ميشال دويهي
البدايات: «بيت الكهنة» 1
نهاية أربعينيّات القرن الماضي وبداية خمسينيّاته، شهد قضاء زغرتا، وخصوصًا مدينة زغرتا، فورةً كبيرةً
في النشاط الحزبي. ظهرتْ أحزابٌ متباينة العقائد منها «حزبُ التحرير اللبناني» الذي تأسّس عام 1949 ولم يعمّر سوى أربعة أعوام، و«الحزب الديمقراطي» الذي تأسّس عام 1950 واستمرّ عامًا واحدًا. أما «الحزب السوري القومي الاجتماعي» فبقي فاعلًا بحريّة حتى عشيّة محاولته الانقلابيّة الفاشلة عام 1961 والزجّ بالقسم الأكبر من كوادره في السّجن، ومنها قياداتٌ من زغرتا والجوار، وتعرُّض أعضائه للملاحقة، ما جعل الحزب ينكفئ في جميع الأراضي اللبنانية. ومن الأحزاب أيضًا، «الكتائب»، الذي لم يكن له أي وجود بالمعنى السياسي للكلمة.
مطلع الستينيّات، أصبحت زغرتا قضاءً خاليًا من أيّ نشاطٍ حزبيّ. لم يكن من السهل حينها بلورةُ أيّ عملٍ سياسيّ وسط أجواءٍ ما زالت فيها آثارُ «الحرب الأهلية بين العائلات السياسية» حاضرةً بقوّة في وجدان أبناء المدينة. أقامت كلّ عائلةٍ في حيّها الخاصّ، وانعدم تقريبًا التواصلُ بينها. وقبيل انتخابات 1964 بدأت زغرتا تخرج ببطء من هذا الوضع وسط كلامٍ عن «تحالفٍ» محتملٍ بين خصوم الأمس، خصوصًا بين آل فرنجية وآل دويهي. وهذا ما حصل. انضمّ الأب سمعان الدويهي إلى اللائحة المؤلّفة من سليمان فرنجية ورينيه معوّض. وبين ليلةٍ وضحاها، انقلبت الأجواءُ التي سادت طوال عقدٍ ونيّف رأسًا على عقب، وانفتحت الأحياءُ على بعضها البعض، وأصبح التّواصلُ بين الشباب العشرينيّ ممكنًا.
ترافقت الأجواءُ السياسيّةُ الجديدةُ مع أنشطةٍ ثقافيّةٍ تُوّجت بما سُمّي «مهرجانات إهدن السياحيّة». ترأّست المهرجاناتِ لجنةٌ ضمّت، إلى بعض «سيدات المجتمع»، الأبَ هكتور الدويهي الذي لعب دورًا كبيرًا في خلق أجواء ثقافيّة جديدة في زغرتا. وتجمّع حول اللّجنة شبابٌ من جميع العائلات الزغرتاويّة عملوا على توفير متطلّبات الزائرين. لقد كانت المهرجانات مناسبةً لالتقاء هؤلاء الشباب، ولو لمدّة قصيرة، والتعرّف إلى بعضهم البعض ضمن إطارٍ تنظيميّ، مشكّلين النواة الأولى التي تنبّهت كم تحتاج زغرتا إلى تغييرات.
بدأ الشباب بطرح تساؤلاتٍ عكستْ معاناةً كان يعبّر عنها الأهلُ صراحةً أو خفية، وتعبًا ممّا حلّ بالبلدة من اقتتالٍ بين العائلات: لمَ تعيش البيئات اللبنانية الأخرى حياةً خاليةً من العنف الذي يضرب بلدتهم دوريًّا، ويكون دائمًا على صلة بالصراع السياسي بين العائلات؟ لمَ غادر قسمٌ من الأسَر الزغرتاوية، التي قُدّر عددها مطلع الستينيّات بأربعمئة أسرة، البلدةَ واستقرّ في طرابلس سعيًا وراء تحصيل لقمة العيش أو هربًا من العنف؟ لمَ تراجعت زغرتا اقتصاديًّا بعد أن كانت منذ أواخر القرن التاسع عشر سوقًا أسبوعيّة يتردّد إليها أبناء بلدات القضاء وقراه لبيع منتوجاتهم وشراء ما يحتاجون إليه؟
مع الوقت، برزت الحاجة إلى مكانٍ يلتقي فيه الشباب، خصوصًا أنّ زغرتا خلَت من المقاهي الشبابية باستثناء تلك التي تمارَس فيها ألعاب الورق، إما للتسلية أو للمقامرة. لم يمضِ وقت طويل حتى تحقق ذلك. بدفعٍ من الأب الدويهي، تمّ تخصيص مكان في ملحقات كنيسة مار يوحنا في زغرتا سُمّي «بيت الكهنة»، هدفَ إلى جمع كهنة المدينة للعيش فيه في إجراءٍ جديدٍ على الطائفة المارونيّة، فالكاهن كان يعيش إمّا مع أهله أو في منزله إذا كان متزوّجًا. لقد سعى الأب الدويهي، بما يملك من ثقافة واسعة، إلى خلق جوّ في زغرتا يقوم على تعميم ثقافة السلام ومناهضة العصبيّات العائليّة التي أودت بحياة المئات، خصوصًا أن تلك الفترة شهدت حساسيّة سياسيّة جديدة بدأت تدخل إلى بعض أوساط الحركات المسيحية في لبنان، وربما العالم، كالحركة الاجتماعية التي أسَّسها المطران غريغوار حداد عام 1960، و«تجمُّع المسيحيين الملتزمين» و«الشبيبة الطالبية المسيحية»2. لم يتصدّ الأب الدويهي علنًا في مواقفه المتعلّقة بالتركيبة العشائرية، بل تبنّى حينها سياسةً مهادِنةً وحافظ، إلى حدٍّ ما، على علاقةٍ طيّبة بكافة زعامات المدينة سوف تتغير لاحقًا.
