العدد ٢٦ - ٢٠٢٠

التغيير لا يؤخَذ ولا يُعطى بل يُبنى

كانت مجلة بدايات قد أعدّت لندواتٍ حول انتفاضة 17 تشرين، لكنّ الحجر الصحي حال دون انعقادها، فاستعضنا عنها بأسئلة وجّهناها إلى عيّنة معبّرة من المشارِكات والمشارِكين. ننشر في ما يلي الأجوبة، ونُلحقها بتعليقاتٍ ونبذاتٍ اخترناها من وسائل التواصل الاجتماعي، ثمّ بوثائق وبرامج عائدة لمجموعاتٍ وتنظيمات وأحزاب مشاركة.

 

١ هل كنت تتوقّع حراك ١٧ تشرين؟ ولماذا برأيك قام أصلًا، واكتسب هذا الاتساع الجغرافي والعمق الشعبي؟ وبالتالي، ما طبيعته: حركة احتجاج، حراك شعبي، انتفاضة، ثورة؟ وما تقديرك للفئات والشرائح الاجتماعية المشاركة فيه؟

الجواب المختصر، لا. الجواب الأدق، ليس بالشكل الذي انطلق فيه.
ما كان متوقّعًا هو الانهيارُ الماليّ، من دون إمكانيّة تعيين الزمن الذي سيبدأ فيه هذا الانهيار. وإذا ما راجعنا نماذجَ لدول أصابتْها انهيارات مشابهة، لطالما ترافقتْ تحرّكاتٌ شعبيّة غاضبة مع تداعي النظام الماليّ لما لمساراتٍ كهذه من تبعاتٍ اجتماعيّة هائلة على صعيد الحجم الفعلي للأجر والقدرة الشرائيّة والاستنزاف التلقائيّ للمدّخرات وانهيارٍ للنظام المصرفيّ بما اعتاد عليه المجتمع.

كان تقديري الشخصي تحوُّل هذه التحرّكات إلى نوعٍ من التصادم الأمنيّ، لا أن تكون كما انطلقتْ كتحرّكٍ شعبي جامع وممتدّ في مختلف المناطق اللبنانية. ليس سبب هذا التوقُّع اعتبار أنّ المجتمعَ بحدّ ذاته مهيّأ أو راغب بالتصادم، بل مردّه إلى أنّ القوى السياسيّةَ الحاكمةَ والناشئة من رحم الحرب الأهليّة في لبنان، بموازين القوى السابقة للانهيار المرتقب، كانت لا تزال هي صاحبة القدرة على المبادرة. وتاكتيك تسعير التنافر المذهبيّ والطائفيّ لحرف التطوّرات الاجتماعيّة وطمسها هو من الأدوات التأسيسيّة التي قامتْ عليها شرعيّةُ هذه القوى.

لكنّ الخطأ الكبيرَ في التقدير الذي منعني من توقّع حركة شعبيّة جامعة قادرة على استباق آليّات الاحتواء التقليدية التي تعتمدها قوى السلطة، هو في عدم توقّع حجم الإنكار الذي كانت تعيشه هذه القوى، وحجم المراهنة لديها كلّها على "حتميّات" (مدعّمة لديها بسوابق تاريخية) ستمنع الانهيار الماليَّ بفعل إرادةٍ خارجيّة، دوليّة، لا تريد للبنان الانهيار. (وهذا الرهان العابر لقوى ما يسمّى 8 و14 آذار هو برأيي الخطيئة الأصليّة المؤسِّسة لادّعاء "الوحدة الوطنيّة" في الحكومات منذ عام 2014، والتي على أساسها اكتسبتْ نظريّة "كسب الوقت" شرعيّةً لدى فريقَي النزاع اللبنانيّين لمواجهة معالم الأزمة الماليّة التي بدأتْ تلوح في الأفق مذّاك الوقت). وهذا ما يفسّر خلوّ كل "حزب" في فريقَي السلطة معًا من أيّ طرحٍ ماليٍّ، اقتصاديّ، اجتماعيّ حتى عشيّة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، فأتت التحرّكات الشعبيّة لتفاجئهم ولتكشفَ عدم جهوزيّة أيٍّ منهم لمواجهة الواقع أو محاولة احتوائه على جرْي العادة بسبب إنكارهم ورهاناتهم.

سبب قيام التظاهرات الشعبيّة هو ما يؤشّر إلى طبيعتها، أكانت احتجاجًا أم انتفاضةً أم ثورة. لكنّ الأساس لديّ ليس في مراقبة القوى المعارضة منذ سنوات والتي لها سوابقُ في التظاهر والاعتراض، بل معاينة القوى الشعبيّة التي خرجت من جلْباب النظام القائم للانضمام إلى القوى المعارضة، فهي التي أعطت التظاهرات حجمَها وعمقَها السياسيّ.

