في كتابٍ من القطْع الكبير ذي الطباعة الفاخرة، وتحت عنوان «الرّئاسة المقاوِمة»، يقدّم الرئيس اللبنانيّ الأسبق أمين الجميّل مذكّراته الصادرة في 427 صفحة عن منشورات «بيت المستقبل» (بيروت، 2020).
ضحيّة الجميّل!
«أعطونا السلام وخذوا ما يُدهش العالم»، هكذا يفتتح الجميّل مذكّراتِه. عبارةٌ هائمةٌ بلا ركائز، تنتمي إلى أدبيّاتٍ تمجّد قدرةَ اللبنانيّ على الحياة والتميّز، كطائر الفينيق ينهض من كلّ كبوة، لكنّها غالبًا لا تستند إلى الوقائع، ولا تُعبّر عن التاريخ. والأخير، على أيّ حال، أهمُّ ضحايا مذكّرات الجميّل، فهو مجرّدٌ من غالبيّة أحداثه، تصبح معه المذكرات كأنها أحداثٌ منتقاةٌ ومنزوعةٌ من سياقها، تُستخدم لتبرير خياراتٍ وسياساتٍ ما زالت تثير نقاشًا واسعًا واختلافاتٍ حادّةً بين اللبنانيّين.
مئاتُ الصفحات كتَبَها رجلٌ لعب وعائلته أدوارًا هامّة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، ثم تولّى دورًا أُعِدّ لأخيه، أي رئاسة الجمهورية، في مرحلةٍ شديدة الصعوبة والتعقيد. لذا فإنّ القارئ سينزع، رغمًا عنه، إلى التعاطي مع الكتاب باعتباره مصدرًا يمكن قراءتُه في إطار العودة إلى التاريخ الحديث.
وإن تصدّرت كلمةُ «مذكّرات» الغلاف، فإنّ الجميّل يقول في الصفحات الأولى من الكتاب «صحيحٌ أنّ أحدًا لا يمكن أن يؤرّخ ذاته، ولكنْ حسبي أن أدرج بين صفحات التاريخ ما يمنحه الروح والجسد» (ص 14). ولا يضع الجميّل أبداً تجربتَه موضع نقد، بل يُظهرها ضمن إطارٍ من التعظيم فيقول «هذا الكتاب هو، أوّلًا وأخيرًا، وعن حقّ، شهادة صمود ومقاومة... الحقبة التي سأروي هي أكثر اضطرابًا بكثيرٍ من الريح العكِرة التي تطايرتْ لدى إقلاع الطوّافة إلى المنفى. الوقائع سوف تُسرد كما جرتْ، بتقلّباتها وارتدادات تلك التراجيديا الشكسبيريّة المليئة بالأبطال والأوغاد، بالشهداء والانتهازيّين والضحايا» (ص 15، 20).
هذا كتابٌ يريده صاحبُه شهادةَ «الحقيقة» التاريخيّة كما يراها هو، فيسِمُه بعباراتٍ فضفاضةٍ يرغب من خلالها في الإيحاءَ بعمق التجربةِ وبُعدِها «التراجيدي»، وبدوره «البطولي» في مواجهة الإعصار تلو الآخر. ولهذا الغرض يكتب «لقد صمدتُ، وصمدتْ رئاسة الجمهورية والمؤسّسات الدستوريّة والنظام اللبناني في أصعب مرحلة من تاريخ لبنانَ الذي كان على المحكّ، كيانًا ووجودًا. ورغم كلّ التهديدات والمعوقات والأثمان الباهظة، قاومتُ وتحمّلتُ وواجهت، وأنا فخور بما قمت به لخدمة الوطن وبأنني لم أُفرّط بسيادته وأرضه وكيانه» (ص 13).