شيئًا فشيئًا، أصبح «بيتُ الكهنة» محورَ العديد من الأنشطة والاجتماعات التي كانت تُعقد كلّ يوم أحد وتتناول الأحداث والقضايا الطارئة. كما كانت تؤلَّف لجانٌ لحلّ بعض المسائل التي تتطلّب متابعةً ومعالجة. وكان قسمٌ من الشباب المنخرطين في هذه الاجتماعات والأنشطة قد بدأ في أواسط الستينيّات دراستَه الجامعية، بينما كان القسمُ الآخر يستعدّ لها. وقد التحَقَ القسم الأكبر منهم بـ«الجامعة اللبنانيّة»، وقسمٌ صغيرٌ بـ«الجامعة اليسوعيّة»، وناهز عدد هؤلاء العشرين. لقد دخل الطلاب إلى الجامعات متسلّحين إلى حدٍّ ما بتجربة العمل العامّ التي اكتسبوها من خلال مشاركتهم في أنشطة مدينتهم، وكذلك، والأهمّ، بوعيٍ نقديٍّ أوّلي ناجم عن التجربة الصعبة التي مرّت بها مدينتهم، وكذلك عن أشكال التصدّي لتحرّكاتهم التي قامت بها زعامات بعض العائلات وأزلامها. وقد برز التصدّي بالضغط الذي مارستْه هذه الزعامات على «بيت الكهنة» بإلغاء اجتماعات الشباب، وكذلك في انسحاب فئةٍ من الشباب وثيقةِ الارتباط بعصبيّتها العائليّة، وقد مورستْ عليها ضغوطٌ عائليّة. غير أنّ الشباب الباقين لم يرضخوا، واستمرّوا بممارسة نشاطهم، كما بقي «بيت الكهنة» فاتحًا أبوابَه لهم.
في هذه الأثناء، انتشرتْ شائعاتٌ طاولتْ أوّلًا الأبَ الدويهي، خصوصًا حول بعض مواقفه وسلوكيّاته ورعايته شبابًا ذوي ميول «يسارية ملحدة». وبدا أنّ حملةً منظّمة بدأتْ بالتبلور شاركت فيها، إضافةً إلى الزعامات العائليّة، البطريركيةُّ المارونية التي فرضت في النهاية إقفال «بيت الكهنة» أمام الشباب وترحيل الأب الدويهي وتعيينه كاهنًا لرعيّة في المكسيك. وبهذا، انتهت «مرحلة بيت الكهنة»، بيت الصرخات والنقاشات والمطالب والأنشطة، وتمّ القضاء على تجربة الستينيّات التي ضمّت شبابًا عاشوا مآسيَ حروب أهاليهم.
مقهى «حركة الشباب»
لم يستسلم شبابُ الحركة أمام هجوم زعامات العائلات للحدّ من توسّع ما وصفتْه بـ«اليسار»، وقد كان معظم هؤلاء الشباب، لاسيّما الجامعيّون، قد انتسبوا إمّا إلى «الحزب الشيوعي» أو «منظمة العمل الشيوعي». عملوا على إيجاد مكانٍ جديدٍ لعقد لقاءاتهم فاستأجروا بيتًا في زغرتا بمنطقة التلّ، التي شكّلت تاريخيًّا مكانًا للقاء جميع العائلات قبل اندلاع حروبها. في المقرّ الجديد تحرّر الشبابُ من الضوابط التي فرضها «بيتُ الكهنة» على تحرّكهم، فأعلنوا عن مواقفهم السياسية التي تمحورتْ في بداية السبعينيّات حول قضايا النظام السياسي وتغييره، ودعم القضية الفلسطينية، والإقطاع السياسيّ، تحديدًا في زغرتا، أي المسألة العائليّة بصفتها نظامًا متخلّفًا لا يُنتج سوى الصراعات. لقد تناول شبابُ الحركة هذه القضايا الأساسيّة في نقاشاتهم وسجالاتهم مع «شباب العائلات» الملتزمين بسياسة عائلاتهم والذين حاربوا لاحقًا شبابَ الحركة بدعمٍ من زعاماتهم.
