جنى طرابلسي
هناك أشياء لا نفهمها إلا عندما يعيشها الجسد. بين تلك الأشياءُ، العبَث.
في يومٍ من أيّام العام ٢٠٠٥ كنتُ في شارع «مونو» ببيروت مع صديقة لي نشرب نبيذًا من الكاس الأبيض (أحتفظ بزلّة اللسان هذه عن قصد) في منزلٍ قديمٍ تحوّل إلى مقهى، وفي الخلفيّة تصدح موسيقى الجاز. لعلّنا كنا نتحدّث عن قصص حبّنا. ليست هذه اللحظة، لحظة الانفجار، هي اللحظة العبثية، إنما اللحظة التي أعقبتها، عندما عاد الصمت فيما الموسيقى مستمرّة، عندما رجع صدى آخر كلماتٍ تلفّظنا بها في داخلنا، ولكن دون أن يكون لها معنى، عندما بقي النبيذ في مكانه، أو على الأقلّ كرسيّ الكأس، فيما اختفى زجاج النوافذ، لم يعد موجودًا، ولا الكراسي، مع أنّ البلاط كان لا يزال جميلًا. رغم كلّ شيء.
اللحظة!
لا يهمّ كثيرًا في هذه الحكاية عن أيِّ انفجارٍ نتحدّث. وقع من الانفجارات الكثيرُ الكثير، الأسوأ من الانفجار هي اللحظةُ التي تسبقه أو تلك التي تعقبه، لا اللحظة ذاتها أبدًا. إنّها اللحظة التي نشعر فيها فجأةً بما جرى، مع أنه لم يجرِ شيء. أو هي لحظة القلق العميق المبثوثة في الحالة العاديّة، التي ننتظر خلالها بنفاد صبرٍ اللحظةَ التالية، لحظةَ الخلاص التي تعقب الانفجار. (لحظة انفجار القذيفة خلال الحرب أو السيارة المفخخة خلال حقبة مسلسلات الاغتيالات الدموية) إنّه الخوف الذي يمتلكنا، خوف التساؤل أين سيكون جسدُنا عندما ينفجر كلّ شيء، أيُّ جزءٍ من جسدنا سيموت، أي عضوٍ سنفقد، فيصير شاهدنا على هذه اللحظة... من سيجرح، كيف وإلى أيّ مقدارٍ من الشجاعة نحتاج لنساعدها/ نساعده، أو بالعكس، لتساعدَنا هي أو يساعدَنا هو.
كان الرابعُ من آب/ أغسطس مختلفًا. بعد الانفجار، لم يعد أيُّ شيءٍ في مكانه، لم يعُد أيُّ شيء «جميلًا». كنتُ في مقهى أيضًا، ومع صديقة أيضًا، لكنّها ليست هي ذاتها، والعصير بدلًا من النبيذ ولا موسيقى هذه المرّة. ببساطةٍ، مجددًا، لحظة تخبّلٍ لعدم معرفةِ مِن أيّ شيءٍ نحمي أنفسَنا، ومن أين جاء الانفجار، وفي أيّ لحظة ومن أيّ جهةٍ يمكنه أن يتكرّر. أحاول التوجّهَ إلى خارج المقهى، وصديقتي بالعكس منّي، تلجأ إلى الداخل. نفقد البداهة ومعها كلَّ شيءٍ آخر. إنّنا مزَقُ منطقٍ مبعثرة. بلا معين، مخبّلاتٌ، ضائعات. المقهى غيمةٌ كبيرةٌ بيضاء ورماديّة من الغبار والحطام، تخرج منه ببطء وجوهٌ شاحبة وأجسامٌ جريحة.
ومع ذلك، في تلك اللحظات، التي تبدو متزامنةً، ثمة شيء بطيءٌ جدًّا، هادىءٌ وذاتيّ الحركة. كأنما للمقارنة مع جبروت العصف الذي عصف للتوّ. إنّها مقاومة لعنف اللحظة. وهنا يكمن العبث: في ذلك الإصرار على استمرار أداء حركات الحياة اليوميّة. أحاول عبثًا أن أعثر على حقيبتي التي سحقتْها الطاولةُ المعدنيّةُ التي لواها الانفجار، حيث كنت جالسة، كأنّما الخروجُ وحقيبتي بيدي من بوّابة المقهى المحطَّم سيعيد ذلك اليوم إلى ما كان يفترض أن يكون عليه. أفرح أنّ الانفجار لا بدّ أنه أصابَ واحدًا من تلك الحثالة التي تحكمنا. أتذكّر بعد قليل أنّنا لم ندفع الحساب. أمشي، أتنفّس، أفكّر، أتطلّع حولي إلى أشياء الحياة السابقة الموجودة في اللحظة اللاحقة، وبالرغم منها، هي اللحظة المسْخُ التي لا تسمّى.