الوطن، العائلة
يبدأ الكتاب من العائلة التي يتحدّر منها الجميّل. يكتب عن جدّه وشقيق جدّه، وعن رحلة جزءٍ من العائلة إلى مصر بعد «مواجهتها» العثمانيّين، وقد عاد جدّه من مصر بعد سقوط الدولة العثمانية، بطلبٍ من الفرنسيّين، من دون أن يتحدّث الجميّل عن علاقاتٍ نُسجت معهم. بعد ذلك ينتقل الجميّل إلى والده بيار، مؤسّس حزب «الكتائب». ينسب له نضالًا عنيدًا من أجل قيامة لبنانَ في وجْه سلطات الانتداب الفرنسيّ التي أمرتْ، بحسب رواية الجميّل، قوى الأمن بإطلاق النار على تجمّع سلميٍّ نظّمَه شباب «الكتائب» في السنة التالية لإنشاء حركتهم، فأصيب والدُه في الرأس واعتُقل داخل المستشفى، في عرضٍ منفصلٍ عن السياق التاريخي، وتغييبٍ لكلّ الحركات الاحتجاجيّة في المدن اللبنانيّة خلال ثلاثينيّات القرن الماضي.
يخصّص الجميّل صفحاتٍ من مذكّراته للخليّة الأصغر، أو النواة الأبرز في سيرته: عائلة بيار الجميّل، العائلة المتّحدة كـ«نوع من العشيرة». ويتحدّث عن شقيقه الأصغر بشير الذي كان، «يبشّر، بالكاريزما التي يتمتّع بها، بأنّه سيصبح رجلًا محبوبًا قريبًا من الناس» (ص 21). تبدو العلاقةُ بالشّقيق الأصغر «الكاريزماتيّ» مثاليّة.
يشدّد الجميّل كذلك على العلاقة الوثيقة والتعاون بين بيار الجميّل ورياض الصلح، على المستويَين السّياسي والفكري، وعلى مستوى الصداقة العائليّة أيضًا. إذ يعتبر أنّ رياض الصلح وبشارة الخوري، وكميل شمعون وسليمان فرنجيّة (على الرغم من تباعُد الأخير في أحداث عام 1958) هم رجال السياسة البارزون الذين التقاهم في شبابه.
تاريخٌ بلا تاريخ
تكمن الثغرةُ الأساسيّة في مذكّرات الجميّل، كما ذكرنا سابقًا، في الانتقائيّة المفرطة للأحداث المنزوعة من سياقها التاريخيّ، وعددٍ من الأحكام التي تُجاري خطابَ اليمين اللبنانيّ حتى نهايات الحرب الأهليّة. والأمثلة كثيرةٌ هنا، ككتابة الجميّل عن أحداث عام 1958 على الشكل الآتي «زجّ تدخّلُ جمال عبد الناصر في الشؤون اللبنانيّة، ومعارضتُه عهدَ الرئيس كميل شمعون، اللبنانيّين في صراعٍ دمويّ اندلع في 8 أيار [مايو]» (ص 23)، من دون أيّ ذكرٍ للانقسامات والمَحاور المحليّة والإقليميّة، ومن دون أن يأتيَ الكتاب مثلًا على ذكْر حلف بغداد وسياسات شمعون الخارجيّة، ولا على رغبته في تجديد ولايتِه، الأمر الذي أثار حينها غضبَ جزءٍ من اللبنانيّين. ثمّ انتقال الجميّل إلى المرحلة التالية التي يختصرها بـ«إنجازات» والده، فيقول «على مرّ وجوده في حكومات الحقبة الشهابية، حقّق الشيخ بيار مشاريعَ ضخمةً لا تزال ماثلةً في الذهن»، (ص 24)، من دون أيّ أثرٍ لنهج فؤاد شهاب نفسه.
