟ لماذا يستطيع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التدخّل كيفما شاءا لإجبار البلدان على المساهمة في الاقتصاد العالمي في شروط غير مناسبة؟ لماذا دولة الرعاية مهدّدة في جميع البلدان التي طُبّقت فيها؟ ولماذا تقف البيئة على حافة الانهيار ولماذا يوجد هذا العدد من الفقراء، في البلدان الغنية كما الفقيرة، في وقت لم توجد فيه ثروات ضخمة أبدًا كمثل الثروات الموجودة الآن؟ تلك هي الأسئلة التي يتعيّن الإجابة عنها من منظار تاريخي.
وكما حاججتُ في الفصلية الأميركية «ديسنت» Dissent (الانشقاق)، فأحد التفسيرات لانتصار النيوليبرالية وللكوارث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الملازمة لها هو أنّ النيوليبراليين قد اشتروا نسختهم الخاصة المؤذية والرجعية من «تحوّلهم الكبير» ودفعوا ثمنها. فقد أدركوا ما لم يدركه التقدّميون، أنّ للأفكار مترتّبات. ابتداءً من نواة في جامعة شيكاغو مع الفيلسوف - الاقتصادي وفي مركزها فريدريش فون هايك وتلامذته أمثال ميلتون فريدمان، نسج النيوليبراليون ومموّلوهم شبكة ضخمة من المؤسسات والمعاهد ومراكز الأبحاث والمنشورات والباحثين والكتّاب وخبراء العلاقات العامة الدوليين من أجل بلورة وتعليب أفكارهم وعقيدتهم ونشرها بلا هوادة.
لقد أنشأوا هذا الإطار الأيديولوجي بالغ الفاعلية لأنهم أدركوا ما كان يعنيه المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي عندما طوّر مفهوم الهيمنة الثقافيّة. فإذا كنتَ تستطيع احتلال أدمغة البشر فسوف تتبعها قلوبُهم والأيدي. لست أملك الوقت الكافي لإعطائكم أدلة هنا ولكن صدّقوني: إن العمل الأيديولوجي والدعَوي الذي قام به اليمين كان رائعًا بالمطلق. أنفقوا مئات الملايين من الدولارات لكنّ النتيجة كانت تساوي كل قرش أنفقوه لأنهم جعلوا النيوليبرالية تبدو وكأنها شرط طبيعي وعادي من شروط البشرية. ومهما يكن عدد الكوارث المتنوعة التي أتي بها النظام النيوليبرالي على نحو مؤكد، ومهما تكن الأزمات المالية التي قد تكون نتجت عنه، ومهما يكن عدد الخاسرين والمنبوذين الذين خلقهم، بدا كل هذا وكأنه حتمي مثله مثل فعل من أفعال الربّ، على اعتباره النظام الاقتصادي والاجتماعي الممكن الوحيد المتاح لنا.
دعوني أشدّد على أهمية أن ندرك أنّ هذه التجربة النيوليبرالية الواسعة التي نحن ملزمون بالعيش في ظلّها قد خلقها بشرٌ عن قصد. وما إن ندرك ذلك، ما إن نفهم أنّ النيوليبرالية ليست قوة مثل الجاذبية وإنما هي بناءٌ مصطنعٌ كليًّا، نبدأ بفهم أن ما صنعه البعض يمكن أن يغيّره البعض الآخر. لكنهم لن يستطيعوا تغييره دون الاعتراف بأهمية الأفكار. أنا مؤيدة كلّ التأييد للمشاريع القاعدية، ولكني أحذّر أيضًا من أنّ هذه سوف تنهار إذا كان المناخ الأيديولوجي الشامل معاديًا لأهدافها.