غير أنّ الجانبَ السياسيَّ العامّ لم يشكّل النضالَ الأساسيَّ لشباب الحركة، إذ اهتمّ هؤلاء ببناء ثقافةٍ، بالمعنى الواسع للكلمة، مناهضةٍ للثقافة السائدة في مجتمعهم، أيْ ثقافة «الشخصيّة الزغرتاوية»، وثقافة البطولة والرجولة، والنزعة العائليّة ككيانٍ يختصر هويّة الفرد، والتعامل مع بلدات قضاء الزاوية بنوعٍ من التعالي، ومع أقضية أخرى، كقضاءَي الكورة والبترون، بما هي أمكنة مسموح فيها للزغرتاويّ بفرض إرادته. وأخيرًا، ثقافة تنظر إلى الدولة وأجهزتها ككيان لا يدخل زغرتا إلا بالتراضي عبر منافذَ سابقة على الدولة.
اعتبر الشبابُ أنّ خروج زغرتا من هذا الواقع يبدأ بكسر التقوقع الذي يأسر الأفراد في انتماءاتٍ أوّلية ضيّقة. وسَعت الحركة إلى تحقيق هذه المهمّة محلّيًّا تاركةً العمل الحزبي بمعناه الضيّق، أيْ النشاط الذي تتحكّم به السياسات الحزبيّة، سواء من شيوعيّي شباب الحركة أو من الذين ينتمون إلى «منظمة العمل الشيوعي»، متوجّهةً إلى الأنشطة داخل الجامعات كالمشاركة في الانتخابات والتظاهرات وغيرها.
الصراع مع العائلات السياسيّة
منذ نشوء «حركة الشباب»، تنبّهت «العائلاتُ السياسية» إلى تحرّكاتها وخطورتها، خصوصًا أنّ الحركة تميّزت بتعدّد اهتماماتها وانخراطها في جميع الأنشطة في زغرتا، خلافًا لما عرفتْه البلدةُ مع جمعيّات وأحزابٍ سابقة. وجاء هذا التنبّه بسبب بعض الأفكار الجديدة للشباب، حتى قبل انتساب بعضهم إلى الأحزاب وتحديدًا اليساريّة منها. وقد دفع طغيانُ الأنشطةِ المختلفةِ التي نظّمها ونفذّها شبابُ الحركة العائلاتِ السياسيّةَ إلى إشراك شبابِها بكثرةٍ في تلك الأنشطة كي لا يُنظر إلى الحدث على أنه مقتصرٌ على الحركة، لذا حملت العائلات السياسيّة شعارَ «لا تتركوا الساحة خاليةً لشباب الحركة في أيّ مناسبة». وقد تحوّلت تلك المشاركةُ أحيانًا إلى مشاحنات.
ومع تصاعد الصّدام، وللوقوف في وجه المعركة التي أعلنها شبابُ الحركة على البنية السياسيّة القائمة وثقافتها، شنّت العائلاتُ السياسيةُّ حربًا عليهم ركّزت فيها على مسائل ثلاث أوّلُها الانحلال الأخلاقيّ. لقد سرَت شائعات أن مقرّ الحركة مكانٌ للقاء شبّانٍ وشابّات في غرفٍ شبه مغلقة. إثر ذلك، وبعد ضغوطٍ كبيرة مارسها بعض الأهل على بناتهم، وبعد الاتفاق مع الشابّات، اتّخذ شبابُ الحركة قرارًا بعدم تردّد أي فتاةٍ على مقرّ الحركة. كما اتّهمت العائلاتُ شبابَ الحركة بالعمالة لقوى خارجية تسعى إلى استبدال الثقافة اللبنانيّة، وعلى رأسها الثقافة المارونيّة، بثقافةٍ هي خليط من العروبة واليساريّة. كما اتّهمت الشبابَ بتلقّي تمويلٍ من الأحزاب اليساريّة اللبنانيّة، وتحديدًا من كمال جنبلاط، لتحقيق تلك الأهداف. إلى ذلك، اتّهمت العائلاتُ الشبابَ بالكفر والإلحاد، (وهي لازمةٌ طاولت جميع التنظيمات اليسارية في الأقضية موضوع دراستنا). وكان دليلُ العائلات وأجهزتها الدعائيّة على إلحاد الشباب عدمَ قيامهم بواجباتهم الدينيّة، الأمر الذي لم يقتصر على الشباب وحدهم، إذ إنّ غالبيّةَ مَن هم في جيلهم كانوا يتقاعسون عن القيام بتلك الواجبات. صحيحٌ أنّ موقف حركة الشباب كان ناقدًا للكنيسة المارونيّة ولرؤيتها للقضايا الاجتماعيّة والسياسيّة وتخلّف مقارباتها في معالجة الكثير من المشاكل، غير أنّ هذه المواقفَ ليست ما أثار حفيظة العائلات السياسيّة، فموقف العديد ممّن ينتمون إلى تلك العائلات شبيهٌ إلى حدٍّ بعيد بموقف شباب الحركة3، الأمر الذي يبيّن أنّ هدف العائلات كان محاصرةَ الشباب، لا الدفاعَ عن الكنيسة.