في مكمنٍ آخر، يبدو بعضُ المحطّات والأحداث منزوعًا من سياقه لدرجةٍ يصعب فهمُ المرحلة التاريخيّة التي يتحدّث عنها الكتاب، خصوصًا في ما يتعلّق بمرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيليّ لبيروت حتى تحرير صيدا من جيش الاحتلال عام 1985. لا تردُ في صفحات «الرّئاسة المقاوِمة» أيّ إشارةٍ للعمليّات التي قادها شبابٌ من أحزابٍ متعدّدةٍ ضدّ الجيش الإسرائيليّ عام 1982، ولا ذكْرَ للانسحاب الإسرائيليّ من العاصمة تحت وقع ضربات «جبهة المقاومة اللبنانيّة». حتّى في مرور المذكّرات على حقبة «صيدا المحرّرة»، يكتب الجميّل: «في 15 كانون الثاني/يناير 1985، أوصل إلينا رئيسُ الحكومة الإسرائيليّة (ليفي أشكول) الرسالةَ التالية: بأسفٍ شديدٍ، توصّلنا إلى اقتناعٍ بأنه قلّما نرى فرصًا لأنْ تكون الحكومةُ اللبنانيّةُ حرّةً في أن تطلقَ بنفسها في جنوب لبنان حدًّا أدنى من الترتيبات الأمنيّة، من شأنها أن تلبّي حاجتنا الحيويّة إلى الأمن. قرّرت الحكومةُ الإسرائيليّةُ اتخاذَ التدابير المستقبليّة على أساس هذه السياسة الجديدة لإجلاء جيشها عن لبنان، مع ضمان أمن حدودها الشماليّة. تقوم المرحلة الأولى من خطتنا على إخلاء مدينة صيدا...» (ص 241). وعلى الرغم من أهميّة هذه الرسالة كوثيقةٍ تفيد الباحثين في هذه الفترة، فإنّها تردُ في مذكّرات الجميّل مقطوعةً من سياق الأحداث والمقاومة الشعبيّة وضغوط بعض الأحزاب التي دفعت الإسرائيليّين إلى الانسحاب. بل إنّ ما يورده أشكول عن «غياب الترتيبات الأمنيّة وتلبية الحاجة الإسرائيليّة للأمن عند الحدود الشماليّة»، عباراتٌ لا تفسيرَ ولا صدى لها في كتاب الجميّل. كما أنّ الأخير حين يورد هذه الرسالةَ يذكر أنّها وردتْ إليه، من دون أن يحدّد القنواتِ أو الشخصيات التي نقلتْها! وفي هذا تغييبٌ لمعلومات سياسيّة مهمّة.
«الحقّ على الفلسطينيّين»
تحت عنوان «شرارة الحرب»، يكتب الجميّل «تخلّلت نهاية شتاء عام 1975 وربيعَه ثلاثةُ أحداثٍ حاسمة تُنبئ ببداية مرحلة جديدة من الحرب اللبنانية: اغتيال معروف سعد، عمليّة الخطف الفاشلة التي استهدفتْني، وأخيرًا حادثة بوسطة عين الرمّانة. من البديهيّ أنّ العمليّات الثلاث كانت معدّة بدراية لإثارة ردود فعل شعبيّة عنيفة وإغراق البلاد في الفوضى. في 26 شباط /فبراير، أُطلِقت النار على نائب صيدا سابقًا، السنّي معروف سعد... استغلّت مقتلَ هذا الزعيم الشعبي الجهاتُ نفسُها التي دبّرت مؤامرةَ الاغتيال، إذ وجّه الفلسطينيّون وحلفاؤهم المحلّيّون أصابع الاتّهام مباشرةً إلى الجيش اللبنانيّ» (ص 41).
في سياق نهج الجميّل «التأريخي» تتكرّر منذ الفصول الأولى عبارات الفخّ الفلسطيني، التّهديد الفلسطيني، إلخ، فبرأيه «فرضتْ منظمةُ التحرير «نظامَها». في بيروت والجبل، تكثّفت المعارك حول المخيّمات، ولا سيّما مخيّمات المتن» (ص 47). وفي موضعٍ آخر، يستعيد أدبيّات اليمين اللبنانيّ التي لم تخضع عنده للمراجعة، فنقرأ في (ص 52) «بلدة الدكوانة التي تُجاور مخيّم تلّ الزعتر على ساحل المتن، كانت أولى البلدات المتضرّرة، الضحيّة الأولى، مساحتُها التي قضمها التوسّعُ الديموغرافي الفلسطينيّ والطارئون من جنسيّات عدة، بمؤازرة تساهُل الدولة ولا مبالاتها أو عجزها، أجبرت كثيرين من أهاليها الأصليّين على النزوح». هنا أيضًا يأتي الخطابُ مسحوبًا من السياق السياسيّ والاقتصاديّ، فلا المجزرةُ ولا حصارُ المخيّم يتّخذان الحيّز المناسب لهما، ولا ذِكر كذلك للظروف الاقتصاديّة التي ساهمتْ في نزوح الأكثر فقرًا إلى محيط الدكوانة والمنصوريّة للعمل في ورَشها.