وهكذا فمن طائفة صغيرة غير محبوبة شبه معدومة التأثير، باتت النيوليبرالية الدِّين العالمي الأساس بعقيدته اليقينية وكهنته ومؤسساته التشريعية وربما الأهم من الجميع، بنار جهنّم التي يتوعد بها الكفرة والخطأة الذين يتجرأون على وضع الحقيقة المنزّلة موضعَ شك. إن أوسكار لافونتين، وزير المال الألماني السابق، الذي سمته الـ«نيويورك تايمز» «كينزيًّا لم يتعرّض للإصلاح» قد ألقي في نار جهنم للتوّ لأنه تجرّأ على اقتراح ضرائب مرتفعة على كبريات الشركات وخفوضٍ ضريبية على الأسر المتواضعة ومحدودة الدخل.
تمجيد اللامساواة و«لا يوجد بديل»
وبعد تشييد المسرح الأيديولوجي ورسم الإطار، دعوني أتقدم الآن بسرعة لنعود إلى ما كانت عليه الأمور في العام ١٩٧٩، عام وصول مارغريت ثاتشر إلى السلطة ومباشرتها الثورة الليبرالية في بريطانيا. كانت «المرأة الحديدية» هي ذاتها من تلامذة فريدريش فون هايك، ومن أتباع الداروينية الاجتماعية، ولم تكن تخجل من المجاهرة بقناعاتها. عُرفتْ بأنها تبرر برنامجها بكلمة واحدة TINA وترجمتها «لا يوجد بديل». إن القيمة المركزية في عقيدة ثاتشر والنيوليبرالية هي فكرة المنافسة – المنافسة بين الأمم والمناطق، والشركات وبين الأفراد طبعًا. والمنافسة مركزية لأنها تفصِل الغنم عن الماعز، الرجال عن الصبيان، والأقوياء عن الضعفاء. والمفترض أنها توزع كافة الموارد، أكانت ماديةً أم طبيعيةً أم بشريةً أم مالية بأعلى قدر ممكن من الفاعلية.
وعلى العكس من ذلك، ختم الفيلسوف الصيني الكبير لاو تزو كتابه «تاو–تي تشينغ» بهذه الكلمات «فوق كل شيء آخر، لا تُنافسوا». الفاعلون الوحيدون في العالم النيوليبرالي الذي يبدو أنهم عملوا بنصيحته هم كبار الفاعلين قاطبة، أي كبريات الشركات عابرة للجنسيات. فمبدأ المنافسة بالكاد ينطبق عليهم، إنهم يؤثِرون ممارسة ما يمكن تسميته «رأسمالية التحالف». وليس صدفةً أنّ ثلثين إلى ثلاثة أرباع الأموال المسمّاة «استثمارًا خارجيًّا مباشرًا»، حسب الأعوام، ليست مكرّسة لاستثمارات جديدة تخلق الوظائف، وإنما لعمليات «دمج واستملاك» تنتهي دومًا بصرف موظفين من أعمالهم.
لأن المنافسة دائمًا فضيلة، لا يمكن لنتائجها أن تكون سيئة. بالنسبة للنيوليبرالي، السوق حكيمٌ إلى درجة أنه مثل الله تعالى: إنه «اليد الخفيّة» التي يمكنها اجتراح الخير من الشر المحقّق. هكذا قالت ثاتشر ذات خطاب: «إنه من مهمتنا أن نمجّد اللامساواة وأن نحرص على إطلاق المواهب والقدرات وتحرير طاقاتها التعبيرية لصالح الجميع». بعبارة أخرى، لا تكترثوا بالذين يبقون في مؤخرة ميدان الصراع التنافسي. البشر غير متساوين بحكم الطبيعة. ولكن هذا للخير لأن مساهمات أبناء الأسر الوجيهة، والأوفر حظًّا في التعليم والأقوى سوف تفيد الجميع. لا شيء يستحقه الضعفاء وذوو التحصيل التعليمي المتواضع، وما يجري لهم هو بسببهم وليس أبدًا بسبب المجتمع. إذًا إن «إطلاق سراح» نظام المنافسة، على قولة مارغريت ثاتشر، هو الأفضل للمجتمع. من أسف أنّ تاريخ السنوات العشرين يعلّمنا أنّ ما جرى هو العكس تمامًا.
