العدد ٢٧ - ٢٠٢٠

مافيات الفساد في مرفأ بيروت

تجربة صحافي استقصائي

تأسّست وحدة التحقيقات الاستقصائية بالتعاون مع شبكة «أريج» عام ٢٠١١، وقد تعاقب على العمل فيها العديد من الصحافيّين والمصورين الذين لم تقتصر مشاركتهم على التصوير بل تعدّتْها إلى المساهمة في التحقيق، بالإضافة إلى عددٍ من الطلاب حديثي التخرّج من الجامعة. من الأوائل: رامي الأمين وجاد غصن، واليوم هادي الأمين، آدم شمس الدين، ليال سعد وليال بو موسى. من المصوّرين الأوائل: سمير العقدة، سعد الدين الرفاعي وحسن بزي الذي كان له دورٌ كبير في العمل التحقيقي. لاحقًا انضمّ متخرّجون جدد إلى الوحدة ومنهم علي خليفة، أديب فرحات، علي شريم، علي دلول ونديم الرز الذين سرعان ما أصبحوا من أركان وحدة التحقيقات الاستقصائيّة في مجالات التحقيق والتصوير والتوليف.

كيف بدأت قصّتي مع الجمارك؟

في الحقيقة، لم أكن أملك في السابق أدنى فكرةٍ عن المرفأ. كنت أسمع أخبارًا من هنا وهناك عن تهريبٍ يحصل فيه، وأنّ أيّ شخصٍ يعمل هناك «يغرف الأموالَ غرفًا»، وأنّ «الگمرگجي» «بيته براس القلعة»، لكنّي لم أكن أدرك أهميّة المرفأ أو حجم انتشار الفساد فيه، ولم أعتبرْه حتّى جزءًا أساسيًّا من منظومة الفساد، وأنّه مهمّ ومؤثّر إلى هذه الدرجة. كنتُ من الذين اعتادوا سماعَ الخطاب التقليديّ المتكرّر حول سرقتنا من قبل الأحزاب والسياسيّين، والحديث عن الحريريّة السياسيّة والمصارف وغيرها. سمعتُ عن المرفأ قصصًا «من برّا لبرّا» لكنّي لم أملكْ أدنى فكرةٍ عن هذا العالم من الداخل.

أذكرُ أنّي، وبينما كنتُ أُجري تحقيقًا عن صفقة فساد قمحٍ أحضره أحدُهم من أوكرانيا، اكتشفتُ تزويرَ الجمارك لإحدى الوثائق. لكنّي، حقيقةً، لم أدرك فحوى الموضوع. توجّهتُ إلى وزير الزراعة حينها حسين الحاج حسن، الذي كشف فضيحةً عن البطاطا أو القمح، لم أعد أذكر جيّدًا، ونظّم عَرّاضةً في المرفأ أمام الكاميرات. عرضتُ الوثيقةَ عليه، فسأل: «ما هذا؟ تزوير؟» وعلى الرّغم من ذلك، لم تعنِ لي المسألةُ كثيرًا. لكنّي، في الوقت نفسه، التفتُّ إلى أنّ الحاج حسن علّق على الوثيقة بالقول: «منتصافى نحنَا والجمرك»، وعندما سألت «لماذا»؟، كرّر القول «منتصافى نحنا والجمرك». ولم يوضّح.

وفي إحدى المرّات، وبينما كنت أصعد درجاتِ أحد المباني بسبب انقطاع الكهرباء، التقيتُ شخصًا يعرفني على أنّي الرجل الذي يظهر على الشاشة. كنتُ معروفًا أكثر على أنّي الشخص الذي يؤدّي حركاتٍ مفاجئة في لقطة حوار الكاميرا. كنّا في حينها نؤسّس «وحدة التحقيقات الاستقصائيّة» في تلفزيون «الجديد» بالتعاون مع شبكة «أريج». ولم تكن التحقيقات الاستقصائيّةُ التي أجريتُها قبلاً مرتبطةً كثيرًا بالفساد. كنت قد ربحتُ الجائزة الأولى عن تحقيقٍ استقصائيٍّ أجريتُه عام ٢٠٠٨ عن تجارة السلاح بعنوان «زينة الحرب»، تلتْه تحقيقات أخرى مرتبطة بالمخدّرات وغيرها. لكنّي لم أجْرِ تحقيقاتٍ مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقضايا الفساد. قدّمتُ كذلك تحقيقاتٍ أخرى عن «الباركميتر» وغيرها، لكن ليس على مستوى كبير.

اقترب منّي الرجل، وهو بالمناسبة ينتمي إلى الطائفة الشيعيّة ومناصرٌ لبيئة «الثنائيّ الشيعيّ» (حزب الله وحركة أمل) وسأل «لمَ لا تُجري تحقيقًا عن الفساد في المرفأ والجمارك؟ وعن التهريب في المرفأ»؟ سألتُ «ماذا هناك»؟ فأجاب «هناك ترانزيتير على مرفأ بيروت يُدعى حنا روفايل، هيدا القصة كلها تحت، هو البور، وهو يُدخل كلّ البضاعة المهرّبة. اذهبْ إليه وقُل له مثلاً إنّك تشحن أحذيةً من الصين، وكي لا تصرّح عنها وتدفع الرسم النوعيّ، تصرّح عنها على أنّها إلكترونيّات». «طيّب، كيف هيك»؟ سألت، فأجاب «قُل مَراوح مثلاً. في الصين، في غوانزو، هناك شخصٌ تنسّق معه من هناك يُغلق لك آخر رفّين من الكونتينر بالمراوح، وداخلُه يكون مليئًا بالأحذية».