في مقابل «شرّ الغرباء» يبرز خطابُ «التميّز اللبنانيّ»، فبحسب الجميّل «هي أمّةٌ عريقةٌ ودولةٌ فتيّة نشأت عام 1920، ونحن نحتفل بمئويّتها هذا العام... هذه «الصيغة اللبنانيّة» كانت نتاجَ نوعًا من العبقريّة، ليس في إدارة تَوافقٍ مستحيل، بل في ابتكار آليّات متعدّدة من التسويات تتيح للّبنانيين تداركَ التصادم أو تفادي المأزق، وتحفظ لكلّ مكوّنٍ لبنانيّ خصوصيّاته على قاعدة الاعتراف بالآخر والاحترام المتبادل» (ص 13). وينسحب هذا التميّز حتى الحربِ الأهليّة التي يشاء الرئيس السابق شرحَها على الشكل الآتي: «منذ استقلاله، لم يعرف لبنانُ مثل هذا التمزّق في نسيجه الوطنيّ. فما الذي حصل إذًا كي يغرق فيه؟ بعيدًا من محاولة اختصار واقعٍ هو على هذا القدْر من التعقيد في بضعة أسطر، يجب القول إنّ نشوء دولة إسرائيل عام 1948، والاضطرابات التي هزّت منطقةَ الشرق الأوسط في ستينيّات القرن الماضي، ولاسيّما بعد بروز منظّمة التحرير الفلسطينيّة بعقيدتها الأيديولوجيّة المحارِبة والمناضلة وبالإمكانات الضخمة التي تمتلكها، كما انتشار العديد من الحركات الأصوليّة المتطرّفة والفاعلة، كلها عوامل استباحتْ أرض لبنان وحوّلته ساحةً شبْه حصريّة في نزاع يتخطّاه» (ص 14).
لبنان الذي يكتب عنه الجميّل يُعكّر تميّزَه بعضُ الحوادث الأليمة، كمقتل طوني فرنجيّة، إذ «توجّهتْ مجموعة من المقاتلين، المسلحين (معظمهم من الشمال) حيث كانوا يطالبون بتسليم قاتل رفيقٍ لهم من حزب الكتائب، وصودف وجود فرنجيّة وعائلته، فتم إطلاق نار عليهم». في رواية هذه الحادثة يبدو تنصّلُ حزب «الكتائب» بكوادره وقيادته من أيّ فعلٍ مشين، فحين تكون الجريمةُ ضدَّ الآخر، يصير الفاعل ضميرًا مستترًا، أما حين يصير الفعل واقعًا، فإنّ الجميّل يُذكّر بتمايزه. قبيل الاجتياح الإسرائيليّ للبنان، يذكر الجميّل أنه حذّر قياداتِ حزبه فتوجّهَ إليهم بالقول «يجب تحاشي رهن المستقبل. الجيش الاسرائيليّ سيسعى، بطريقةٍ أو بأخرى، إلى توريطنا في حربٍ ضدّ منظمة التحرير الفلسطينيّة، وسيكون ذلك مضرًّا جدًّا بحزبنا وبكلّ ما يمثّل.» (ص 67)، هذا الموقف الذي يبدو متقدّمًا، يفقد «صحّته» بالنّظر إلى الظروف التي سبقت الاجتياح، والعلاقات التي ربطتْ بعضَ أهمّ كوادر الحزب بالمسؤولين الاسرائيليّين، والأهمّ، أنّ الاجتياح لم يحصل فجأةً، إذ كان كتائبيّون كثرٌ، منهم آل الجميّل أنفسهم، على علمٍ بتحضيراته، غير أنّ المعطيات الأخيرة تغيب عن الكتاب.