في بريطانيا قبل عهد ثاتشر، كان حوالي شخص واحد من عشرة يصنّف على أنه يعيش تحت خط الفقر، لم يكن ذلك سجلّاً باهرًا لكنه مشرّف بالقياس لسائر الأمم وأفضل ممّا كان عليه الوضع قبل الحرب. والآن شخص واحد من أربعة، وطفل واحد من ثلاثة أطفال، معلنٌ عنه رسميًّا أنه فقير. هذا هو معنى البقاء للأقوى: الناس الذين لا يستطيعون تدفئة بيوتهم في الشتاء، المضطرون أن يضعوا قطعة معدنية في العدّاد قبل أن تكون لهم كهرباء ويكون لهم ماء، والذين لا يملكون معطفًا واقِيًا من المطر، إلخ. إني أستخدم هذه الأمثلة من تقرير العام ١٩٩٦ لـ«مجموعة العمل عن فقر الأطفال البريطانيين». وسوف أمثّل بنتيجة «الإصلاحات الضريبية» للثنائي ثاتشر-مايجر بمثال واحد. في الثمانينيات، كان واحدٌ بالمئة من دافعي الضرائب يحصل على ٢٩٪ من جميع فوائد الحسوم الضريبية، بحيث إنّ شخصًا يكسب نصف معدل الأجر العامّ يجد أنّ ضرائبه قد ارتفعت بنسبة ٧٪ في حين أنّ شخصًا يكسب عشرة أضعاف معدل الأجر العامّ ينال تخفيضًا بنسبة ٢١٪.
والمدلول الآخر للمنافسة بما هي القيمة المركزية للنيوليبرالية هو وجوب تقليص القطاع العام بقسوة لأنه لا ولن يطيع القانونَ الأساس وهو المنافسة قصد الربح وانتزاع حصة من السوق. والخصخصة واحدة من التحوّلات الاقتصادية الكبرى في العشرين سنة الأخيرة. بدأ التيار في بريطانيا وانتشر في سائر أجزاء العالم.
الخصخصة وكسر النقابات
دعوني أبدأ بالسؤال: لماذا كان للبلدان الرأسمالية، خصوصًا في أوروبا، خدمات عامة أصلاً ولماذا لا تزال لديها مثل تلك الخدمات؟ في الواقع، تشكّل معظم الخدمات العامة تقريبًا ما يسمّيه الاقتصاديون «احتكارات طبيعية». يوجد احتكار طبيعي عندما يكون الحجم الأدنى لتأمين الحد الأقصى من الفاعلية الاقتصادية مساويًا للحجم الفعلي للسوق. بعبارة أخرى، على شركة ما أن تكون بحجم معيّن لتحقق وفورات القياس فتقدّم بالتالي أفضل خدمة ممكنة بأقل كلفة ممكنة للمستهلك. وتتطلّب الخدمات العامة استثمارات كبيرة جدًّا في البداية، مثل خطوط سكك الحديد أو شبكات توصيل الطاقة – ما لا يشجع على المنافسة هو أيضًا. لهذا كانت الاحتكارات العامة الحلَّ الأمثل البديهي. على أنّ النيوليبراليين يعرّفون كل شيء عموميّ على أنه «غير فعّال» بالضرورة.