والألبسة والأحذية من المنتوجات التي يخضع استيرادُها لـ«الرسم النوعيّ». والأخيرُ هو الرسمُ الحمائيُّ، الذي يُفترض أنّ الدولة وضعتْه لحماية الصناعات الوطنيّة. في الأحذية مثلاً هناك معيارٌ يسمّونه «فوق الرّكبة وتحت الركبة»، إذ يضعون رسمًا على كلّ زوج أحذيةٍ، تقريبًا بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف ليرة، لم أعدْ أذكر الأرقامَ جيّدًا. أمّا الألبسةُ من غير الماركات العالميّة فيأخذون عنها رسمًا جمركيًّا على الكيلو، هذا طبعًا عدا عن الضريبة والرسم النسبيّ الذي يحصّلونه تحديدًا في الألبسة، على ما أذكر هو رسمٌ نسبيّ. بسبب قِدم هذه التحقيقات لم أعدْ أذكر الكثيَر من التفاصيل، لكن في ذلك الوقت تمحْور الأمر حول هذه الفكرة.

أعطاني الرجل رقمَ هاتفه فتواصلتُ معه مرّةً ثانيةً وجلسنا معًا، ثمّ اختفى. لم يعدْ يردّ على اتصالاتي ورفَضَ التّعاونَ كلّيًّا. لكنّي عرفتُ مكانَه. ومهما يكن، أرسلنا إلى حنا روفايل أشخاصًا انتحلوا صفة تاجرٍ وبحوزتهم كاميراتٌ سريّة. اشتغلنا على كل عدّة انتحال الصفة: كيف يمثّل الشخص أنّه تاجر، وماذا يقول، وما المصطلحاتُ التي يستخدمها، وأيضًا ما الأوراقُ التي يجب أخذها معه وما عليه أن يفعل في حال سُئل عنها. ذهبنا أكثر من مرّة إلى الجمرك، والتقينا بالساعد الأيمن والأيسر للسيّد حنا روفايل، وهو بالمناسبة محسوبٌ على حزب «القوّات اللبنانية». ومنعًا لالتباس الأمور، لم يشتكِ ذاك الرجل على روفايل لأنّ الأخير من مناصري «القوات» بينما الأوّل مناصرٌ لـ«حزب الله». كلا، خلفيّةُ الشكوى، كما اكتشفتُ لاحقًا، خلافٌ وقع بينهما. وعلى العكس من ذلك، تبيّن لاحقًا أنّ جزءًا كبيرًا من التجّار الذين ينتمون إلى البيئة الشيعيّة يتوجّهون إلى حنّا، المخلّص الجمركي المحسوب على «القوّات».

وبالفعل، تبيّن أنّك عندما تتوجّه إلى روفايل طالبًا تهريب بضاعةٍ ما، يتلقّى منك مبلغًا مقطوعًا... على سبيل المثال، وأحاول هنا تذكّرَ الأرقام، مقابل حاويةٍ بطول عشرين قدمًا يتلقّى عشرة آلاف دولارٍ أميركيّ. أما ما تضعُ بداخلها، فمسألةٌ ترجع لك. مهمّة روفايل أن يهرّبها لك. بالطبع لن تقول له مثلاً سأضع بداخلها مخدّرات، لكنّ ما يحصلُ عمليًّا أنّ «جماعتكَ» في الصين يضعون الموادَ في الحاوية، وتمرّ الحاوية، وكان الله يحبّ المحسنين. وقد صوّرنا مع روفايل أكثر من مرّة. صوّرنا مع الأشخاص الذين يمثّلون يده اليمنى واليسرى. وبعد ذلك واجَهْناه. توجّهنا إلى مكتبه لهذا الغرض فلم نجده. كنت على علمٍ أنّه سجّل شركته على اسم سائق تاكسي في رأس بعلبك. وأعرف تمامًا المعلومات التي أريد انتزاعها من مساعِدته، السيّدة سامية نصر، إذا وجدتُها. لكنّها قالت لي إنّ السيّد روفايل ليس موجودًا، وقد ارتبكَت لأنّها ظهرتْ في فيديو التسجيل السرّيّ.

عندما انتهينا، حاول روفايل أن يتواسط بإيهامي أنّه سيمنحني المقابلة، والتي نسمّيها «المواجهة»، بلغة الصحافة الاستقصائيّة. أرسل لي أشخاصًا طردتُهم إذ تبيّن أنّه لا يريد إجراء مقابلة، بل الوساطة. بعد ذلك، توجّه روفايل إلى قضاء العجلة، فحكمَت له قاضية الأمور المستعجلة زلفا الحسن على تلفزيون «الجديد» بثلاثين مليون ليرة (عشرين ألف دولار حينها) في حال عرضنا التحقيق. وقد عرضْناه. كان هذا في العام ٢٠١٢.

