لا يقبلُ بيار داردو، الفيلسوف، وكريستيان لافال، عالِم الاجتماع، ذلك الاختزالَ للنيوليبراليّة إلى سياساتِ إضعاف الدولة لصالح السوق. على العكس، يشدّدان، بخاصّة في كتابهما «الكابوس الذي لا ينتهي. كيف ألحقت النيوليبراليّة الهزيمةَ بالديمقراطيّة» (٢٠١٦)، على أنّها "دولتيّة" بامتياز حين يكون ذلك مواتيًا لصالح الأوليغارشيّة الماليّة، وأنّ علامتها الفارقةَ ليستْ أبدًا التخفّف من الدولة، وإنّما استخدام آلاتِها وأجهزتها من أجل تمدّد الرأسمال لكلّ العلاقات الاجتماعيّة، وجعْله صورةً مطابقةً ملاحقةً لدقائق حياتنا، أي رسملة كل شيء. فلا يعود إنتاجُ القيمة من العمل وحدَه، بل من أيّ تَواصلٍ بين البشر.
بهذا المعنى، يجسّد وزير الاتصالات محمد شقير، صاحبُ مقترَح الضريبة على التراسل الإلكترونيّ روحَ النيوليبراليّة تمامًا. ومعه الحكومةُ التي تبنّت المقترح بكلّ غباء، لينتفض الناس من بعدها مطالبين بأقلِّ تقديرٍ بإسقاط الحكومة، وبالمناداة، بمضامين مختلفة ومتفاوتة، بإسقاط "النظام".
رسملة الفضاءات العامّة
فالمقترَح الضريبيُّ، الذي أشعل شرارة الغضب الشعبيّ، ليس عرضيًّا هنا، ولا يجوز اختزالُه في معزوفة "القشّة التي قصمت ظهر البعير". هذا المقترَح يحتوي على البعير كلِّه: فكرة مَدّ الرسملة إلى كلّ دقيقةٍ من دقائق حياتنا ومماتنا. هل تتخيّل أنْ تفرض حكومةٌ الضريبةَ على أيّ ممارسةٍ جنسيّةٍ تحصل في مجتمعها؟ الضريبة على التراسل الإلكترونيّ لا تقلّ عبثيّةً عن هذا. أبعدُ من أن يكون مقترح الضريبة هو مجرّد عنصرٍ أدّى للاشتعال في لحظةٍ بعينها، فهو كذلك الأمرُ يفرض الإجابةَ على سؤال ما هي حدود رسملة كلٍّ من الفضاءات العامّة من جهة، والعلاقات الخاصّة من جهةٍ أخرى.
الأيديولوجيا المسيطرة منذ عقودٍ طويلةٍ تميل إلى القول بأنّه لا حدودَ لذلك. ليلةَ انفجار الأوضاع شدّدتْ وزيرة الداخليّة ريّا الحسن على أنّ أيّ حكومةٍ أخرى ستطرح أشياءَ شبيهة. فلا داعيَ إذاً لتغيير الحكومة. كما عبّر شقير عن روح النيوليبراليّة، اختَصرت الحسن كلَّ الأيديولوجيا هنا. رسملةُ كلِّ شيءٍ حتميّةٌ ليس لها ما يوقفها. كلُّ ما يمكن فعلُه هو تهدئة الخواطر، التهوين على بعض الفئات، أو محاولة إعادة تخديرها. لكنّ الرسملةَ متواصلةٌ، وما دامت كذلك فلا داعيَ لأن تحترم الحكومات أيَّ رأيٍ عامٍّ يتّسع ضدّها، حتى لو اتخذ شكلًا انتفاضيًّا عاصيًا، ما دامتْ أيُّ حكومةٍ بعد ذلك ستفعلُ الشيءَ نفسَه، أي توسعة مجالات رسملة المعاش والممات إلى أقصى درجة. فالمشكلةُ ليستْ أنّ هناك حلولًا ترقيعيّةً تبحث عن مصادرَ ماليّةٍ إضافيّة في ضرائب "تضرب" هنا وهناك. القضيّة هي إشاعةُ الرسملة إلى كلّ شيء، من سلب الدولة قطاعَي الكهرباء والاتّصالات إلى فرض ضريبةٍ على التراسل الإلكترونيّ. وما دامت إشاعةُ الرسملةِ هنا لا يمكن أن تنشأ من فائضِ القيمة المستخرج من العمل المأجور، وجَبَ أن تسخّر منظومةُ الدولة كلها لرسملة العامّ الذي لم يرسمَلْ بعد، والخاصّ الذي لم يرسمَلْ بعد، وحين لا تؤمّن الدولة ذلك يمكن الاستعانةُ بالدولة الرديفة، بحزب الله. هذا الحزب نفسه الذي يشتكي من التزام النظام الماليّ اللبنانيّ بالعقوبات الماليّة الأميركيّة ضدّه. المفارقةُ أنّ الحزب تحجّجَ بأنّ الانتفاضةَ الشعبيّة فقدَتْ براءتَها "المطلبيّة" الأولى، وخضعتْ لرسملةٍ "مشبوهةٍ" هي الأخرى. والحقُّ أنّه صحيح، هناك من جهة، حكومةٌ وشرائحُ اوليغارشيّة تواجه انتفاضة الشعب، بالتلفيق والافتراء والقمعيّة وصلَف الإبقاء على وجوه المطعون انتفاضيًّا بشرعيّتهم، وهناك مَن يواجه الانتفاضةَ بمحاولات التبنّي "التتفيهيّ" لها، والحَجْر على عمقها الطبقي.