فما الذي يحصل عند خصخصة احتكار طبيعي؟ بشكل طبيعي وعادي يتّجه المالكون الرأسماليون الجدد إلى فرض أسعار احتكارية على الجمهور ويجْنون الأرباح الوفيرة لأنفسهم. يسمّي الاقتصاديون الكلاسيكيون هذه النتيجة «فشلاً سوقيًّا بنيويًّا» لأن الأسعار أعلى مما يجب أن تكون، والخدمة المقدمة للمستهلك ليست بالضرورة جيدة. من أجل الحيلولة دون حالات الفشل السوقية البنيوية، أوكلت البلدان الرأسمالية في أوروبا، بمجموعها تقريبًا، البريدَ والاتصالات الهاتفية والكهرباء والغاز وسكك الحديد وقطارات الأنفاق والنقل الجوي، وفي العادة خدمات أخرى مثل الماء ورفع النفايات إلخ، إلى احتكاراتٍ تملكها الدولة. استمرّت هذه الحالة إلى الثمانينيات من القرن الماضي. وكانت الولايات المتحدة الاستثناء الأكبر من هذه القاعدة، ربما لأنها كانت ضخمةً جغرافيًّا بما لا يسمح لها باعتماد الاحتكارات الطبيعية.
في كل الأحوال، عزمت مارغريت ثاتشر على تغيير كل هذا الوضع. والفائدة الإضافية من ذلك هي استخدام الخصخصة لكسر قوة النقابات العمّالية. بتدمير القطاع العامّ بما هو أقوى قلاع النقابات، تمكّنت من إضعافها على نحوٍ حاسم. وهكذا بين ١٩٧٩و١٩٩٤ انخفض عدد الوظائف في القطاع العامّ في بريطانيا بين ٦ ملايين و٧ ملايين وظيفة، أي بنسبة ٢٩ بالمئة. وكانت كل الوظائف التي ألغيت عمليًّا وظائف شاغلوها منضمّون إلى النقابات. ولمّا كان التوظيف في القطاع الخاص راكدًا خلال تلك السنوات الخمس عشرة، بلغ الرقم الإجمالي للانخفاض في الوظائف البريطانية ١،٧ مليون، أي بنسبة ٧ بالمئة بالمقارنة مع العام ١٩٧٩. ففي عُرْف النيوليبراليين أنّ قلّة عدد العمال أفضل من كثرتهم لأن العمال يقتطعون من عائدات أصحاب الأسهم.
أما بالنسبة للآثار الأخرى للخصخصة، فقد كانت متوقعة وقابلة للتوقع. لجأ مدراء المنشآت التي تعرّضت للخصخصة حديثًا، وقد حافظ معظمهم على مناصبهم، إلى مضاعفة أجورهم بمعدل ضعفين أو ثلاثة أضعاف. واستخدمت الدولة أموال دافعي الضرائب لتصفية ديون المنشآت وإعادة رسملتها قبل إنزالها إلى السوق. فمثلاً، تلقت شركة الماء اقتطاعًا من ديونها قدره خمسة مليارات جنيه إضافةً إلى ١،٦ مليار سمّي «المَهر الأخضر» لجعل العروس أكثر جاذبية للمشترين المحتملين. أثير الكثير من الضجة في أوساط العلاقات العامة حول كيف تقرر أن يملك صغار المساهمين حصةً في تلك الشركات، وبالفعل اشترى ٩ ملايين بريطاني أسهمًا فيها، لكنّ نصفهم وظّف أقلّ من ألف جنيه، ومعظمهم ما لبث أن باع أسهمه في مهلة سريعة نسبيًّا حالما استطاعوا قبض الأرباح المباشرة.
يستطيع المرء أن يرى من تلك النتائج أنّ الفكرة الأساسية من الخصخصة ليست الفاعلية الاقتصادية ولا تحسين الخدمات للمستهلك وإنما هي نقل الثروة من الخزينة العامة – القابلة لأن توزعها للتخفيف من الفوارق الاجتماعية – إلى أيدي الخاصّة. لقد اشترى موظفو «بريتيش تيليكوم» واحدًا بالمئة من أسهم الشركة فقط، وموظفو «بريتيش آيروسبيس» ١،٣ بالمئة، إلخ. قبل هجوم السيدة ثاتشر، كان قسم كبير من القطاع العامّ في بريطانيا يحقق الأرباح. ففي العام ١٩٨٤، أسهمت الشركات العامة بما يزيد على ٨ مليارات جنيه إلى الخزينة. إنّ كلّ هذا المال يذهب الآن إلى مساهمين أفراد. والخدمة في الصناعات المخصخصة كارثية أحيانًا، فقد كتبت الـ«فاينانشال تايمز» عن اجتياح الفئران لنظام «مياه يوركشاير»؛ ومن استقلّ قطارات شركة «ثايمز» ولا يزال على قيد الحياة يستحق نيل وسام.