«افتَح يا سمسم»

عرضنا التحقيق، وكان تحقيقَنا الأوّل عن الجمارك.

لا أعرف ما إذا دفع تلفزيون «الجديد» المبلغ أم لا. لكنّي أدركتُ حينها معنى «البور» (المرفأ)، عرفتُ معنى أن يكون اسمه «مغارة علي بابا». كانت هذه لقطة الحوار (ستاند أب) التي استخدمتُها أمام الكاميرا: «رح يقولولَك إنّه هيدي مغارة علي بابا وأنتَ لستَ علي بابا، افتَح يا سمسم». وقد شكّلت هذه شارةَ انطلاق التّحقيق الذي استعرضْنا فيه أيضًا حالَ صناعة الأحذية الوطنيّة، وكيف تضرّرت بشكل كبير بسبب التهريب. بالطّبع، عندما توجّهتُ إلى الجمارك، ادّعَوا عدم معرفتهم بالأمر، وقالوا إنّ الحاوية «بتقطع عالأخضر، ما بتقطع عالأحمر». والمساران الأخضر والأحمر إجراءٌ خاصٌّ بالجمارك يتعلّق بما إذا كانت البضاعة ستخضع للتّفتيش أم لا. فعند تقديم بيانكَ الجمركيّ، هناك احتمالٌ كبير بأن يتبع المسارَ الأخضر، أي لا يخضع للتّفتيش، ولكن طبعًا يتمّ الكشفُ على البضاعة عبر السكانر إذا كان السكانر متوفّرًا، فهو غالبًا ما يكون معطَّلا بذريعة حاجته إلى الصيانة أو نتيجةَ تخريبٍ متعمّد. أما إذا كان مصرّحًا عن الحاوية بأنّها تحوي بضائعَ يُحتمل أن تكون مهرّبة، تحت تسمياتٍ معيّنة، أو بضائع معفاة من الجمارك، فعادةً ما تتبع المسارَ الأحمر. وقد يخضع الأمر للحظّ، فمثلاً إذا صرّحتَ بأنّ بضاعتكَ عبارةٌ عن أقشمة، فمن الممكن أن يشكّل احتمالُ اتّباعها المسار الأحمر مقابل الأخضر، سبعين في المئة مقابل ثلاثين.

الفكرة الأساسُ هنا أنّي تحدَّيت حنا روفايل، إمبراطور مرفأ بيروت حينها. وشكّل هذا دليلًا قويًّا على أن «هيدا الزلمي ما بِخاف وما بينشَرى، والدليل أنّه فضَحَ روفايل، فلو كان بالإمكان رشوتُه لتقاضى رشوة من روفايل». كان الأمر بهذه البساطة. وراح يتواصلُ معي أشخاصٌ قالوا إنّ بحوزتهم أشرطةَ فيديو لكشّافين على مرفأ بيروت يتقاضون رشاوى. كما أكّدوا أنّ الحاويةَ تتبع المسارَ الأحمر لا الأخضرَ كما أفادتْني الجمارك، والرشاوى تُدفع لإتمام العمليّة. بناءً على طلبي، أحضروا لي الفيديوهات التي بلغ عددُها أربعةً، ثلاثة منها توثّق حالات تلقّي رشاوى وواحدٌ يحوي مفاوضات. وفي أحد أشرطة الفيديو التي توثّق عمليّة دفع رشوة كلامٌ عن أنّ الجميع «مش قدّه لحنّا روفايل»، وذلك بعد عرض التحقيق.

تقصّينا بكل ما امتلكنا من إمكاناتٍ عن أحوال هؤلاء الأشخاص ووضْعهم الاقتصاديّ. كنّا لا نزال في بدايات عمليات التقصّي من هذا النوع. وبالفعل، واجهْنا الأشخاصَ الثلاثة، وكانت مواجهات صاخبة وطريفة في آن معًا، لدرجة أن المارّة ولفضولهم كانوا يتوقّفون لمشاهدة صحافيّ يحمل «آي باد» يَجري خلف شخصٍ آخر وهو يقول له «أستاذ، مصوَّر إنت وعم تقبض رشوة».

جمركيًّا، شكّل الأمرُ صدمةً كبيرة. قالوا «خلص، هذا الرجل يصوّرنا ونحن نقبض رشاوى». كبرت القضيّة كثيرًا. ادّعى المدّعي العام المالي على الأشخاص الثلاثة ولكن حصلتْ مفاوضات طويلة مع مدير الجمارك شفيق مرعي من أجل إعطاء الإذن القضائي، فوفقًا للقانون، يجب أن يأذن مدير الجمارك للمدّعي العامّ الماليّ بملاحقتهم قضائيًّا.

