كتابة نادين بكداش، عبير سقسوق، جنى نخال.
جرى البحث كجزء من مشروع «أن نرسم بيروت من روايات مستأجريها» (2015-2016) وجولات «نحنا التراث» (2019)
اجتاحت صوَر المناطق المتضرّرة جرّاء تفجير مرفأ بيروت الوسائلَ الإعلاميّة منذ لحظة التفجير الأولى، ولعلّ العديد من الصور ستصبح أيقونة بصريّة سياسيّةً لما جرى عصر ذلك اليوم. وبالرغم من أنّ محطّات التلفزة توقّفت عن البث المباشر من المناطق المتضرّرة، فإنّ الأحياء التي تأثّرتْ بالتفجير لا تزال تعاني وستعاني لفترة طويلة من الدمار الحاصل ومن النسيان الذي لحقها من الدولة قبل التفجير وبعده.
نقدّم في هذا النص، تعريفًا قصيرًا للمناطق الأكثر تضرّرًا على المستوى العمراني، أي الكرنتينا والجميّزة ومار مخايل والروم والبدوي، ومسحًا للدمار الذي طاولها.
في نظرة عامّة إلى المناطق التي دمّرها الانفجار، تتشكّل تلك الأحيّاء إلى حدّ كبير من المباني القديمة والتاريخية، ويسْكن أغلبها مستأجرون. ويشار إلى أنّ استئجار الشقق يظلّ الطريقة الأكثرَ شيوعًا للعثور على مكان إقامة في المدينة. في بيروت، تبلغ نسبة الإيجارات 49.5٪ (بحسب دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2008). في منطقة مار مخايل تبلغ نسبة المستأجرين السابقين 55٪. وهم حاليّاً مهدّدون بالنزوح الجماعي الدائم بسبب هشاشة الإطار القانوني الذي ينظّم وجودهم في المدينة. وبالتالي ينقسم المستأجرون إلى ثلاث فئات:
سكّان قدماء. وهم يعيشون في المدينة على أساس قانون الإيجارات القديم الذي كان يحكم هذا القطاع حتى عام 1992. ويشكّلون النسيج الشعبي القديم للمدينة، وهم اليوم مهدّدون بالنزوح الجماعيّ من دون الحصول حتى على تعويضٍ أو سكن بديل بموجب قانون الإيجارات الجديد، المعتمد سنة 2014 والمعدّل سنة 2017. وحَرَمَ هذا القانونُ الجديد العديدَ من المستأجرين السابقين من حقّهم في الإقامة.
«المستأجرون الجدد» بحسب قانون الإشغال. هذا القانون هو الوحيد الذي يتعلّق بالإيجارات ويحوّل علاقة المستأجر بمحلّ إقامته إلى علاقةٍ إشّغاليّة يحدّدها صاحب العقار وحده. بمعنى آخر، يُحرَم المستأجر/ة من حقه/ا في الإقامة ويُحدَّد عقد الإيجار لمدّة ثلاث سنوات. بعد هذه الفترة لا يوجد ما يَمنع صاحب العقار من رفع سعر الإيجار، كما يحقّ له عدمُ تجديد العقد وبالتالي طرد المستأجر/ة. وفقًا لهذا القانون، فإنّ عقد الإيجار غير مشروطٍ بأيّ مؤشّر أسعار، كما أنه غير ملزم فيما يتعلق بالعملة المستخدَمة. كلّ هذه النقاط متروكةٌ لقرار صاحب العقار.
المستأجرون بدون عقد. في ظلّ غياب سياسةٍ إسكانيّة وبرنامجٍ يهدف إلى توفير منازل لقطاعٍ عريض من الطبقة العاملة ذات الدخل المحدود، يتمتّع أصحاب الملْك بالحريّة الكاملة لتحويل الشقق التي يمتلكونها إلى مساحات صغيرةٍ للإيجار، والتي غالباً ما تفتقر إلى الشروط الأساسيّة للعيش من حيث الصحةُ أو الموقع. وغالبًا ما بصار إلى تأجير هذه الشقق المقسّمة إلى الطلاب أو النازحين أو حتى اللاجئين. يُعاني المقيمون في هذه الأماكن من عدم وجود عقود إيجارٍ، الأمر الذي يُضعف موقعهم.
وقد سهّل انفجار الميناء والكارثةُ التي أحدثها في كثيرٍ من المناطق السكنيّة استغلالَ أصحاب الملْك لهؤلاء المستأجرين المستضعفين، في ظلّ الغياب التامّ للدولة وحماية حقّ السكن. اليوم، وبحجّة هشاشة الأبنية الآيلة للسقوط نتيجةَ الانفجار، يتعرّض المستأجرون إلى ضغوطٍ لإخلاء المبنى.
الكرنتينا: ملاذ اللاجئين والنازحين
تقع منطقة المدوّر ضمن منطقة شرق بيروت وداخل حدود بلديّة العاصمة. وهي تغطّي المنطقةَ الواقعة بين تلال الأشرفية وصولًا إلى البحر، بجوار الميناء. بعض أبرز الأحياء بداخلها يشمل مار مخايل والكرنتينا. وقد أعيد تعريفُ هذا الجزء بشكل مستمرّ منذ عشرينيّات القرن الماضي خصوصًا مع توسيع ميناء بيروت على مستوياتٍ عدّة، حتى انفصل شيئًا فشيئًا عن الشاطئ.
إلى الشرق من المنطقة يجري نهر بيروت، الآن في قناةٍ خرسانيّة بمحاذاة الطريق السريع، تعزّز عزلَ هذه الأحياء عن بقيّة المدينة.
كانت الكرنتينا أرضًا زراعيّةً على البحر معروفة بشاطئها الرمليّ الجميل. سُمّيت بالكرنتينا خلال المرحلة العثمانيّة عندما أقامتْ فيها السلطاتُ مستشفى الحجر، الـquarantaine، كما أقاموا فيها مسلخًا.