لقد طُبّقت الآليات ذاتها حرفيًّا في سائر أنحاء العالم. في بريطانيا، كانت «مؤسسة آدم سميث» الشريكَ الفكري لاختراع أيديولوجية الخصخصة. وقد استخدمت «مؤسسة الولايات المتحدة للاستثمار والتنمية» «USAID» والبنكُ الدولي خبراءَ «مؤسسة آدم سميث» للترويج لعقيدة الخصخصة في بلدان الجنوب. وبحلول العام ١٩٩١، كان البنك قد قدّم ١١٤ قرضًا لتسريع العملية، وفي كل عام كانت هيئة «التنمية المالية الكونية» التابعة له تنشر جداول المئات من أعمال الخصخصة المنفذة في البلدان التي تقترض من البنك.
أقترح أن نتوقّف عن الحديث عن الخصخصة وأن نستخدم المفردة التي تقول الحقيقة: إننا نتحدث عن «نزع ملكية» وتسليم نتاج عقود من العمل بذلها آلاف الأشخاص إلى أقلية قليلة من كبار المستثمرين. هذه هي أكبر عملية سرقة بالقوة في جيلنا أو لأي جيل.
نقل الثروة من أسفل إلى أعلى
السمة البنيوية الأخرى من سمات النيوليبرالية كناية عن مكافأة رأس المال على حساب العمل وبالتالي نقل الثروة من أسفل المجتمع إلى أعلى. فإذا كنتَ في خانة الـ٢٠٪ الأعلى من سلّم المداخيل، فأنت قابل لأن تكسب من النيوليبرالية، وكلّما ارتقيتَ في السلّم زاد كسبك. وعكسًا، فجميع من هم في خانة الـ ٨٠٪ الأسفل يخسرون جميعًا، وكلما انخفض موقعهم من السلّم زادت خسارتهم بنفس النسبة.
إذا كنتم تظنون أني نسيت رونالد ريغان، فدعوني أمثل على هذه النقطة بملاحظات كيفن فيليبس، المحلل الجمهوري والمساعد السابق للرئيس نيكسون، الذي نشر عام ١٩٩٠ كتابًا بعنوان «سياسات الأغنياء والفقراء». وهو الكتاب الذي فتح الطريق أمام عقيدة ريغان النيوليبرالية وسياساته التي غيّرت توزيع الدخل في الولايات المتحدة بين الأعوام ١٩٧٧ و١٩٨٩. تبلورت تلك السياسات عمومًا في «هيريتايج فاونديشن» (مؤسسة التراث) أبرز مركز أبحاث في عهد ريغان والتي لا تزال ذات قوة يعتدّ بها في السياسة الأميركية. على امتداد عقد الثمانينيات من القرن الماضي، زاد الدخل العائلي المتوسط لأعلى ١٠٪ من العائلات الأميركية بنسبة ١٦٪، والـ٥٪ الأعلى بنسبة ٢٣٪. لكنّ الأوفر حظًّا كانوا الواحد بالمئة من العائلات الأميركية الذين أمكنهم شكر ريغان على زيادةٍ قدرها ٥٠٪. فقد قفز متوسط مداخيلهم المرتفعة أصلاً، وهو ٢٧٠ ألف دولار، إلى ذروة تبلغ ٤٠٥ آلاف دولار سنويًّا. أما الأميركيون الأفقر فقد خسروا جميعًا، وكلما كانوا أكثر انخفاضًا في درجات السلّم كانت خسائرهم أكبر. فبحسب إحصائيات فيليب نفسه، خسر الـ١٠٪ من الأميركيين في أسفل السلّم ١٥٪ من مداخيلهم الشحيحة أصلاً التي انخفضت من متوسط منخفض جدًّا قدره ٤،١١٣ دولارًا سنويًّا إلى متوسط غير إنساني قدره ٣،٥٠٤ دولارات سنويًّا. في العام ١٩٧٧، كان متوسط دخل الواحد بالمئة من العائلات الأميركية أكبر بـ ٦٥ ضعفًا من دخل الـ١٠٪ في أسفل السلّم. وبعد عقد من الزمن، صار أعضاء فئة الواحد بالمئة أغنى بنسبة ١١٥ ضعفًا قياسًا إلى العشرة بالمئة في أسفل السلّم.
