20 آب/أغسطس، ستة عشر يومًا بعد انفجار مرفأ بيروت. يخبرنا فادي سرياني، فنّان وناشط في تجمّع «عاملات وعاملون في الفن والثقافة» الذي تألّف في تشارين من العام الماضي، أنّه رأى أثناء تطوافه في الأحياء المتضرّرة كتبًا وأوراقًا وصحفًا رُميَت في حاوياتٍ مع حطام وفضلات البيوت المهدّمة. كما وجد، في دكانٍ مهجور تفجَّم بابُه من أثر الانفجار، جرائد ومجلات قديمة. يرسل لنا صورًا عنها، بعضها يعود إلى عهد الانتداب. يخبرنا، علّ أحدًا يتفاعل، أو يكترث، أو ربما يتحرّك لمحاولة إنقاذ هذه المجموعة مبهَمةِ المعالم عند أوّل نظرة، والمميّزة لمجرّد وجودها في ذلك المكان.
تفاعلتُ مع الخبر كوني أعمل منذ سنواتٍ على محاولة إنقاذ أرشيف تاريخ الثقافة اللبنانية ما قبل الستينيّات. أخذتُ من فادي عنوان الدكان، وذهبتُ إليه، في حيّ مار متر.
كان الدكان لا يزال على الحال التي وصفها لي فادي، حين وصلتُ مع أختي وصديقتها وكاميرا وبعض الأكياس المتينة. الباب مخلوعٌ نهائيًّا، في الواجهة خلفه، خزائن ضخمة من خشب مدهون بلونٍ فيروزيٍّ جميل. على حائطٍ، عُلّقتْ بعض الأحزمة والأدوات، وعلى الأرض، تحت صناديق ملأى بالأحذية النسائية، ثروة طائلة من الأوراق المصفرّة بعناوين شتّى: «الشمس»، «الأحرار»، «الجمهورية»، «Le Jour»، وغيرها الكثير، بالإضافة إلى رسائل تحمل طوابع من البرازيل والسنغال، ومستندات رسميّة مختومة من الدولة اللبنانية، إلى ذلك من الأوراق الصامدة، يعود أقدمُها إلى عام 1926، وتتوقف في خضمّ الحرب اللبنانية.
التقطتْ صديقتُنا الصور، وبدأنا ننبش الأكوام الورقيّة ونتساءل عن هوية المكان وصاحبه. في الشارع والمحالّ المجاورة، لا أحد يعرف شيئًا. قال لي فادي إنّ الدكان مهجورٌ منذ زمن طويل، وهذا ما أكّده شاب يعمل منذ بضع سنوات في الحيّ، قائلًا إنّه لم يره يومًا مفتوحًا. المبنى من طراز أوائل التسيعينيّات، مؤلَّف من ثلاث طبقات. خلف الباب المجاور، محل حلاقة مهجور هو أيضًا. وعلى بعد خطوات من المبنى، رجلٌ سبعيني لديه ما يشبه الجواب: «صار لي هون شي أربعين سنة، بعمري ما شفت حدا فتح هالدكان. بس سمعت كتير عن صاحبه من الجيران. هو كان كندرجي (إسكافي)، من بيت مامو، بيقولوا كان رجّال ولا كل الرجال، محترم ومحبوب. عالأرجح مات بإيام الحرب». قررتُ عندها ألّا أتردد: سآخذ كلّ ما هو ورقيّ قبل أن ينتهي إلى المزبلة مع غيره من آثار الماضي، وأحتفظ به إلى أن أعرف شيئًا عن آل مامو.
جمعنا الصحف والمجلات والرسائل والدفاتر والمستندات الإداريّة والملصقات، كل ما هو ورقيّ، وتركنا الأحذية والأحزمة. والخزائن الجميلة، وإن بغصّة!
الكندرجي الذي يهوى الصحف
اهتمامي الأوّل والتلقائي، بعد استراق النظر إلى بعض الصور والمانشيت، كان بالفرز. من ناحية، الجرائد والمجلات، ومن ناحيةٍ أخرى، الأوراق الخاصة.