بقيت الأرضُ زراعيّةً حتى سنة ۱۹۲۲، عندما وصل إلى بيروت ۱۰ آلاف لاجئ أرمنيّ. يومها، أقدمَ الصليبُ الأحمر وسلطات الانتداب الفرنسيّ على وضع خيمٍ على أرض الكرنتينا لإيواء اللاجئين. سُمّي المخيّمُ حينها «سان ميشال» على اسم القديس ميخائيل عند الأرمن. سنة ۱۹۲٦ انتقل الأرمنُ من المخيّم ليسكنوا في مناطقَ مجاورة مثل برج حمود، كرْم الزيتون والبدوي، فسكنَ الخيمَ التي بقيتْ في الكرنتينا لبنانيّون نازحون من الجنوب والبقاع، قدِموا للعمل في المدينة. كما سَكن فيها لاجئون فلسطينيّون وعمّالٌ مهاجرون. أصبحت الكرنتينا عندئذٍ أوّل تجمّعٍ سكنيٍّ غير رسميٍّ في بيروت. في شمال المنطقة، نشأ حيٌّ سكنيّ (رسميّ) سُمّي «حيّ الخضر» نسبة للنبيّ الخضر، وفيها جامعٌ ومَقام له. سكن هذا الحيَّ ما يُعرف بـ«العرب» أو «عرب المسلخ»، وهم كانوا يعملون في المسلخ بسبب خبرتهم بالمواشي، وقد اشتروا أراضيَ في الكرنتينا وبَنَوها وسكنوا فيها.
يُعتبر هذا الحيُّ حيَّ الأغلبيّة المسلمة، بينما يتشكّل حي مار مخايل في هذه المنطقة من أغلبيّةٍ مسيحيّة تضمّ عددًا من العائلات الأرمنيّة.
عام 1956 فَصَلتْ طريقُ الشمال السريع أتوستراد شارل حلو، جنوب الكرنتينا المنطقةَ كليًّا عن بيروت، كما فُصل أهالي حيّ الخَضْر عن الجامع التاريخيّ الذي أعطى حيَّهم اسمَه. حتى العام 2004 لم يستطيعوا الوصولَ للجامع إلّا من خلال عبور الأتوستراد ركضًا بين السيّارات. تم عزلُ المنطقة تمامًا عن المدينة، مثل سكانها عن «العالم الخارجيّ»، بحسب أحد سكانها.
في العام 2004 تمّ بناء جسر مشاة، ولكنْ بالرغم من هذا الجسر، ما زالت المنطقة اليومَ مفصولةً عن بيروتَ تمامًا، في ظل غياب المدارس فيها ومعاناتها من الإهمال وغياب فرص عمل. كما يستوطن الجيشُ اللبنانيُّ عقاراتٍ عديدةً وكبيرة لـ«العرب» منذ السبعينيّات.
كانت هناك مدرسةٌ عامّة في الحيّ الذي استقبل طلابًا مسلمين ومسيحيّين وأرمنَ المجتمعات، وتم إغلاقُها قبل بضع سنوات.
في مقابلة قصيرة مع آبو Apo (من مواليد ١٩٥٣) في كشك القهوة في حيّ مار مارون الدورة يقول: «خَلقان وسكنت بالكرنتينا المدوّر. تركنا بالـ ١٩٧٨ بالحرب وجينا (أتينا) لهون على حيّ مار مارون الدورة. كنا بالكرنتينا ساكنين مقابل المدرسة الأرمنية، بالحيّ يللي انجرف. أنا اشتغلت بالأحذية من عمر صغير. بيّي كان كندرجي. بس محل الكندرجي تبع بيّي طول عمره هون بالدورة حتى لما كنا ساكنين بالكرنتينا المعروف بحيّ المسلخ».
يتابع آبو: «كنّا نسبح على بحر الكرنتينا، محلّ الحوض الخامس. كان اسمه الشط هونيك (هناك) بحر أبو ياسين لأن بالأربعينات كان فيه مطعم أبو ياسين. وكان فيه سبيل ميّ اسمه سبيل السيّدة. والشط كان رمل. بحرنا هونيك كان. مش بس نحنا كنا نروح هونيك، كمان فلسطينيّة ونوَر وأكراد، كل يللي كان ساكن بحيّ المسلخ. بالثمانينات القوّات سكروا البحر. مع إنه كان فيه كتير صيادين هونيك عندهم مراكب. كنّا كمان نروح على ساحة البرج...».
الخَضْر: حيّ مهمّش تاريخيًا
بعدما كانت في السابق تعتبر من الضواحي، أصبحت المدوّر مكانًا مثاليًا لأهل بيروت والطبقة العاملة المهاجرة. فهي على مقربة من المناطق التجارية في بيروت وإيجارات البيوت فيها بأسعار معقولة وفي متناول اليد. داخل الخضر كانت هناك مجموعات من السنّة والشيعة والمسيحيّين، معظمها من أصول بيروتيّة وأصحاب الأراضي بالوراثة.
يَعتبر سكّان المدينة المنطقة المحاذية للميناء من الخضر منطقة صناعيّة، لوجود مصانع ومستودعات بأحجامٍ مختلفة حول الكتل السكنيّة وعلى طول الطريق السريع.
في مدينة لم يبقَ فيها سوى عددٍ قليلٍ من المساحات العامّة المفتوحة، فإنّ السمة المميّزة للخضر هي حديقتها العامّة وملعب كرة قدم غير رسميّ أنشأه شباب الحيّ.
خلال الحرب الأهليّة، تأثّر حيّ الخضر وما حوله كثيراً. بسبب تنوّعه العرقي والطائفيّ، وقع ضحيّةً لحربٍ محمّلة بالطائفيّة. عانتْ هذه المنطقة من مذبحة الكرنتينا عام 1976، ذكرى أليمة في تاريخ بيروت الحديثة أودت بحياة الكثيرين.