إن الولايات المتحدة هي المجتمع صاحب أعلى نسبة من اللامساواة على الأرض. لكن جميع البلدان عمليًّا شهدت تفاقم الفروق الاجتماعية على امتداد السنوات العشرين الأخيرة بسبب السياسات النيوليبرالية. نشر «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» UNCTAD بعض الأدلة الاتهامية في هذا الصدد في «تقرير التجارة والتنمية» لعام ١٩٩٧ المبني على ٢٦٠٠ بحث منفصل عن أشكال اللامساواة في المداخيل، والإفقار وتجويف الطبقات المتوسطة. إن فريق «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» قد وثّق تلك التيارات في عشرات من المجتمعات المختلفة كليًّا في ما بينها، بما فيها الصين وروسيا وغيرهما من البلدان الاشتراكية السابقة.
لا يوجد أمر ملغز في هذا الاتجاه نحو المزيد من اللامساواة. وترسم السياسات الخاصة التي توفر لأصحاب الثروات دخلاً وفيرًا يتأمن خصوصًا من خلال الاقتطاعات الضريبية وتخفيض الأجور. إن النظرية والتبرير الأيديولوجي لمثل تلك الإجراءات هو أنّ المداخيل والأرباح المرتفعة للأغنياء ستؤدي إلى المزيد من الاستثمار، وإلى المزيد من توزيع أفضل للموارد وبالتالي المزيد من الوظائف والرفاه للجميع. في الواقع، وكما كان متوقعًا تمامًا، إنّ نقل المال عبر السلّم الاقتصادي قد أدّى إلى فقاعات في البورصات وإلى الثروة الورقية الخفيّة للقلّة والأزمات المالية. إذا ما أعيد توزيع المداخيل لفائدة الـ٨٠٪ من الذين في أسفل المجتمع فسوف يستخدم لغرض الاستهلاك وبالتالي يفيد في خلق الوظائف. أما إذا أعيد توزيعها باتجاه الأعلى، حيث يملك الأفراد معظم ما يحتاجون إليه، فلن تدخل تلك الأموال إلى الاقتصاد المحلّي أو الوطني وإنما ستتجه نحو البورصات الدولية.
وكما نعلم جميعًا، فإن السياسات ذاتها قد طُبّقت على امتداد الجنوب والشرق بحجة التعديل الهيكلي الذي هو الاسم الآخر للنيوليبرالية. لقد استخدمتُ ثاتشر وريغان للتمثيل على سياسات وطنية. أما على الصعيد الدولي، فقد ركّز النيوليبراليون كل جهودهم على ثلاث نقاط أساسية: حرية التجارة في السلع والخدمات، وحرية حركة رأس المال وحرية الاستثمار.