وأقول لنفسي أيضًا، في اللحظة ذاتها، والحِدّةِ ذاتها، بأن البقاء في هذا البلد لا معنى له ما دمتُ لست أدري ضدّ مَن أقاتل وضدّ أي شيء أقاتل. وممّن أحمي نفسي ومن أيّ شيء، ولكن أن أقول لنفسي بالقدْر ذاته من الحِدّة إنه لا تجوز مغادرةُ مكانٍ مبقور، فهذا يسمّى التخلي عنه، هَجْره، خيانته وإنّ التخلّي عن جرح يعني أن نتركه فاغرًا إلى الأبد.
عندما تشظّت بيروت
فجأة، كما في أي حركةٍ عاديّة، تمتلئ أسماء الأماكن بالمعنى: كان مقهى انفجار العام ٢٠٠٥ يسمّى «تايم آوت»: «خارج الزمان». الثاني، «أوربانيستا»: «أنصار المدينة»، هو الآن حطامٌ من كلّ الموادّ التي تتكوّن منها المدينة. بعد أيّامٍ، أعثر في رسالةٍ أرسلتُها لنفسي على بريدي «الإيميل»، عن «غرافيتي» يحمل عنوان: «بكرة لح يكون أخرا من اليوم». كلٌّ يكتسب معناه في اللحظة ذاتها التي يفقد كلُّ شيءٍ أيَّ معنًى له.
مشهد الشارع بطيء، شبْه هامد. غيمة غبارٍ بيضاء ورماديّة، أذكر أنّي شاهدتُ داخلها شخصين أو ثلاثة (اثنان على الأقلّ من الذكور) يترجّلان من سيّارة. آخرون يصوّرون. هل يصوّروننا؟ يصوّرون أنفسهم؟ السيّارات مسحوقة، سقوفُ البيوت مبقورة، شظايا معادن وأحجار في كل مكان. وإلى ذلك، وجوهنا الشاحبة، أجسامنا الدامية، جميعًا. يغطّينا دمنا وتُلطّخنا أيضًا دماءُ آخرين. كلنا شطوبٌ، جروحٌ، شقوق حمراء رطبة وبرّاقة. سنعلم لاحقًا أنها كلّها سبّبتها ملايين النثرات الصغيرة من الزجاج، تطايرت من كلّ النوافذ، من كلّ الأبنية، من كلّ المدينة، إنها بيروت وقد تشظّت هي ذاتُها بفعل الانفجار.
الساعة السادسة وثماني دقائق زوالية، الرابع من آب/ أغسطس ٢٠٢٠، سنعلم لاحقًا أنه قد يكون ٢٧٥٠ طنًّا من نترات الأمونيوم، أو كميّة أقلّ ممّا بقي منها، مخزّنة في العنبر رقم ١٢ في مرفأ بيروت منذ ستّ سنوات، قد انفجرت في واحدٍ من أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ. وقع انفجارٌ أو اثنان أو ثلاثة. سبقه حريق، وقد أُرسل فريقٌ كاملٌ من الإطفائيين إلى حتفهم. وسُمع هديرٌ في السماء ظنّه البعضُ هديرَ طيرانٍ إسرائيليّ. لن نعلمَ المزيد.
الثامن عشر من آب/ أغسطس ٢٠٢٠، بعد الظهر: نستمع إلى أحكام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان (١٥ عامًا و٨٠٠ مليون دولار للتحقيق في اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري) فنُدْركُ أنّنا لن نعلَم شيئًا. لا عن انفجار ٢٠٠٥ ولا عن الانفجار الحاليّ. كنّا ندرك ذلك لكن ها هو يتأكّد: أنّنا لن نعلم شيئًا البتّة. تبعثرتْ أوهامُنا وسْط الغبار، آمالنا، آفاقُنا التي تراءتْ لنا، مستقبلنا، إيمانُنا الهشّ بالعدالة. كلُّ شيءٍ له صوتٌ أجوفُ.