أعتقد أيضًا أنّ طبيعة الحراك الشعبيّ تطوّرت في الأسابيع الأولى لانطلاقته، فالحراك انطلق كحركة احتجاجٍ على تعطّل "العقد الاجتماعيّ" الذي أعطى الشرعيّة لقوى المليشيات المذهبيّة لتولّي السلطة في لبنان، وأساسُ هذا العقد تقديمُ الولاء الشعبيّ في مقابل تأمين الزعامات للحماية والخدمات، فبعد عامٍ على الانتخابات النيابيّة التي أوفى خلالها الناسُ بالشقّ المتعلّق بهم في هذا العقد، بدأ الانهيارُ الماليّ يعطّل قدرةَ أطراف السلطة على الوفاء بالشقّ الآخر المتعلّق بها بسبب ندرة الموارد المالية للدولة التي لطالما استخدمت من قبلها لهذه الغاية، عبر تأمين الخدمات الشخصية والتوظيف والحماية من الملاحقة وغيرها من أشكال الزبائنيّة. وعندما بدأ الانهيار يطفو إلى السطح نهاية شهر آب/أغسطس 2019، راحت الحكومة تسرّع خطواتِها باتجاه موازنةٍ معالمُها الأساسيّة تحميلُ الناس أكلاف هذا الانهيار عبر ضرائب جديدة، فانطلقت شرارة أولى التظاهرات لرفض هذه الإجراءات. من هنا أعتقد أنّ الشكل الأوّل الذي ظهر فيه الحراك كان احتجاجيًّا، قبل تطوّره ليصبح انتفاضةً شعبيّةً مع إدراكه لحجمه وقدرته على التعبير عن واقعٍ يطاول الأغلب الأعمّ من اللبنانيّين من دون خوف مع الشلل الذي أصاب أطراف السلطة.

لكنّ هذه الانتفاضةَ لم تتحوّلْ إلى ثورة، ولا إلى مسارٍ ثوريّ حتى، فذلك يتطلّب انبثاق شرعيّةٍ شعبيّةٍ لمسار سياسيٍّ بديل، وهذا ما لم يتحقّق حتى الساعة، فالانتفاضة تعرف ما ترفضه، لكن لا تعرف ما الذي تريده وتقبل به. المسار السياسيّ ذو الشرعيّة الشعبية هو الذي يمكن أن يحوّل الانتفاضة إلى ثورة سياسيّة تحدث خللًا ليس فقط في شرعيّة النظام (وهذا حاصل بفعل الانهيار الذي يصيبه أصلًا) بل في موازين القوى ليصبح التغيير ممكنًا.

على الرغم من انكفاء الانتفاضة من الشوارع لأسبابٍ مختلفة لن نناقشها الآن، غيرَ أنّ عودتها، برأيي، أمرٌ شبه محتّم (وإن بأشكالٍ قد تصبح أكثرَ عنفًا مع اشتداد الخناق على رقاب الأغلب من الناس بفعل الأزمة ومعالجات السلطة) وذلك لأنّ تكوينها أكثرُ صلابةً من التكوين الاجتماعيّ للتحرّكات الشعبيّة السابقة عام 2011 و2015، فإن كان محرّكُ التظاهرات الماضية نخبًا سياسيّة ومجموعاتٍ من المجتمع المدنيّ وإن كان قد أتى مكوّنها الأساس من الطبقة الوسطى المتركّزة في العاصمة، فمحرّك انتفاضة 17 تشرين الأساس يأتي من الطبقات الدنيا التي اخترقت تركُّزَ الاعتراضِ في العاصمة لتمتدّ إلى مختلف مناطق الأطراف، وهذا ما ميّز الحراك عمّا سبقه من تجارب.

 

٢ أبرز شعارين رُفعا في الحراك هما «حكومة تكنقراط مستقلّة عن أحزاب السلطة» و«حكومة انتقالية تنظّم انتخاباتٍ مبكرة». ما رأيك بهذين الشعارين وبقدرات قوى الحراك على تحقيق أيٍّ منهما؟

الحكومة وسيلةٌ لتحقيق غايةٍ ما، وليست غايةً بحدّ ذاتها، ويأتي هذان المطلبان ليعبّرا عن الإشكال الأساس والتحدّي الأبرز أمام الانتفاضة وهو الطرح السياسيُّ ذو الشرعية الشعبية الذي يحوّل الانتفاضةَ من محطة إلى مسارٍ يُحدث خللًا في موازين القوى. في موازين القوى الحاليّة، من يحدّد قواعدَ وشكل حكومة التكنوقراط هم أطراف السلطة (حكومة حسان دياب مثالًا)، وقوى السلطة أيضًا هي التي تشكّل الحكومة الانتقاليّة وقانون الانتخاب وتنظّم الانتخابات، هذه القوى التي استطاعت حتّى تفريغَ النظام النسبيّ للانتخاب من كلّ محتوًى بدليل الانتخابات الاخيرة.
 