على امتداد العشرين سنة الأخيرة، كان صندوق النقد الدولي يعزز قدراته على نحو كبير. بفضل أزمة المديونية وآليات المشروطية، انتقل من دعم ميزان المدفوعات إلى أن يصير أشبه بالدكتاتور الكوني لما يسمّى السياسات الاقتصادية «الرشيدة»، أي السياسات الاقتصادية النيوليبرالية. ثم أنشئت «منظمة التجارة العالمية» أخيرًا في كانون الثاني/ يناير ١٩٩٥ بعد مفاوضات طويلة ومضنية وغالبًا ما جرى تمريرها في برلمانات لم يكن يدري أعضاؤها الكثير عما قرّروه. ولحسن الحظ، فإنّ الجهد الأخير لرسم قواعد نيوليبرالية كونية وملزمة، على شكل «اتفاق الاستثمار متعدد الأطراف»، قد فشل، مؤقتًا على الأقل. وكان مقدرًا له أن يمنح كل الحقوق لكبريات الشركات ويلقي كل الواجبات على الحكومات ويحرم المواطنين من كل الحقوق.
القاسم المشترك بين هذه المؤسسات هو انعدام الشفافية وعدم الخضوع للمساءلة الديموقراطية. هذا هو جوهر النيوليبرالية: تزعم أن الاقتصاد يتعيّن عليه أن يملي قوانينه على المجتمع، وليس العكس. فالديموقراطية مُربكة، ذلك أنّ النيوليبرالية معدّة للرابحين لا للناخبين الذين يضمّون فئتي الخاسرين والرابحين.
أودّ أن أختم بأن أسألكم أن تأخذوا على محمل الجد الكبير التعريف النيوليبرالي للخاسر، الذي لا يترتّب له أي شيء مخصوص. يمكن طرد أيٍّ أحد من النظام في أيّ وقت – بسبب المرض، السن، الحمل، ما يقرِّر أنه فشل أو بسبب ظروف اقتصادية وما يقتضيه تحويل الثروة من تحت لفوق بلا هوادة. إنّ قيمة حامل الأسهم هي كل شيء. مؤخرًا كتبت «الإنترناشيونال هيرالد تريبيون» أنّ المستثمرين الأجانب «يستحوذون» على الشركات والمصارف التايلاندية والكورية. لا عجب في أن تلك المشتريات يتوقع أن تؤدي إلى صرف للموظفين على نطاق واسع.
بكلمات أخرى، إنّ نتاج سنوات من كدح آلاف التايلانديين والكوريين يتحوّل إلى أيدي كبريات الشركات الأجنبية. والعديد منهم الذين كدحوا لإنتاج تلك الثروة هم الآن في قارعة الطرقات أو سوف يكون هذا مصيرهم عما قريب. فبناءً على قوانين المنافسة وتعظيم قيمة مالكي الأسهم، لن يُرى مثل هذا السلوك على أنه ظالم على نحو إجرامي وإنما طبيعي بل حتى إنه إجراء فاضل.
أزعم أنّ النيوليبرالية قد غيّرت طبيعة السياسة من أساسها. كانت السياسة تتعلق بالدرجة الأولى بالسؤال حول من يحكم من ومن ينال أي حصة من الكعكة. بالطبع لا تزال جوانب من هذا وذاك موجودة لكن بات سؤال السياسة المركزي الكبير الجديد هو «من يحق له الحياة ومن لا يحق له الحياة». إن الإقصاء الجذري هو شعار المرحلة الآن، وإني أعني ذلك بجدّية كاملة.
لعلي قدّمت لكم الكثير من الأخبار السيئة لأن تاريخ السنوات العشرين الأخيرة مليء بها. لكني لا أريد أن أنهي كلامي على هذه النبرة المحبطة والتشاؤمية. يجري الكثير لمواجهة تلك التيارات التي تهدد الحياة وثمة أفق بعيد للمزيد من الأفعال.