الخضر حيٌّ مهمّش تاريخيًا مثل الكرنتينا. وهو يعاني من ارتفاع معدّلات البطالة وعدم توفّر وسائل النقل العام، بالإضافة إلى أنّه تحوّل إلى مكبِّ نفاياتٍ لمدينة بيروت. أُهمل سكانه كلّيًّا بينما لم ينهِ معظمُهم تعليمه الرسمي. (موجز مختبر DPU الصيفي، 2014).
تاريخيًّا، تتكوّن منطقة الكرنتينا من مبانٍ من طابقين تملكها وتعيش فيها منذ الثلاثينيّات والأربعينيّات عائلاتٌ أرمنيّة مثل دونيكيان وشلوارجيان وغيرهما. كما يضمّ حيّ الخضر الذي لطالما سكنَه «العرب» (البدو) الذين عملوا في المسلخ.
خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة، هُدم حيٌّ أرمنيّ بكامله يسكنه اللاجئون الفلسطينيّون وجرفتْه المليشيات. في ذلك الوقت، انتقل السكّان الأرمنُ وأصحاب العقارات (حوالي 40 قطعة أرض صغيرة) إلى مناطقَ أخرى؛ هاجر معظمهم إلى الولايات المتحدة ودولٍ أخرى. وقد بقيتْ أراضيهم شاغرة حتى نهاية الحرب الأهليّة، إلى أن عاد بعضُ سكان المنطقة إلى منازلهم في حيّ الخضر.
بعد الحرب، أصبح الحيّ الذي كان متنوّعًا في يومٍ من الأيّام خليطًا من الأحياء الحصريّة والمجتمعات المعزولة.
أثناء إعادة إعمار وسط بيروت من قبل شركة التطوير Solidere، كان لدى سوليدير خطّة إعادة تطوير الخضر المتاخمة لوسط البلد، ولكن بسبب ملكيّة العقارات وصعوبة الاستيلاء عليها فشلت الخطّة.
اليوم ما زالت المباني تعاني من آثار الحرب ويكاد سكانها المنتمون لطوائفَ مختلفةٍ لا يتواصلون. لا يحظى الحيُّ باهتمامٍ كبير من البلديّة، وهو بالكاد مُعترفٌ به من قبل غالبيّة اللبنانيّين. الهويّة المخصّصة للحيّ المتّصل بالمنطقة الصناعيّة المجاورة، والميناء، والمسلخ والذكرى الثقيلة للمجزرة، ساهمتْ بوصم السكان.
بسبب قلّة اهتمام الدولة، فإنّ ضغط الاحتياجات النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والبيئيّة طغى على الحيّ، من دون أن تتطابق الحاجة مع الموارد المناسبة، ممّا عزّز الإقصاء الجغرافيَّ عن النسيج العمرانيّ الديناميكيّ لبيروت.
في السنوات الأخيرة، تغيّرت أحياءُ في منطقة المدوّر بما في ذلك مار مخايل، التي تحوّلتْ إلى مركزٍ فنّيٍّ ثقافيّ أساسيّ في لبنان. بالتزامن مع هذا الإحلال العمرانيّ الطبقيّ الذي يضرب منطقةً تلو الأخرى في هذا الجزء من بيروت، ترتفع الأسعارُ وتتبدّل الهويّات ويحصل تغييرٌ ديمغرافيّ للسكان. وقد بدأتْ أطراف الخَضْر تشهد مثلَ هذا التغييرات، بتنامٍ في المباني السكنيّة الجديدة الشاهقة وانتشار صالات العرض الفنيّة والنوادي الليليّة مكان المستودعات.
مار مخايل: تحوّلات الأزمنة
تشكّلتْ منطقة الرميل الممتدّة من هضبة الأشرفيّة إلى شارع مار مخايل وشهدتْ نموًّا عمرانيًا وسكانيًا في وقتٍ متأخرٍ مقارنةً بالأحياء «البرجوازيّة» القديمة الأخرى في محيط وسَط بيروت التاريخيّ. عمومًا، ظلّتْ هذه المنطقةُ ذاتَ طابَعٍ زراعيٍ حتى فترة الانتداب الفرنسيّ، باستثناء الحيّ المحيط بمستشفى السان جورج والمنطقة السفلى، وذلك عقب تأسيس السكك الحديديّة ومحطّة قطار مار مخايل في العام 1891.
في أواخر القرن التاسع عشر، شهدتْ بيروتُ تطوّرًا تَرافقَ مع ازديادٍ في عدد السكان وامتدادًا عمرانيًا تجاوز الأسوارَ القديمةَ باتجاه المناطق المجاورة مثل زقاق البلاط والباشورة والمصيطبة. إلّا أنّ منطقة الرميل بقيتْ شبْهَ مهجورةٍ وزراعيّة بامتيازٍ حتى عام 1880 على الرغم من اعتبارها نقطةَ وصلٍ بين طرابلس وبيروت، لذا سُمّي شارع مار مخايل بشارع طرابلس. وفي الفترة ما بين 1860 و1880، أنشئتْ مؤسّساتٌ ساهمتْ في إطلاق العمران والسكن في المنطقة مثل: حيّ السراسقة وتشييد مستشفى السان جورج ومدرسة الحكمة وسكّة الحديد وتوسعة مرفأ بيروت. ونظرًا إلى المؤسّسات الدينيّة والتخطيطات العمرانيّة التي أنجزها اليسوعيّون تحديدًا، انتقلتْ إلى المنطقة في تلك الفترة عائلاتٌ مسيحيّةٌ ثريّةٌ مثل آل سرسق وسلوان وغيرهم، إمّا هربًا من مجازر الجبل أو بغرض السكن فيها لتميّزها بالهواء العليل وإطلالتها على البحر. نتيجةً لذلك، ازداد عدد السكان عشرة أضعافٍ في فترةٍ قصيرة.
أمّا في مرحلة الانتداب الفرنسيّ، فأدّى نشاط الإرساليّات الفرنسيّة مثل المدارس والمستشفيات والكنائس إلى جذْب الكثير من سكان المناطق المجاورة، بالإضافة إلى لجوء الأرمن من مخيّم الكرنتينا إلى الحيّ. ومع إنشاء محطة الترامواي في أوّل شارع مار مخايل، شهد الشارع ُفي الفترة الممتدّة بين عامَي 1923 و1929 تسارعًا كبيرًا في وتيرة التوسّع العمرانيّ.