يخطر لي أنْ أبعث رسالة، رسالتين أو ثلاثًا لأبلّغ بأنّي سالمة، مع أن التيّار الكهربائيَّ مقطوع. بتّ مقتنعةً، في تلك اللحظة بالذات، أنّ ما حدث قريبٌ مني، وأنّ دويّه سُمِع في البعيد، وإذا انتشر الخبر فثمّة من سيقلقون عليّ. أتلذّذ في داخلي بالخفاء انتصارًا: أنني مقتنعة بأننا لسنا إلّا الأضرار الجانبيّة لاعتداءٍ سوف يتبيّن أنه انتصارٌ لنا. وأننا ندفع ثمن موت رجلٍ واحدٍ لكنه واحدٌ من الذين لا يمكننا أن نقاتلهم بطريقةٍ أخرى.
علمتُ لاحقًا أنّ كلّ واحدٍ منّا ظنّ أنّ الانفجارَ وقع في بنايته، في قريته، تحت بيته، في حيّه. عاش كلّ جزءٍ من المدينة الانفجارَ كما لو أنه هو بؤرة الانفجار. سُمع صوتُ الانفجار في قبرص. وسجّل بنسبة ٣ أو ٤ درجات على قياس «ريشتر» في الأردن. هي غيمة فُطرٍ ضخمة مخيفة ورديّة اللون مرسومة في السماء عَيّنَت لمن تمكّن من مشاهدتها مصدرَ الانفجار وحدّدت لآخرين طبيعتَه. وسوف ندرك أخيرًا أنه في حال كان الانفجار اعتداءً، فالاعتداءُ يستهدفُنا.
ولمّا كنّا بالبداهة قريبين إلى هذا الحدّ من الانفجار، مع أنّنا سليمون، بتُّ مقتنعةً بأنّ الجميع سالم. لا أتفقّد حال أيٍّ من «أفراد» أسرتي، أكتفي بالإبلاغ عن أخباري. لا أبالي بجرح أحدٍ أو بموت أحد. سنكتشف لاحقًا أنه لا يزال يوجد مفقودون إلى يومنا هذا، وأنّ أكثر من مئتي إنسانٍ قد سقطوا، وأكثر من ستّة آلافٍ جُرحوا، وأكثر من 300 ألف تشرّدوا من منازلهم المدمّرة. بعد أسبوعين من الرابع من آب/ أغسطس ٢٠٢٠، كان لا يزال يوجد أفراد يموتون جرّاء جراحهم، بينهم صبيٌّ في الخامسةَ عشرةَ من العمر. ومع ذلك لا يوجد مشتبه بهم، لا يوجد مذنبون، لا يوجد من صدرتْ بحقّهم أحكامٌ، لا تحقيقات، لا اعترافات، لا استقالات، لا زيارات من مسؤولين للأسَر المنكوبة.
أطنانٌ من الصوَر، الرسائل، أشرطة الفيديو، الكلمات أينما كان على شاشاتنا، حملات جمع التبرّعات، متطوّعون في الشوارع للدعم، التنقيب، التكنيس، إعادة البناء، تغطية النوافذ وسدّ الأبواب. سيأتي إيمانويل ماكرون في زيارة: إعلان مواقف، غضب، عرائض، وتواقيع العرائض، صرخات، مسبّات، مجموعات على «واتسآب»، بوستات على فيسبوك، تغريدات وتغريدات مضادّة. كثيرون يسألون عن أحوالنا، من كلّ الجهات. جعجعة من التضامن. ومع ذلك لم نكن مرّةً وحيدين في العالم مثلما نحن الآن.
عليا وحبيبي
نغادر حيّ الجمّيرة. أشاهد دكاكين مندلقة أحشاؤها بفعل الانفجار، واجهات محلات مهشّمة، عربات خضار فوق باعة قابعين على الأرض وسط كل هذا الخراب، لا حول لهم ولا قوّة، زائغي النظر. أصِلُ إلى شارعٍ رئيسيّ حيث سأنتظر الرجل الذي أحبّ ويحبّني، قادمًا لنقلي بالسيارة من الجهة الأخرى للمدينة، وهو يسهم، مثل العديد سواه، في ازدحام سيرٍ ضخم، بطيء، هامد ونزق. جاء ليصحبني أنا التي تظنّ أنّ ما وقع قد وقع علينا في هذا الجانب من المدينة فقط. أنا التي تحمل في أحشائها ما يسمّى الحياة ــــــ جنينًا من ستة أشهر ــــــ لم أقلق عليه البتّة، يسكنني هدوءٌ عجائبيّ. فلم تسيطر عليّ بعدُ صورُ نثرات الزجاج المسنَّنة تبقر لي بطني.