ساعد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية على تحديد الكثير من تلك الأفعال التي أعتقد أنها يجب أن تتضمن الهجوم الأيديولوجي. لقد آن الأوان لنقرر نحن جدولَ الأعمال بدلاً من أن نترك الأمر لـ«سادة الكون» أن يقرروه في دافوس. وإني آمل أن يتفهم المانحون أنهم لا ينبغي أن يموّلوا مشاريع عادلة وإنما عليهم أن يمولوا أفكارًا أيضًا. لا يمكننا الاعتماد على النيوليبراليين لأن يتولَّوا هذا الأمر، لذا علينا أن نصوغ أنظمة ضريبية دولية عملية وعادلة، بما فيها «ضريبة طوبِن» على كل معاملات الأسواق المالية والضرائب النسبية على مبيعات «الشركات متعدّية الجنسيات»… وينبغي أن تخصص عائدات النظام الضريبي العالمي لردم الفجوة بين الشمال والجنوب، ولإعادة التوزيع لجميع الذين نهبوا خلال العشرين سنة الأخيرة.
اسمحوا لي أن أكرر ما قلته سابقًا: ليست النيوليبرالية عنصرًا من عناصر الطبيعة البشرية. ولا هي قوة فوق طبيعية. يمكن تحدّيها واستبدالها لأنّ فشلها يقتضي ذلك. علينا أن نكون مستعدّين لسياسات بديلة تعيد السلطة للجماعات وللدول الديموقراطية فيما نحن نعمل لبناء الديموقراطية، وحكم القانون والتوزيع العادل على الصعيد الدولي. للأعمال وللسوق مكانهما، لكن لا يمكن لهذا المكان أن يحتل كل نطاق الوجود الإنساني.
المزيد من الأخبار الجيدة أنه يوجد الكثير من المال حولنا وأن جزءًا صغيرًا منه، بل نسبة لا تكاد تُذكر، يكفي لتوفير الحياة اللائقة لكل إنسان على هذه الأرض، وتوفير الصحة والتعليم الشاملَين وتنظيف البيئة ومنع المزيد من تدمير الكوكب وردم الهوة بين الشمال والجنوب، أقلّه بناءً على ما تقترحه «وكالة الأمم المتحدة للتنمية»، التي تقدّر أنّ الأمر يحتاج إلى ٤٠ مليار دولار. وبصراحة، هذا مبلغ زهيد جدًّا.
أخيرًا، أرجو أن تتذكروا أنّ النيوليبرالية قد تكون شرهة لا تشبع ولكنها ليست منيعةً كاملة المناعة. إن تحالفًا دوليًّا للناشطين أجبر النيوليبراليين بالأمس فقط على أن يتخلّوا، ولو مؤقتًا، عن مشروعهم لتحرير كل الاستثمارات عن طريق «الاتفاق متعدد الأطراف حول الاستثمار» MAI*، وإن الانتصار المفاجيء لخصومها أغاظ دعاة حكم الشركات وأكد أنّ شبكةً محكمة التنظيم من الغواريين قادرة على كسب المعارك. والآن علينا أن نعيد تجميع قوانا وأن نحافظ عليها لكي نمنعهم من أن يحوّلوا «الاتفاق المتعدد الأطراف من أجل الاستثمار» (اسم مؤسسة دولية MAI Multilateral Agreement on Investment) إلى «منظمة التجارة الدولية».
لننظر إلى الأمور من هذا المنظار: الأرقام إلى جانبنا. لأنّ عدد الخاسرين في لعبة النيوليبرالية يفوق بكثير عدد الرابحين. وإننا نملك الأفكار. فيما أفكارهم بات مشكوكًا بأمرها بسبب تكرار الأزمات. ما ينقصنا، إلى الآن، هو التنظيم والوحدة التي تمكّننا من الانتصار في عصر التكنولوجيا المتقدمة هذا.
الواضح أن التهديد عابر للقوميات، الأمر الذي يعني أنّ الجواب يجب أن يكون هو أيضًا عابرًا للقوميات. لم يعد التضامن يعني المساعدة، أو أنه لم يعد يقتصر على المساعدة، بات يتطلب اكتشاف طاقات مخبأة في نضالات واحدنا والآخر بحيث تستطيع قوتنا العددية وقوة أفكارنا أن تنتصر.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.