وبعد الاستقلال في الأربعينيّات، وتحديدًا بعدما تحوّل شارع مار مخايل إلى شارعٍ تجاريٍ وحرَفيٍ بامتياز، وبعد ما انتقل إليه الكثيرُ من العمّال والعائلات منخفضةِ الدخل للاستفادة من الحركة التجاريّة فيه، قام بعض مالكي الأراضي الموازية للشارع (ومعظمهم من الروم الأرثوذكس مثل آل قماطي) ببيع أراضيهم أو ترْك بيوتهم وتأجيرها للوافدين الجدد من الأرياف. أمّا هم، فاشتروا أراضي وانتقلوا إلى تلال الأشرفيّة المحاذية، مثل حيّ الروم. هكذا، أصبحتْ مار مخايل منطقةً سكنيّةً للفئات الاجتماعيّة متوسطة ومنخفضة الدخل.
قبل العام 2006، كان مار مخايل يُعتبر شارعًا صناعيًا يقع عند أطراف المدينة، يتراصف فيه النجّارون والسكّافون وأصحابُ الحِرف منذ عشرينيّات القرن الماضي. وبمرور الزمن، أخذتْ تلك الصناعاتُ والحرَف تفقد قيمتَها، لاسيّما في ظلّ عدم دعم ذلك القطاع في إطار التوجّه الاقتصاديّ الأكبر في لبنان. وبدأت المطاعم والحاناتُ والمعارض الفنيّة بدخول الحيّ والحلول محلّ الصناعات القديمة، وذلك لتدنّي بدَلات الإيجار فيه وجاذبيّة طابَعه العمرانيّ والاجتماعيّ الفريد.
وابتداءً من العام 2009، تسارعت التغيّرات الاقتصاديّة والتجاريّة في شارع مار مخايل وارتفعتْ أسعار الشقق حتى أصبح اليوم يُعدّ مركزًا للّهو والمطاعم والحانات في بيروت، جاذبًا عددًا كبيرًا من الزوّار والسيّاح.
تاريخيًا، أتى النازحون من المناطق المجاوِرة كالأرمن واللاجئين من الجبال ومن بلدانٍ أخرى بصناعاتٍ وحرفٍ جديدة. لكن بمرور الزمن، فقدتْ تلك الحرفُ والمصانعُ قيمتَها، وتحوّل شارع مار مخايل الرئيسيّ إلى منطقةٍ للسهر والمطاعم والصالات الفنّيّة. وكان لهذا التحوّل تأثيرٌ بالغٌ على سكّان الشارع، والتّلّة والأحياء الخلفيّة.
في موازاة التحوّل الاقتصاديّ الذي شهده شارعُ مار مخايل وأدّى إلى ارتفاع أسعار الأراضي فيه كما في محيطه، بدأت المنطقة تشهد نزوحًا سكانيًا نحو ضواحي بيروت الشماليّة والمتن الشماليّ لقربها من العاصمة وأسعارها المتدنّية نسبيًّا. أمّا في خلال الحرب الأهليّة، فشهدت المنطقةُ حركة نزوحٍ كحال باقي المناطق الملاصقة لوسط بيروت، لكنْ سرعان ما عادت الحركة إليها بعد انتهاء الحرب.
الروم: نسيج عمرانيّ متماسك نسبيًّا1
يروي مالكو العقارات في حيّ مستشفى الروم أنهم في البدء اشترَوا أراضيَ هناك وبنَوا فيها للسكن بالقرب من عملهم في المرفأ أو سكّة الحديد أو غيرها. لكن في خلال الخمسينيّات والستينيّات، أخذوا يضيفون الطوابق فوق مساكنهم بغية تأجيرها للوافدين الجدد. هكذا، تحوّل الحيّ إلى حيّ سكنيٍّ بامتيازٍ يكثر فيه الإيجار كوسيلةٍ للوصول إلى السكن.
لكنّ تلة حيّ الروم وبعد ما كانت مصيفًا للعائلات الثريّة استقبلتْ بدورها الوافدين الجددَ الى المدينة بدءًا من الثلاثينيّات عندما قدِم إليها عمّال سكّة الحديد، أو العاملون في المرفأ، أو موظفو شركة كهرباء لبنان ومعمل البيرة. واستمرّ الأمرُ حتى سنوات الخمسينيّات والستينيّات.
اليوم، ما زال النسيجُ العمرانيّ في حيّ الروم متماسكًا الى حدٍّ ما، إذ توجد فيه ورش بناءٍ قليلة. وبسبب قلة المساحات العامّة فيه تاريخيًا، يتميّز الحيّ بكثرة الفسحات المشتركة بين الأبنية التي أدّت إلى خلق نوعٍ آخرَ من المساحات العامّة، يتمثّل بالممرّات والشوارع الضيّقة والأدراج العامة حيث يجري التلاقي والتسامر بين الأهالي.
منذ ثلاث سنوات، يشهد شارع الخازنين في حيّ الروم تحوّلاتٍ جذريّةً غير مرئيةٍ بالضرورة، إذ لا توجد عمليّات هدمٍ للمباني والبيوت ولا تطغى على سمائه الرافعات، باستثناء الورشة الكبيرة الموازية لدرج مسعد. لكن اليوم، يبدو أنّ الهدم الذي طاول أطراف حيّ الروم في خلال السنوات الماضية، سيصل إلى شارعه الداخليّ، الخازنين، وهو أقدم شوارع الحيّ. فهنالك حركة بيعٍ لعقاراتٍ عديدة في الحيّ، الأمر الذي يضع السكّان القدامى وتحديدًا المستأجرين منهم في حالٍ من الهشاشة والخوف من التعرّض للإخلاء.