بُعيد تصوير هؤلاء الأشخاص، توجّهتُ مرّتين إلى مديرية الجمارك لسؤالهم عمّا إذا كان هناك فعلاً كشّافون يتلقّون رشاوى، فنفوا الأمر. ثمّ توجّهت مجدّدًا إلى هناك لمواجهة مرعي وسؤالِه عن رأي الجمارك في الموضوع، لكنّه هرب وعاد لاحقًا. وبعد مفاوضاتٍ طويلة استهلّها أيمن إبراهيم، المسؤولُ العسكريّ للجمارك، واستكملها مرعي ودامت حوالي ساعتين، وافق على إجراء المقابلة مقابل ضمانةٍ بعدم مفاجأته بشيءٍ خلالها. بالطّبع سجّلتُ كلّ شيء على كاميرا سرّية وعرضتُه لاحقًا، لكنّي حينها لم أعرض التسجيل لأني لم أجد داعيًا لذلك، ففي التحقيق الاستقصائيّ نعرض التسجيلاتِ السرّيّة فقط عند الضرورة.

خلال المقابلة، توعّد مرعي بالتحرّك والمحاسبة، لكنّ شيئًا لم يحصل. لذا صرتُ أهاجمه عبر «فايسبوك»، فاقترح وزيرُ المال محمد الصفدي عقدَ صلحة بيننا. رفضتُ الصّلحة وقلت له «فليسمحْ مرعي للمدّعي العام الماليّ القاضي علي إبراهيم بملاحقتهم بيمشي الحال». اتّصلَ شفيق مرعي أمامي بالقاضي إبراهيم وقال إنّه يمنحه الإذنَ بملاحقتهم قضائيًّا. ملاحظةٌ هنا على الهامش، عندما أقول إنّ «الكشّاف بيقبض» فهذا يعني أنّ يوميّة الكشّاف في مرفأ بيروت لا تقلّ عن ألفي دولار. فالبيانُ الجمركيّ الذي ليس فيه من مخالفة، يتلقّى مقابله مئة ألف ليرة لبنانيّة، أمّا البيانُ المشكوكُ بأمره، فيتلقّى عليه أكثر من ذلك بكثير وتحصل مفاوضاتٌ، وهذا ما شاهدناه في الفيديوهات. وفي بعض الحالات، يغرّم الكشّافُ صاحبَ البضاعة بمبلغٍ صغير على البيان في وقتٍ تكون غرامتُه أكبرَ من ذلك، ويقبض مقابل هذه الخدمة. بالعاميّة: بِغطّي السّموات بالقَبَوات.

«بالميغافون جئناكم!»

بعد عرض التحقيق، طلب الناسُ أن نجريَ تحقيقًا عن المطار، فما يحصل هناك «فضيحة». المصيبة أنّ هشام السبع وأولاده، وهو الشخص المعني بمطار الشحن والذي كان عددٌ من تجّار الألبسة والأحذية يسمّونه باسمه «مطار هشام السبع للشحن»، انهالوا بالاتصالات على «الجديد» وصاروا يسألون: «مظبوط رياض عم يعمل عنّا»؟ وبسبب تكرار الاتصالات والأسئلة شككتُ بهم. قمنا حينها بعمليّة «خلف خطوط العدوّ». توجّهنا إلى تركيا وقمنا هذه المرة فعلًا بشحن بضاعة، تفاديًا لتكرار ما حصل معنا بعد تحقيق حنّا روفايل عن المرفأ وتذرُّع المدّعي العام المالي - الذي ادّعى على روفايل وحوّل الملفّ – على اعتبار أنّ لا وجودَ لفعل جرميٍّ بل نيّة جرميّة.

أرسلْنا صبيّةً إلى تركيا بصفة تاجرة ملبوساتٍ ترغب بفتح «بزنس» جديد. شحَنتْ ملابسَ مهرّبةً من تركيا إلى لبنان. ثمّ توجّهتُ إلى تركيا وصوّرتُ مرة ثانية سرًّا مع هشام السبع، وذلك عبر زبونٍ آخر أرسلتُه إليه أيضًا بصفة تاجر يريد شحن ملابس، والهدفُ من ذلك أن أتأكّد أنّ السبع يظهر في الفيديو، لا مساعدُه فقط. واجهتُه في أزقّة تركيا، فهرب منّي قبل ان أنبس ببنت شفة وراح يقول «أنا ما عندي هالشغلات، ما عندي هالشغلات». عدتُ إلى بيروت ومعي الفيديو. وكنّا في حينها بصدد تحضير برنامج «تحت طائلة المسؤوليّة»، فامتلكْنا الوقت الكافي، لذا كنتُ مرتاحًا من هذه الناحية. أخذْنا نرسل إلى مديريّة الجمارك طلباتٍ لإجراء مقابلةٍ بعدما عرضْنا لهم ما وثّقنا من معلوماتٍ مهمّة في مطار بيروت. وبعد مماطلة شهرٍ أجابوا «إذا عندك شي روح للقضاء».