ويبدو أنّ وسائل العائلات لم تستطع الوقوف في وجه التوسُّع المطّرد الذي كانت تشهده هذه الحركةُ، إذ قارب عددُ الحزبيين اليساريّين مثلًا عشيّة الحرب الأهليّة عام 1975 الستين عضوًا. وبعد فشل «الحرب النفسيّة»، اعتمدت العائلات أسلوبَ إنشاء نوادٍ وروابط تقوم بأنشطة شبيهة بأنشطة «حركة الشباب»، ظنًّا منها أنها بذلك تحاصر الحركةَ واحتكارَها، إن جاز التعبير، للحيّز العام، وبالتالي تمنع بعض الشبيبة من الانخراط في أنشطتها4. ومن أولى العائلات التي اعتمدت هذا الأسلوب كانت عائلة فرنجيّة التي أنشأتْ «النادي الاجتماعي»، الذي ركّز على أنشطةٍ منها: دعوة شخصيّات إلى إلقاء محاضرات في مواضيعَ تنسجم وتوجُّه زعامة العائلة، وإنشاء فريق كرة سلّة مقابل ذاك التابع لحركة الشباب. كذلك فعلت عائلةُ معوّض التي أنشأتْ «نادي الطلاب». كما أسس بعضُ شباب آل الدويهي «رابطة البطريرك أسطفان الدويهي». وقد اشتدّ التنافس بين هذه الأندية و«حركة الشباب»، واتّخذ أحيانًا طابعًا حادًّا لا يخلو من العنف الكلامي ولا يتخطّاه بسبب توازناتٍ دقيقة بين «العائلات السياسيّة».
أذواق بيروت إلى زغرتا
بحكْم تواجد قسمٍ كبيرٍ من شباب الحركة في جامعات بيروت ومشاركتهم في أنشطتها، وأحيانًا خارجها، سواء الأنشطة الفكرية أو السينمائية أو الشعرية، حاول الشباب نقل ما استطاعوا من هذه الأنشطة إلى مقرّ الحركة في زغرتا، وخلال فصل الصيف في إهدن. أقاموا سهراتٍ راقصة في كلّ المناسبات والأعياد. وخلال الصيف، نظّموا «رالي بيبر»، كما شكّلوا فريق كرة سلة كان الأوّل من نوعه في زغرتا. وفي «بيت الحركة» أقاموا مختبرًا للتصوير الفوتوغرافي هدَفَ إلى تصوير الأمكنة القديمة في زغرتا وإهدن التي كانت تتعرّض تدريجيًّا للزوال.
وبحكم اختصاصاتهم الجامعيّة المختلفة واطّلاعهم على ما كان يجري في الغرب، وتحديدًا فرنسا التي كانت لا تزال تعيش أجواء أيّار/ مايو 1968، كان من الطبيعي أن تتشكّل لديهم أذواقٌ يساريّةُ الطابع، أو هذا ما اعتقده الشباب. على صعيد الأغاني العربيّة، تأثروا بالشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم، وبأغاني مارسيل خليفة التي كان ينتمي القسمُ الأكبرُ من مؤلّفيها إلى ما سُمّي بـ«شعراء الجنوب» الذين غلب على انتمائهم السياسي الطابعُ اليساريّ. وقد شكّلت هذه الأغاني زادَ الشباب فحملوه معهم إلى سهراتهم.
لقد صبّ هذا النمط بمضمونه في السيرورة نفسها التي تبنّاها شبابُ الحركة على أكثر من صعيد، وهي سيرورةٌ كانت تحاول بناء عالمٍ يُعتبر بكل دلالاته خروجًا على الأهل، وبالدرجة الأولى لما وصفه الأخوان رحباني والعالم المتوهَّم وغير الحقيقي الذي شيَّداه5. لوحة مؤلّفة من قَصة الشعر واللحية وسيجارة «الجيتان» والأغاني والكلام الجديد، ثمّ تشي غيفارا، أيقونة اليسار على الصعيد العالمي، التي أتتْ من أقاصي أميركا اللاتينية، وأيقونة اليسار اللبناني وبالتالي «حركة الشباب الزغرتاوي». وقد ربط الشباب ما يجري في جامعات بيروت، تحديدًا في الأوساط اليساريّة، بمنطقتهم، وكان همّهم نقل السلوكيّات والأذواق الجديدة إلى بيئة تتمسّك بأعرافٍ وتقاليدَ وعصبيّات أدّتْ إلى حروبٍ أهليّة متناسلة.
والحال هذه، كان من الطبيعيّ ألّا يهادن شباب الحركة طبيعةَ البنية السياسية التي تتحكّم بعقليّة سكان تلك المنطقة. لذا لم يكن أمام الشباب سوى مواجهة هذا الواقع، سواء على صعيد مراقبة العمل البلدي، أو على صعيد التحاور مع الزعامات السياسيّة من موقع المحاسبة، أو على صعيد نقد الروايات التاريخية التي تشكّل وجدان أهل زغرتا.
«سيجارة الحزب»
إلى جانب الصراع مع العائلات السياسيّة آنفةِ الذكْر، تصارع الشبابُ مع الأهل الذين تأثّر معظمهم بالشحن الذي ساد ضدّ أبنائهم. لذا، بدأ بعض الشباب يتراجعون ظاهريًّا، فلم يعودوا يشاركون في لقاءات «بيت الحركة»، ولكن ظلّوا يشاركون في بيروت على الصعيد الجامعي، في النضالات ضمن صفوف الأحزاب التي انضوَوا فيها (الحزب الشيوعي ومنظمة العمل) أو تعاطفوا معها.