البدوي: منطقة طرَفّيةً في ضواحي المدينة2
منطقة البدوي هي إحدى المناطق المجاورة لنهر بيروت التي انتقل إليها اللاجئون الأرمن. كانت في عهد الانتداب قريبةً من فرص العمل بسبب وجود الثكنة وسكة الحديد والمرفأ وبسبب قربها من وسط بيروت. وهي تضمّ ثلاثة أحياء: كامب هاجين، شارع خليل البدوي، كامب الأبيض. ولكل حيّ روايةٌ مميّزة عن كيفيّة بنائه والوصول إلى السكن وقتذاك.
خلال الأعوام القليلة الماضية قبل أن تتحوّل الطوابق الأرضيّةُ في الأبنية السكنيّة في شارع مار مخايل إلى مقاهٍ ومطاعم كان سعر متر الأرض وكلفة الإيجار في الحيّ منخفضين مقارنة بمناطق أخرى في الأشرفيّة، ما شكّل عامل جذبٍ للسكان الجدد، إذ تُعتبَر البدوي منطقةً طرَفيةً في ضواحي المدينة، لكنّها تتمتّع في الوقت عينه بميزات بيروت الإداريّة كتوفّر الكهرباء.
كان للتحوّل الاقتصادي والاجتماعي الذي اجتاح شارع مار مخايل منذ العام 2008 تأثيرٌ مباشرٌ على المشهد السكني في منطقة البدوي، إذ شهد محيط شارع خليل البدوي تحوّلًا في ملكيّة عددٍ كبيرٍ من الأراضي لصالح مستثمرين عقاريّين. أمّا نشاطُ المستثمرين الصغار فيساهم في زيادة كلفة السكن وجذب السكان المؤقّتين من السيّاح وذوي الدخل المرتفع، في منطقةٍ قصَدها تاريخيًا ذوو الدخل المحدود ممّن لم يستطيعوا تحمّل كلفة السكن في مناطق أخرى من بيروت. ومع تفاقم الحاجة إلى سكن رخيص، أصبح رائجًا تحويلُ الشقق أو الأبنية إمّا إلى «فوايّهات» أو إلى غرفٍ تؤجّر منفردةً ضمن الشقّة، ممّا ينتج في الكثير من الأحيان أوضاعًا سكنيّة غير لائقة، في ظلّ غياب أيّ ضوابطَ أو سياسةٍ سكنيّة لتأمين السكن اللائق.
تاريخيًا، تُشكّل البدوي المنطقةَ المحيطةَ بشارع خليل البدوي الممتدّ من تلال كرْم الزيتون حتى شارع أرمينيا بموازاة نهر بيروت. وكانت المنطقة قبل إنشاء شارع خليل البدوي، عبارةً عن تلالٍ حرجيّةٍ وزراعيةٍ تمتدّ من خطّ سكة الحديد شرقًا باتّجاه نهر بيروت. ويروي سكانُ الحيّ أنّ عائلة البدوي اشترتْ هذه الأراضي عام 1914 مقابلَ ثلاثة أكياسٍ من البنّ.
في العام 1922، وصل إلى بيروت ما يقاربُ عشرة آلاف أرمنيّ هربًا من المجازر في منطقة كيليكيا. في وقتها، اتخذتْ منظّمات الصليب الأحمر وسلطات الانتداب الفرنسيّ إجراءاتٍ من أجل إقامة آلاف الخيَم على أرضٍ فارغة في الشمال الشرقيّ من بيروت، تحديدًا في مخزن الترامواي والأراضي الفارغة المحيطة به في منطقة المدوّر.
تشكَّلَ مع قدومهم أوّلُ الأحياء غير الرسميّة في بيروت، وبذلك إنشاء مخيّم المدوّر في الكرنتينا.
ابتداءً من عام 1926، وبمبادرةٍ من جمعيّاتٍ أرمنيّةٍ بمساعدة سلطات الانتداب الفرنسي، اقتُرحَتْ حلولٌ دائمةٌ لسكن اللاجئين الأرمن خارج المخيّمات. هكذا، نُقلوا تدريجيًا من مخيّم الكرنتينا إلى مناطق مجاورة مثل برج حمود، كرم الزيتون، كامب هاجين وشارع خليل البدوي.
ومع اندلاع ثورة 1958، تحوّلتْ منطقة البدوي إلى خطّ تماسٍ ونشبت صراعاتٌ سياسيّةٌ بين حزبَي الطاشناق والهنشاك، فغادر داعمو الطاشناق منطقةَ البدوي باتجاه برج حمود. نتيجةً لذلك، تحوّل عددٌ من البيوت إلى مساكنَ شاغرةٍ انتقلتْ إليها وسكنتْها لاحقًا عائلاتٌ لبنانيّةٌ مسيحيّةٌ كانت قد قدِمتْ من الشمال إلى بيروت طلبًا للعمل.
ومع انطلاق الحرب الأهليّة، وتحديدًا في عام 1976، قُصفتْ منطقةُ البدوي وهُجّر البعض من أهلها، فقدم سكانٌ جددٌ إلى الحيّ وحلّوا محلّهم.
كامب الأبيـض في العام 1927: كان هذا الموقعُ عقارًا كبيرًا خاليًا قبل أن يتولّى «مكتب نانسين الدولي للاجئين» التابع لعصبة الأمم أمر أمر تنفيذ برنامجٍ سكنيٍّ بالتعاون مع سلطات الانتداب الفرنسي وقتذاك، عُرف بمشروع «بافيليون بلان» ثم باسم «كامب الأبيض». ومثّل هذا المشروعُ نموذجًا للتدخّل المباشر في تشكيل الواقع السكنيّ، إذ اشترى المكتبُ الأرضَ ووضع مخططاتِ شبكة الطرق وتقسيم الأراضي وبنى المنازل. ويبدو الأمر واضحًا في الخرائط الفرنسيّة العائدة إلى عام 1935، إذ دُوّنت عبارة «حيّ أرمنيّ» على موقع «كامب الأبيض».