بالنتيجة، حملتُ الميغافون وأحضرتُ شاحنةً كبيرةً وضعتُ عليها شاشة تلفازٍ كبيرة، ثمّ عرضتُ الأدلّة وتوجّهتُ إلى مديريّة الجمارك. ولم يكن ما حصل بعد ذلك «لطيفًا». ولأنّنا أدركْنا أننا قد نتعرّض للاعتقال من قبل حرس المجلس النيابيّ أو مخابرات الجيش، أخذنا كلّ احتياطاتنا. وزّعْنا الكثيرَ من الكاميرات حسب خطّةٍ معيّنة تتضمّن كيفيّة إيصال الكاميرات إلى تلفزيون «الجديد» في حال وقوع أيّ سوء. لكنّ ما لم «نحسب حسابه» إطلاقًا أنّنا قد نتعرّضُ للاعتقال من قبل مديريّة الجمارك. وهذا ما حصل. سحلونا، كسّروا الكاميرات القريبةَ منهم معتقدين أنّهم قضوا على الأدلّة، ثمّ اعتقلونا وراحوا يبثّون أخبارًا كاذبة من قبيل أنّي نعتّ شفيق مرعي بالحرامي، وهو أمرٌ عارٍ عن الصحّة. كنت أخاطبُه بصفته مدير عام جمارك لبنان بالإنابة، وأخبرتُه عن أدلّةٍ بحوزتنا تخصّ المطار نريد إطلاعَه عليها، وأردنا إخباره أنّنا قمنا بالشّحن عن طريق التهريب.

خلال الاعتقال، صفعني العقيد إبراهيم شمس الدين مرارًا على وجهي وقال لي: «منمسح فيك الأرض، إنتَ مين وراك؟»، قلت له: «خلّصت»؟ أجاب: «إي»، فقلت له «طيّب بتشوف حالك على التلفزيون بعد شويّ». وهذا ما حصل. وعلى ضوء ذلك، تداعى الناس إلى الشوارع وتحوّل موضوع الجمارك إلى قضية رأيٍ عام. بفعْلتهم هذه قدّمتْ لي جماعة الجماركُ خدمة العمر. كان هدفي من النزول بالميغافون أن أحوّل القضيّةَ إلى قضية رأيٍ عام، لكن لم يخطر لي أن يضربني الجمارك ويعتقلوني ويحتارون كيف سيتخلّصون منّي. لقد بقيت عندهم مدّة طويلة، حوالي ست ساعات، لأنّهم لم يعرفوا كيف يتخلّصون منّي. شكرتُهم على كل ذلك، وقلت لهم إنّ هذا أغبى ما يمكن لأحدٍ أن يفعله.

تمّ الادّعاء على شمس الدين وتحوّلت القضيّة إلى المحكمة العسكريّة، ولكنّهم حوكموا بجرائم ثانويّة. ومع ذلك، للأسف، عقدْنا جلسةً واحدةً عند القاضي رياض أبو غيدا، الذي أصبح الآن عضو مجلسٍ دستوريّ. وللمصادفة، قبل دخولي إلى تلك الجلسة، خرج من عنده ضابطُ ارتباط مع أحد الأحزاب. صدفة، صدفة. لم يسأْلني أبو غيدا شيئًا عن التحقيق وتعرّضي للضرب. سألني سؤالًا واحدًا فقط هو: «ليش كان معك ست كاميرات؟»، فأجبت: «بدي صحّح لك، كانوا تسع كاميرات، مش ستة». ولم يحصل بعدها أيُّ شيءٍ في المحكمة.

«خرَجَ ولم يعُد»

بعد «القتلة» وفي أعقاب تحقيق المطار عرضْنا أواخر عام ٢٠١٤ تحقيقاتٍ إضافيّة. صوّرتُ عشرة كشّافين يقبضون رشاوى في مرفأ بيروت ضمن تحقيقٍ حمل اسم «العنبر ١٩». وبعد ألف يا ويلاه، وتغيُّر المجلس الأعلى للجمارك، وبعد أن أحرجتهم غير مرّة، ادّعى المدعي العام المالي على خمسة منهم. أما الخمسة الآخرون فلم يتمّ الادّعاء عليهم، لماذا؟ لا يمكن معرفة السبب، علمًا أنّه تمّ تصويرهم جميعًا. بل نستطيع معرفة السبب بدليل أنّنا صوّرنا أحدَهم مرةً أخرى، لكنْ وبالإضافة إلى أنه لم يتمّ الادّعاء عليه، حصل شيءٌ أكبر من ذلك أعود إليه لاحقًا.

أعددنا تحقيقًا ثانيًا عن ملفّ أدوية السرطان المزوّرة، وهذا ما توعّدتُ به شفيق مرعي بعد خروجي من العدليّة. وقد اختفى هذا الملفّ من القضاء بشهادة وزيرَين هما علي حسن خليل ووائل أبو فاعور. قال الأخير: «خرج الملفّ ولم يعُد»، وذكَر أنّه أعاد تكوينه وتحويله إلى النيابة العامة، ولكن حتّى هذه اللحظة لا يزال الصيدليّ المتّهمُ يمارس المهنة. لكنّ ما يعنيني جمركيًّا، أنّه كان هناك شخصٌ يُدعى حسام المشموشي، المتّهم بحسب التفتيش الصيدليّ بأنه جزء من عصابة تهريب أدوية سرطان مزوّرة نجت من الحجز، أي أنّه عندما تمّ فرض غرامةٍ عليه كانت هذه البضاعة قد بيعت. وقد خفّض له شفيق مرعي الغرامة بسبب «الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة» من مليون ونصف مليون دولار إلى خمسين ألف دولار، ورفض حسام المشموشي دفعها!

