أسوأ أسلوبٍ لمقاربة الطائفيّة اختزالُها إلى محضِ تضليلٍ يبثّه الأقوى جاهًا أو شوكةً لإخضاع الأضعف، سواءٌ على صعيد المجتمع الطوائفيّ مأخوذًا ككل، أو على صعيد كل طائفةٍ بمفردها. مثل هذه المقاربة التسطيحيّة لا تزال تعرقل تشكّل وعيٍ أكثرَ جذريّةً وأكثرَ عملانيّةً في الوقت نفسه، بالنسبة إلى أوضاع لبنان.
في الطائفيّة آليّات تضليٍل وتعميةٍ لا شكّ، لكنّها مسنَدةٌ بآليّات إفصاحٍ ومجاهرة أيضًا. فيها أواليّات تحكّمٍ بأبدان الناس وألسنتهم، بحياة الناس وموتهم، لكن فيها ما يتعدّى ثنائيّة القمع والتضليل. فيها ذاكرةُ صراعاتٍ معيشة وفعليّة بين أبناء الجماعات المختلفة وأساطيرُ موظّفة في هذه الصراعات، أو أساطير تخرج منها.
لأجل هذا، من قبيل الشطط اعتبارُ الطائفيّة «بلا تاريخ»، بجوهرٍ واحدٍ ثابت لا يتبدّل مضمونُه وفحواه.
مخاتلات الطوائف
الطائفيّة متبدّلة حكْمًا لكنّها مراوِغة ومخاتلة إلى أبعد حدّ. تَضمر أو تَخفت في لحظة، فتعود فتستثمر في صخَبِ المتسرّعين لاستصدار وثيقة وفاتها.
لكنّ الطائفيّة ليست مستدامةً إلى ما لا نهاية أيضًا، إلّا في صورتها عن نفسها، مع أنّ الطائفيّة كثيرًا ما يروق لها أيضًا أن تتدثّر برداء «اللاطائفيّة»، خصوصًا أنّ كلّ جمهرةٍ من طائفةٍ تحمّل سواها في الطوائف الأخرى مسؤوليّة استشراء الطائفيّة أو تأبيدها.
غالبًا ما تترادف الطائفيّة واللاطائفيّة. فالطائفيّ يعتبر نفسه كذلك بسبب طائفيّة الآخر التي حاملتها على الإبقاء على هذا الصنف. في وقتٍ واحد، تقدّم الطائفيّة نفسَها بوصفها من طبيعة الأشياء وبوصفها الخروج الاضطراريَّ عن الطبائع حينًا، وعن الشرائع حينًا.
باشتعال الانتفاضة اللبنانيّة، المتواصلة بتقطّعٍ اليوم، درجتْ جملةُ أوهامٍ حول الطائفيّة. ليستْ جديدة في معظمها، إلّا من ناحية جموحها الزائد هذه المرّة. من هذه الأوهام إقامةُ مجموعةٍ من المناقضات، بين الطائفيّة واللاطائفية، كما بين ما هو طائفيٌّ وما هو طبقيٌّ، وبين ما هو طائفيّ وما هو وطنيّ. جرى التعامل مع الطائفيّة كما لو أنّها تضليلٌ يمارسه الأقوى والأكثر ثراءً لتخدير الناس، وتقسيمهم بين بعض، ودفْعهم للتناحر بدلًا من التضامن لنيل حقوقهم.
المشكلة مع كلّ هذه المناقضات القطعيّة المستعجلة أنّها حينًا تواجه الطائفيّة انطلاقًا من نموذج الفرد، وحينًا انطلاقًا من فكرة ما حول المجتمع، إنّما على قاعدة تسطيح ما تختزنه كلُّ طائفة، وبالتفاوت مع سواها، من علاقاتٍ بين المجتمعيّ والفرديّ فيها.
هل تطرح ما هو أكثر تماسكًا في حركة تضامنه الداخليّة من النماذج المتخيَّلة للطائفة عندما تقارع الوجودَ المتعيّن لهذه الأخيرة أم تواجهها بذرات متشظّية وخَيلات انطباعيّة؟
فارقٌ كبير بين المستويين. ليس بثنائيّة الفرد الذرّيّ «الموناد»، والمجتمع المكابر على اختلافيّته يمكن تفكيك سحر الطائفيّة، إنّما بـ«السحر» في مقابل السحر، بتقبّل أنّ المجتمع يتكوّن من جماعاتٍ، وأنّ الطوائف ليست الجماعاتِ الوحيدة فيه، وأنّ هناك جماعاتٍ تخرُق الطائفة وأخرى تتكوّن «داخلها»، وأنّ هناك تفاوتًا بين الطوائف ليس فقط في العدد، وليس فقط في النفوذ، لكن أيضًا هناك تفاوتٌ في حظّ كلٍّ منها من الواقع، وحظّ كلٍّ منها من تدوير الأساطير.
وفي الطوائف شكلٌ من أشكال النظرة المتبادَلة، من موقع كلّ جماعةٍ إلى أخرى، إمّا بدعوى أنّ الجماعة الأخرى لها سبيلٌ إلى موارد الثروة والسيطرة أوسع وأشد، وإمّا للتفاخر على العكس من ذلك بما لجماعة الـ«نحن» من فوزٍ بالنعَم الفعليّة أو المتخيّلة، وبـ«العبقريّات»، الخرافيّة في معظمها.
الوعيُ الطبقيّ يعني أنّ الطبقات لا تحتكر كل التمثّلات الجمعيّة والمجتمعيّة، خصوصًا في مجتمعاتٍ لم تنجَز فيها ثوراتُها الحداثيّة البرجوازيّة، ويبقى فيها الطبقيّ متداخلًا مع الإثنيّ والقبَليّ لأبعد حدود.