في الأساس، كانت المباني مكوّنةً من طابقَين، الأرضيّ والأوّل، سكَنَها اللاجئون الأرمنُ بموجب أوراق ملكيّةٍ رسميّة. لكن تدريجيًا، أخذت العائلاتُ المالكة تبني طوابقَ إضافيةٍ على نحوٍ غير رسميٍّ في خلال الخمسينيّات والستينيّات، ثم تكاثر البناء في سنوات الحرب الأهليّة. وعمدت العائلاتُ المالكة إمّا إلى تأجير تلك المساكن المستحدَثة أو بيعها للوافدين الجدد إلى المدينة. وكانتْ عملياتُ البيع تتمّ على نحوٍ غير رسمي، أي من دون امتلاك الشاري صكَّ ملكيّةٍ رسميًّا، الأمر الذي يجعل وضْعَه السكنيّ غير مستقرّ.
شارع خليل البدوي قرابة العام ١٩٣٠: وَهَبَ خليل البدوي إحدى قطع أراضيه للّاجئين الأرمن ليبنوا فيها مدرسةً وكنيسةً بغرض جذب السكان الأرمن إلى المنطقة وتنشيط اقتصادها وقيمتها. وتولّت جمعيّةٌ أرمنيةٌ ناشطةٌ آنذاك مهمّة جمع المال من أعضائها لشراء أراضٍ إضافيّة من البدوي غرب نهر بيروت، ثم جرى تخطيط شارع البدوي بالتعاون مع معماريّين من الأرمن، ووُزّعت الأراضي فيه على العائلات الأرمنيّة التي اقترضت المال من الجمعيّة لبناء البيوت.
وبمرور الزمن، كثرتْ عمليّات البناء والبيع والشراء، ووفدتْ عائلاتٌ من كلّ المناطق اللبنانيّة لتسكن في المدينة. يقول أحد سكان شارع البدوي إنّ الحيّ آوى تاريخيًا «الأرمن والعرب والأكراد والسنّة والشيعة والدروز والمسيحيّين».
وكثرتْ في الحيّ المعاملُ الصغيرة التي أسّسها بعضُ أثرياء الأرمن لتشغيل الأيتام الذين قضى أهاليهم في المذابح الأرمنيّة، ومن بينها معاملُ طاشجيان للسجاد وخانجيان للأزرار (1930ــــــ1957). بالإضافة إلى ذلك، أنشئ معملُ البسكويت والحلاوة الذي باعه مالكوه إلى شركة غندور في الأربعينيّات، إلى جانب معامل النحاس والحرَف الصغيرة وكاراجات السيارات. وجعلتْ هذه الأنشطة من شارع البدوي شارعًا تجاريًا بامتياز.
كامب هاجيـن في العام ١٩٢٩: نشأ كامب (مخيّم) هاجين كمشروعٍ سكنيّ للّاجئين الأرمن الذين نزحوا من مدينة هاجين (كيليكيا لاحقًا) بهدف لمّ شمل الأقارب والأحفاد والأصدقاء. وقتذاك، تأسّست جمعيةٌ باسم «اتحاد رفاق هاجين» واشترت قطعة أرضٍ بدعمٍ من بعض أثرياء الأرمن.
تكوّن الكامب تاريخيًا من ثلاثة عقاراتٍ كبيرةٍ بمساحةٍ إجماليةٍ بلغت 25 ألف مترٍ مربع. وقسّمت الجمعيّةُ الأراضي إلى قطعٍ صغيرةٍ ذات مساحاتٍ تراوحت بين 64 و115 مترًا مربّعًا، وأنشأت سوقًا على الطريق العام، ومحالَّ تجاريّةً وحرفيةً، وثلاثَ مدارسَ وكنيسةً في داخل الحيّ. ورسَمَ المعماريّ الأرمنيّ شيرينيان الخريطةَ الشاملة للحيّ ووضَعَ تصاميمَ 192 مبنىً لا يتجاوز ارتفاع كلٍ منها طابقَين، لتؤوي 400 عائلة. ويمنع نظامُ المشروع أيّ عمليّات هدمٍ في الحيّ حتى بمرور الزمن. لكنْ عند افتتاح أوتوستراد شارل حلو عام 1958، استُملك الجزءُ الشماليُّ من الحيّ لتصبح مساحتُه 18 ألف مترٍ مربّع.
كامب هاجيـن: فرّص السكن والتحدّيات
على مدى سنين، وفّر الكامب فرَص سكنٍ في العاصمة لشرائحَ اجتماعيّةٍ مختلفةٍ من ذوي الدخل المحدود. لكن اليوم، تشكّل الحركة الاقتصاديّة في مار مخايل تحديًا بارزًا للواقع السكني في الكامب. على سبيل المثال، لجأ العديدُ من مالكي الشقق الصغيرة في الكامب إلى تأجير شققهم والانتقال للسكن خارجه، إذ لا مجال لاستثمار العقارات في الحيّ إلا بإشغالها. اليوم، يشكّل المستأجرون الجددُ حوالي نصف سكان الكامب، يسكن معظمُهم في المباني المؤلّفة من طابقَين. لكن في ظلّ قلّة المساكن المماثلة في المدينة، ومع تفاقم الحاجة إلى السكن الرخيص، راج تحويلُ الشقق والأبنية إمّا إلى «فواييهات» أو إلى غرَفٍ تُؤجّر منفردة ضمن الشقة الواحدة بغرض مضاعفة الأرباح. إلّا أنّ تلك الترتيباتِ تُنتج في أحيانٍ كثيرةٍ أوضاعًا سكنيةً غير لائقة، لاسيّما في ظلّ غياب أيّ ضوابطَ أو سياساتٍ سكنيّة.