٣ ما أبرز إنجازات الحراك؟ هل كان المطلوب برأيك أن يحقّق إنجازات/إصلاحات معيّنة، وما مداها؟ وما هي برأيك أبرز المطالب المعيشيّة التي كان يُفترض بالحراك أن يسعى إلى تحقيقها؟

أبرز إنجازات الانتفاضة نزعُ الشرعيّة عن أطراف الحكم وتسعيرُ الأزمات الداخليّة داخلَ كلّ حزب لافتقاده لأيّ مشروعٍ سياسيٍّ لإدارة الدولة أو طرحٍ اجتماعيٍّ لمواجهة الأزمة ومفاعيلها، وكذلك تسعير الأزمات السياسيّة بين أطراف السلطة لتقاذف المسؤوليّة بين بعضها البعض. من هنا، لا يمكن لأيّ إنجازٍ مقبلٍ للانتفاضة أن يكون "سلبيًّا"، أي إفقاد السلطة لشرعيّتها أو إسقاط حكومة في الشارع، بل عليه أن يكون "إيجابيًّا"، أي بداية صياغة البدائل بدايةً عبر الإجابة عن الهموم المعيشية المستجدّة بفعل الانهيار الاقتصاديّ بطرحٍ متكامِل لكيفيّة إدارة المرحلة الانتقاليّة التي نمرّ فيها، إلى جانب صياغة شرعيّةٍ بديلة أهدافُها ثلاثة: إعادة تأسيس الدولة، تأسيس ديمقراطيّة الحكم وصياغة مشروع سياسيّ اجتماعيّ لتحويل طبيعة الصراع السياسيّ من صراعٍ عموديٍّ للهويّات في المجتمع، إلى صراعٍ أفقيٍّ يؤدّي إلى توزيعٍ أكثر عدلًا للثروة فيه.
 

٤ ما رأيك بشعار «نحن نطالب ولا نفاوض»؟ في غياب التفاوض، هل هناك من سبيلٍ آخر غير أن تتولى السلطة تنفيذ سياساتها ويكتفي الحراك بالاحتجاج؟

قد يكون شعار "نحن نطالب ولا نفاوض" تاكتيكًا جيّدًا في بداية التظاهرات وذلك لنزع إمكانيّة التمييع أو التفريق أو الاحتواء عبر تفاوض أطرافه غير متوازي القدرة من السلطة، فالتفاوض يحتاج بالحدّ الأدنى إلى طرفين، واندلاع التظاهرات بحدّ ذاته لا يجعل من الانتفاضة طرفًا بالمعنى السياسيّ قبل أن تكوّن رؤيتَها السياسية لتفاوض انطلاقًا منها، وحدًّا أدنى من التنظيم السياسيّ لتفاوض عبره.
ولكن، وهذا ما كنتُ أحاول التعبير عنه في الإجابات السابقة، الحاجة إلى هذه الرؤية والشكل من أشكال التنظيم تصبح أكثر إلحاحًا يومًا بعد يوم لتكوين شرعيّة بديلة قادرةٍ على المواجهة السياسيّة بما يضمن فاعليّتَها وإمكانيّة استمرارها، إما للتفاوض أو للضغط أو لإمكانيّة المواجهة الشعبية في الانتخابات.

فمن دون الاستخدام التكتيكي، شعار "نحن نطالب ولا نفاوض" ينزع عن الانتفاضة شرعيّتها السياسيّة، إذ إنّ مَن يطالب يعترف بشرعية الجهة المُطالَبَة، في حين أنّ شرعية الانتفاضة تنطلق من عجز التركيبة السياسيّة القائمة عن حماية المجتمع، وليس عدم رغبتها بحماية المجتمع. والفارق بين الاثنين كبير، فعدم رغبة السلطة أو عدم معرفتها لكيفيّة الحلّ يعالَج بالضغط والمطالبة، أمّا عجز السلطة فلا يعالَج إلّا بشرعيّةٍ بديلة.

 

٥ ما هي الدروس الرئيسة التي تستخلصها من حراك ١٧ تشرين؟ يرجى أن تعطي فكرة عن أبرز نشاطات الحراك في منطقتك وأبرز المطالب التي برزتْ خلال الحراك.

الدرس الأساسيّ من انتفاضة 17 تشرين هو الآتي: لأيّ حركةٍ شعبية تغييريّة عدوّان اثنان: اليأسُ المفْرط من إمكانيّة إحداث أيّ تغييرٍ من خلال الحركة الشعبيّة، والتفاؤل المفرط بإمكانيّة إحداث كلّ التغييرات بمجرّد حصول الحركة الشعبيّة.
يمكن أن نستعير كلمةً لفؤاد شهاب خلال إحدى الاحتفاليّات في ذكرى الاستقلال عندما كان رئيسًا للجمهوريّة: "في ذكرى الاستقلال، الذي قيل فيه إنّه يؤخذ ولا يُعطى، ما أراني إلّا معبّرًا عن تجارب لبنان حين أقول إنّ الاستقلال الحقّ لا يؤخذ ولا يُعطى. إنّ الاستقلال يُبنى".

وكذلك برأيي التغيير، لا يؤخذ ولا يُعطى، بل يُبنى.

فالتغيير مسارٌ وليس حدثًا.

العدد ٢٦ - ٢٠٢٠

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.