ولم يقتصر الصراع مع الأهل على الشقّ السياسيّ والنضالي، فالتّحولات الثقافية وما صدّره الشباب من بيروت إلى زغرتا من سلوكيّات وعادات وأذواق، شكّلت محطّةً أساسيّةً في هذا الصراع. إذ بدأ الأهل بتوجيه ملاحظات تحوّلت أحيانًا إلى نقدٍ لاذعٍ لشكل الشباب الجديد، على صعيد الزيّ وقَصّة الشعر وترك اللحية والشاربين اللذين تخلّى عنهما الأهلُ منذ زمن. لقد رأى الأهل في اختلاف الأشكال هذا انتماءً إلى ثقافةٍ مغايرة لثقافتهم، وخروجًا على تقاليد وأعراف راسخة شكّلت هويّتهم، واعتبروا أنّ هذا المظهر والسلوك يعنيان انتماءً يساريًّا.
وقد أتى تدخين الشباب للسجائر، وتحديدًا من نوع «الجيتان»، ليزيد من حدّة الصراع. لقد استرعى «الجيتان» انتباهَ أهالي زغرتا الذين لم يكن أيٌّ منهم يدخّن هذا النوع. وبالتالي، أصبحت سيجارة «الجيتان» مرادفةً لشباب الحركة، فصارت تُسمّى «سيجارة الحزب».
العمل البلدي مرآة توازنات «العائلات السياسيّة»
من الطبيعيّ أن تعكس تركيبةُ المجلس البلدي خلال هذه الفترة التوازنات القائمة بين «العائلات السياسيّة». لذا، كانت هناك دائمًا حصّةٌ للعائلات التي تحتكر السلطة، وبالتالي التمثيلَ السياسيَّ في قضاء زغرتا الزاوية منذ أواخر العشرينيّات، وهي: آل فرنجيّة وآل معوّض وآل دويهي وآل كرم وآل مكاري. وكانت لآل فرنجية الكلمةُ الراجحةُ في تركيبة المجلس البلدي. لذا، عمل المجلس بولاءات من يحتلّون فيه المقاعد والذين كان كلٌّ منهم يخدم مصالح «عائلته السياسيّة».
أفقدتْ هذه التركبيةُ المجلسَ البلديّ أي سلطة مباشرة على الناس. وفي كلّ مرة حاول فرض تدبيرٍ ما أو اتّخاذ قرارٍ ما يتعلق بشؤون المدينة كان عليه اللّجوء إلى زعامات العائلات، ما أدّى إلى تحوّل المجلس إلى جسم تابع لسلطةٍ خارجةٍ عنه. كما أنّ كلّ خلافٍ كان يقع بين الزعامات السياسية، كان ينعكس داخلَه فتتعطّل الأعمال لفتراتٍ قد تصل إلى أشهر.
وقد حاولت «حركةُ الشباب» التصدّي لهذا الوضع الذي ساد خلال فترة الستينيّات وقسمٍ من السبعينيّات، أوّلًا عبر الاتصال بأعضاء المجلس البلدي الذين غالبًا ما برّروا ضعفَ سلطتهم في تنفيذ ما يتّفقون عليه بما سمّوه «شخصيّة الزغرتاوي» الذي لا ينصاع للقرارات التي يتّخذها المجلس. ويومًا بعد يوم، أسهمت المعركة مع المجلس البلديّ ببلورة وعيٍ لدى شباب الحركة بيّن لهم أنّ المشكلة الفعليّة لا تكمن في المجلس أو رئيسه أو أعضائه، بل مردّها بالدرجة الأولى إلى البنية السياسية المتحكّمة بمفاصل الحياة الاجتماعية والثقافية. بناءً على تجربة شباب الحركة، وبعدما كانت الشعاراتُ في بدايات تحرّكهم موجّهةً ضد المجلس البلدي، أصبحت في ما بعد «ارفعوا يد العائلية عن المجلس البلدي». وبما أنّ هذا الشعار شكّل حربًا مفتوحةً ضدّ كل ما تمثّله إفرازات هذه العائليّة، لم تقف الزعامات مكتوفة الأيدي، بل استعملت جميع أسلحتها منها، كما أسلفنا، اتّهامهم بالإلحاد والتبعيّة لقوى خارجيّة وتلقّي مساعدات من هنا وهناك. وقد طرحت هذه الأجواء للمرّة الأولى فكرة خوض معركة العمل البلدي حتى وإن كانت حظوظ نجاح الشباب ضئيلة. جرت محاولات لكن لم يُكتب لها النجاح.
إلى ذلك، وفي إطار متابعة شباب الحركة لمختلف القضايا التي تهمّ مدينتهم، راحوا يحاولون الاتصال بزعامات المدينة، وخاصة الوزراء، كسليمان فرنجية قبل انتخابه رئيسًا للجمهوريّة عام 1970، أو رينيه معوّض، النائب ثم الوزير، وأحيانًا بالأب سمعان الدويهي الذي انتُخب نائبًا في 1964 للمرة الأولى.