وعلى الرغم من هذا الواقع، توجد في الكامب أنواع ملكيةٍ مختلفةٍ تساهم في تأمين السكن الميسّر واللائق للسكان القدامى والجدد، من بينها عقاراتٌ تعود ملكيّتها إمّا لمالكين مغتربين أو مجهولين، أو للوقف الأرمني، أو إلى جمعيّة المرسلين الأرمن في أميركا. بالإضافة إلى ذلك، طرأتْ أخيرًا تغيّراتٌ مفاجئةٌ على طبيعة الاستثمارات العقاريّة في الكامب، إذ بدأ بعض المستثمرين بشراء العقارات على نحوٍ ممنهجٍ بهدف تحويلها إلى مطاعمَ وبارات.
قرية للإيجار في المدينة
غالبيّة سكان شارع البدوي هم من السكان القدامى، باستثناء أطرافِه المقابلةِ لشارع مار مخايل وأوتوستراد بيار الجميّل. ويضمّ الحيّ ترتيباتٍ سكنيةً متنوّعة، فتؤجَّر في بعض الأحيان غرفٌ منفردةٌ ضمن الشقة الواحدة بغرض زيادة دخل العائلة المالكة. وغالبًا ما تؤجّر هذه الشقق للعمّال والعاملات الأجنبيّات، وتشمل حمامًا ومطبخًا مشتركًا. بالإضافة إلى ذلك، أقدم مالكو سبعة مبانٍ على تقسيمها إلى غرفٍ وتأجيرها على شكل «فواييهات»، ويسكنها اليوم بعضُ الوافدين الجدد من سورية. ويضمّ شارعُ البدوي عقاراتٍ تعود ملكيّتها للدير ويسكنها بالإجمال مستأجرون بالإيجار القديم. كذلك سمعْنا عن مبادرةٍ اجتماعيةٍ محلّيةٍ لتأمين السكن المؤقّت في الحيّ.
ويصل اليوم سعر متر الأرض في شارع البدوي إلى 5000 دولار، وهو سعرٌ مرتفعٌ جدًا في بيروت. وفي السنوات الأخيرة، اجتاح الحيّ ثمانيةُ مطاعمَ وملاهٍ ليليةٍ فاخرةٍ تشكّل امتدادًا لشارع مار مخايل، من بينها «المندلون» الذي أنشئ عام 2010 على عقارٍ كامل.
ويؤدّي السماسرةُ والمستثمرون الصغارُ دورًا في رفع كلفة السكن في المنطقة، إذ يُروَّج لها على أنها منطقةٌ تشبه القرية في المدينة، ويجري استئجار مبانٍ قديمةٍ فيها بغية تحويلها إلى شققٍ على الموضة وعرضها بأسعارٍ أعلى من قيمة الإيجار المعتادة في الحيّ. ويساهم هذا الواقعُ في جذب السكان المؤقتين كالسيّاح وذوي الدخل المرتفع للسكن في الحيّ. وتتسبّب هذه التغيّرات بإخلاء العديد من المستأجرين القدامى، كما حلّ بمبنى مقهى «إيريفانب» الذي أُخليَ سكانه وبِيع لأحد المستثمرين.
جرى منذ العام 2008 إخلاء 28 مبنى، وهدْم 16 مبنى، وتشييد ثمانية أبراجٍ وافتتاح ثمانية مطاعم.
الجميزة- الصيفي: الإحلال الطبقي العمراني
مباشرةً خارجَ سور بيروت القديم، امتدّت الجمّيزة الصيفي كحيٍّ سكنيّ للبورجوازيّة والطبقة الوسطى والحرفيّين. وقد ربط الترمواي الذي كان يمرّ بشارع الجميزة وكان لفترة طويلةٍ الشارعَ الأطول في لبنان بين البرج وشرق بيروت وطرابلس.
الجميزة أو الصيفي هي من أقدم الأحياء البيروتيّة، وتعتبر أول ضاحية لبيروت القديمة. في منتصف القرن التاسع عشر ومع ازدهار مرفأ بيروت، حلّت المباني مكان بساتين الجميز التي كانت تحيط ببيروت في تلك المنطقة، إذ خرجتْ من بيروت ثلاث طرقات أساسيّة تصلها بالمدن الرئيسيّة: طريق الشام، طريق صيدا وطريق طرابلس المعروف اليوم بشارع غورو. وقد تمدّدت بيروت، على جانبَي الطرقات الثلاث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
خلال حرب الجبل، وبسبب الضغط السكانيّ على بيروت، انتقل سكّان الجمّيزة الميسورون إلى الأشرفيّة التي كانت تشرف على البحر وبقيتْ بعيدة إلى حدّ ما عن النازحين، وظهَرَ حينها حيّ سرسق. فأجّروا بيوتهم في الجمّيزة إلى النازحين من الجبل. وبالرغم من انتقال البورجوازيّة من الجمّيزة، لم تتحوّل المنطقة إلى حيٍّ للطبقة العاملة، بل أصبحت حيَّ الطبقة الوسطى بامتياز، وقد استفادت من وجود مدارس الإرساليّات.
بعد الحرب الأهليّة، وقع الحيّ ضمن دائرة الأحياء الملاصقة لوسط بيروت التي لم تصل إليها سلطةُ سوليدير، إضافة إلى الخندق الغميق وزقاق البلاط والباشورة. وقد فصَلَه بولفار جورج حداّد عن وسط المدينة وبالتالي عن الجزء الغربيّ لبيروت.
بسبب التصاقه بالمنطقة المُعاد إعمارُها بعد الحرب الأهليّة، تعرّض الحيّ إلى موجةٍ من الإحلال الطبقيّ العمرانيّ، خصوصًا بعدما حلّت عليه موجةُ الحانات والمطاعم، إذ تناثر في الحيّ أكثر من 55 مطعماً ومقهى. استقطب الحي، بعمارته الكولونياليّة وقربه من المركز وأسعار الإيجارات المتدنية عددًا كبيرًا من النشاطات الترفيهيّة التي جذبت الشباب على نحوٍ خاصّ من كل المناطق، كما وجدت المؤسّساتُ غيرُ الحكوميّة في الحيّ مركزًا ممتازًا لمقارّها. في أقلّ من عشر سنين، أدّى ذلك إلى حركة تهجيرٍ كبيرة لأغلب سكّان الحيّ غير الأصليّين، لاسيّما من المستأجرين القدامى الأكبر عمرًا، ليصبح عدد المستأجرين الشباب خصوصًا من ذوي الجنسيّات الأجنبيّة، كبيرًا. كما أدّى هذا إلى ارتفاع في أسعار العقارات وتهافُت شركات التطوير لشرائها وبناء الأبراج والأبنية السكنيّة عالية السعر.