في الطائفيّة شكلٌ من أشكال الصراع الطبقيّ المقلوبِ على رأسه، الصراع النافي للصراع الطبقي! الفعليّ، أو الحاجر عليه .
كل طائفةٍ ترى إلى نفسها كمحرومة و«فقيرة» وهي تنظر إلى ما عند أغنياء الطائفة الأخرى، لكنّ ثمّة أيضًا، وفي كثيرٍ من الأحيان، نظرةَ تشاوفٍ طبقيّ بين الطوائف، يشعر فيها الفقير من طائفة بوحدة حالٍ مع ذوي الثروة والمكْنة فيها، ظانًّا بأنّ طائفته بمعدّلها الإجماليّ العامّ هي أغنى و«أرقى» بكلّيتها من سواها، وأنّها لأجل ذلك موضع حسد وغيرةٍ بين أسرابها. اختزال كل ذلك بأنّ الفقيرَ من طائفةٍ خاضعٌ لمركّب التضليل والقمع من لدن «الكبار» أو من قبل «السِستام» الطائفيّ برمّته، لا يكفل تفسير ظواهر الطائفيّة وتاريخيّتها، وكلما أفلح في تفكيكها عمليًّا، وجُلّ ما تمكّن منه هو الإسهام في إعادة إنتاجها.
فالمناقضة، لأجل ذلك، بين الطائفيّ والطبقيّ، التي تصحّ من وجه، ما دام الصراع الطائفيُّ يمسخ الصراع الطبقيَّ أو يطمسه، لا تصحّ من كل وجه، ما دام هذا المسخُ هو بحدّ ذاته شكلٌ من أشكال الصراع الطبقيّ أيضًا. فخطاب «إمّا الطائفيّة وإمّا طبقيّة الصراع» ليس له مَسند من زاوية المادّية التاريخيّة. هو خطاب ليبراليّ ولو غُلّف بغشاءٍ متمرْكس. خطابٌ متمحور حول الفرد. الفرد الذي تلغيه الطائفيّة بهذا الزعم، ولا يستطيع أنْ يحرّر الصراع الطبقيَّ إلّا عندما يتحرّر من الطائفيّة.
لا يمكن مادّيًّا تاريخيًّا حصرُ الخيار بين اعتبار الطوائف أوهامًا أيديولوجيّة فقط وبين اعتبارها كائناتٍ موجودةً ومحقَّقة ومنجَزة. هي ذاكراتٌ ومخيّلات جماعيّة وأهرامٌ اجتماعيّة مختلفة من طائفة إلى أخرى، كما أنّ الطائفة هي المجال الوحيد للتصاهر عند العدد الأكبر من الناس في بلدان المشرق.
التداخل بين الطبقي والاثني والقبلي
من الوهم تخيُّل أنّ الصراع الطائفيّ أو المذهبيّ قائمٌ في ناحية، والصراع الطبقيّ في ناحية أخرى. يمكن أن يستعِرَ هذا على حساب ذاك، لكن من الممكن أيضًا ان يستعِرا معًا. في لحظاتٍ نعيش ما هو أشبه بـ«صراعٍ طبقيّ بين الطوائف» (طوائف تنظر إلى بعضها البعض بمنظار أنّ الواحدة تستولي على الموارد على حساب سواها)، وفي لحظاتٍ أخرى ما هو أشبه بصراعٍ طائفيّ بين الطبقات (عندما تنتشر في بيئة اجتماعيّة معيّنة عناصرُ تُماهي بين الوضع الطبقيّ لهذه البيئة وبين هويّتها الدينيّة). أن يستقلّ الصراع الطبقيّ عن الصراع الطائفيّ فهذا يمكن أن يحدث في شروط محدّدة، لم تتوفّر حتى اليوم إلّا في لحظاتٍ خاطفة، ويمكن أن تتوفّر أكثر إذا ما تنامتْ قناعةٌ بأنّ التحرر من نموذجٍ في الاقتصاد النهبيّ وفي دولة المناهَبة لا يُبنى على إنكار الاختلافات بين الناس، وإنّما على عيشها كلّها في الوقت نفسه وبالتوازي.
فالوعي الطبقيّ يعني أيضًا الوعيَ بأنّ الطبقاتِ لا تحتكر كل التمثّلات الجمعيّة والمجتمعيّة، خصوصًا في مجتمعاتٍ لم تنجَز فيها ثوراتُها الحداثيّة البرجوازيّة، ويبقى فيها الطبقيّ متداخلًا مع الإثنيّ والقبليّ لأبعد حدود. فحتى لو اكتشفت الناس في لبنان مثلًا أنّ الطائفيّة سيّئة والصراع طبقيّ في أساسه، فهذا لن يجعله صراعًا طبقيًّا صافيًا. فالوعي بالطبقة ليس انطباعًا صوفيًّا تناله، إنّه وعيٌ بأنّك تنتمي إلى طبقةٍ اجتماعيّة، وبأنّ تحويل هذه الطبقة إلى «جماعة حيّة» ليس بمعطًى بديهيّ، ولا يمكن في حال الطبقات الشعبيّة أنْ ينعزل تمامًا عن مقولة «الشعب»، هذا رغم كل محاذير الغلوّ في الشعبويّة، وإن لم يكن مفرٌّ من التفاعل مع شيءٍ منها.
من «القدس العربي» ٢٠١٩/١٢/٢٣
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.