تكمن أهمية الأوراق الخاصة بندْرة نوعها، فأهل بيروت قد خسروا الكثيرَ من أرشيفهم خلال الحرب الأهليّة. لم يتبقَّ منها إلا القليل. مع انفجار المرفأ في الرابع من آب/ أغسطس والأضرار الهائلة التي تسبّب بها في محيط منطقة الأشرفية، هُدر الكثير من هذا القليل. أوراق دكان الكندرجي تدلّ على حقبةٍ من تاريخنا، لذا هي تستحقّ بحثًا منفردًا، لاحقًا، بعد التحقّق من إمكانيّة دراسة محفوظاتٍ خاصة تعود إلى ماضٍ قريب. أمّا الآن، فيكفينا أن نعرف القليل ممّا تشي به نظرةٌ خاطفة إلى تلك المستندات: اسم صاحب الدكان نقولا مامو، له ثلاثة أشقّاء بينهم خليل كان صحافيًّا في جريدة «الأحرار». مهنته كندرجي. كان هو نفسه يهوى الصحف، ويهوى حفظ قديمه. للعائلة أقاربُ في المهجر، كانوا يوجّهون رسائلهم إلى نقولا، أحيانًا بهذه الكلمات: «إلى الأديب الخواجة نقولا مامو المحترم». اهتماماته متنوّعة وشخصيّته مميّزة، إن حسبنا أنّ كل ما في الدكان كان له: كتاب عن غاندي، صفحة من كتابٍ عن «الدكتور داهش» واستحضار الأرواح، بيان بأعمال المشغل الخيري الأرثوذكسي اللبناني، يافطة كبيرة لفيلم «في بيتنا رجل»، رسالة من سيّدة تطلب معونة الكندرجي لإنقاذ فتاة من براثن «امرأة شريرة».
بدأتُ العمل إذًا مع الدوريات: تنظيفها أوّلًا، ثم بسطها بحسب العناوين، وترتيبها زمنيًّا، وأخيرًا إعداد لائحة بها وبباقي المستندات التي لملمْتها على برنامج «إكسل».
يفيد المسحُ الأوّليُّ ببعض المعلومات العددية:
168 دورية من
44 عنوانًا،
يعود أقدَمها إلى عام 1926
وأحدَثها إلى عام 1987.
منها، باللغة العربيّة،
34 عنوانًا لبنانيًّا وعنوانان مصريّان،
وباللغة الفرنسيّة، 5 عناوين لبنانيّة
وعنوانان فرنسيّان، ومجلة واحدة بالإنكليزيّة.
زمنيًّا، هناك 16 عددًا من عام 1926،
14 عددًا من عام 1958،
31 عددًا من عام 1967،
14 عددًا من عام 1968،
أمّا في غيرها من السنوات
فلا يتعدّى العنوان 7 أعداد.
في ما ندر، أعدادٌ مكرّرة، نسختان وأحيانًا ثلاث. كما تتضمّن المجموعة العدد الأول لصحيفتين لبنانيتين.
حالة الصحف بمعظمها جيدة، وهذا ما فاجأني. في محلٍّ مهجور منذ عقود، من الطبيعيّ أن تستعيد الطبيعةُ مكانَها، وأن تشعر الحشرات والفئرانُ بالأمان، وتبلّل برودةُ الشتاء ورطوبةُ الصيف الأوراق. ولكن كل ما هنالك اتّساخٌ نسبي، وبعض الصفحات الممزّقة، وبضعة أعداد غير مكتملة.
60 عامًا من صحفٍ ومجلّات
من جهة العناوين، الصحف العربيّة هي، بالترتيب الأبجدي: الأحرار، الأحرار المصوّرة، أسرار الجاسوسية والحرب الكبرى، ألف ليلة وليلة، البرق، البشير، البيان، تلغراف بيروت، الجريدة، الجمهور الجديد، الجمهورية، الحديث، الحكمة، الحوادث، الدبّور، الدستور، الدنيا، الشمس، صدى الشمال، الصفاء، صوت الأحرار، الصيّاد، العَلَم، العرائس، العشيرة الحرة، الكواكب (مصر)، لسان الحال، المرأة الجديدة، المصوّر (مصر)، المعارف، المعرض، نداء الوطن، النهار، النهار العربي والدولي، الهدايا.
وبالفرنسية: Elle, Le Jour, L’Orient, L’Orient-Le Jour, Magazine, Nous Deux، وجــــــزء من مجلة فرنسية لا يظهر عنوانها، بالإضافة إلى Collier’s الأميركيّة.