مسح الأضرار
بناءً على التقرير الأسبوعيّ للمسح الإنشائي للأبنية المتضرّرة الذي تعدّه نقابة المهندسين في بيروت، يمكننا أن نقول إنّ حوالي 1575 مبنى ممسوحًا من أصل 3200 مبنى في المناطق المتضرّرة، هناك 144 مبنى معرّضة للانهيار الجزئي أو الكلّي، و57 مبنى معرّضًا للانفصال في عناصره غير الإنشائيّة، و245 مبنى يتضمّن تشقّقاتٍ في بعض أجزائه الداخليّة والخارجيّة.
وقد تمّ مسح 313 مبنى أثريّاً، منها 70 تستوجب التدخّل السريع. تتركّز معظم المباني الأثريّة التي تمّ مسحها في أحياء الصيفي، الرميل والكرنتينا المدوّر. ونجد كتلةً من المباني المعرّضة للانهيار الكلّيّ والجزئيّ والتي تستوجب التدخّل السريع، من الأبنية الأثريّة في الشارع الرئيسي لمار مخايل.
مخاوف وأولويّات
في ظلّ كل ما يجري اليومَ من نقاشاتٍ ومبادراتٍ حول الترميم وإعادة الإعمار، خصوصًا أنّنا لم نُشفَ بعدُ من نتائج مشروع إعادة أعمار وسط بيروت من قبَل شركة سوليدير، نرى من الضروريّ أن تُقام مبادرات الإعمار على مبادئَ أساسيّةٍ تتعلّق بالنسيج العمراني والذاكرة والطبيعة الطبقيّة للمناطق المتضرّرة.
فكل منطقة وحي لها قيمتُها وأهمّيّتها ولها تاريخُها وسكّانها وتغتني بتنوّعها. لذا نرى من الضروريّ أن تكون مبادراتُ إعادة الأعمار حسّاسة لخصوصيّات كلّ منطقةٍ وتركيباتها الاجتماعيّة. وذلك لأنّ مبادراتِ إعادة الإعمار لا ترتبط بالمباني فحسب، بل تنعكس مباشرةً على مستوياتٍ عدّة، ممّا يطرح مشاكلَ محتملةً على كل المناطق التي تمّ ذكرُها في هذا النصّ. فقد تُفرض مساراتٌ تتمثّل بالتمويل الخارجيّ وتثبيت النفوذ، تستفيد منها السُلطة في ظلّ إفلاسها، واستغلال الدمار لتحريك شبكةٍ من المصالح المرتبطة بالمضاربة العقاريّة وقطاع البناء. وقد تساهم عمليّة إعادة الإعمار بتقوية الشبكة الزبائنيّة للزعماء والطوائف عبر تمويل الإعمار وتوزيع المساعدات. كما قد تؤدّي العمليّة إلى إذلال المتضرّرين عبر المسوحات المتعدّدة وعمليّات الإغاثة غير الموثوقة والغموض في التعويض، وأخيرًا إلى تهجير السكان الأكثر هشاشةً والمحالّ الأكثر تدهورًا وبالتالي خلق فجوة ما بين الماضي والحاضر.
لذا، نرى أنّ من المهمّ أن تأخذ مشاريعُ إعادة الأعمار بعين الاعتبار مسألةَ استعادة الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة كأولويّة ترافقًا مع إعادة البناء. ثانيًا، من الضروريّ العمل على تمكين السكان من العودة الكريمة والسريعة كي لا يتحوّل انتقالهم المؤقّت الى تهجيرٍ دائم. ثالثًا، هناك ضرورة لاتّباع معايير الدمج في عمليّة ترميم البيوت والحيّز العام لضمان استخدامها لكافّة الفئات، كما ثمّة حاجة لضمان استدامة السكن وتأمين متطلّبات الإيجار العادل والميسّر، بالإضافة إلى جعل الفئات المتضرّرة والناس عمومًا في صلب تحديد الأولويّات ونقاش السياسات.
- 1. 1 ماي دايفي، البيوت التقليديّة في بيروت: منطقة الرميل والمدوّر، دراسة لجمعيّة APSAD 2004. رائد سلمان الجوني، ملخّص لنتاج أعمال مادّة المحترف، الجامعة اللبنانيّة معهد الفنون الجميلة قسم التنظيم المديني، 2010. مجموعة الدكتافون، طوبوغرافيا الهبوط: رحلة من قصر سرسق إلى مخيم الكرنتينا، 2015 Layla Salameh Kamel, Un quartier de Beyrouth: Saint Nicolas, Dar al-Mashreq, 1998. Research Report “Linking Economic Change With Social Justice in Mar Mikhael”, published by GAIA Heritage, Sciences Po, and the Issam Fares Institute for Public Policy and International Affairs, 2016. Mona Fawaz, Marieke Krijnen, Daria el Samad, “A property framework for understanding gentrification: Ownership patterns and the transformations of Mar Mikhael”, City Journal, 2019. مقابلات مع سكّان من قبل المشاركين» في ورش عمل أن نرسم طريق الجديدة من روايات مستأجريها.
- 2. مقابلات مع الباحثة المستقلّة شانتال بارتاميان في أيلول/سبتمبر ٢٠١٥. Mona Fawaz and Isabelle Peillen, Understanding Slums: Case Studies for the Global Report, DPU and UN-Habitat, 2003. مقابلة مع أنترانيك داكسيان، أستاذ في جامعة الهايكازيان في ٢٠١٥. مقابلة مع أرنستو شهود، أحد السكان القدامى في الحي في ٢٠١٥.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.