لست أدري بعدُ أنّ رجلًا أعرفه قليلًا وكنت أستلطفه، كان يمرّ على دراجةٍ ناريّةٍ على جسر سليم سلام، على مسيرة نصف ساعة من هنا، قطع لوحُ زجاج ٍ وريدَ عنقه وتوفي بعد أسبوع، في حين أنا القريبةُ من مركز الانفجار خرجتُ سالمة، لأنّ هكذا هي الحياة كما يقولون. والواقع أنّه الموت، ذلك القدَر الظالمُ الذي يتحدّى كل منطق، عبثيا، مُثقلًا بالذنوب.
في هذا الشارع حيث أنتظر الرجلَ الذي يحبّني، تمشي فتاة. أتعرّف على عليا، ثمّ، لا، ليست هي. إنّها تتكلّم بالهاتف، تتطلّع إليّ، ثم تواصل السير. لم تتعرّف واحدتُنا إلى الأخرى إلا بعدما صارت عليا على مبعدةِ ثلاثة أمتار منّي. تبكي. تروي لي أنّ الأرضيةَ تقوّضت تحت قدميها، والسقفَ خرّ فوق رأسها، ولم يعد لشقّتها أثر، لكنّها هي سالمة. تبكي وأحضنها خاشيةً أن أشدّ لأني لست أدري أين موقع جراحها. كيف أمكن أن لا تتعرف الواحدة منا فورًا على الأخرى؟ عليا أقرب صديقاتي، أعرفها منذ ربع قرن. أيّ سحناتٍ عجيبةٍ كانت تحملها وجوهُنا!
عندما أستقلّ السيارة، أخشى الكلام، مخافة أن تغلبني العاطفة، ويتسرّب انفجاري الداخلي البطيء. ثم ماذا أقول؟ قلت إني على ما يرام وهذا كلّ ما يهمّ. لم أدرك إلا بعض لحظات أنّ كلّ شيء قد تشظّى حول الرجل الذي أحبّ، في الطرف الآخر من المدينة، وأنه هو على ما يرام مع أني لم أسأله عن شيء، وأنه ركض مع صديق مُصاب بجرح بليغ في ظهره، ضاغطًا بقطعة قماش مشبعة بكحول مأخوذة على عجل من البار، على جراحه الفاغرة، نحو طوارئ المستشفى ليكتشفا أنّ مدخله قد تهّدم هو أيضًا. يمثّل لي هاشم بذراعيه على الجراح المتوازية على ظهر زياد، مثل شقيّن غائرين كأنهما معدّان لأن يركب بهما جناحان، وقد بُتر الجناحان الآن.
منذ الرابع من آب/ أغسطس، لم يعد الأسوأ عندي أن أنام بل أن أصحو. النوم مهلةٌ نستجهل فيها ما قد عشناه. إنها لحظةٌ بين النوم واليقظة، لحظة منمنمة من الجهل قبل أن يعود إلينا كلُّ شيء، كلُّه فجأة، مثل لكمةٍ في صميم الوجه. إنّ هذا الشيء المسخ، الضخم، والذي عاشتْه أجسامنا مع ذلك، حقيقيّ إذًا. لو أنّ موتانا يمكن استخدامهم للانتصار على أعدائنا، سيكون لموتهم معنى على الأقل، حتى لو أنه يعني انتصار أولئك الذين نكرههم أكثر من غيرهم، نكرههم حتى الموت. المؤكد أنّ حربًا تدور رحاها الآن لا وجود لنا فيها إلا كبيادقَ مزعجة، لسنا أهدافًا في تلك الحرب ولا أعداء نستحقّ الذكر. لم يعلن هزيمتَنا أحد ولا حتى أعلن الانتصارَ علينا.
في الأسابيع التي ستلي، وأيضًا في الأسابيع التي سبقت الرابع من آب/ أغسطس، في قلب المأساة التي يعيشها هذا البلدُ منذ أشهر، نسعى إلى تميّز الأكثر طبيعية والأكثر تفاهة من حياتنا اليومية. إننا ندركه الآن، نتعرّف إليه، لأنه لم يوجد ما هو عادي في الحياة اليومية أشدّ زيفًا وعبثًا منه.
ليس يجرؤ أيٌّ منّا على أن يسأل الآخر «كيف الحال؟» بل ليس يدري كيف يفعل، وقد فقدنا كلَّ شي.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.