يحتار المتصفّح لهذه العناوين في إيجاد الخيط الذي يجمع بينها، وفي سرّ العمر المديد لبعض النسخ، وسبب كثرتها في فتراتٍ معيّنة، وسبب تكرار عنوانٍ أكثر من آخر
كثرة أعداد جريدة «الأحرار» (23 عددًا معظمها بين عامَي 1957 و1958) ومعها «صوت الأحرار» (6 أعداد معظمها من عام 1943) لا تفاجِئ، إذ إنّ خليل شقيق الكندرجي كان مدير التحرير فيها، على ما يذكر الصحافي أسعد شرفان في مذكّراتٍ نشرتْها «الديار» (21 نيسان/ أبريل 1990). إلّا أنّ خليل مامو، المتوفى عام 1971 بحسب ورقة نعوة احتفظ بها أخوه، لم يكن مدير أو سكرتير التحرير خلال السنوات تلك، على ما تدلّ الجريدة بحدّ ذاتها، بل كان مدير التحرير أسعد فاضل عقل، وسكرتير التحرير عدلي الحاج. لم تكن المقالات حينها تحمل تواقيع المحرّرين إلّا في ما ندر، واسم مامو لا يذيّل أيًّا من مقالات «الأحرار». إلّا أنّ كتاب جورج عارج سعادة، «النهضة الصحفية في لبنان»، يَذكره بين المحررين المسجّلين في الجدول الصحافي حتى تاريخ 5 آب/ أغسطس 1959.
و«الأحرار» صحيفة يومية كان قد أسّسها عام 1924 جبران تويني صاحب «النهار» لاحقًا، مع موسى نمّور وخليل كسيب، ثم انتقلتْ ملكية نمّور إلى سعيد صبّاغة. يقول أديب مروّة في كتابه «الصحافة العربيّة، نشأتها وتطوّرها»: «كانت تنطق بادئ الأمر بلسان الماسونيّين الأحرار، فلم يبق ماسونيّ في سوريا ولبنان إلّا واشترك فيها». ويضيف، «أحدثتْ في الصحافة البيروتيّة دويًّا كبيرًا حمل بقية الصحف على مجاراتها، مما أدّى إلى خلق نهضةٍ صحافية مباركة كانت «الأحرار» باعثتها». وقد حملت الجريدة لفترةٍ اسم «صوت الأحرار»، ابتداءً من عام 1934 حين انتقلتْ ملكيّة تويني إلى كميل يوسف شمعون الذي ترأس تحريرها قبل أن يستقلّ بها، وإثر وفاته عام 1956 تولّى تحريرها أسعد فاضل عقل.
استقيتُ هذه المعلوماتِ من القواميس المعتمَدة (داغر، خوري، مروّة) وهي متشابهة في معظمها، وتكرّر أسماء المالكين والمحرّرين نفسها. لذا، بدا لي أحد أعداد «صوت الأحرار» من مجموعة الكندرجي فريدًا يجدر تمييزه: هو العدد 5363، بتاريخ 16 حزيران/ يونيو 1945، قبيل إعلان نهاية الحرب العالميّة الثانية، وهو العدد الوحيد من تلك السنة الموجود في مجموعة الكندرجي. وميزة هذا العدد من جريدة «صوت الأحرار» ما ذُكر في رأسه: «يصدرها ويشرف على سياستها توفيق لطف الله عوّاد»، وهو اسم لا أثر له في المراجع، ولم تُذكر علاقة له مع الصحيفة.
وتوفيق لطف الله عوّاد (غير توفيق يوسف عوّاد الأديب ابن بحرصاف) كان نائبًا من حصرون، ومؤسس «حزب الوحدة اللبنانيّة» في الثلاثينيّات، الحزب الذي «قام ليناوئ امتداد النهضة القوميّة في البلاد»، بحسب ما تنقل جريدة «الأخبار» (3 آذار/ مارس 2016) عن لسان عوّاد نفسه. يعرض هذا العدد اليتيم أخبارًا سريعة في مقالاتٍ قصيرة، منها عن موقف بريطانيا من القضيّة الفلسطينيّة: «إنّ حزب العمّال وما صدر منه ومن بيانات زعمائه يميل إلى جعل فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، وتجد هذه الفكرة من يؤيّدها بين كثيرين من حزب الأحرار».
أمّا الجريدة الأخرى التي تلفت بحجمها، فهي «الدنيا»، وقد حفظتْ مجموعة الكندرجي 14 عددًا من عام 1967، وعددًا واحدًا من عام 1968، وأعدادًا مكرّرة. و«الدنيا»، المتميّزة بعنوانها الأحمر اللافت، هي «يوميّة سياسيّة مستقلّة» كما تعرّف عن نفسها، أسّسها توفيق وهبي عام 1950، وانتقلتْ ملكيّتُها إلى سليمان أبو زيد عام 1958 تحت عنوان «الدنيا الجديدة»، بحسب ما كتب يوسف داغر في قاموسه. إلّا أنّ أعداد الدكّان كلّها تحمل اسم «الدنيا»، ويديرها لويس أبو زيد، أحد أبناء مالك الصحيفتين. تعود المجموعة لعام 1967 وهي محصورة بصيفه وخريفه وتعجّ بأخبار ما بعد النكسة، من «تفاؤل بالنجاح في الخرطوم» و«ناصر يغيظ الاستعمار» (1 أيلول/ سبتمبر)، إلى «مناورة إسرائيليّة تشبه ما حدث في 5 حزيران» و«رفض ملك الأردن لقاء ابنة موشي دايان» (29 تشرين الأول/ أكتوبر). الصحيفة مناضلة.