طرابلس: جزء من زغرتا
خلال الستينيّات شكَتْ زغرتا من نقصٍ على كافة الصعُد نتيجة الحروب الأهلية التي أدّت إلى مغادرة مئات من أسَرها إلى طرابلس. ولم يقتصر الأمر على هذه الأسر، إذ إنّ زعامات زغرتا استقرّت هي أيضًا هناك. باختصار، كلُّ من استطاع مغادرة زغرتا لم يتوانَ عن فعل ذلك6.
إزاء هذه الحالة، شهدتْ مدينة زغرتا تراجعًا على الصعيد الاقتصاديّ. وإذا استثنينا المنتَجين الزراعيَّين الأساسيين، أي الزيتون والزيت من جهة، والتفاح من جهة أخرى- بدأت زراعة تفاح الغولدن والستاركن أواخر الأربعينيّات اللذين استمرّا بدعم ميزانيّات الأسَر إلى حدٍّ بعيد7، فإن القطاعات الاقتصاديّة الأخرى بدأتْ تعاني من تراجعٍ ملحوظ منذ بداية الخمسينيّات، وذلك بعد الازدهار الكبير الذي عرفتْه المدينة بدءًا من السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر يوم تمّ تعيينها «بندرًا»، أي سوقًا أسبوعيّة، يتردد إليها ساكنو البلدات والقرى المحيطة بزغرتا لشراء حاجاتها، خصوصًا المنتجات الحرَفيّة التي ازدهرت ازدهارًا كبيرًا بسبب هذا «البندر». وقد تعثّرت هذه الديناميّة بدليل التراجع الكبير الذي شهده تحديدًا الإنتاجُ الحرفيّ على أنواعه بدءًا من الخمسينيّات8.
بالطبع لا يمكننا حصر التعثُّر بالوضع الذي كانت تعيشه زغرتا حينها، أي الحرب الأهليّة بين العائلات، ذلك أنّ تحوّلًا كبيرًا طاول الإنتاج الحرَفي، أو بكلام آخر الحرفة بذاتها، لصالح ما بدأ يسمّى باللباس الجاهز. لكن في ما يخصّ التعثّر الخاص بزغرتا، فالواضح أن سرعة ومدى تأثّر تراجع الإنتاج الحرفي كانتا أكبر بسبب الوضع الزغرتاوي يومذاك. وكان من الطبيعي أيضًا أن تتحوّل طرابلس، بالإضافة إلى مكان سكنٍ لقسم من الزغرتاويّين، إلى مصدر تموينٍ للقسم الأكبر من حاجاتهم. وقد واكب تراكمُ الصراعات العائليّة وما آلتْ إليه من تدهورٍ على الصعيد الاقتصادي حركة هجرة واسعة بدأت في الخمسينيّات واستمرّت طوال الستينيّات9، وطاولت، كالمعهود، فئة الشباب. وفي غياب أمكنة لقاء وتسلية، كان من الطبيعي أن تتحوّل طرابلس أيضًا إلى المكان الذي يؤمّه شبابُ زغرتا لمشاهدة فيلم سينمائي، أو تمضية بعض الوقت في أحد المقاهي10. بناءً عليه، يمكن القول إنّ الحياة الاجتماعيّة في زغرتا كانت تتلاشى، وإن طرابلس أصبحتْ، إذا جاز التعبير، جزءًا لا يتجزّأ من زغرتا على صعيد مختلف، كتأمين حاجاتها وأماكن اللهو فيها.
وفي الشأن الطبّيّ، افتقرت زغرتا كذلك إلى الكثير من الخدمات، إذ حوَت مستوصفًا واحدًا في أحد ملحقات كنيسة مار يوحنا، قدّم خدماتٍ أولية جدًّا. كما لم يكن في زغرتا من الأطبّاء سوى طبيب أسنانٍ واحدٍ، وصيدليّة واحدة. وبالطبع لم تحوِ المدينة مستشفى، فلجأ الزغرتاويّون إلى طرابلس للعلاج. أما على الصعيد التربوي فلم يتمّ افتتاح ثانوية في زغرتا حتى أواسط الستينيات في منزلٍ تم استئجاره في أحد أحياء المدينة، لذا التحق قبل ذلك عددٌ قليلٌ من التلامذة الزغرتاويّين الراغبين بإكمال دراستهم بثانويات طرابلس ريثما يتم افتتاح ثانويّة في مدينتهم.
الانفتاح على «طرابلس أخرى»
إنّ الهدف من الكلام عن هذه العلاقة «الوظيفية» التي لعبتْها مدينة طرابلس بالنسبة لمدينة زغرتا بدءًا من الخمسينيّات هو تبيانُ الاختلاف الذي أوجدتْه «حركةُ الشباب» في علاقتها مع عاصمة الشمال في ما يتجاوز العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، إلى العلاقات السياسيّة11. فبالإضافة إلى العلاقة التنظيميّة التي ربطتْ شباب الحركة من الحزبيّين، شيوعيّين ومنظّمة عمل شيوعي، بمقرَّي تنظيمهما في طرابلس، وما تمليه هذه العلاقة من مشاركة بعددٍ من الأنشطة، كان شباب الحركة يتحرّكون في علاقاتهم بمدينة طرابلس بحرّية خارج تنظيمهم الحزبي. وقد طاول هذا التحرّك مجالاتٍ عديدة كانت غائبة كليًّا عمّا كان يعيشه الزغرتاوي الآخر في المدينة. وقد شكّلت طرابلس بالنسبة لشباب الحركة مسرحًا يشتمل على أنشطةٍ متعدّدة كالندوات السياسية، والندوات ذات الطابع التربوي، خاصة المتعلقة بقضايا «الجامعة اللبنانية»، وكانت أهمّ القضايا المطروحة خلال الستينيات قضيّة ديمقراطيّة التعليم وتعريب المناهج.