نتيجة التحقيقات كانتْ أن قامت حكومةُ تمام سلام بتعيين شفيق مرعي مديرًا بالأصالة بعد أن كان بالوكالة، فهو لم يكن محسوبًا على أي طرف، هو يجسّد مقولة «كلن يعني كلن»، لأنّ «كلن يعني كلن» اختاروه. كان ضعيف الشخصيّة ومسكونًا بهاجس إرضاء الجميع. تمّ تعييُنه بالأصالة بمباركةٍ من الجميع في حكومة سلام. وفي هذا التعيين ما يحاكي الواقع الجمركيّ، حيث إنّ «بيّ الكل» ليسَ رئيسَ الجمهوريّة بل السيّد بنجامين فرانكلين، متى حضر تُذلَّل كلُّ الخلافات السياسية.

في عامَي ٢٠١٥ و٢٠١٦ لم ننجزْ تحقيقاتٍ ذات أهميّة كبيرة على الصعيد الجمركيّ لأنّنا كنّا نعمل على «سويس ليكس» و«باناما بايبرز». وفي عام ٢٠١٧، في اليوم الأخير من ولاية شفيق مرعي، في حفلة وداعه، أهدينا له تحقيقًا بعنوان «رالي الجمارك». تناول التحقيقُ تهرّب أبناءِ سياسيّين وفنّانين وإعلاميّين من تسديد الرسوم الجمركيّة عن سيّاراتهم الفارهة، كالفيراري واللامبرغيني وغيرهما. ومن ضمن المتهرّبين أبناء رئيس مجلس النواب نبيه بري، نجل النائب علي بزي، ابن رئيس الجمهورية السابق إميل لحود، وابن شقيقه نصري لحود، وأبناء الوزير محسن دلّول، والفنان راغب علامة وغيرهم. وذلك من خلال التلاعب على القانون في مسألة «الإدخال المؤقّت»، والتي لا يستوفون شروطها. و«الإدخال المؤقّت» يكون عبر نمرة لبنانيّة، ولا أتحدّث هنا عن سيارةٍ آتيةٍ من دبي مثلًا بلوحةٍ أجنبيّة. وقد توجّهنا حينها إلى وكيل شركة «فيراري» الذي سأل «بجمرك أو بلا جمرك؟». عرضنا التحقيق، لكن بالطبع لم يحفظ المدّعي العام الماليّ الملفّ، جمّده شأنُه شأن الكثير من الملفّات التي نحرجهم بها، لا يُحفظ الملفّ بطريقةٍ لا يستفزّك فيها، فلا يقول إنّه حفظ الملفّ ولكن في الوقت نفسه لا يمضي قدمًا فيه، فمن المعروف إن مضى فيه بأيّ اتجاه سيذهب. حينها أيضًا وعد الوزير علي حسن خليل باتخاذ إجراءات ولم يحصل شيء.

«الريّس بدري»

وفي اليوم الأوّل لتولّي المدير العام الجديد للجمارك بدري ضاهر منصبه، استقبلْناه عبر مواجهة كشّافٍ بفيديو يظهر فيه وهو يتلقّى رشوة في مرفأ بيروت، وقلنا له «سلّم عالريّس بدري». أي أنّنا ومنذ اليوم الأوّل أفهمنا بدري ضاهر أنّنا سنتبع النهجَ نفسه الذي اتّبعناه مع المدير السابق. وقد منحْنا بدري مهلةً حتّى أواخر عام ٢٠١٧، أي حوالي ستة أشهر أو أكثر بقليل. واجهْنا أربعة كشّافين يتلقّون رشاوى في المرفأ، من بينهم كشّاف أوّل، أو مراقب أوّل، بقبول رشوة، ويُدعى آلان عكّاري الذي صوّرناه سابقًا وأعدنا تصويره بسبب عدم توقيفه في المرّة الأولى. رفَضَ بدري ضاهر إعطاءنا مقابلة، ولم يكتفِ بذلك، بل عيّن عكّاري في لجنةٍ لمكافحة الفساد لمجرّد أنّه ينتمي إلى التيّار السياسيّ نفسِه الذي ينتمي إليه ضاهر. تصوّر! وأنا كنتُ في ذلك الوقت قد تركتُ «الجديد» لفترة. أما الكشّافان الآخران فلم يتمّ الادّعاء عليهما، وما زالا حتى اللحظة في مركزيهما.

