العدد ٣٠ - ٢٠٢١

«الأنجزة» والمقاومات الشعبيّة

«.Bel dan pa di zanmi»
«إذا رأيت نيابَ الليث بارزةً
فلا تظننّ أن الليثَ يبتسمُ»

الأصول

صُكّ المصطلح NGO «المنظمات غير الحكومية» في العام ٢٠٠٤، مع أن الظاهرة التي يصفها بدأت في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته بما هي عنصر في المشروع النيوليبرالي. ثمة خطر يواجه الحركات الشعبية هو أنجزة المقاومة.

يسهل تحوير ما سأقول إلى إدانة لكل الأنجيووز. ذلك خطل. في المياه العكرة للأنجيووزات المزيفة التي تتأسس لامتصاص المنح أو للتهرّب الضريبي (في ولايات مثل بيهار تُهدى الأنجيووز بما هي مهر العروس)، بالتأكيد توجد أنجيووز تمارس عملاً قيّمًا. لكن من الأهمية بمكان أن نشيح النظر عن العمل الإيجابي الذي تقوم به أنجيووز إفرادية، لننظر في ظاهرة الأنجيووز في إطارها السياسي الأوسع.

في الهند مثلاً، بدأ ازدهار الأنجيووز المموّلة في نهاية الثمانينيات والتسعينيات. تزامن ذلك مع فتح أسواق الهند أمام النيوليبرالية.

في ذلك الوقت، كانت الدولة الهندية، التزامًا منها بمقتضيات التعديلات الهيكلية، أخذت تنسحب من تمويل التنمية الريفية والزراعة والطاقة والنقل والصحة العامة. وبقدر ما كانت الدولة تستقيل من دورها التقليدي، كانت الأنجيووز تتقدّم للعمل في تلك القطاعات بالذات. والفارق طبعًا أنّ الأموال المتوافرة لها جزء صغير من الأموال المقتطعة من الإنفاق العام. فمعظم الأنجيووز الميسورة والكبيرة مموّلة ومرعيّة من مؤسسات الدعم والتنمية المموّلة بدورها من الدول الغربية والبنك الدولي والأمم المتحدة ومن بعض الشركات متعدّية الجنسيات. ومع أنها قد لا تكون بالضرورة هي تلك المؤسسات ذاتها، إلا أنها بالتأكيد جزء من التشكيلة السياسية العريضة التي تشرف على المشروع الليبرالي وتطالب بحسومات في الإنفاق الحكومي في المقام الأول.

لماذا تضطر تلك الأجهزة إلى تمويل الأنجيووز؟ هل هو الحماس التبشيري العتيق إياه؟ أم تراه الشعور بالذنب؟ إنه أكثر من ذلك بقليل.

تعطي الأنجيووز الانطباع بأنها تملأ الفراغ الذي تتركه دولةٌ منسحبة. وإنها كذلك ولكن بطريقة قليلة الأثر من الناحية مادية. تكمن مساهمتها الحقيقية أنها تبدّد الغضب السياسي وتتصدق بالمساعدة أو بالإحسان لما يجب أن يعود للشعب بما هو حق من حقوقه. إنها تعدّل نفسية الجمهور. وتحوّل الناس إلى ضحايا اتكاليين وتثلم نصل المقاومة السياسية. إن الأنجيووز نوع من الواقي من الصدمات بين الزعيم والجمهور، بين الإمبراطورية ورعاياها. لقد أمسوا الوسطاء والمترجمين والميسّرين للخطاب السائد. يؤدون دور «الرجل العاقل» في حرب ظالمة وغير عاقلة.

والأنجيووز في المدى البعيد مسؤولة تجاه مموّليها وليس تجاه الناس الذين تعمل بينهم. إنها ما يسمّيه علماء النبات «الدالّة على النوع». فكأنما كلما تفاقم الخراب الذي تحدثه النيوليبرالية تفاقم تفريخ الأنجيووز. وليس من مشهد أشدّ إيلامًا من مشهد الولايات المتحدة وهي تتجهّز لاجتياح بلد ما وتجهّز في الوقت ذاته الأنجيووز للدخول وتنظيف الخراب.

للتأكد من أن تمويلها مضمون وأن حكومات البلدان حيث تعمل تسمح لها بالعمل، على الأنجيووز أن تعمل – في بلد اجتاحته الحرب أو الفقر أو جائحة أوبئة – ضمن إطار سطحي منزوع إلى هذا الحد أو ذاك عن أي سياق سياسي أو تاريخي، وفي كل الأحوال، منزوع عن سياق تاريخي أو سياسي غير ملائم. ليس عن عبث أنّ «المنظور الأنجيووزي» يحظى بالمزيد من الاحترام.

إنّ تقارير الاستغاثة اللاسياسية (التي هي بالتالي، وفي الواقع، سياسية بامتياز) عن البلدان الفقيرة ومناطق القتال تصوّر البشر (ذوي البشرة الداكنة) والبلدان (الداكنة اللون) كأنهم ضحايا مرض أو وباء. هاكم هنديًّا إضافيًّا يشكو من سوء التغذية، وهذا إثيوبي إضافي جائع، وهذا مخيم أفغاني إضافي، وهذا سوداني أبتر إضافي… بحاجة إلى مساعدة الرجل الأبيض. تعزّز الأنجيووز من حيث لا تدري التنميط العنصري وتعيد التأكيد على إنجازات الحضارة الغربية وامتيازاتها وشفقتها (الحب القاسي) وقد خُصِم منها الشعور بالذنب على تاريخ من إبادة الشعوب والاستعمار والعبودية. إنّ الأنجيووز هم المبشّرون العلمانيون في العالم الحديث.

في نهاية المطاف، رأس المال المتوافر للأنجيووز يلعب، على نطاق أضيق ولكن بطريقة أكثر خفاء، الدور ذاته في السياسات البديلة كالذي يلعبه الرأسمال المضارِب الذي يتدفّق من وإلى اقتصاديات البلدان الفقيرة. يبدأ بالتحكم بالأجندة فيحوّل المجابهة إلى تفاوض. وينزع العنصر السياسي من المقاومة. ويتدخل في حركات الشعوب المحلية وقد كانت سابقًا تعتمد على نفسها بنفسها. وتملك الأنجيووز من الأرصدة ما يسمح باستخدام سكان محليين لكانوا لولا ذلك ناشطين في حركات مقاوِمة، لكنهم يشعرون الآن بأنهم يمارسون أعمالاً خيّرة مباشرة وخلّاقة (ويكسبون معيشتهم وهم يفعلون ذلك). إن الإحسان يوفر إشباعًا مباشرًا للمُحسنين، كما لمتلقّي الإحسان، لكن آثاره الجانبية قد تكون خطيرة.

إن المقاومة السياسية الحقيقية لا توفر طرقات مختصرة.

وإن أنجزة السياسة تهدد بتحويل المقاومة إلى مهمة مهذبة وعاقلة مدفوعة الأجر بدوام من التاسعة صباحًا إلى الخامسة بعد الظهر إضافةً إلى بعض المنافع المادية الموزّعة هنا وهناك.

تقع على عاتق المقاومة الحقيقية مترتبات فعلية. وهي لا تعمل لقاء أجر.

العدد ٣٠ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.