«الرّئيس المقاوِم»
«أطلقتُ على عهدي شعار «مغامرة الإنقاذ» شعورًا منّي بأنّ مهمّتي مستحيلة، أو شبه مستحيلة على الأقلّ».
يتعلّق الجزءُ الأهمّ من الكتاب بتجربة الجميّل في رئاسة الجمهورية، وهي بالتحديد ما ينتظره القارئ. يقدّم الجميّل مسألة ترشيحه كأنّها مقتطعةٌ من قصّة تضحية: يتقبّل هو التّعازي بموت أخيه بشير، فيما نائبُ رئيس حزب «الكتائب» إميل كرامة يُعلن ترشيحَه، ليضيف أنه «أراد الحكومةَ الأولى في عهده حكومةً غير سياسيّة، يتمثّل فيها المجتمعُ المدنيّ وهيئاتُه الفاعلة» (ص 95)، من دون تبريرٍ لخياره هذا في ظلّ ظرفٍ خطيرٍ كانت خلاله البلادُ الغارقةُ في الحرب الأهلية تنزف تحت ضربات الجيش الإسرائيليّ الذي كان قد وصل إلى العاصمة بيروت!
يروي الجميّل تجربته الرئاسيّة بعيدًا عن وقائع الساحات اللبنانيّة. يبدو رئيسًا لدولةٍ بلا شعب، الحرب أشبهُ بخلفيّةٍ ضبابيّة، كالموسيقى التصويريّة المنخفضة جدًّا في مشاهد فيلمٍ سينمائيّ، تحتلّ «الجيوشُ الأجنبيّةُ» موقعَ الصدارة فيه. هذه الجيوش هي بشكل خاصّ هنا الجيشان السوريّ والاسرائيليّ اللّذان تحفل صفحاتُ الكتاب بعباراتٍ ومعالجاتٍ تبيّن مساواة الجميّل بينهما في شبه بوتقةٍ واحدة.
في الشقّ المتعلّق بالمفاوضات مع إسرائيل خلال عهد الجميّل، يؤكّد الأخير طلبَه من الموفد الأميركيّ فيليب حبيب نقلَ رسالةٍ إلى الرئيس الأميركيِّ حينها دونالد ريغان مفادُها أنّه لن يساوم على السيادة اللبنانيّة. لكنّ صفحات الكتاب اللاحقة لا تُثبت هذا الميلَ لديه، ولا تورد حجّةً مقنعةً للحاجة إلى تلك المفاوضات التي يربطها الجميّل بشكلٍ دائمٍ بزياراته المكّوكيّة إلى «الدول الصديقة»، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ويذكر أنه كان يراسل العاهلَ السعوديّ الراحل الملك فهد لإعلامه بمجريات الأحداث. يسعى الجميّل من خلال الصّفحات الطويلة المخصّصة للكتابة عن هذه المفاوضات إلى تبرير خياراته عبر تغييب الأحداث الأهمّ التي صنعتْ تلك المرحلة. في سرده للمفاوضات، يكتب عن العناد الإسرائيليّ، ويضيف «أعلمتْنا إسرائيل بوجوب الانصياع»، متجاهلًا مرّة أخرى المقاومة في وجه الإسرائيلي، فيكتب «لتأمين رحيل كلّ الجيوش الأجنبيّة كان الحلّ الوسط التمكّن من جمع الإسرائيليّين والسوريّين والفلسطينيّين حول طاولةٍ واحدةٍ وإجراء مفاوضات متزامنة»، ثم يقول «تملكّني قلقٌ شديدٌ لدى قراءة مَحاضر الاجتماعات التي كانت عُقدت بين بشير والمسؤولين الإسرائيليّين، أكّدت لي هذه المحاضرُ أنّ الدولة العبريّة سوف تطرح شروطًا هائلةً لانسحابها: ليس أقلّ من عقد اتفاق سلامٍ بحسب الأصول. ثم إنّ رئيس حكومتها مناحيم بيغن كان قد أفهم بشيرًا ذلك بوضوح في أيلول (سبتمبر) 1982، خلال اجتماع نهاريّا العاصف» (ص119)، ليضيف في مكان آخر أنّ آرييل شارون الذي كان يبحث عن انتصارٍ دبلوماسيّ «من دون علمي، شرَع في مباحثاتٍ سياسيّةٍ مع أحد المقرّبين مني، سامي مارون» (ص 120). و في ما يلي هذه المقدّمة، لن يجد القارئُ أسرارًا أو تفاصيلَ تتعلّق بالمسار الذي أدّى إلى اتفاق 17 أيار/ مايو، ولن يقع على البنود التفصيليّة لهذا الاتفاق.