عندما رجعتُ إلى «الجديد» علمتُ بحصول أمرٍ غير طبيعي في مزادات الجمارك، وقد حصلتُ على مستنداتٍ أكّدتْ ذلك. في الوقت نفسه، رحتُ أرسل فريقًا من الوحدة الاستقصائية لتصوير المزادات. باختصار، بدأت قصة المزادات مع صبيّة تعيش في الإمارات، ولم تكن الصبية مصدرَ معلوماتي حول ما يحصل في المزادات بل على العكس اتصلتُ بها ظنًّا منّي أنّها متورّطة في المسألة. عادت إلى لبنان وقد شحنتْ أثاث منزلها المستعمل وكان حينها معفًى من الجمرك. ولدى وصولها إلى لبنان تلقّت اتّصالًا فتوجّهتْ إلى الجمارك للتوقيع على بعض الأوراق. ولدى تسلّمها الأغراضَ اكتشفتْ فقدان غرضٍ بينها، فاتّصلتْ بوكيل الشحن الذي قال لها «ضايعة يمكن، منجبلك اياها». وبعدما كان من المفترض أن تكون الأمور سالكةً على هذا النحو، أخبروها أنّ حاويةً من الحجم الكبير، بحجم أربعين قدًما، عالقة على اسمها في المرفأ، وتترتّب عليها رسومُ تخزين مرفئيّة تفوق ١٤ ألف دولار. فتبيّن أنّ أغراضَها لم تكن على الحاوية التي وقّعتْ على أوراق تسلّمها من قبل، بل كانت على حاويةٍ أخرى تسلّمتها.

حتّى تلك اللحظة، لم يكن من مسؤوليّةٍ كبيرةٍ على الجمرك. لكن من هنا تبدأ المسؤوليّة. فقد عرفتُ لاحقًا أنّ هذه الحاويةَ بيعتْ بالمزاد وعلى اسمها، واسمها لارا، لذلك حمل الوثائقيُّ الذي عرضناه عنوان «لمّا حكيت لارا». وفي حادثةٍ غريبة للغاية، ربحتْ لارا المزاد، إذ كيف تربح صاحبةُ الحاوية المزادَ على الحاوية التي تخصّها؟ وبمليون ليرة؟ علمًا أنّ البيع بالمزاد العلنيّ يُعفي الشاريَ من رسوم التخزين والرسوم الجمركيّة. وهذا هو السبب الأساسيُّ للبيع الوهميّ للمستوعب في مزاد، أي التخلّص من الرسوم المرفئيّة.

في هذا الوقت، كان بحوزتي مستندٌ جمركيّ جاء فيه: «بناءً على التعليمات الهاتفية لسعادة المدير العام، الرجاء استيفاء مبلغ مليون ليرة ثمن البضاعة وتسليمها لصاحبها»، كما ذُكر في الوثيقة «المعروض في المزاد العلني». وفي اتّصالٍ بنا، نفت لارا مشاركتَها في المزاد، وتأكّدتُ من أنها فعلًا لم تشارك في المزاد . تبيّنَ عندها أنّه تم استخدام اسم لارا لإخراج المستوعب على اسمها من خلال مزادٍ وهميٍّ لم تشارك فيه، والأسوأ من ذلك أنّهم أخرجوا المستوعبَ بمساعدة بدري، سرقوا محتوياتِه ولم يسلّموها إلى أصحابها الحقيقيّين. جمّعنا المعطياتِ واتّصلْنا ببدري لنعطيه حقّ الردّ فقال «أنا ما عم بسمعك»، أجبتُ «كيف ما عم تسمعني؟ ما أنا عم بحكيك، عم تسمعني أنا وعم بحكيك»، فكرّر قائلاً «ما عم بسمعك، ما عم بسمعك»، وأقفل الهاتف.

بعد ذلك اتّصل بي وكيل الشحن في دبي عندما رأى الإعلان عن التحقيق، وحاول التنصّل من الأمر. وبعد البحث والتدقيق، تطوّرَ الموضوع وحصلتُ على تسجيلاتٍ صوتيّة، فتبيّن أنّ المسألة عبارة عن خدمة قدّمها بدري لشخص يُدعى توفيق سليم، كانت والدته قياديّة في «التيّار الوطني الحرّ» وعليه شيكات بلا رصيد بحوالي أربعة ملايين دولار، وهو ملاحَق من النيابة العامّة. وقد عرضتُ تسجيلاتٍ صوتيّة لتوفيق وهو يفاوض زبونًا آخرَ كي يُخرج الحاوية الخاصة به في مزادٍ علني، قال فيها توفيق «هلق ما عاد فينا نعملها، بعد التحقيق اللي عمله رياض، أنا إذا بنلقط راسي وراس بدري بطير، وإنّه بدري عمل لي إياها خدمة». أما بدري، فعندما ذكرتُ عبر «تويتر» أننا سنكشف شيئًا من خلال تسجيلات صوتية، فأصدر بيانًا قال فيه إنّ وكيل شحن هذه البضاعة هو «ت. س»، أي توفيق سليم. وهذا غير صحيح، بدليل أني عرضتُ حتى التسجيلات مع وكيل الشحن في دبي، وهو لا علاقة له وممنوع أن يعمل ترانزيتير في مرفأ بيروت، كما أنه ملاحَق من النيابة العامة المالية. ثم عرضنا تسجيلات صوتية أرسلها بدري إلى توفيق سليم قال فيها «إذا في كونتاينر كونتاينرين علقانين منمشّيلك إياهن. ما في مشكل». وبعد عرضنا لهذه التسجيلات، تجرّأ المدعي العام المالي وادّعى على بدري ضاهر، علمًا أن الملفّ كان كاملاً منذ البداية، لكنّ وجود التسجيلات، إضافةً إلى رأي عامٍّ ضاغط بفعل انتفاضة ١٧ تشرين، دفعا بالمدعي العام المالي للادعاء على بدري ضاهر بجرم «اختلاس مالٍ عامّ وتقصير وظيفي أدّى إلى هدر في المال العام*».