لكنّ هذه الانتفاضة لم تكن "مطلبيّة" أساسًا في أيّ لحظة، لأنّ ضريبة شقير على التراسل الإلكترونيّ لم تكن ضريبةً فقط، ولم تكن هفوةً، ولا مجرّدَ فكرة، بل هي أساسًا رغبةٌ برسملةِ كلّ شيء، والمعركة التي افتتحتْها هي حول هذا.
هذه المعركةُ لا يمكن أن تكون "مطلبيّة" فقط، ولا جزئيّة فقط. إنّها تتحدّد بناءً على الموقف والموقع من الأوليغارشيّة. بالعودة إلى أرسطو، "ثمّة أوليغارشيّة عندما يحكم أصحابُ الثروات". ويكون هناك "ديمقراطيّة عندما يحكم الذين لا يمتلكون الكثيرَ من الثروات". لقد جرى تضييع هذا المحتوى الاجتماعيّ للديمقراطيّة عند أرسطو، وهذا ما ينبّهنا إليه داردو ولافال، مشدّدَين على أنّ نظامًا حيث أكثريّةُ الأغنياء تمارس السلطةَ لا يمكنه أن يكون ديمقراطيًّا.
البديل الوحيد هو ما يجعل كبارَ الأغنياء أقلَّ غنًى وبدرجةٍ كبيرة، وبما يعيد التذكيرَ بأنّ الديمقراطيّة، بخلاف الأوليغارشيّة، هي ألّا يَحكم كبارُ الأغنياء
والأوليغارشيّة الماليّة لا تستمدّ ثرواتِها من فائض القيمة المستخرَج من العمل المأجور فقط، وإنّما من مصادرة الفضاءات والأملاك العموميّة، ومصادرة دقائق الحياة الفرديّة لكلٍّ منها برسملتها. إذًا، الوقوفُ ضدّ رسملة كلّ شيء، وإعادةُ الاعتبار للتناقض بين ما هو ديمقراطيّ وما هو أوليغارشيّ، هو في أساس الانتفاضة الحاليّة، تحديدًا لأنّ الحكومةَ الحالية تجسّدُ أقصى نوبات الأوليغارشيّة الباحثة، تعويضًا لها عن فشلها في كل الميادين، عن رسملة كلّ شيء، حتى في وقتِ تَعطّل النموّ، بل بحجّة تَعطّله أيضًا، وفي لحظة بالغة الخطورة بالنسبة إلى النظام الماليّ، مع أزمة شحّ الدولار في السوق، وهو ما حدا بالمصارف إلى أن تدخل في سباتٍ منذ ليلة انطلاق الانتفاضة.