أما عن العلاقة مع سورية، فتبرز في كتاب الجميّل إشكاليةُ التواصل معها والعداء لها. وإذا كان «الاتفاق الثلاثي» قد شكّل انعطافةً مهمّةً نحو تحالفات جديدة مع سورية، انعطافة قائد «القوّات اللبنانية» السابق إيلي حبيقة، فإنّ الجميّل يُشير إلى أنه قال للرئيس السوري السابق حافظ الأسد: «أنا غير موافق. هذا المشروع هو تعطيل للدولة، وهذا اقتناعي. بصفتي معنيًّا، ولا أستطيع الموافقة من دون العودة إلى المؤسسات الدستورية الشرعية». ليردّ الأسد: «هل هناك مؤسسات؟ نحن نطلب من فخامة الرئيس. في لبنان لا وجود للمؤسسات. لا درك للدولة ولا جيش، بل جيوش عدّة... بحسب معلوماتي، التيّار في لبنان تيّار السلْم ما عدا البعض في حزب الكتائب والقوّات اللبنانية التابعة لحزب الكتائب وبعض رجال الدين عند المسيحيّين والمسلمين. شيخ أمين، قد لا تتكرّر الفرصة الحالية، وكلما زاد الدم زاد الشرخ».
في المقابل، خلال ذكره المطوّل للقمم التي جمعتْه بحافظ الأسد، يكرّر الجميّل الحديث عن تدخّلات نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدّام في الشؤون اللبنانيّة وعدم ضبطه لحلفائه، وعلى رأسهم النائبُ السابق وليد جنبلاط. ومن اللافت للانتباه أنّ من بين العناوين التي يطرحها النظامُ السوريّ ويهاجمها الجميّل الدعوةُ لإلغاء الطائفيّة.
نهاية «الولاية الشاقّة»
تُعدّ نهايةُ ولايته من المحطات المهمّة. كانت الحرب الأهليّة تسير بعنفٍ شديدٍ نحو نهاياتٍ مفتوحة. عام 1988 ازداد الحضور الأميركيُّ في التفاصيل الرئاسيّة. في المقاطع المخصّصة لذاك العام، تتكثّف في سيرة الجميّل أسماءُ الموفدين الأميركيّين ووزراء الخارجيّة والسفراء والرسائل والتقارير الواردة من واشنطن، وكذلك تقارير السفير اللبنانيّ حينها عبد الله بو حبيب. في الكتاب حديثٌ عن الارتياح الأميركيّ الذي شكّل بدايةً لآفاق الانتخابات التي ستأتي بخلفٍ للجميّل، ثم حيرة الأخير أمام «تناقضات» الخيارات الأميركيّة، لجهة رفض مخائيل الضاهر للرئاسة، ثم القبول به كمرشّحٍ محتمَل. لكنّ أهم ما يرويه الجميّل الدعوةُ الأميركيّةُ له من أجل التنسيق في هذا الملفّ مع الحكّام في سورية. كانت تلك المرحلة مزدحمةً بأحداثٍ متقاطعةٍ ومتباعدة في آن. فيما كان الرئيس الراحل سليمان فرنجية مدعومًا من سورية، يكتب الجميّل «كنت قد حدّدتُ سلفًا مواصفات الذي أدعم ترشيحه، ناقشتُها مع جون كيلي (السفير الأميركي في بيروت حينها) قبل مغادرته. أوضحتُ له، في حضور إيلي سالم، أن ليس لديّ شخصيًّا أيّ مرشّح. جلّ ما يسعُني فعلُه اقتراح مواصفات المرشّح المثاليّ الذي يجمع بين الشجاعة والاعتدال والتعلّق بالسيادة الوطنيّة».