كما أنّ شباب الحركة شاركوا في المعارض التي أقيمت في طرابلس، خصوصًا معرض الكتاب الذي كان يقام سنويًّا في «النادي الثقافي». ومعارض الرسم التي أقيمت كذلك في «النادي الثقافي». هذا بالإضافة إلى نادي السينما Ciné-Club الذي شارك في تأسيسه الأب هكتور الدويهي، وكان يُديره بعض مثقّفي الحزب الشيوعي في طرابلس.
في المقابل، كانت هناك زغرتا أخرى تتشكّل في طرابلس مع تصاعد الصراع بين السلطة اللبنانيّة من جهة والقوى اليساريّة والقوميّة الداعمة للمقاومة الفلسطينيّة من جهة أخرى. وقد تجسّدت زغرتا هذه للمرة الأولى في تاريخ العلاقة بين المدينتين بتنظيم تظاهرة في قلب طرابلس عام 1973 دعمًا للجيش اللبناني إثر المعارك بينه وبين المقاومة الفلسطينية في نيسان/ أبريل 1973. أن تسيرَ في شوارع طرابلس تظاهرةٌ تضمّ طلابَ مدارس الإرساليّات الأجنبية، خصوصًا «مدرسة الفرير» و«مدرسة الطليان»، بحماية مسلّحة من زغرتاويين، مشهدٌ غير مسبوق ترك كبيرَ الأثرِ في خلخلة العلاقة بين المدينتين، ومشهدٌ لم يتأخّر بأن يؤدّي، مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، إلى حرب بين المدينتين. غير أنّ «حركة الشباب» اتّخذت موقفًا متعاطفًا مع أهل المدينة، انسجامًا مع موقف القوى اليسارية بشكل عامّ. وفي هذا السياق، بدأت تدريباتٌ عسكريّةٌ من جانب القوى المتصارعة في لبنان، فالتحق بعض شباب الحركة بمعسكرات تدريب في مخيّم نهر البارد على غرار العديد من المنظمات اليسارية والقوميّة في شمال لبنان. في المقابل، أنشأت زعامة آل فرنجية خلال الفترة نفسها مخيّمًا للتدريب في قرية بنشْعي بقضاء زغرتا.
الانفتاح على أقضية الشمال
لم يقتصر انفتاح شباب الحركة على مدينة طرابلس، وإن كان الانفتاحَ الأوسعَ والأهمّ. فبسبب تجربتهم المتجاوزة للعمل الحزبي بمعناه الضيّق، شكّلت «حركةُ الشباب» بالنسبة للتنظيمات اليسارية الناشئة في بعض المناطق الشمالية نموذجًا كان اعتماده مفيدًا للخروج من الأطر التقليديّة التي اعتمدها اليسارُ تاريخيًّا في عمله السياسيّ. وقد ساعدهم في ذلك الوضعُ الخاصّ بزغرتا التي كانت بحاجة إلى «نهضة» تزيل عنها تجربة دمويّة، وكذلك اهتماماتهم الثقافية والفكرية التي اكتسبوها من خلال التزامهم الحزبيّ من جهة، واختصاصاتهم الجامعية ومتابعتهم للفنون على أنواعها من جهة ثانية.
دفعت هذه التجربةُ المتنوّعةُ قيادتَي «الحزب الشيوعي» و«منظمة العمل الشيوعي» في شمال لبنان إلى تكليف بعض شباب الحركة للقيام بمهمّات خارج منطقة زغرتا. منها مهمّات ذات طابع حزبيّ محض تتناول قضايا تثقيفيّة تتعلّق بالفكر الماركسي عمومًا، وكانت تُعقد هذه الحلقات في بعض مناطق قضاء البترون وعكار وبشرّي. إضافة إلى ذلك، كان شباب الحركة المكلّفون بهذه المهمات ينقلون تجربتهم في زغرتا، خاصةً في الجوانب التي تتجاوز العمل الحزبيّ بمعناه التقليدي، والانفتاح على أنشطة متعدّدة تصبّ في بناء ثقافة متكاملة غير تلك السائدة.