بعد ذلك غبنا لفترةٍ قصيرة لتحضير بعض المواد. ثمّ عرضْنا أشرطة فيديو توثّق كيف يتستّر بدري ضاهر على بضاعةٍ تختفي في مرفأ بيروت، وهي مسألة تتعلّق بشكلٍ أساسيّ بكيف يبدأ بأحد المزادات. في أحد المزادات التي حضرها فريقنا الاستقصائيّ، اقترب من بدري ضاهر شخصٌ يُدعى مالك القادري وقال له حسب ما أذكر «بالدورة الماضية أنا جيت اشتريت من عندك كونتاينر فيه ٩٣ موتوسيكل، لقيتهم ٧٠، ناقصين ٢٣». (يجري المزاد على ثلاث دورات، لمدة ثلاثة أشهر متتالية، وكل دورة لمدة شهر). وقد قدّم حينها القادري شكوى في مخفر البرج. لم يقُل له بدري إنه يريد التحقيق بالأمر، بل أجاب سريعًا «أوكي. رح عَوّض عليك. هلّق منشوف كيف منحلّ الخبريّة». والحوار مسجّل عبر الفيديو.

جرى بعد ذلك مزاد على ثلاث حاويات بطول أربعين قدمًا تحوي أدوات منزليّة. كانت هذه الحاويات «مُباعة» بحوالي ٨٨ مليون ليرة، أُجبر صاحبها في مزادٍ سابق على إرجاعها، وأعادوا إليه الدفعة المقدّمة. وحينها أعيد بيعها، ووصل المزاد من أربعين إلى خمسة وأربعين مليون ليرة. خلال المزاد، قال القادري لضاهر «أنا رح أعمل معك صفقة، باخد منك البضاعة بـ٢٥ مليون ليرة وبنسى موضوع الموتسيكلات»، فردّ بدري: «يعني إذا أعطيناك إياه بـ٢٥ مليون ليرة بتنسى موضوع الموتسيكلات؟» قال «إي». وانتهى المزاد الذي لم يكن مزادًا، فالجميع يعرفون بعضهم البعض. وبعد أن صفّق الجميع، اقترب شخص من ضاهر وقال له «بس أنا عرضت ٢٥ مليون»، فردّ ضاهر «أنا بدي فيهم ٢٠٠ مليون، إذا هيك».

مرفأ «بعمرك ما تتلف شي»

يشير كل ما سبق إلى وجود أمر غير طبيعي كان يشهده مرفأ بيروت خلال سنين طويلة على مستوى تخزين البضائع فيه وطريقة إدارة تخزينها أو إدارة التخلّص منها، ما يدفعنا إلى الربط بين كلّ هذا وبين انفجار 4 آب/ أغسطس.

لماذا وافق بدري على إجراء صفقة؟ لأن هناك ٢٣ دراجة ناريّة سُرقت من المرفأ، تخيّل! دراجة نارية من الحجم الكبير. ثمّ ماذا كان دور حاجز مخابرات المرفأ؟ والجمارك؟ في ما يتعلّق بحاجز المخابرات، عندما اطّلعتُ على المستندات رأيتُ كيف أنّ هناك حوالي عشر حاويات «أسبستوس» بيعت بمبلغ زهيد جدًّا، ربما تسعة ملايين ليرة، طبعًا شرط إعادة تصديرها.

لكن كل هذا يوصلنا إلى أنّ الثقافة السائدة في المرفأ هي «بعمرك ما تتلف شي، خلّيه، لا بد أنك سوف تبيعه يومًا ما». و«البيعة» هنا يُقابلها مبلغ «برّاني». أو على سبيل المثال سيارة «ميني كوبر» مُباعة بعشرة آلاف دولار، أجبروا صاحبها على إعادتها ليُعاد بيعها بألفي دولار. من الذي فاز بهذا المزاد بعد أن تمّ ردّها؟ وبألفي دولار؟ سائق العميد سلوم، مدير مخابرات مرفأ بيروت.

وعندما حصل الانفجار كنتُ على أتمّ الاستعداد، لأنّي أعلم جيّدًا فحوى القوانين وكيفية التعامل مع البضائع المتروكة في المرفأ وكذلك مسؤولية الجمارك. لذلك عندما حاولوا تحميل المسؤولية إلى قضاء العجلة، وإلى قاض نزيه للغاية، بالقول إنهم أرسلوا إليه كتبًا ولم يُجب عليها، علمًا أنه ليس الجهة المخوّلة بذلك وأنه ردّ أكثر من مرة على كتبهم، كنتُ جاهزًا لدحض الكذبة الكبيرة التي حاولت عصابة مديرية الجمارك في مرفأ بيروت تمريرها.

العدد ٢٧ - ٢٠٢٠
تجربة صحافي استقصائي

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.