يُغرق الجميّل القارئَ في بعض التفاصيل ويقفز، كما في مختلف فصول كتابه، فوق وقائعَ وأحداثٍ مهمّة، ليصلَ إلى اختياره قائدَ الجيش السابق ميشال عون لتولّي إدارة البلاد بعدَه. عن هذا يكتب الجميّل «بعد ليلةٍ مضطربة، بزغ أخيرًا فجرُ 22 أيلول/ سبتمبر 1988، اليوم الأخير في الولاية الشاقّة. تناولتُ فطوري وحدي، منزويًا في مكتبي يتملّكني شعورٌ بقلق تشوبه المرارة. فيما عكفتُ على آخر عملٍ دستوريّ لي، هو تشكيل حكومة انتقاليّة... كان سليم الحص قد أبلغني عودته عن استقالة حكومةٍ ليس هو رئيسها الأصيل، بل وكالةً بعد اغتيال الرئيس المستقيل رشيد كرامي. انتحل الصفة رسميًّا خلافًا لأحكام الدستور، الأمر الذي لم يكن في وسعي القبول به. لذا، كان عليّ أن أشكّل حكومة جديدة... دقائق قبل انتصاف ليل 22 أيلول/ سبتمبر 1988، لحظة انتهاء ولايتي، وقّعتُ بمرارة كبيرة — إنّما مرتاحَ الضمير — آخر مرسوم رئاسيٍّ لي برقم 5387، ينصّ على تشكيل الحكومة الانتقاليّة برئاسة العماد عون. في الحال، أعربتْ معظم الحكومات العربيّة والأجنبيّة عن دعمها».
أحداثٌ عابرة ووثائق مهمّة!
بخفّةٍ شديدة، يعبّر الجميّل في كتابه عن الأحداث. غير أنّ المفاجأةَ الكبرى تكمن في الخفّة التي تناول فيها مسألة انهيار سعر صرف الليرة في عهده، والتي خصّص لها أقلّ من صفحةٍ واحدة، ربَطَها بشكلٍ رئيسيٍّ بالاجتياح الإسرائيليّ. وفي هذا الصدد يقول الجميّل «نتيجة تداعيات الاجتياح الإسرائيليّ للبنان سحبَت القيادة الفلسطينيّة في لبنان مئاتِ ملايين الدولارات من ودائعها الضخمة في لبنان خلال أسبوعٍ واحد، وأدّى هذا الانتقالُ المفاجئ والسريع، من دون تمكين الدولة اللبنانيّة من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتأمين مرحلةٍ انتقاليّةٍ أو بسدّ هذا الفراغ، إلى زعزعة الاقتصاد اللبنانيّ» (ص 236). ويضيف «بفضل السياسات الجريئة التي اتّبعناها في حينه، تمكنّا من استعادة الثقة ولجْم تدهور العملة اللبنانيّة»! (ص 237). وهذا تبريرٌ لا تسندُه الوقائعُ حينها نظرًا إلى تدنّي سعر صرف اللّيرة مقابل الدولار من 6 ليرات إلى 350 ليرة.
إضافة إلى ذلك، يضمّ كتابُ الجميّل مجموعةً من الوثائق والصوَر والمراسلات بينه وبين الرئاسة الأميركيّة، ووثائق أخرى صادرة عن الإسرائيليين، وكذلك مراسلات بينه وبين قيادات عربيّة، ومَحاضر اجتماعات، وبعض الرسائل المتبادلة بين الإسرائيليّين والأميركيّين حول اتفاق 17 أيار/ مايو، وإن كان من الصّعب أن يجد القارئ بينها أيّ أوراقٍ سريّة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.