الانتخابات النيابية
شكّلت الانتخابات النيابية، وتحديدًا انتخابات 1968 و1972، فرصةً للتداول بشأنها واتخاذ موقف منها. في انتخابات 1968 كان موقف اليسار على الصعيد الوطني تأييد المرشحين القريبين مما كان يسمى «النهج»12. وكان المرشح الوحيد القريب من هذا التيار في قضاء زغرتا رينيه معوض، فيما كان المرشّحون الباقون، سليمان فرنجية والأب سمعان الدويهي وأسعد كرم وسيمون بولس أقرب إلى التيار المنافس والمُسمّى «الحلف»13. لم يشارك شبابُ الحركة في تلك الانتخابات التي كان من المفترض أن يؤيّدوا فيها رينيه معوّض انسجامًا مع موقف اليسار على الصعيد الوطني. وقد امتنعوا عن انتخابه لكونه زعيم «عائلة سياسية»، أي أنه ينتمي إلى «الإقطاع السياسي» كغيره من المرشحين14. أما في انتخابات 1972 فقد تبنّى الشبابُ موقفًا واضحًا مؤيّدًا للمرشّح قبلان فرنجية، إذ رأى الشباب في ترشُّحه ظاهرةً جديدةً في تاريخ «العائلات السياسية» في زغرتا: ترشُّح شخصين من بيت الزعامة نفسه. وقد اعتبروا أنّ تأييدهم لقبلان يُضعف السطوةَ التي تمارسها عائلة فرنجية على الحياة السياسية في زغرتا وقضائها، وبالتالي يُسهم بتفسُّخ هذه العائلة وسائر العائلات الأخرى.
لم يكن الهمّ الأساسيّ لشباب الحركة الترشُّح أو تأييد مرشّح ضدّ آخر أو لائحة ضدّ أخرى، بل فتْح نقاشات حول الحياة السياسية في لبنان، ومن مَحاورها الأساسيّة الانتخاباتُ النيابية. لذا، نظّموا خلال انتخابات 1972 ندواتٍ تناولت تاريخ الانتخابات النيابية في قضاء زغرتا والصراعات والتحالفات التي رافقت هذه الانتخابات. وقد شدّدوا في تلك الندوات على نقطةٍ مركزيّةٍ هي غيابُ «الكلام السياسي» من قِبل المرشحين. وقد دفع هذا الغياب الشبابَ إلى الطلب من جميع المرشّحين عرضَ برامجهم في «بيت الحركة». لم يلبِّ الدعوة سوى المرشّح سيمون بولس وأسعد كرم، بينما رفض الباقون ذلك.
«المجلة»
بعد انتقالهم من «بيت الكهنة» وإقامتهم في مقرٍّ خاص، قرّر شباب الحركة إصدار مجلة لهم، فكانت «المجلّة». في صفحات «المجلّة»، أبدوا آراءهم بالأحداث التي تشهدها زغرتا، سواء تلك المتعلّقة بنشاطٍ تقوم به البلدية، أو آخر تقوم به الجمعيات التابعة لـ«العائلات السياسية»، أو الردّ على الهجوم الذي يتعرّض له الشباب من قبل أشخاصٍ تابعين لتلك العائلات. كما حاول شبابُ الحركة من خلال «المجلّة» إرساءَ قراءة جديدة، وفي أحيان كثيرة، مغايرة، للسائد من الروايات حول تاريخ زغرتا وتاريخ بعض أحداثها المهمة. بالإضافة إلى تاريخ شخصياتها في القرنين التاسع عشر والعشرين، كيوسف بك كرم، الذي لعب أدوارًا بارزة خلال أكثر من عقد في أواسط القرن التاسع عشر. وقد حاول شبابُ الحركة إعادةَ قراءة شخصية كرم، الذي يعتبره أهل زغرتا قدّيسًا، من منظارٍ علميّ أكثر وذلك في بعض المقالات السريعة وأحيانًا المتسرّعة. ولم يكن الهدف من تناول شخصية كرم الحطَّ من شأنه، وهو في كلّ حال شأنٌ عظيمٌ خلال مرحلة معيّنة، بل التخفيف من سطوته ماضيًا وحاضرًا على مفاصل الحياة اليومية في زغرتا، وبالتالي التحرُّر من صورته واعتباره أيقونة.
كما روى شبابُ الحركة في «المجلّة» قصةَ صعود زعامة آل فرنجية في أواسط العشرينيات، وبداية تراجع زعامة آل كرم التي كانت الزعامةَ الوحيدةَ لحقبة طويلة. فضلًا عن ذلك، تناولت كتاباتُ «المجلة» بعضَ المعارك الانتخابية في قضاء زغرتا، خصوصًا معركة عام 1951. ومن موضوعات «المجلة» أيضًا موضوع مشاركة الزغرتاويين بما أُطلق عليه «معركة الضنّية» عام 1925، أي في إطار ما يسمّى «الثورة العربية الكبرى» ضد الفرنسيين في لبنان وسورية. بدعم من الفرنسيين شارك الزغرتاويون في هذه المعركة ضد «الثوار» في منطقة الضنّية. وكان الهدف أيضًا من تناول هذا الموضوع معرفة ملابسات هذه المشاركة.
أستاذ العلوم السياسيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت و باحثٌ سياسيّ. المقالة المنشورة جزء مترجَم ومعدّل من أحد فصول أطروحته بعنوان «تاريخ الأحزاب السياسية في أقضية زغرتا وبشرّي والبترون بين عامَي 1943 و1978»
bid_SH_Zakira.bmp
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.