الديمقراطيّة هي حكم الفقراء
الخطّ الأوليغارشيّ الذي يحاول اختراق الانتفاضة هو الذي يسعى إلى إظهارها كما لو أنّها عرسٌ للوطنيّة، عرسٌ يَنشُد الرأسماليّةَ الصالحة. هذا الخطّ يعتبر أنّه لو كان حزبُ الله غيرَ موجود، وقبله الوصايةُ السوريّة، وقبلها المقاومة الفلسطينيّة، لكان الاقتصاد اللبنانيّ بألف خير، رغم رأسماليّته، بل بفضلها، ورغم أوليغارشيّته، بل بفضلها، لكونها لا تتيح مجالًا للعسكريتاريا المقوِّضة لمساحة الكلام. بالنسبة لهذا الخطّ يجب أن يقترع الفقيرُ للغنيّ الأفضل الذي يستحقّ أن يمثّله. لكنْ أن تكون الديمقراطيّة هي أرسطيًّا "حكم الفقراء" فهذا ما سيمتعض منه أو يجدُه غيرَ واقعيّ. صحيحٌ أنّ أكثريّة الأوليغارشيّة الماليّة تواجه الانتفاضةَ اليوم، لكنّ عناصرَ أوليغارشيّين غيرَ قليلين، وعدد من البرجوازيّين غيرَ قليل، ومقتنعين شرسين بالليبراليّة، يشايعون وينشرون مثل هذه النظرة للانتفاضة، التي هي نظرةٌ أيضًا تميل إلى ربْط كل شيءٍ بسلاح حزب الله، وتُنكر جميلَه في الدفاع الميدانيّ عن نظام الأوليغارشيّة، فهو حارسُها، ومنخرطٌ فيها، ومُرهِبها في آن. هناك في المقابل، خطُّ البرجوازيّة الصغيرة في الانتفاضة. بين من يدعو لحكْم العسكر والشطحات البوناپرتيّة، النوستالجيّة كالعادة للنموذج الشهابيّ، والتي لم تكلَّ عنه رغم حصيلة اللحوديّة والعَونيّة، وبين من يدعو لحكم التكنوقراط، وقد فاتَهم أنّ كل زعامةٍ أوليغارشيّةٍ في لبنان محاطةٌ بجيشٍ من التكنوقراط، وأنّ شريحة كبار مديري الشركات قد سابقتْ كبار المستثمرين أصحاب أكثر الأسهم في هذه الشركات في الانتساب إلى الأوليغارشيّة الماليّة، وأنّ جبران باسيل ورياض سلامة، كلٌّ على طريقته، "تكنوقراطيّان".
تمسخُ هذه الدعوة إلى تحكيم التكنوقراط مباشرة، بدلًا من الاكتفاء بكونهم مجرّدَ مستشارين للحكّام، كلَّ التناقضات الاجتماعيّة إلى ثنائيّة زعران وأوادم، وتتوهّم بأنّه يمكن استعادة فلس واحد من الأموال المنهوبة بالتدقيق القضائيّ. لم تحصل في تاريخنا الحديث أيّ عمليّة استعادة مال منهوب من دون برنامج يربط هذا بإعادة توزيع الثروة، ويربط هذه بإعادة النظر في أنظمة الملكيّة الخاصّة القائمة وشروط العمل والسكَن والتواصل القائمة. لكنّ العقل البرجوازيّ الصغير لا يجد نفسه في كلّ هذا. يستلب بثنائيّة الفساد ومكافحته، لا يستطيع حتى فهمَ أنّ هذا "الفساد" كان يتسرّب إلى شرائحَ واسعةٍ من البرجوازيّة الصغيرة، وأنّ نضوب هذا التسرّب هو الذي عجّل بانفجار الأوضاع، لكنّه لا يكفي لتثوير البرجوازيّة الصغيرة نفسها. في مقابل خطّ الاختراق الأوليغارشيّ للانتفاضة، وخطّ الأوهام البرجوازيّة الصغيرة الصادحة فيها، يبقى العمق الطبقيّ للانتفاضة قائمًا، وحيًّا، يمكن تلمّسُه عيانًا في معركة الجموع المتحرّكة للمحافظة على قطْع الطرقات، الحلقة الحيويّة لمجرى تجذير الانتفاضة. لكنّ الخطّ القادرَ على استيعاب طبقيّة الانتفاضة، وأنّها قامت ضدّ منطق رسملة كل شيء، وضدّ تحريف الديمقراطيّة بجعلها حكمَ الأثرياء، هو خطّ لا يمكن أن يتبلور تلقائيًّا، ولا أن يُرتجَل.
هو الآن خطُّ الطرقات المقطوعة، والمشاركة الشعبيّة في التظاهرات والعصيان العام، والخطّ الذي يشقّ سبيلَه إلى الوجود بمقدار تَبلور قناعة، على الهامش أوّلًا، بأنّ شَغلة الكادحين والفقراء وبسطاء الحال ليست أن يحلّوا لكبار الأغنياء مشكلاتِهم، بل أن يدافعوا عن أنفسهم في وجههم، في وجه محاولة كبار الأغنياء الحاكمين تدفيع الناس مرّةً ثمن أرباحهم، ومرّةً ثمن مصادرتهم لما هو عموميٌّ ومَشاع، ومرّةً ثمنَ خساراتهم وأزماتهم. هو الخطّ الذي يمكنه أن يردّ سؤال ما البديل على أعقابه، بالتشديد على أنّ البديل الوحيدَ هو ما يجعل كبارَ الأغنياء أقلَّ غنىً وبدرجة كبيرة، وبما يعيد التذكير بأنّ الديمقراطيّة، بخلاف الأوليغارشيّة، هي ألّا يحكمَ كبارُ الأغنياء. أي الخطّ الذي يطرح قلب الواقع المقلوب الآن: مصادرة ما صادرتْه الأوليغارشيّة.
من «القدس العربي» ٢٧/١١/٢٠١٩
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.