الجنّيّ الذي خرج من القمقم
من المجلات، تلقى «ألفَ ليلة وليلة»، التي أسّسها عام 1928 الصحافي والقصصيّ كرم ملحم كرم، بأغلفتها المغرية، وللكندرجي منها سبعة أعداد تمتدّ بين عامَي 1933 و1939. في العددين 512 و513 قصّة «مذكرات بغيّ» وتتمّتها «في أعشاش الإثم»، وهي قصة «فتاة قرويّة ضاقت سبل العيش بذويها فدفعوها إلى الاستخدام لدى أسرة بيروتيّة كريمة»، وذلك بُعيد «الحرب الكبرى»، أي الحرب العالميّة الأولى، فيقرّر «أسياد الفتاة» أن ينتقلوا للعيش في مصر، وتبقى هي في بيروت، تتزوج ويُقتل زوجها فتبقى وحيدة، وتتبدّل حياتها. قصة جميلة، مشوّقة اليوم كما بالأمس، لما تعكسه من واقع بيروت ومجتمعها قبل أن تولد دولة لبنان.
أمّا مجلة «المرأة الجديدة»، فلم تحتفظ دكانة الكندرجي إلّا بعددٍ واحدٍ منها، هو العدد الخامس من العام 1926، عددٌ لافت هو أيضًا، تذكر فيه صاحبة المجلة السيّدة جوليا دمشقيّة رحلتها إلى فلسطين ناقدةً بلطف: «أن يقتصر التضامن الذي بين أبناء فلسطين وبناتها على كره الصهيونيّين ثم يظلّوا متباعدين في ما عدا ذلك، فيقتصر هَمّ الشبيبة المسيحيّة في أبواب الكسب على ما يجيء عن طريق السائحين وكراسي الوظائف، ويقتصر هَمُّ الشبيبة الإسلاميّة على التغنّي بالأماني الوطنيّة والانصراف إلى الأحلام بعيدة التحقيق فإنّ الصهيونيّة تستمرّ في نموّها دون أن يشعروا بها ولا يضيرها كرهُهم لها بل قد يضرّ بهم لأنّ الكرهَ والبغضَ متى تجسّم لا بدّ أن يضرّ بحامله ويؤثّر في أخلاقه وفي طبائعه ويكون عقبةً يعثر بها في سيره في طريق الرقيّ الصحيح».
وتكتب جوليا دمشقيّة إلى ذلك مقالاتٍ تكرّم بها ماري ينّي صاحبة مجلة «مينرڤا»، وتعطي الكلمة لحبيب الزحلاوي الذي يعرّف القارئات، وربما القرّاء، على مصر والمصريّين في عاداتهم وتقاليدهم، وذلك على مدى خمس صفحات، يدرك معها القارئ كم أنّ العرب كانوا غرباءَ عن بعضهم البعض.
ومن المجلّات المميّزة «الهدايا» في عددها الأول، غير مؤرّخة إنّما تعرض صورةً فوتوغرافيّة للرئيس بشارة الخوري على غلافها. وميزة هذه المجلة أنّها غير مذكورةٍ في القواميس والمراجع المعتمَدة، بالرغم من كلّ الهدايا التي تقدّمها لقرّائها، من محاماةٍ مجانية وهدايا ماليّة، إلى حسمٍ في عيادة الدكتور نور كما في مصبغة عبد النور، مرورًا بحسم «خمسين بالماية من أسعار عرق ينّي في محلّاتهم المشهورة بمحلة الجميزة».
ولعلّ جِنًّيا كان حبيسًا في تلك الهدايا سئم الانتظار في بطون بيروت، أو خاف من حتفٍ سوليداريٍّ مجدَّدٍ يرذله مع آثار الأقدمين إلى حيث لا قيامة، فرأى في كارثة المرفأ فرصة الأبدِ بعد ضياع العمر، وأتانا بما لديه.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.